صفحات مميزة

عن الفيدرالية وتقسيم سورية –مجموعة مقالات-

فيديرالية أم انفصال مع وقف التنفيذ؟/ عمر قدور
مثلما كان متوقعاً، قبل انعقاده، اعتمد مؤتمرٌ عُقد في مدينة رميلان السورية، يومي الخميس والجمعة الماضيين، الفيديرالية. المؤتمر عُقد بزعامة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، وبمشاركة لا يُعتد بها من جانب منظمات إثنية أخرى، لأن ظروف الصراع الحالية لا تجيز القول أن سكان المناطق المعنية أتيحت لهم ممارسة حقهم الديموقراطي فعلاً.
أما من ناحية الأكراد، فيمكن الجزم بأن إعلان الفيديرالية يلاقي قبولاً وترحيباً عامّين، حتى من أولئك الذين لا يناصرون حزب الاتحاد، بل لعل هذه الخطوة هي الأكثر شعبية للحزب في عموم الوسط الكردي.
الإعلان قوبل فوراً بعدم قبول من النظام والمعارضة، وسبقه عدم قبول أميركي وروسي، وبالطبع تركي. ومجيء الإعلان أحادياً، قبيل المفاوضات المنتظرة حول مستقبل سورية، يضعه في مرتبة إعلان الانفصال، أو يقرّبه من مفهوم الكونفيديرالية أكثر من الفيديرالية التي تكـون نظاماً عاماً معمولاً به في عموم البلاد. لكن يُرجح أن يكون الإعلان بصيغته الحالية قابلاً للمساومة، عندما تحين لحظة إعداد دستور سوري جديد، والذي تشير أغلبية الدلائل إلى اعتماده مبدأ اللامركزية.
إذاً، هي المرة الأولى التي تقفز فيها القضية الكردية إلى الصدارة سورياً، بل المرة الأولى التي ينسب فيها أكراد لأنفسهم ريادة تقرير مستقبل البلاد، وهي بلا شك المرة الأولى التي نشهد فيها صعوداً كردياً بخلاف النظام والمعارضة اللذين يبدوان في أضعف حالاتهما. مع ذلك، سيكون من العسير على الأكراد تنفيذ البيان ما لم تكن هناك موافقة دولية ضمنية عليه، وما لم يكن إطاره العام مدرجاً في الأصل ضمن التفاهمات الأميركية الروسية. في هذه الحالة، ربما تتضاءل فاعلية الاعتراض عليه لتقتصر على مساومات جزئية هنا أو هناك، من دون أن تمس جوهره الذي سيتجه نحو مثال الحكم الذاتي في كردستان العراق.
غير أن التحديات أمام تجربة الأكراد في سورية تختلف عن العراق، وربما لن يكون سهلاً حلها على النموذج نفسه، بخاصة مع توسع المطالب فوراً لتشمل مناطق ذات غالبية عربية تمت السيطرة عليها مؤخراً بقوة السلاح، فضلاً عن الإشكالات القديمة التي لن تُحل إلا بديموقراطية متقدمة أو تطهير عرقي. إذ من المعلوم أن الخريطة التي اعتمدها حزب الاتحاد تقفز على الواقع لتبتلع محافظة حلب بأكملها تقريباً، وترسم كياناً جغرافياً جديداً لم يكن له وجود سابق في غالبية الأدبيات الكردية نفسها. الخريطة الكردية الكلاسيكية تُظهر وطناً متصلاً تم اقتسامه بين أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسورية. فقط بعض المغالين كان يمطّها لتتوسع على النحو الذي بات يعتمده الحزب الآن، سواء من أجل تحقيق الاتصال الجغرافي ضمن سورية، أو لغايات توسعية مستجدة.
ثم، من المعلوم أن جانباً من الخلافات العربية الكردية في منطقة الجزيرة تحديداً له أسباب اقتصادية مقنّعة بالاعتبار القومي، الأمر الذي يمكن إرجاعه بخاصة إلى الإصلاح الزراعي الذي يرى الأكراد أنه لم ينصفهم، لا لجهة عودة الملكيات الكبرى لإقطاعيين أكراد وإنما لجهة توزيعها، وأيضاً لجهة تعويض العرب الذين غمرت أراضيهم مياه سد الفرات بأراض هناك. الإقطاعيات في تلك المناطق كانت تعود في معظمها لملاك عرب، وهذا لا يبرر أية مظلومية وقعت على الأكراد، بخاصة حرمان المجردين من الجنسية من الاستفادة منها فوق حرمانهم الأصلي، لكن الأهم أن سلوك النظام قبل عقود أوجد مشكلة لن تجد حلاً مع عدم الاعتراف بالأمر الواقع وتوافر النية على إلغاء جزء من مفاعيله، مع ما يستتبعه ذلك من عداوات جديدة. ذلك لا نجده مثلاً في منطقة عفرين أو كوباني ذات الأغلبية الكردية، حيث جميع إقطاعيي المنطقة والمستفيدين من الإصلاح الزراعي كانوا من الأكراد.
يصعب تصور حل للمظلومية الكردية، كما يقدّمها أصحابها، من دون القيام بعمليات تطهير عرقي واسعة النطاق، وعدم السماح لنازحي تلك المناطق بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم بعد انتهاء الحرب. يصعب أيضاً تصور سيناريو مختلف يضمن حقوق الجميع، لأن مسودة الإعلان تنص على حق كل مكون فيديرالي في صياغة قوانينه الخاصة، وذلك لا يشكل ضمانة جيدة لحقوق الأفراد والجماعات على وجه العموم، ولا ينجيهم من عمليات انتقام أو كيد متبادلة. الوضعية ذاتها تنطبق على العرب الخاضعين للسيطرة الكردية، وعلى الأكراد المتبقين في أماكن خارج الإقليم الكردي. في مساحة ضيقة، وموارد لا تُقارن بالموارد النفطية العراقية، لا يُستبعد بلوغ العداوات مستوى ينذر بحرب استنزاف طويلة.
الشائع في الأوساط الكردية مع الإعلان عن الفيديرالية هو كونها مقدمة لإرساء الدولة والانفصال، ولعل تلك الخلاصة هي منبع الجدل اليوم، وككل مناسبات الاحتراب «الأهلي» لا تغيب الشتائم والعنصرية عن الطرفين، وتغيب معهما احتمالات العلاقة الأفضل اتصالاً أو انفصالاً. ثمة عرب لا يجدون مبرراً للنزوع الانفصالي الكردي سوى اعتباره تهمة يرافقها الكثير من الطباع السلبية الأصيلة، وفي المقابل ثمة أكراد لا يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم تلك «التهمة» سوى إلصاق النعوت السيئة بالعرب جملة وتفصيلاً.
الأفق ليس صافياً على أرضية نزوع كل طــرف إلى التوسع والسيطرة، ولا يبدو أن أحـــداً مـــن الطرفين تعلم من دروس السنوات الخمس الأخيرة. حتى إذا سلّمنا بوجود نوايا صافية تجاه مسألة الفيديرالية، لا الانفصال، فالطرف الكردي لا يستطيع فرضها من طرف واحد، ولو توافرت لدى الأطراف العربية نوايا أفضل للحل لأجري الإعلان عنها بعيداً عن العموميات، أو لأجريت مناقشة الطرح الفيديرالي نفسه بعيداً عن التشنج ولغة الاتهام.
الحصافة كانت تقتضي توقع ما حدث، لأن مقدماته برزت قبل نحو أربع سنوات، فوق تراكمات عقود سابقة. الآن، ربما صار متأخراً جداً الحديث عن وطن سوري خارج التمنيات، فالشقاق بين المجموعات السورية لم يكن يوماً على هذه الدرجة من الوعي والحدّة والانتشار معاً. الجماعات الأساسية كلها مكلومة ومتحفزة، أكثر من كونها منهكة وميّالة للتسوية والتعايش اللذين لن يأتي الخارج بهما. الاعتقاد بأن زمن الوطنية لم يأت بعد ليس أحسن حالاً، أو على الأقل لا يزيد وجاهة عن الاعتقاد بانتهاء سورية الموحدة.
الحياة

“سورية المفيدة” كردية … وفيديرالية/ إبراهيم حميدي
دق أكراد سورية عموداً رئيساً في وداع «سورية القديمة»، لدى إعلانهم أمس في الذكرى الخامسة لبدء الثورة قيام «الاتحاد الفيديرالي» بين أقاليم «روج آفا» (غرب كردستان) و «أقاليم شمال سورية»، في مناطق تعتبر الثروة الاقتصادية للبلاد، باحتوائها النفط والغاز والزراعة ومرور نهر الفرات فيها. وتصح على هذه المناطق مجتمعة تسمية «سورية المفيدة» وليس مناطق النظام التي تمتد من دمشق الى طرطوس الساحلية وتضم مدناً ومصانع وتجارة ومطارات وموانئ، ولا مناطق «داعش» الصحراوية.
وقال رئيس «الاتحاد الديموقراطي الكردي» صالح مسلم لـ «الحياة» أمس، إن «سورية ذات الحكم الواحد والحكم المركزي انتهت، وبدأت أمس خطوة رئيسة في تأسيس سورية الفيديرالية الديموقراطية. نحن ضد الحكم الواحد وضد المركزية المطلقة، ونؤيد اللامركزية، وإعلان الفيديرالية يعزز وحدة سورية على أساس علاقة جديدة بين الأقاليم ودمشق- المركز».
وبحسب رئيس «الاتحاد الديموقراطي»، جرى في ٢٠١٢ «تحرير مناطق روج آفا»، أي مناطق ذات غالبية كردية شمال سورية وشمالها الشرقي قرب حدود تركيا، ويسميها الأكراد «غرب كردستان»، حيث «بقيت مناطقنا محررة لسنة من دون إدارة ومن دون نظام إلى أن أعلنا في نهاية ٢٠١٣ الإدارات الذاتية الديموقراطية في إقليمي الجزيرة وكوباني شرقاً وعفرين شمالاً».
ومع مرور الوقت «تطورت مؤسسات الإدارات العسكرية والاقتصادية والأمنية» وتطورت «وحدات حماية الشعب» و «وحدات حماية المرأة» التي تضم أكثر من ٥٠ ألف مقاتل (هناك خطة لرفع العدد الى مئة ألف) وكان لها «دور رئيسي في تحرير المناطق من داعش، بينها مناطق ذات غالبية عربية، مثل تل أبيض (على حدود تركيا) والشدادي في ريف الحسكة». وأضاف مسلم: «كان لا بد من التفكير في طبيعة العلاقة بين روج آفا والمناطق العربية، فاجتمع في اليومين الماضيين حوالى ٢٠٠ شخص لمناقشة فيديرالية وتوصلوا إلى إعلان الاتحاد بين روج آفا وشمال سورية» على أن تشمل لاحقاً مدينة الرقة بعد طرد «داعش» منها بدعم التحالف الدولي بقيادة أميركا.
وعقد المؤتمر في نادي العمال، الذي كان مركزاً لحزب «البعث» الحاكم في مدينة الرميلان التي تضم أحد أكبر آبار النفط السورية، وناقش وثائق الفيديرالية. وتتحدث مسودتا وثيقتي «المجلس التأسيسي» اللتين حصلت عليهما «الحياة» عن خلفيات تاريخية و «الدمار الذي سببته الدولة القومية» للوصول إلى أن «الحل الواقعي هو نموذج الأمة الديموقراطية والفيديرالية الديموقراطية». وقال مسلم إن المؤتمرين انتخبوا رئيسين للاتحاد واختاروا لجنة من ٣١ شخصاً لوضع أسس «الفيديرالية» خلال ستة أشهر في مؤتمر تأسيسي يعقد بحضور ٢٠٠-٣٠٠ شخص.
وبالنسبة إلى مسلم، فان الفيديرالية يجب أن تقوم على «المكونات وليس الجغرافيا»، الأمر الذي يشكل خلافاً جوهرياً مع الحكومة السورية والمعارضة، إضافة إلى خلاف آخر يتمثل في تفضيل الطرفين الأخيرين «مبدأ اللامركزية» بدل «الفيديرالية» لقلقلهما من «التقسيم»، علماً أن بيانات «المجموعة الدولية لدعم سورية» والقرار الدولي ٢٢٥٤ أكدوا على وحدة سورية وسط أنباء عن اتجاه لإصدار قرار دولي جديد يتضمن مبادئ دستورية، بينها «اللامركزية». وأوضح مسلم: «نحن مع اللامركزية، لكننا ضد المركزية المطلقة ونظام الحكم الواحد». وزاد: «دمشق عاصمة البلاد ومركز الاتحاد الفيديرالي، لكن صلاحيات إدارة البلاد والتنسيق بين الأقاليم خاضع للحوارات مستقبلاً بما ذلك السياسية الخارجية والدفاع وإدارة ثروة البلاد».
وأطلع مسلم ومسؤولون أكراد مسؤولين أميركيين وروساً على وجهات نظرهم إزاء الإدارات الذاتية والفيديرالية باعتبارها نماذج لسورية المستقبل، لكنه حرص على التأكيد «أننا لم نأخذ إذن احد وأي دولة»، وأن أي اتصالات رسمية لم تجر بعد إعلان أمس «سوى ما سمعناه بالإعلام»، مع العلم أن موسكو أكثر المتحمسين لـ «الخيار الكردي» سياسياً وعسكرياً.
الحياة

قوّة الأكراد السوريّين وضعفهم/ حازم صاغية
هل المنطقة التي ستنهض الفيديراليّة الجديدة عليها هي «غرب كردستان»، أم أنّها «شمال سورية»؟ هذا السؤال ليس من قبيل الشطارة أو المماحكة اللفظيّين، بل هو مدخل لفهم المشروع الكردي في سورية بإمكاناته وتناقضاته. ذاك أنّ مَن لا يحتمل مركزيّة الدولة الوطنيّة السوريّة، وهو مُحقّ في عدم احتماله، لا يسعه أن يكون، في الوقت عينه، قوميّاً، يطمح إلى تجاوز الحدود السوريّة والعراقيّة والتركيّة والإيرانيّة!
يقود هذا المدخل إلى عناوين ثلاثة تضيء على مصادر الضعف في الخطوة الفيديراليّة الأخيرة. أوّل تلك العناوين يطاول علاقة حزب الاتحاد الكرديّ السوريّ بحزب العمّال الكردستاني التركي، والتي لن يفعل استمرارها غير تعقيد المشروع الجديد وتظهير احتمالاته غير المشجّعة.
أمّا ثانيها الذي لا يقلّ أهميّة، فيتّصل بالعلاقة بين أكراد الفيديراليّة وإثنيّاتها غير الكرديّة، لا سيّما العربيّة منها التي طالها تطهير عرقيّ لا يزال الأكراد الذين تعاونوا مع سلطة بشّار الأسد مطالَبين بالإقرار به والاعتذار عنه. فمن هنا تحديداً، يمكن البدء برأب الصدع القائم بين فيديراليّة تكون المنطقة الجغرافيّة قاعدتها وأساسها، وأخرى تعتمد المكوّنات الإثنيّة أساساً لها.
أمّا العنوان الثالث فمداره القدرة على طمأنة الجار الشماليّ التركيّ إلى تواضع المشروع الجديد وانفكاكه عن أوهام قوميّة عابرة للحدود. وقد يقال إنّ طمأنة أردوغان صعبة، إن لم تكن مستحيلة، هو الذي يتحوّل عداؤه للأكراد محرّكاً أوّل لسياساته الحاقدة. إلاّ أنّ من الأوهام افتراض النجاح لفيديراليّة كرديّة ينظر إليها الأتراك بأعين محمرّة. وهو درس سبق أن تعلّمه وأجاده مسعود بارزاني في شمال العراق، ويُفترض بأكراد سوريّة أن يبدعوا طريقتهم الخاصّة في الإفادة منه.
والحال، وهذا ليس خبراً جيّداً للمشروع الجديد، أنّه لا توجد أمثلة كثيرة عن بلدان كانت موحّدة ثمّ انتقلت بنجاح إلى الفيديراليّة. أمّا ألمانيا الفيديراليّة، أنجح تلك النماذج قاطبة، ففرضها الاحتلال الغربيّ الذي أعقب الحرب العالميّة الثانية. وهذا النقص في التجارب يستدعي الكثير من إعمال الخيال وعدم الاتّكال على الحماسة والمبادرة الذاتيّة وحدها.
من ناحية أخرى، فإنّ المنطقة التي أُعلنت فيها الفيديراليّة غنيّة نسبيّاً، نفطاً وغازاً وثروة مائيّة وزراعيّة. وهي في ولادتها لا تترك وراءها إلاّ جثّة هرمة ومتداعية، جثّةً لم تعرف من الوحدة إلاّ التوحيد السلطويّ والفوقيّ. وغنيّ عن القول إنّ سورية المركزيّة تلك ليست موضع إغراء لأحد، خصوصاً الأكراد الذين خضعوا فيها لتاريخ من التهميش في عداده الحرمان من الجنسيّة، والعيش في دولة «عربيّة» جعلتها عروبتها تتخلّف حتّى عن الدستور الستالينيّ الذي أعلن الاتّحاد السوفياتي دولة فيديراليّة!
وعلى رغم بعض التضارب الذي تعكسه أقوال وتصريحات تصدر عن رسميّين غربيّين وروس، ليس من الصعب تبيّن ذاك التوافق الدوليّ على أكراد سورية، ليس فقط بوصفهم الخصوم المباشرين لـ «داعش»، بل بوصفهم أيضاً مسرح التجريب الأوّل المتاح لشرق أوسط مطروحة خرائطه على المراجعة.
وهذا، فضلاً عن أهميّته العمليّة لكلّ صاحب مشروع سياسيّ، يدلّ على الورقة الأقوى في يد الأكراد السوريّين، أي ورقة الرهان على الوجهة الصاعدة لما بعد انهيار الدول المركزيّة في المنطقة. يحصل ذلك فيما لا تزال الأصوات العربيّة الأقوى تردّد تلك العبارة السقيمة والمتهرّئة من أنّ كلّ فيديراليّة تقسيم، وكلّ تقسيم طبعاً إسرائيليّ، والعياذ بالله!
الحياة

عن النظام الفيديرالي في سورية/ منير الخطيب
لا يصح اعتماد التجارب الفيديرالية الناجحة في البلدان المتقدمة نموذجاً للاستلهام والمقارنة، لدى معالجة مسار انهيار «الكيانات الوطنية» في بلدان «الربيع العربي» من طريق الفدرلة.
فتلك التجارب الناجحة، سواء كانت في أميركا أو أوروبا، حدثت في أوضاع تاريخية مغايرة كلياً للأوضاع المتفجّرة في البلدان العربية. فهي تشكّلت على أرضيات ثقافية ومجتمعية انتصرت فيها مكتسبات الحداثة الكونية، مما مكّن تلك الشعوب من تقرير مصيرها بنفسها، فجاءت عملية الفدرلة استجابة لإرادة تعاقدية لديها، واستجابة لحاجاتها الداخلية المحضة ومصالحها العليا، بعد أن طردت شروط الاحتراب الداخلي من حياتها العامة، فتوجت الفدرلة سيرورة راسخة من السلم الأهلي وسيادة منطق التقدم.
وهذا فيما يجرى الحديث عن الحل الفيديرالي في سورية في الدوائر النافذة دولياً، بعد تفجّر التساكن المحتقن بين الطوائف والمذاهب والقوميات، أي تفجر التساكن المستمر منذ عقود تحت رعاية «دولة البعث» السلطانية. وهو يجرى في زمن «تفكك الدول والمجتمعات» مترافقاً مع الحضور الطاغي لقوى إقليمية في الوضع السوري، تشترك جميعها في معاداتها قيم الحداثة والتنوير. وأيضاً، يجرى في زمن عالمي يتسم بفوضى مرحلة ما بعد الحداثة، وغياب المشاريع الكونية الكبرى، التي من شأنها التصدي لتضخم أزمات عالمنا ونمو أشكال اغترابه المختلفة.
لم تكن أزمات الكيان السوري، منذ تأسيسه بداية القرن الماضي، ناجمة عن عدم قيام نظام فيديرالي، بل هي أوسع من ذلك بكثير. والسوريون الذين فشلوا طيلة قرن في بناء دولة وطنية لأسباب مختلفة، لن يستطيعوا إقامة نظام فيديرالي ناجح للأسباب ذاتها. فتشكيل هكذا نظام أكثر تعقيداً من تشكيل النظام المركزي.
ولا يعكس الحديث الحالي عن الفيديرالية مؤامرة عالمية، أو رغبة دولية لتغيير كيانات «سايكس– بيكو» وفقاً لاتفاق «كيري – لافروف»، بمقدار ما يمثل مصلحة في تطويع نتائج المسار الانحداري لتجربتي البعثيين والإسلاميين، قبل الثورة السورية وبعدها، لكي تتوافق مع محصلة صراع القوى الدولية والإقليمية في سورية وعليها.
لم توفّر، سابقاً، «الوطنية السورية» الباهتة، الملحقة بالمنظومة الديماغوجية البعثية، والخاضعة خضوعاً مطلقاً لشروط الاستبداد الشمولي، مجالاً عاماً للسوريين لمناقشة قضاياهم المصيرية، فظلت قضيةٌ عادلة كالقضية الكردية خارج التداول العام، ولم ير معظم السوريين الاستلاب القومي والثقافي والسياسي الذي عانى منه الأكراد بسبب تسييس العروبة وفرضها بالقوة لحجب ثقافتهم وخصوصيتهم القومية. وبالتالي، لم يروا أن الإشكالية الكردية، التي انفجرت مع انهيار «الاجتماع الوطني السوري» هي، أساساً، من إنتاج شوفينية القومية العربية واستبدادها.
كذلك، يتصل تفجّر المسألة المذهبية السنية – العلوية ببنية السلطة أكثر من اتصاله بالانقسام العمودي الذي ورثه الكيان السوري عن تاريخه المملوكي – العثماني، إضافة للارتباط الوثيق بين صعود التنظيمات الإسلامية المتطرفة ونهج السلطة في التوظيف السياسي لهذه الظاهرة، أكان في مواجهة الثورة السلمية، أو في ابتزاز دول الإقليم والعالم.
ويرجح أن تتطابق حدود الفيديرالية المقترحة في أذهان المشتغلين عليها، مع الحدود الجغرافية التي سترسمها الحرب الدائرة على الأرض السورية بالتعالق مع هذه الإشكاليات الثلاث، أي المسألة الكردية، والحالة المذهبية السنية – العلوية، وحدود المنطقة الشرقية من سورية، التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية المتطرفة. لكن ذلك لن يؤسس إلا فيديرالية فاشلة، لأن الميليشيات المختلفة (السنية والشيعية والعلوية والكردية)، ومن خلفها القوى الدولية والإقليمية الداعمة لكل منها، هي من سيخط حدودها.
فتخيلوا هذه «الدولة الفيديرالية»، التي ستصنعها ميليشيات طائفية وإثنية ما دون وطنية، في غياب الأحزاب والرأي العام والقوى المدنية والبرلمانات! أما من جهة ثانية، فلا يتيح الاختلاط المذهبي والطائفي والقومي في التركيبة السكانية السورية قيام مناطق صافية عرقياً أو مذهبياً في أي تقسيم فيديرالي مقترح، ومن ثم ستكون التراكيب السكانية الهوويّة الحالية هي ذاتها في «الأقاليم» الجديدة. وهذا معناه أن من لم يستطع بناء علاقات توافق واندماج في الكيان السوري الكبير، لن يستطيع تحقيقها في كيانات صغرى، ما يجعل تلك الكيانات الصغرى مدخلاً لحروب مديدة لا تنتهي.
ومن جهة ثالثة، سيكون أي شكل فيديرالي قادم، مع الانكفاء الأميركي عن المنطقة، نتيجة توافق روسي – إيراني – إسرائيلي أساساً، وهذا المثلث معادٍ لطموحات السوريين الوطنية.
إن السوريين يملكون تجربة «دستورية» ثمينة، توجها برلمان الأعوام 1954 – 1958، الذي قرر الوحدة السورية – المصرية. فإذا كان لا بد من الفيديرالية، فستكون منقوصة الشرعية، إذا لم يُقرّها برلمان بالمواصفات نفسها على الأقل.
* كاتب سوري
الحياة

مآزق “المجلس الوطني الكردي” / هوشنك أوسي
لم يستمر اتفاق الكرد السوريين في إطار سياسي موحّد، يعبّر عن إرادتهم وطموحاتهم، إلاّ لسنوات امتدّت من 1957 حتى 1960، حين اختلفت قيادة الحزب الديموقراطي الكردي في سورية أثناء الاعتقال، وصولاً الى انشقاق الحزب على نفسه بين جناحي اليسار بزعامة عثمان صبري، واليمين بزعامة نور الدين ظاظا، الذي كان يرأس الحزب.
لاحقاً، في 1968، طُرد صبري من جناح اليسار، عبر تلفيق تهمة التخابر مع الأتراك له. بينما ترك ظاظا الحياة السياسيّة برمتها، بعد إطلاق سراحه من السجن مطلع الستينات. ومذاك، بات مأزق الشقاق خصلة من خصال الحياة السياسيّة الكرديّة في سورية أو إحدى أبرز عاداتها.
مناسبة هذا الكلام، الحديث عن مجموعة مآزق حقيقيّة وخطيرة يعيشها المجلس الوطني الكردي في سورية، الذي تأسس في 26/10/2011 كإطار سياسي، بهدف تمثيل الشعب الكردي في سورية، في المحافل الإقليميّة والدوليّة، على اعتبار أن حمّى تشكيل الأطر المعارضة كانت وما زالت مستشرية بين السوريين عرباً وكرداً، ولدى أقليّات قوميّة أخرى، بعد اندلاع الثورة السورية منتصف آذار (مارس) 2011. صحيح أن ثمّة انتقادات كثيرة وشديدة وُجهت إلى «حزب الاتحاد الديموقراطي»، وهي في مجملها صحيحة، إلاّ أن سياساته وممارساته لا تبرر الهزال والتضعضع وحجم المآزق التي يعيشها «المجلس الوطني الكردي».
كان حزب الاتحاد من المشاركين في مرحلة تأسيس «الوطني الكردي». لكنه حاول فرض هيمنته على المجلس عبر المطالبة بثمانية مقاعد لكل منظمة حزبيّة تابعة له، كالنساء والشبيبة وعوائل الشهداء، وسواها، بحيث توازي كتلته في المجلس تمثيل ستة أو سبعة أحزاب وربما أكثر. أما مبرّر سعيه وسلوكه هذا فإنه حزب جماهيري، ولديه مئات الآلاف من المؤيدين، ومن الغبن معاملته معاملة حزب كردي صغير، لا يتجاوز عدد أعضائه العشرات!.
أحزاب «المجلس»، الأحد عشر، رفضت شروط الاتحاد ومطالبه، والتي كان هدفها تشكيل ما يمكن تسميته «كتلة معطّلة» ضمن المجلس، تمكّنها من إبطال القرارات التي لا تنسجم مع مصالح الاتحاد، بخاصّة منها ما يتعلّق بالانخراط الجدّي في الثورة السورية والتواصل مع المعارضة المدعومة من تركيا. وبعد فترة وجيزة، أعلن الاتحاد عن تأسيس «مجلس غرب كردستان»، كردّ على «المجلس الوطني الكردي»، وصار يزيد ضغوطاته على الأحزاب الكرديّة المنضوية في «الوطني الكردي»، بخاصة بعد انضمام الأخير الى «الائتلاف» المدعوم من تركيا، نهاية آب (أغسطس) 2013.
وقد تسلّم الاتحاد إدارة المناطق الكرديّة السوريّة بالتنسيق مع نظام الأسد، فيما صار «المجلس الوطني» يطالب بالمشاركة في هذه السلطة على قاعدة المناصفة (50 في المئة) ويرفض الاتحاد. وعليه، طالب المجلس بسلطة الاتحاد وسط انتقاده لها بوصفها تابعة لنظام الأسد.
الآن، وبعد مضي هذه السنوات على تأسيس «المجلس الوطني الكردي»، ليس من المبالغة القول إنه لا يعيش مأزقاً واحداً فقط، بل جملة مآزق تهدد دوره وموضوعيّته بل مصداقيّته أيضاً، ومنها:
1 – تبعيّته لقيادة إقليم كردستان العراق. وحين يتم انتقاد الاتحاد على أنه فرع «العمال الكردستاني» في سورية، فإن «الوطني الكردي» يعاني المرض نفسه!.
2 – من أصل 11 حزباً سياسياً شاركت في تأسيس «المجلس»، لم يبقَ سوى حزبين أو ثلاثة. وبالتالي، فحديث «الوطني الكردي» على أنه يمثّل نحو 70 في المئة من الشعب الكردي في سورية، مبالغٌ فيه كثيراً.
3 – ضغوط الاتحاد عليه مستمرّة، وقد حققت الكثير من أهدافها، لجهة تـــقويض حراكـــه. ويريد الاتحاد فكّ ارتباط المجـــلس بـ «الائتلاف» في أي شكل من الأشــــكال. وما زال التراشق والتخوين على أشدّهما بين الطرفين. وفي كل استهداف للمجاميع الإرهابيّة التكفيريّة للمناطق الكرديّة وللأحــــياء الكرديّة في حلب، يوجّه الاتحاد الاتهام الى المجلس بأنه ضالع فيها، بسبب وجوده في «الائتلاف»، وأن الأخير يسعى الى التغطية على هذه الهجـــمات أو يحاول تبريرها، ولا يدينها بصريح العبارة، كون تلك الفصائل التكفيريّة الإرهابيّة مدعومة من تركيا.
والحقّ أن المجلس أصبح، في هذا المجال، مسايراً لـ «الائتلاف» إلى درجة الميوعة والهشاشة والتفريط. وقد يقول قائد: ليس مطلوباً من المجلس التعامل مع تركيا كـ «عدو»، ومهاجمتها سياسياً، كما يفعل الاتحاد، وأن الكردستاني وزعيمه أوجلان، سكتا لأكثر من عقدين عن جرائم طغمة الأسد الأب بحق الكرد في سورية، وفي نهاية المطاف أنكر أوجلان وجود شعب كردي وقضيّة كرديّة في سورية. فما حقَّ لأوجلان وحزبه في العلاقة مع نظام الأسد الأب، يحقُّ للمجلس مع تركيا. لكن ذلك كله لا يبرر صمت المجلس حيال الجرائم التي ترتكبها الحكومة الإسلاميّة التركيّة بحقّ الكرد، داخل تركيا وخارجها. والمجلس ليس مجبراً على التبعيّة المطلقة لـ «الائتلاف»، بخاصة في العلاقة مع تركيا، والصمت على دعمها التنظيمات التكفيريّة داخل سورية، أو على إرهاب الدولة الذي تمارسه بحق أكرادها. فهذا الصمت سيُعتبر شراءً.
فالمجلس ليس مضطراً لمغادرة «الائتلاف»، لكنه أيضاً ليس مضطراً لإبداء كل هذا التراخي والميوعة حيال مواقفه وسياساته وتصريحات بعض قادته، بما فيها هذا النفس العدواني البعثي – الطوراني حيال الكرد.
فالمجلس، إذاً، بين نارين: نار ضغوط الاتحاد ونار الإسلامويّة المتبعثنة في «الائتلاف» والطائعة لتركيا في شكل أعمى. إلاّ أنه ينبغي أن يدرك أن معاداة الاتحاد ليس الشرط الشارط لمعارضة نظام الأسد، وموالاة الثورة في سورية. فهنالك أمور أخلاقيّة – سياسيّة ومصيريّة تتجاوز إبداء المكايدة والثأريّة الأيديولوجيّة – الحزبويّة أثناء التعامل مع الكردستاني وفرعه السوري. وقد يكون المأزق الأخلاقي الأكثر جسامة، كونه يفضي إلى المأزق السياسي.
الحياة
هل يمكن التعويل على تركيا لمنع انفصال أكراد سوريا؟/ محمد صالح الفتيح
بات من المألوف أنّ يُحاجج المشككون بقدرة أكراد سوريا على الانفصال بالقول إنّ تركيا لن تقبل أبداً بوجود كيانٍ كرديّ مستقل على حدودها الجنوبيّة، وذلك لما سيشكله هذا الكيان من خطرٍ على الأمن القوميّ التركيّ، سواء لناحية احتمال ولادة دولة كرديّة تشمل جنوب تركيا وشمال سوريا، أو، على الأقل، لناحية إعانة الأكراد الأتراك على النضال للانفصال بدورهم. ولكن، إذا ما وضعنا جانباً مناقشة عقلانيّة الرهان على أنّ تركيا، يمكن أنّ تقوم بشيءٍ ما لمصلحة سوريا، نجد أنّ هذا الرهان قد يكون رهاناً خاطئاً لأسباب جوهريّة عديدة.
أولاً، من المفيد أنّ نُذكّر بأنّ الأكراد في الشرق الأوسط هم مثلهم مثل باقي شعوب الشرق الأوسط وشعوب العالم الثالث، التي يشتهر أفرادها بامتلاك توجهات متباينة، بما في ذلك بعض التوجهات الناتجة عن حسابات المصالح الخاصة، والتي تؤثر غالباً في قراراتهم المصيرية. ففي سوريا اليوم، ترفض غالبية الأكراد التحالف مع أكراد العراق. وهذا لا يجب أن يكون مستغرباً. فأين مصلحة أكراد سوريا، البالغين نحو مليونين ونصف المليون، في أنّ يكونوا تابعين لأكراد العراق، الذين يزيدون عن ستة ملايين؟ فإذا صح هذا القياس، فأين مصلحتهم في أنّ يتبعوا لأكراد تركيا الذين يتراوحون بين 15 و22 مليوناً؟ فهذه التبعية ستعني تضاؤل مكانة أكراد سوريا إلى حد التهميش. لتقريب الفكرة، قد يكون من المفيد التذكير بسيرة ولادة لبنان. فبينما أصرّ السوريّون في الدويلات الثلاث التي خلقها الانتداب الفرنسيّ، على الاتحاد، رفض اللبنانيّون ذلك وأصرّوا على الاستقلال. وعلى خلاف الاعتقاد السّائد، لم يكن الموارنة هم الوحيدين المطالبين بلبنان المستقل، بل ساندهم سُنّة لبنان الّذين فضلوا أن «يكونوا أصحاب نفوذ من الدرجة الأولى في حكم لبنان، بدلاً من أن يكونوا في الدرجة الثانية تابعين لزعماء سنّة دمشق» (كمال ديب، «تاريخ سورية المعاصر» 2011، صفحة 60). «حزب الاتحاد الديموقراطي»، أكبر القوى الكردية المهيمنة على الأرض اليوم، لم يرفض التبعيّة فقط لأيٍّ من القوى الكرديّة الأخرى في الدول المجاورة، بل إنّ هناك تقارير دوليّة، كتقرير منظمة HRW في 19 حزيران 2014، توثق ممارساته القمعيّة ضد الأكراد السوريّين المعارضين له. في نهاية المطاف، الأكراد شعب عالمثالثي، له ما لهم وعليه ما عليهم. فهل يجوز أنّ نستغرب إذا ما خطا الأكراد على خطى العرب، وفضلوا مصالحهم الضيّقة على المصالح القوميّة الواسعة؟
ثانياً، إذا ما وُضع أكراد سوريا بين خيار التّخلّي عن أحلامِ الانفصال، خشية المواجهة مع تركيا، وخيار التعاون مع تركيا أو طمأنتها، عبر تقديمِ ضمانات لها بعدم مساعدة «حزب العُمال الكردستانيّ» PKK، فماذا سيكون الخيار الكرديّ؟ ألا يُرجح بأنّ يكون خيارهم هو ما اختاره أكراد العراق حين تعاونوا مع الجيش التركيّ الذي اجتاح شمال البلاد غير مرة لمطاردة «حزب العمال الكردستانيّ»؟ قد يكون من المفيد هنا التذكير بالحرب الأهلية الكردية في شمال العراق، والتي دارت لحوالي ثلاث سنوات ونصف السنة في تسعينيات القرن الماضي، بين حزبي مسعود البارزاني، الذي تحالف مع صدام حسين، وجلال الطالباني، الّذي تحالف مع «حزب العمال الكردستانيّ»، والّتي انتهت بهدنة كان من نتائجها أنّ انسحب «حزب العمال الكردستانيّ»، في تلك الحرب، إلى جبال قنديل، حيث تعرض هناك، وحيداً، لأكثر من حملة عسكريّة تركيّة. أما الأكراد العراقيّون فأدركوا أن علاقتهم بتركيا أكثر استراتيجية من علاقتهم بـ «حزب العمال الكردستانيّ»، وذلك لأسباب كثيرة ليس أقلّها الحصول على متنفس لصادرات وواردات الإقليم الكرديّ المفتقر لأي منفذ بحري. ألا يعاني أكراد سوريا اليوم من الحاجة لمتنفس يعوضهم المنفذ البحريّ المفقود؟
ثالثاً، لو افترضنا جدلاً، أنّ الأكراد السوريّين قرروا أنّ يخالفوا الأمثلة التاريخيّة وأنّ يعملوا باتجاه القضية القوميّة الأسمى، فماهي حدود قدرة تركيا اليوم للتحرك لمنعهم من الانفصال أو التوسع؟ بحسب ما ظهر مؤخراً عندما تقدم الأكراد من عفرين شرقاً باتجاه تل رفعت وأعزاز، شمالي حلب، وبحسب ما ظهر قبل ذلك عندما عبر الأكراد سد تشرين إلى غرب الفرات، فإنّ قدرة الأتراك على التحرك، خارج حدودهم، محدودة للغاية. فقد تحول الأكراد إلى حليف أساسيّ للولايات المتحدة في مواجهة تنظيم «داعش» الآن، وسيكونون جزءاً من مخططات لاحقة في المستقبل. هل هناك من يصدق أنّ الولايات المتحدة بدأت الآن ببناء القاعدة الجويّة الثانية في أراضي الأكراد فقط لمواجهة «داعش» في الرقة؟ لهذا تدرك تركيا، وإنّ على مضض، بأنّ الأكراد في سوريا قد أصبحوا أمراً واقعاً، وأنّ عليها التكيّف مع هذا الواقع، كما أنّ على الأكراد التكيّف مع الواقع التركي.
نعم، في الوقت الحالي تطلق تركيا تصريحات عدائيّة رافضة لانفصال الأكراد السوريّين، أو حتى حصولهم على الفدرالية. وتركيا لم تكتف بالتصريحات. فقد اشتكى «حزب الاتحاد الديموقراطي» مؤخراً من تسليح تركيا لبعض الأكراد المناوئين لهم، في شمال حلب، المقصود هنا «لواء أحفاد صلاح الدين» المكون من أكراد سوريّين أعلنوا العداء الصريح لـ «حزب العمال الكردستانيّ» ولـ «حزب الاتحاد الديموقراطيّ»، كما أنّ الأخير اشتكى أيضاً من سماح تركيا لمقاتلين أكراد عراقيّين بالانتقال إلى شمال حلب. قد تنجح تركيا في تجنيد المزيد من الأكراد السوريين المعارضين لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي». ربما يدفع هذا التحرك الأكراد السوريين لتعديل موقفهم من تركيا ومنحها الضمانات التي تريدها، وقد يرفضون ذلك ونشهد حرباً أهليّة كرديّة أخرى. ولكن لنتذكر، في كل الأحوال، أنّ الحروب لها رعاة وأنها تنتهي بتسويات. فمن سيرعى حرباً تركيّة – كرديّة عبر الحدود، أو من سيرعى حرباً أهليّة كرديّة؟ وماذا ستكون نتيجة التسوية الّتي ستجلبها تلك الحروب على أيّ حال؟ وهل تشجعنا التجارب التاريخيّة على التعويل على تسويات الآخرين؟ ما أعلمه يقيناً هو أنّ الاتكال على الأتراك لضمان وقف المساعي الانفصاليّة الكرديّة السوريّة هو اتكال خاسر.
السفير
خريطة سورية … بين رميلان وجنيف/ الياس حرفوش
توحي ردود الفعل على إعلان الأحزاب السورية الكردية «نظاماً فيديرالياً» في المناطق التي تسيطر عليها في شمال سورية كأن هذا القرار كان مفاجئاً للجميع. فجأة صارت الأصوات تنادي بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. لم يقتصر الأمر على النظام السوري، الذي ما زال يعتبر نفسه مؤتمناً على هذه الوحدة وحامياً لها، رغم أن القرار بشأن مستقبل رئيسه صار في يد سيرغي لافروف وجون كيري، بل اندفع «الائتلاف الوطني» أيضاً ليحذر مما اعتبره «محاولة تشكيل كيانات أو مناطق تصادر إرادة الشعب السوري».
لم تكن خريطة سورية بحاجة إلى القرار الكردي لتثبت أنها لم تعد خريطة قابلة للبقاء كما كانت قبل خمس سنوات. الحرب الأهلية التي تحولت إلى حروب إقليمية قضت على كل عناصر ومقومات الوحدة الوهمية التي كانت قائمة بقوة القمع وكمّ الأفواه. الطابع المذهبي الذي أخذه الصراع نتيجة الحرب التي خاضها رئيسه ضد أكثرية شعبه، وتحالفاته الإقليمية التي جلبت إيران والميليشيات العاملة معها إلى هذه الحرب، وما تبع ذلك من تدخلات مقابلة أخذت هي أيضاً طابعاً مذهبياً، كل هذا فتح المجال أمام تفكك البنية الاجتماعية السورية، وبالتالي إلى تفكك البنية السياسية، مع ما يتبع ذلك بشكل طبيعي من انهيار كل مقومات وحدة الدولة وسيادتها على كامل أرضها.
لم يكن الأكراد استثناء في هذه الحال. ما ميّز مناطقهم عن مناطق المعارضة الأخرى هو أنها حافظت منذ البداية على علاقات مقبولة مع النظام، فغابت المواجهات المباشرة بين الطرفين، كما حصل مع فصائل المعارضة. وعندما تحولت مدينة القامشلي إلى «عاصمة» فعلية لمناطق الشمال الكردي حافظ النظام على مراكزه فيها من دون اصطدام بالأجهزة الكردية التي تدير الأمور الإدارية والأمنية. وضع الأكراد دستوراً جديداً ونظموا انتخابات وأقاموا مجالس محلية. ومع ذلك لم تنقطع العلاقات مع النظام، ويعود ذلك أساساً إلى عدائهما المشترك للأطراف الرئيسية في المعارضة. في حالة النظام كان هذا العداء مفهوماً بعدما انبرى رئيسه إلى تصنيف المعارضين في خانة الإرهابيين، الذين لا حل للصراع إلا بالقضاء عليهم. أما بالنسبة إلى الأكراد، فكانت العلاقات الوثيقة والرعاية التي حظيت بها أطراف المعارضة من جانب تركيا سبباً كافياً للتحفظ المتبادل، فصار إبعاد الأكراد عن مفاوضات جنيف مطلباً تركياً، لم يعترض عليه «الائتلاف»، فيما لم يربط النظام مشاركته في المفاوضات بضرورة حضورهم.
حقق أكراد سورية الحكم الذاتي فعلياً من قبل أن يعلنوا رغبتهم في قيام نظام فيديرالي في كامل سورية. في المناطق الكردية الثلاث، عفرين وكوباني والجزيرة (في محافظة الحسكة) تسيطر قوات حماية الشعب الكردي على الشؤون الأمنية. استطاع الأكراد المحافظة على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وروسيا في الوقت ذاته. حربهم مع «داعش» والنصر الذي حققوه على التنظيم، خصوصاً في معركة تحرير كوباني (عين العرب) التي خاضوها وحيدين، رغم تخاذل النظام وموقف تركيا المتفرج، سمحت لهم بكسب ثقة الإدارة الأميركية. وعلى رغم إعلان واشنطن عدم الاعتراف بمنطقة حكم ذاتي للأكراد في شمال سورية، هناك قاعدتان لسلاح الجو الأميركي في هذه المناطق، واتصالات دائمة بين ممثلين للإدارة الأميركية ومسؤولين في «حزب الاتحاد الديموقراطي» في القامشلي.
أما موسكو فقد سمحت لهذا الحزب بفتح مكتب تمثيلي فيها، فضلاً عن التعاون العسكري الذي قام بين الجانبين خلال التدخل العسكري في سورية، إذ منع هذا التدخل القوات التركية من اقتحام المناطق التي وقعت تحت سيطرة الأكراد، وخصوصاً في حلب، ما سمح لهم بالمحافظة عليها واعتبارها جزءاً مما سموه منطقة «روج آفا» (غرب كردستان) مع إعلانهم عن تبني النظام الفيديرالي.
خريطة سورية موضوعة على الطاولات في عواصم القرار الكبرى. وبقدر ما يمكن أن تقرر مفاوضات جنيف مصير الدولة السورية ومستقبل الحكم فيها وصلاحية رئيسها للبقاء، فإن الإعلان الذي خرج أمس من بلدة رميلان في محافظة الحسكة لا يقل أهمية. بل قد يسجل التاريخ أنه أول مسمار في نعش تلك الخريطة، كما كنا نعرفها.
الحياة

كيف تنجح أي مفاوضات مع طرح «التقسيم» وعداً أو وعيداً؟/ عبدالوهاب بدرخان
مستفزةٌ ومروّعة تلك السهولة التي اتّبعها اللاعبان الاميركي والروسي في تمرير مصطلحي «التقسيم» و «الفدرلة» في سياق جدلهما على «وقف العمليات العدائية» في سورية. كان تشاورهما في شأن الأزمة بدأ منذ أسابيعها الأولى، تعاونا بالتصاقٍ قلّ نظيره على ترك الصراع يتعمّق ويتعفّن و «يتدعّش»، اختلفا علناً وتوافقا سرّاً ثم تخاصما شكلاً واتفقا دائماً، ثم، فجأةً، اصبحا متعجّلين الحل، ليس حقناً للدماء، ولا حتى بسبب أخطار الإرهاب وتنظيماته، كما يمكن الاعتقاد، بل لأن للدولتين مشاغل اخرى، ولأن حسابات فلاديمير بوتين لشهور التدخّل الستة في سورية وحسابات باراك اوباما للشهور العشرة المتبقة له في البيت الأبيض باتت تتطلّب تظهير الحصص وتوضيح المصالح استباقاً لأي تغيير يفسد التفاهمات الراهنة.
لدينا هنا الدليل الى أن الدولتين الكبريين لا تتقنان سوى الاستفادة من الصراعات. قد تنجحان في ادارتها، وأحياناً كثيرة في إشعالها، أما حلّها فشأنٌ آخر. كانت الأعوام الخمسة الماضية تمريناً اميركياً يومياً على التفنن في ادارة العجز عن معالجة أي أزمة، بدءاً بالانسحاب تقليصاً لتداعيات غزو جورج دبليو بوش لافغانستان والعراق، ثم بما تبيّن أنه أسوأ من أي غزو وأي انسحاب وهو «التدخّل من دون التدخّل» في الأزمات/ الحروب المستجدّة تحت عنوان «الربيع العربي» من سورية الى اليمن وليبيا، فضلاً عن السلبية الممنهجة ازاء مصر والبحرين، من دون نسيان الرضوخ الاميركي لزمرة التطرّف في حكومة إسرائيل لاستنباط الفشل الغبي كنمط أسوأ من الانحياز الأعمى.
وإذ ساهم الاتفاق النووي في تعزيز تقارب اميركا مع روسيا وايران، أصبحت واشنطن أكثر ارتياحاً، لأن هذين «الشريكين» التدخّليين وغير المعروفين بأخلاقيتهما السياسية يعفيانها من الأوزار المعنوية. واذا كان هناك من يحمّل اميركا مسؤولية مذابح رواندا (1994)، بحكم مكانتها الدولية، فإن واشنطن تبدو كما لو أنها تشير الى شريكيها في مسؤولية مذابح سورية، وهي الأفظع منذ بداية الألفية الثالثة. بل ان الطريق الى هذه «الشراكة» أتاح غضّ النظر الأميركي عن جرائم التدخّل الإيراني في سورية، وبعدها جرائم التدخّل الروسي، بل مهّد للتساهل الأميركي مع استمرار بشار الأسد في منصبه، ثم التساهل مع التصفية الروسية للمعارضة المقاتلة ضدّه والتهجير المنهجي لما تبقّى من سكان في مناطق يريد اقتطاعها لـ «دويلته»، والأرجح أنها شراكة ستحول دون إحالة الأسد على المحكمة الجنائية الدولية إسوةً بما حصل لمجرمي رواندا. أكثر من ذلك، يهدف التلويح بـ «التقسيم» مكافأة الاسد و «الشريكين» الى إعادة تركيب سورية لتتناسب مع أطماعهم.
الذريعة جاهزة، فما أقبح أن يقال أن البلد ضاع بين شبّيحة الأسد ووحشية «داعش»، وما أسهل أن يقال الآن أن التعايش بين «السوريين» صار استحالة، لكن من هم السوريون المعنيّون هنا؟ انهم، عملياً، أعداء الأسد و «داعش» معاً. انهم الذين يريد الأسد و «داعش» التخلص منهم ليقيم كلٌ منهما «دولته». أي أن الاميركيين والروس (والايرانيين) باتوا يرون سورية إمّا كما يصوّرها لهم صالح مسلم سالخاً منها اقليمه الكردي، أو كما أمعن الأسد في تخريبها وكما يقدّمها اليهم، خاليةً من أهلها، «أرضاً بل شعب»، لا تاريخ لها، ولا تجربة آهلة هي بين الأقدم في العالم. وإذ يطرحون التقسيم استجابة للوضع الذي فرضه هذا الثنائي الجهنمي فإنهم يبحثون واقعياً عن صفقة مناسبة لمصالحهم. لم يجفّ بعد حبر القرار 2254 الذي يشدّد على «وحدة سورية» فكيف يتواءم ادّعاء تطبيقه مع فكرة التقسيم، بل كيف يستقيم البحث أولاً عن صيغة مريحة للأقليات مع النظر لاحقاً في كيفية إيواء ثلاثة أرباع الشعب. اذا قدّر لصيغ كهذه أن تتمّ فالأحرى أن تدعو الأمم المتحدة الى قمة عالمية لتشهد شطب أي عبارة في ميثاقها تقول بـ «احترام ارادة الشعوب في تقرير مصيرها». وعندئذ تحق لكوريا الشمالية وما يعادلها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي.
اتخذ أوباما قراراً صائباً بالانسحاب من العراق لكنه كسلفه جورج دبليو لم يشأ أن يدرك أهمية العراق كموقع مؤثر في توازن المنطقة واستقرارها، وكسلفه أخطأ في أنه لم يعالج الخراب الذي أحدثه الغزو والاحتلال ولم يهتمّ بوضع أسس سليمة لمعالجة كهذه، بل ترك الفوضى لعناية ايران، التي تعرف اميركا أنها أقرب الى دولة مارقة منها الى دولة طبيعية. لذلك لم يكن نتاج الغزوَين الاميركي والايراني سوى هذا المخلوق الوحشي الذي اسمه «داعش». في العراق أيضاً قيل ويُقال أن تعايش السنّة والشيعة صعب، وفي أيام سيئ الذكر نوري المالكي كان السُنّة مخيّرون في الخضوع لأحد ارهابَيْن: إمّا ايران وميليشياتها وإمّا «داعش». وعلى رغم أن «المصالحة الوطنية» على أجندة البلد إلا أن مجرد الحديث عنها صار كأنه منافٍ للعقل أو خارج أي سياق، وهناك مَن استسلم أخيراً لاستخلاص مفاده أن دستور 2005 خطّط للتفسّخ الجغرافي عندما شرّع فدرلة الإقليم الكردي أكثر مما أسس لإعادة توحيد الشعب والدولة، وعلى رغم أن الفيديرالية تعني البقاء في كيان دولة واحدة فقد كان معروفاً أن الكرد ذاهبون الى الاستقلال الكامل أو الى أقصى درجة من الانفصال. ومنذ الغزو صارت مسألة وحدة العراق قيد التداول، حار بها الاميركيون ونصح جو بايدن بتقسيمه قبل أن يصبح نائباً للرئيس، أما الايرانيون فتمسكوا بوحدته لكن تحت هيمنتهم. بين العجز الاميركي والطمع الايراني نال «داعش» امكان الحسم بإخضاع المحافظات السنّية، لكن ضربه وطرده بات اليوم إيذاناً بالعدّ العكسي لـ «فدرلة» هذه المحافظات.
في سورية كما في العراق، كما في ليبيا واليمن، كان الديكتاتوريون بوجهين، واحدٌ مزيّف يظهرهم رموزاً لوحدة البلد والشعب ولو بالقمع والبطش وسفك الدماء، وآخر حقيقي أظهر بعد سقوطهم (بمن فيهم بشار الاسد) أنهم كانوا يحكمون بانقسامات قديمة حافظوا عليها وبأخرى افتعلوها واحتضنوها وقد فعلت فعلها في شرذمة الشعوب وتقاتلها طوائفَ ومذاهبَ واثنياتٍ وأعراقاً ومناطقً وهوياتٍ. كان للديكتاتوريين رعاة وسماسرة وزبائن، من دول عظمى أو أقل عظمة، دعموهم وصنعوا أيام عزّهم وقدّموا أنفسهم ضامنين للأمن والاستقرار، ثم انقلبوا عليهم يوم اهتزّت أنظمتهم ليتبين أنهم لا يضمنون أمناً ولا استقراراً بل انهم لم يعرفوا عن هذه البلدان والشعوب سوى أنها كانت ويريدونها أن تستمرّ أدواتٍ وملاعبَ لسياساتهم، ولا سبيل الى ذلك إلا بتقسيم البلدان لتوزّع النفوذ والمصالح فيها بين القوى الخارجية. فالحروب الأهلية تسببت بتشظّيات سياسية واجتماعية لا يستوعبها قطب دولي واحد أو اثنان، ما استوجب نمطاً من التفدرل بين هذه القوى لتقسيم المقسَّم وتقاسمه.
اذا سألتَ عن العراق يقول المجيبون أن ايران و «داعش» و «الحشد الشعبي» أسباب موجبة للتقسيم. قد لا يختلف الأمر بالنسبة الى اليمن بسبب ايران والحوثيين، اذا طُرح التقسيم. وفي ليبيا ازداد وسواس الأقاليم الثلاثة حضوراً مع وجود ثلاث حكومات وصعوبة الحل السياسي على رغم تصاعد الخطر «الداعشي» وتنامي ظروف التدخّل الدولي. أما في سورية فيتوعّد «الراعيان» الاميركي والروسي ويتظاهران بالضغط والرهان على مفاوضات تبقى الآمال في نجاحها ضئيلة جداً. وكيف تنجح بعدما تبرّع «الراعيان» بالإشارة الى نتيجتها (تقسيم أو فيديرالية)، قبل أن تدخل فعلاً صلب الموضوع. صحيح أن فكرة التقسيم، وما شابه ذلك، كانت دائماً في خلفية المشهد، منذ ترويج نظام حافظ الأسد فضائل حكم الأقلية للغالبية و «تثقيف» طائفته على مبدأ «نَحكُم ولا نُحكَم»، وخصوصاً منذ تشجيعه الوحشية الأمنية والمعاملة الرعاعية لأبناء الشعب، وهي سلوكيات زادت همجية خلال عهد الأسد الابن… إلا أن سيناريوات التقسيم ومعادلاته وخرائطه اصطدمت دائماً بواقع جغرافي – اجتماعي غير مواتٍ، ولم يبقَ لبوتين وأوباما سوى الإقرار بأن مجازر الأسد والايرانيين، بعد مجازر صدّام ومَن خلفوه، وبعد مجازر الإسرائيليين، هي التي مهّدت لـ «عهد الدويلات» في الشرق الأوسط الجديد.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

كردستان سورية” حتى إشعار آخر/ سمير صالحة
لا بد من قولها منذ البداية، تتعارض مقولة “فيدرالية شمال سورية” مع أدبيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وطروحاته، المنقولة حرفياً عن أسس حزب العمال الكردستاني ومبادئه، وأفكار قيادات شمال العراق الذين يتطلعون استراتيجياً إلى كونفدرالية كردستان المؤقتة في بلدان الكثافة السكانية الكردية، لتكون مقدمةً نحو الوحدة والاندماج بين الكيانات باتجاه الإعلان عن كردستان الكبرى.
أواخر يناير/ كانون الثاني 2014، جاء قرار الإدارة الذاتية في شمال سورية. ثم أعقبه، في منتصف مارس/ آذار 2016، قرار الفيدرالية الكردية في منطقة جغرافية أوسع هذه المرة، تشمل الشمال وقطعة من مدينة حلب. خلال عامين، ينجح رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، في فرض حالة جيوسياسية كردية غير دستورية، أو تفاهمية مع بقية شرائح المجتمع السوري في الحكم والمعارضة، لكنه يفعل ذلك بالتنسيق مع واشنطن وموسكو، ليصبح قيادياً كردياً منافساً لمسعود البرزاني وعبد الله أوجلان على فتح الطريق أمام ” فيدرالية كردستان السورية”، بصيغة كونفدرالية مشابهة للحالة العراقية، بانتظار الدولة الكبرى التي لم يعد يعيقها سوى العقبة التركية، على ما يبدو.
ترى قناعات تركية أن بين أهم دوافع قرار الإسراع في إعلان الكيان الفيدرالي الكردي على الجانب الحدودي السوري، الممتد إلى مسافة 400 كلم تقريباً، هو الضربات الموجعة التي تلقاها حزب العمال الكردستاني في مدن جنوب شرق تركيا، في الأسابيع الأخيرة، وكلفته تحطيم بنيته التحتية العسكرية والبشرية، وتراجع حلم تحريك الشارع الكردي هناك، ما دفع شريكه وحليفه، حزب الاتحاد الديمقراطي، لتعويض هذه الخسارة، بنقلة من هذا النوع في شمال سورية. وطبعاً يتم ما يجري بتوجيهات ودعم روسي أميركي مباشر، رداً على “التمرد” التركي الإقليمي. الهدف الأول للانسحاب الروسي العسكري من سورية هو التمهيد لإعلان الفيدرالية، بعيداً عن وجودها، حتى لا تتهم موسكو بأنها فتحت الطريق أمام الكيان الكردي، في أثناء وجودها العسكري المباشر فوق الأراضي السورية.
قناعة تركية أخرى هي أن للإعلان عن فيدرالية شمال سورية علاقة أيضاً بالتقارب والتنسيق التركي الأوروبي الذي يستعد للإعلان عن تحريك مطلب المنطقة الآمنة، عبر المدينة الكبرى التي تعهدت تركيا ببنائها للاجئين السوريين داخل أراضيهم، وتعطيل مشروع التمدّد الكردي، ومحاولات ربط الكانتونات الكردية الثلاث المعلنة ببعضها جغرافياً، للسيطرة الكاملة على الشريط الحدودي الجنوبي.
فتح التفاهم الأميركي الروسي الأبواب على وسعها أمام حزب الاتحاد الديمقراطي، ليقدم على
“فيدرالية الشمال خطوة على طريق إبعاد سورية عن العالم العربي” خطوته هذه، وخصوصاً أن موسكو أشرفت على عملية التنسيق بين صالح مسلم والنظام السوري، ثم حاصرته بالخطوة الكردية هذه، بعدما أقنعته هو بالدفاع عن تمدد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي نحو الشمال الغربي وحلب، فيما تحملت واشنطن عبء الضغط على أنقرة، لمنعها من التدخل العسكري المباشر في شمال سورية، وتأزيم المشهد السوري أكثر فأكثر، وتحمليها مسؤولية إشعال حرب إقليمية واسعة، تنطلق من حدودها المشتركة مع سورية. ووسط تصفيق أميركي روسي، استطاع حزب الاتحاد الديمقراطي إخراج الأرنب الكردي من القبعة السورية.
أما عن بشار الأسد، فلم يعد خطاً أحمر روسياً، لكنه كذلك بالنسبة لإيران، بانتظار أن تضمن تمركز الكيان الكردي، وتعرف حصة داعش الحقيقية في الجغرافية السورية، وما سيقدّم للمعارضة السورية، في إطار حصة السنة العرب، وحدود الدويلة العلوية. ولن ينأى لبنان بالنفس حيال فيدرالية شمال سورية، وكذلك العراق، بل سيدعمانها ضد أي مشروع اعتراض أو إدانة عربي، لأن ما يجري يخدم المشروع الإيراني في المنطقة.
يعترض مسعود البرزاني فقط على تحرك أكراد سورية، لأنه يجد في الخطوة بروز منافس كردي قوي له على الزعامة، لكنه يعرف أن التجربة العراقية تتكرّر في سورية، وسيلتزم بأية توصيات أميركية روسية تنصحه بعدم المبالغة في انتقاد صالح مسلم، لأن الخطوة الكردية ستتبعها خطوات لاحقة في سورية وخارجها، لا يجوز تعطيلها أو تعريضها للخطر. أما إيران وحزب الله فسيعترضان لفظياً على المشروع الفيدرالي الكردي، لكنهما لن يدخلا في أية عملية تصعيد سياسي، أو عسكري، ضده، لأنه يخدم، في النهاية، مشروع إيران الإقليمي، بإضعاف أي سيناريو نحو بناء سورية جديدة، سنية الميول والهوى، ولأنه يعني تكرار التجربة العراقية التي أعطت إيران حصة الأسد، من دون أن تدفع أي ثمن سياسي في مقابل الخدمات الأميركية هناك. وها هي روسيا تقدم لها الهدية نفسها، في مقابل تعهد واحد، هو رفع حجم العلاقات التجارية بين البلدين إلى 70 مليار دولار، خلال السنوات الخمس المقبلة، تضييقاً للخناق أكثر فأكثر على تركيا.
لن يكتمل مشروع فيدرالية شمال سورية إلا بعد ربط الكانتونات الكردية ببعضها، واسترداد أكراد المدن الكبرى الذين يعيشون تحت حكم النظام، وجمعهم في مدينة سورية كبيرة، تكون تحت سيطرة الحكم الفيدرالي، وتنهي خدمات النظام في دمشق، وحظوظ حلب كبيرة جداً في أن تلعب هذا الدور.
كيف سيكون رد النظام السوري الذي أعلن، كلامياً، رفضه هذه الخطوة عملياً على الأرض؟
“لن يستغرب أحد إذا ما كانت داعش هي ثاني من يعلن ترحيبه بهذا الجار الجديد الذي يعطيها الفرصة لتكريس نفسها” هل سيكتفي بالاحتفاظ بحق الرد، كما فعل دائماً حيال الهجمات الإسرائيلية، أم إنه سيتحرّك مدعوماً ومسلحاً بالموقف المصري لإفشال الخطوة الكردية، بعدما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام فيدرالية كردية تفرض عليه، فيما كان يلتزم بموقف القاهرة في قيادة سيناريو بناء معارضة سورية بديلة، افترض بعضهم أنها ستكون فرصة الخلاص الوحيدة، وأشرك صالح مسلم نفسه فيها بعد لقاءات عديدة في القاهرة.
ترى أنقرة أن القضية أبعد من أن تكون قضية ما الذي ستقوله هي، وكيف سترد، لأن ما يجري يتعلق مباشرةً بدولة عربيةٍ تتفتت على مرأى مواطنيها ومسمعهم، ورغماً عنهم، وحيث من المفترض أن تكون جزءاً من مجموعة الدول العربية التي توحدت فيما بينها، وتعاهدت على حماية بعضها جغرافياً، وتعاقدت على التصدّي لأي مشروع تقسيمي تفتيتي، يستهدف حدودها وبنيتها. فلماذا يُطلب إليها أن تكون ملكاً أكثر من الملك؟
قد يرضي سيناريو الاعتدال في سياسات حزب الاتحاد الديمقراطي، والتخلي عن لغة التنسيق مع العمال الكردستاني، والتقارب مع الائتلاف الوطني السوري المعارض، أنقرة، ويمنحها الوقت والفرص وعدم إطالة القطيعة مع أكراد سورية، كما حدث مع أكراد شمال العراق.
ويمنح الكيان الفيدرالي تنظيم داعش فرصة الاعتراض على المساس بحصته الجغرافية في سورية، طالما أن الحديث هو عن الكونفدرالية والتقسيم، وطالما أنها ستتعهد بعدم الاعتراض أو المساس بأي تصور جغرافي سوري جديد، طالما أنه لا يستهدفها.
وبشأن مسارعة الرئيس الإسرائيلي، رؤوبين ريفلين، للقاء نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو، قد يكون سببها في العلن تعطيل صفقة تزويد إيران بالصواريخ الروسية الاستراتيجية التي تبحث عنها، لكنه في الخفاء قد يكون شكر موسكو على دعمها مشروع الفيدرالية في سورية، ووضع الحجر الأساسي له، عبر الكيان الكردي في الشمال، قبل قرار سحب الترسانة العسكرية الروسية من سورية.
.. فيدرالية شمال سورية خطوة على طريق إبعاد سورية عن العالم العربي، وإضعاف تركيا في سورية، ومحاصرة المعارضة السورية بخيار التفاوض مع النظام والأكراد، وقبول ما سيقدم لها. ويبقى السؤال: من الذي سيعترف بالكيان الفيدرالي المعلن بعد إسرائيل التي رحبت دائماً بكل مشروع وسيناريو تفتيتي في العالمين العربي والإسلامي، في إطار حماية نفوذها وقوتها، وسط كل هذا المد والجزر في المنطقة؟ واشنطن “ستتفهم” في النهاية ما يفعله حلفاؤها الأكراد. لذلك، لن يستغرب أحد إذا ما كانت داعش هي ثاني من يعلن ترحيبه بهذا الجار الجديد الذي يعطيها الفرصة لتكريس نفسها، وسط لعبة الكيانات العرقية والمذهبية واللغوية التي يواصلها أكراد شمال سورية، بعد أكراد شمال العراق.
العربي الجديد

هذا اللغط حول «سايكس بيكو» جديدة/ د. بشير موسى نافع
فجأة وبدون سابق إنذار، توالت التصريحات الروسية والأمريكية الرسمية، المشوبة بقدر من الغموض، حول احتمال أن تتحول سوريا إلى دولة فيدرالية. ولأن الأمريكيين والروس هم رعاة عملية الحل السياسي، الماضية ببطء وتعثر كبيرين، للأزمة السورية، كان لابد أن تؤخذ مثل هذه التصريحات مأخذ الجد.
ما أشير إليه بقدر من الغموض من «لافروف» و«كيري»، أصبح أكثر وضوحاً في حديث المبعوث الدولي لسوريا، دي ميستورا، لقناة الجزيرة الإخبارية (10 آذار/مارس)، (وحديث وزير الدفاع الإسرائيلي لمعهد ويلسون بعده بأيام قليلة).
يعي دي ميستورا، هو أيضاً، خطورة ووقع التطرق لأي مستوى من التقسيم في سوريا، ولذا فقد بدأ حديثه برسالة إيجابية، مشيراً إلى أن السوريين مجمعون على بقاء بلدهم موحداً. ولكن المبعوث الدولي أنهى معالجته للموضوع بما يناقض هذه المقدمة الإيجابية، مؤكداً على أن فدرلة الدولة السورية ستطرح على طاولة مباحثات الأطراف السورية في جنيف.
ما يتردد، بهذه الصيغة أو تلك في تصريحات مسؤولين مثل لافروف وكيري ودي ميستورا، يجد صداه في أوراق تعد في مراكز أبحاث غربية حول سوريا أو العراق، أو في قراءات مختصين ومسؤولين سابقين غربيين؛ حيث أصبح شائعاً القول أن الشرق الأوسط يحتاج سايكس ـ بيكو جديدة.
تشمل المباحثات لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، المفترض أن تبدأ من جديد يوم الإثنين 14 آذار/مارس، وفدي نظام بشار الأسد وقوى المعارضة السورية. وإلى جانب هؤلاء، ثمة عدد من الشخصيات المستقلة، التي اختارها المبعوث دي ميستورا، الحكم الرئيسي خلف عملية التفاوض.
المدهش في الطرح الفيدرالي لمستقبل سوريا أنه لم يولد في أوساط الطرفين السوريين، المعنيين الأوليين بحل الأزمة، وطرفي الأزمة الأصليين، ولا حتى في أوساط من يعرف بالمعارضين المستقلين.
باستثناء الاتحاد الديمقراطي الكردي، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، لم ترد فكرة الفيدرالية في أي تصريح أو وثيقة سياسية لأي من قيادات نظام الأسد أو قيادات وشخصيات المعارضة، عسكريين كانوا أو سياسيين.
ترى الأغلبية السورية نظام الأسد، الذي يمثل استمراراً لنظام أبيه، باعتباره سلطة حكم طائفية، يمثل العلويون مركز ثقله وعصبيته الرئيسية. ولكن الثورة السورية لم تندلع لأسباب طائفية، أو، على الأصح، أن البعد الطائفي للنظام لم يحتل أولوية هموم السوريين الذين خرجوا بمئات الآلاف في شوارع مدن وطنهم في آذار/مارس 2011، مطلقين شرارة الثورة الأولى. الطبيعة الاستبدادية للنظام، سياسات القهر والسيطرة، التي اتبعها النظام ومؤسسات الحكم الأمنية، كانت هدف الثورة الأول والأبرز.
وطوال أعوام الثورة السورية الخمسة الماضية، لم تطرح سمة النظام الطائفية إلا باعتبارها إحدى ركائز الاستبداد والتسلط والطبيعة الأقلوية لنظام الحكم. في المقابل، ما يطالب به السوريون ليس إقامة نظام الأكثرية السنية، بل حكماً حراً وعادلاً للسوريين جميعاً.
كان يمكن أن لا تتحول الثورة السورية إلى ما يشبه الحرب الأهلية والأزمة الإقليمية ـ الدولية التي هي عليها الآن. لو أن القوى الإقليمية والدولية توافقت على دعم حركة ومطالب الشعب السوري، ومساعدة السوريين على الانتقال ببلادهم إلى حكم ديمقراطي، يحتض كافة فئات الشعب وقواه، ما كان للأزمة السورية أن تستمر لخمس سنوات دموية.
لكن القوى الكبرى، بصورة أساسية، إلى جانب القوى الإقليمية، انقسمت حول سوريا، بين مؤيد للنظام ومؤيد للثورة الشعبية. بكلمة أخرى، يبدو أن طرح فكرة الفيدرالية يأتي اليوم لحل معضلة انقسام الخارج حول سورية، وليس لتحقيق مطلب سوري. تماماً كما أن سايكس – بيكو كانت اتفاقية لحل مشكلة التنافس وصراع النفوذ بين قوى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
تمر هذا الربيع الذكرى المئوية الأولى على توقيع اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي لا يوجد تلميذ مدرسة واحد في البلدان العثمانية السابقة إلا ويذكرها بقدر من الكراهية والشعور بالمهانة. وسايكس ـ بيكو هي، في الحقيقة، اسم رمزي (كودي) لثلاث اتفاقيات، وضعت أسس فكرة تقسيم الدولة العثمانية بين القوى الأوروبية المتحالفة في الحرب العالمية الأولى.
الأولى، وسميت باتفاقية القسطنطينية، وقعت في العاصمة الروسية سان بيتربرغ في ربيع 1915، وتضمنت موافقة كل من بريطانيا وفرنسا على منح المضايق العثمانية وسواحلها الأوروبية والآسيوية (بما في ذلك اسطنبول) لروسيا.
ووقعت الثانية في العاصمة البريطانية، لندن، بعد عام على الأولى، في ربيع 1916، وتضمنت تقسيم ولايات الأغلبية العربية وجنوب الأناضول، بين فرنسا وبريطانيا؛ وهي التي عرفت باسم مفاوضيها، مارك سايكس وجورج بيكو.
أما الثالثة، والتي عرفت باتفاقية سان جين دي موريين، ووقعت في منتصف 1917، فتضمنت موافقة بريطانيا وفرنسا على منح إيطاليا منطقة جنوب غرب الأناضول (أي أنطاليا الحالية)، مقابل التحاق الأخيرة بمعسكر الحلفاء في الحرب.
لم تتوقف الأمور هنا، فبعد استسلام معسكر الوسط، بلغاريا والنمسا والسلطنة العثمانية وألمانيا، وإعلان نهاية الحرب، وافقت بريطانيا وفرنسا على سيطرة اليونان على إزمير العثمانية وجوارها في 1919، وهي الخطوة التي أشعلت حرب الاستقلال العثمانية بقيادة مصطفى كمال ضد احتلالات دول الحلفاء المختلفة لمعظم ما تبقى من السلطنة العثمانية.
لم تتحول اتفاقيات الحلفاء السرية خلال سنوات الحرب إلى واقع، بفعل انسحاب روسيا من الحرب بعد الثورة البلشفية في 1917، وحرب الاستقلال العثمانية، وتراجع بريطانيا عن تعهداتها لفرنسا في سايكس ـ بيكو. ولكن فكرة تقاسم الغنيمة لم يتم التخلي عنها.
نجحت حرب الاستقلال العثمانية في تحقيق حرية واستقلال المنطقة التي تبقت من السلطنة بعد هدنة مدروس، وهي التي تحولت إلى الجمهورية التركية. ولكن هذا النجاح لم يحم تركيا كلية من عواقب سياسة التجزئة الإمبريالية لممتلكات السلطنة الأخرى، التي تحولت إلى عراق وسوريا ولبنان وأردن وفلسطين، ووزعت بين بريطانيا وفرنسا.
وكما هو الجدل الذي أطلق حول مستقبل سوريا (وقبلها العراق) مؤخراً، لم يكن لأهل البلاد العثمانية من قول في الطريقة التي قسمت بها أوطانهم، ولا كان لهم من علاقة أصلاً بولادة فكرة التجزئة.
ولد نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى من اصطدام أطماع الإمبرياليات الأوروبية، ومحاولة كل منها، من ثم، تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المشرق عبر عملية تفاوضية وبروح تقاسم غنائم الحرب. وكانت العواقب كارثية على المشرق وأهله، حتى بعد تحقيق دوله الجديدة لاستقلالها.
ولدت دول ما بعد السلطنة العثمانية كوحدات عشوائية، بدون أن تحمل كل منها عوامل الاستقرار والازدهار؛ وولدت والشك يراود الواحدة منها تجاه الأخرى.
وسلمت مقاليد حكم هذه الدول لجماعات أقلوية، اجتماعية أو طائفية أو عسكرية، بدون أن تستند إلى أسس صلبة بما يكفي لتطور أنظمة حكم ديمقراطية، تعبر عن إرادة الأغلبية الشعبية.
ولأن نظام ما بعد الحرب الأولى استبطن فكرة الدولة القومية، فسرعان ما ولد مسألة كردية، أصبحت عامل عدم استقرار بعيد المدى وباهظ التكاليف في كافة دول المشرق.
أما كارثة الكوارث فكان تأسيس دولة للمهاجرين اليهود في أرض فلسطين.
لم تزل عواقب فكرة التقسيم والتجزئة التي صنعت نظام ما بعد الحرب الأولى تطارد دول المشرق وشعوبه، فقداناً للاستقرار والازدهار، وسلسلة من التدافعات الأهلية، وحرباً بعد الأخرى. العودة إلى سياسة التقسيم والتجزئة لحل أزمات صنعها نظام ما بعد الحرب الأولى لن تؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار والصراعات الأهلية والحروب وفقدان المعاش.
القدس العربي

الفيدرالية في سوريا بعد العراق تعني إقليما للأكراد فقط/ وائل عصام
كل المفاهيم التي يتم تداولها مثل «الفيدرالية في سوريا» هي مفرغة تماما من مضمونها، ويراد منها فقط إضفاء شرعية قانونية شكلية على وضع قائم لا يمانع الغرب بتثبيته ودعمه، في ما يخص الأكراد فقط، الذين انفصلوا فعليا بمناطقهم عن سلطة دمشق منذ سنوات، فما معنى أن تعلن فيدرالية لا تقبل بها السلطة المركزية؟ بل وتصدر الحكومة السورية موقفا رسميا يعتبرها غير شرعية.
وما معنى أن تحاصر قوات كردية القوات الموالية لنظام الاسد في مربعها الأمني في القامشلي وتعتقل ستين جنديا منهم قبل إعلان «الفيدرالية» بيوم؟
هذا لا يعني سوى شيء واحد، دويلة كردية شمال سوريا منفصلة عن سلطة دمشق بدأت تحت مظلة الحكم الذاتي. أما المواقف الدولية الداعمة للاكراد فلم تكن مفاجئة، ولعل الداعم الاول لها وهم الروس تربطهم علاقات وطيدة بالاكراد على اكثر من صعيد، ويعتبرهم الروس كما الامريكيون حليفا علمانيا قويا لهم، في منطقة تعج بالأعداء، خصوصا الجهاديين الرافضين للنفـــوذ الغربي في المنطقة، ولكن الــــروس لديهم بلا شك اعتبارات اضافـــية تتعلــــق بالوضــع الاقليــــمي، إن كان في ما يتعلق بجـــيرانهم الاتراك، أو ساحات الصراع في الشيشان وســـوريا، فروسيا التاريخية اصطفت إلى جانب قوى كردية انفصـــالية ضد الدولة العثمانية، وها هي اليوم تمنحهم ممثلية دبلوماسية خاصة بهم في موسكو، وتصطف إلى جانبهم مرة اخرى ضد تركيا الاردوغانية التي لم تُجدِ كل محاولاتها بالتجمل للعالم الغربي حداثة وديمقراطية بإبعاد شبهة إسلامويتها.
إبراهيم مسلم القيادي الكردي وابن عم زعيم الاكراد السوريين صالح مسلم، يصف ائتلاف الثورة السوري بأنه «سلفي»، فالثوار السنة مهما تجملوا ايضا للغرب ومهما حاربوا الارهاب مع دولهم الداعمة سيبقون «سلفيين»، لذلك فهم غير معنيين بكل الحديث الدائر عن الفيدرالية، التي تعني منح مكونات الشعب حكومات محلية مرتبطة بالمركز، فالسنة لن يمنحوا أقليما ولن يمنحوا حتى حق اختيار مخاتير أحياء مدنهم التي ستبقى تحت سلطة المكون العلوي.
وهكذا فإن مناطق ومحافظات الاكثرية السنية في سوريا ستبقى تحت سيطرة الحاكم العلوي في مركز دمشق.. غير المضطر الآن لأي انحسار في دويلة علوية، قد يحين وقتها إذا ضعفت سيطرته على أرجاء البلاد، الأمر الذي لا يبدو في المنظور القريب. فقد نجح النظام في وأد الثورة المسلحة بفضل تفكك وهزالة قادة فصائلها المرتبطين بأنظمة موالية للغرب، لم تصطف يوما إلى جانب قضايا العرب السنة، ولم تكن تلك القوى الغربية ستتعامل بجدية مع قادة مجاميع من العرب السنة العراقيين، أو السوريين التائهين المصابين باختلال الهوية والمرجعية الذاتية والمشروع الجامع في زمن الحرب. لذلك فإن الحروب الاهلية في العقد الاخير في العراق وسوريا خرجت بمنتصرين اثنين، يفهمان لغة الحرب، هما ايران وحلفاؤها الشيعة والعلويون. والطرف الثاني هم الاكراد. إيران وحلفاؤها والاكراد امتلكوا قيادات محاربة أمضت عقودا تقاتل في سبيل مشروع قومي محدد، وتعريفا واقعيا لذوات هوياتهم، بنوا على اساسها رابطتهم الجمعية التي شكلت لهم بالدم والقوة دولهم وكياناتهم، بعيدا عن الانشاء العربي والخيالات والتجمل للآخر الغربي بمكياج الحداثة والديمقراطية على حساب خسارة الوجود.
وهكذا فإن سوريا على خطى العراق، حكومة مركزية قوية للشيعة في بغداد والعلويين في دمشق، أما شمالا فالاكراد شمال العراق وسوريا بات لديهم إقليم يتمتع محليا بمواصفات دولة. الاكراد والشيعة والعلويون سيتقاسمون النفوذ والسيطرة بالقوة على محافظات السنة التي ستبقى خاضعة لهم، خصوصا بعد أن وقعت الهدنة والتسوية، ما عدا مناطق الجهاديين كتنظيم الدولة والنصرة وهم الوحيدون الذين يمتلكون مشروع دولة سنية، وقد يحتكرون مستقبلا تمثيل هذا المشروع الواقعي بالنسبة لكثيرين من السنة، وحتى إن تراجعت قوة هذه التنظيمات في العامين المقبلين نتيجة الحرب الشرسة ضدهم، التي ستشن بأدوات سنية هادنت حكومات بغداد ودمشق وأقاليم الشمال.
٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
أكراد سوريا في الحسابات والسياسات الروسية/ سامر إلياس
إنكار فتدخل عسكري
فائض القوة الروسية
سيناريو الحد الأعلى
الفيدرالية والورقة الكردية
يسعى الكرملين إلى استثمار الاختراقات السياسية والعسكرية التي حققها في سوريا من أجل فرض رؤيته حول نوع النظام السياسي السوري وتركيبته، وبنية الدولة السورية المستقبلية.
ويتضح أن روسيا بتصريحاتها وفعلها على الأرض السورية تمارس سياسية اللعب على حافة الهاوية، وتستخدم التهديد والترويع والضغط على بلدان الجوار وأوروبا من أجل الخروج بأكبر المكاسب.
وكشفت خريطة أهداف روسيا المنتقاة، منذ الأيام الأولى لتدخلها العسكري في سوريا نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، عن ملامح إستراتيجية موسكو المرتكزة على تحقيق ثلاثة أهداف: الأول رسم حدود “سوريا المفيدة” كملاذ أخير لنظام الرئيس بشار الأسد، وعززت وجودها بنشر قواعدها العسكرية في المناطق الساحلية لتكون نقطة انطلاق لها لحماية “الخزان البشري” للنظام، إن صح التعبير.
أما الهدف الثاني فهو تقوية مواقع النظام والقوى المتحالفة معه، وإبعاد المعارضة المسلحة عن مراكز كبريات المدن عسكريا، أو عبر تشجيع النظام على عقد اتفاقات لإخراج المسلحين مقابل رفع الحصار. وأما الهدف الثالث فيكمن في قطع خطوط الإمداد الداخلية والخارجية للمعارضة المسلحة، وخاصة من الجانب التركي.
إنكار فتدخل عسكري
منذ بداية الأحداث في درعا في مارس/آذار2011 تبنت موسكو رؤية النظام حول المؤامرة على سوريا، وأنكرت وجود ثورة شعبية. وشكَّل التدخل العسكري الروسي نقطة تحول مهمة في تاريخ الثورة السورية، حيث انتقلت موسكو إلى استخدام مختلف صنوف الأسلحة بعدما كان الدعم مقتصرا على الجوانب السياسية والإعلامية، واستخدام حق “الفيتو” أكثر من مرة ضد إدانة النظام، إلى جانب دعمه بالأسلحة والعتاد والأموال.
وطورت روسيا إستراتيجيتها العسكرية في سوريا بالاستفادة من عوامل عدة أهمها: النتائج المخيبة للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة في سوريا والعراق، وبروز روسيا كقوة تستطيع استخدام كثافة نارية هائلة، ووجود قوى برية تساندها للاستيلاء على مناطق المعارضة بعد استخدام سياسة الأرض المحروقة، أو “السجادة المطوية”، في محاكاة لحرب الشيشان وتدمير غروزني.
كما استغلت روسيا قبول أطراف عربية وإقليمية بتدخلها العسكري في سوريا، انطلاقا من تقدير بأنه قد يسهم في تخفيف التدخلات الإيرانية الفجة والمبنية أساسا على سياسات طائفية. يضاف إليها ضعف الموقف الأميركي وعدم إبداء إدارة أوباما معارضة صريحة للضربات الروسية.
إلى جانب قناعة كثير من النخب أن “انتصارات” روسيا العسكرية على الأرض سوف تسهم في إضعاف النظام سياسيا، وتضطره إلى القبول بأي صفقة قد تبرمها روسيا مع الأطراف الإقليمية والدولية تتضمن حل جميع القضايا الخلافية بين روسيا والغرب، أو تقديم إغراءات لموسكو تقوي اقتصادها وحضورها في الشرق الأوسط، مقابل عملية سياسية تفضي إلى إزاحة الأسد شخصيا، وربما نظامه، عن السلطة في سوريا.
واستغلت موسكو هجمات باريس الإرهابية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فنجحت نوعا ما في فك عزلتها الدولية، عبر الترويج لمخاطر الإرهاب، وضرورة إعطاء الأولوية لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وتشكيل تحالف دولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، كما خففت من حدة اللهجة الأوروبية والأميركية بشأن مصير الرئيس الأسد في الفترة الانتقالية.
وفي سياق متصل؛ اقتنصت روسيا حادثة إسقاط مقاتلتها قرب الحدود السورية التركية في 24 نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، وبدأت عمليا بإتباع سياسة جديدة مع تركيا تعتمد على منع أنقرة بأي حال من الأحوال من بناء منطقة عازلة أو منطقة حظر طيران في الشمال السوري.
فائض القوة الروسية
بالتوازي مع سياسة الأرض المحروقة على الأرض، بدأت موسكو حراكا دبلوماسيا واسعا يهدف إلى إطلاق عملية تسوية سياسية شاملة لحل الأزمة السورية. وأسفر الحراك الدولي عن تبني مجموعة من التفاهمات في فيينا وجنيف توجت بقرار مجلس الأمن 2254 الداعي لإطلاق مفاوضات جنيف3.
وكالعادة فإن الجانب الروسي وحليفه السوري أغرقا العملية التفاوضية في التفاصيل والجزئيات، واستغلا النقاط المبهمة للولوج منها وإفراغ المفاوضات من فحواها وتعطيلها عند الضرورة، وهو ما جرى في الجولة الأولى بداية فبراير/شباط من العام الحالي حين توقفت المفاوضات قبل افتتاحها رسميا.
ومع شعورها بفائض قوة نتيجة تدخلها في سوريا، بدأت موسكو في محاولة فرض شروطها حول تصنيف المنظمات الإرهابية لتتطابق مع تصنيف النظام، ووصل الأمر بوزارة الخارجية الروسية إلى التدخل في تركيبة وفد المعارضة المشارك في مفاوضات جنيف3، وطالبت مرارا باستثناء بعض الشخصيات وإضافة أخرى إلى الوفد التفاوضي من الشخصيات المحسوبة عليها وعلى النظام، ممن شاركوا في منتديات موسكو والآستانة أو اجتماع القاهرة.
وأبدت موسكو إصرارا على ضرورة تمثيل صالح مسلم في وفد المعارضة، إضافة إلى هيثم مناع المتحول من رافض للعمل المسلح إلى قائد فصيل عسكري يضم أكرادا وعربا تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية”، ويسيطر حسب تصريحات المسؤولين الروس على أكثر من 15 في المئة من مساحة سوريا.
ومع تصاعد لغة الانتقام بحق أنقرة بعد إسقاط المقاتلة الروسية ذهبت موسكو بعيدا في محاربة تركيا عبر تقوية حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية، ومع ردة فعل الناتو الضعيفة، والخلافات المتفاقمة بين الإدارة الأميركية وأنقرة، استغلت موسكو الفرصة لتزيد من دعم الأكراد وكثفت غاراتها على المناطق الشمالية من حلب لقطعها نهائيا عن تركيا، وتمكين القوات الكردية المتحالفة مع النظام والمدعومة مباشرة من الغرب وموسكو من فرض سيطرتها على مناطق واسعة في محيط أعزاز والأتارب وتل رفعت.
سيناريو الحد الأعلى
فاجأ ثبات روسيا في مواقفها حول سوريا الحلفاء قبل الأعداء. ومع مرور سنوات الثورة تمسك الكرملين بنظام الأسد خلافا لما فعله سابقا مع حلفائه مثل إدوارد شيفارنادزة، وصدام حسين ومعمر القذافي، وحتى سلوبودان ميلوسوفيتش.
ويرفع ثبات الكرملين سقف المطالب الروسية المتوخاة لسيناريو الحل في سوريا ليصل إلى المحافظة على سوريا موحدة بقيادة الأسد وترتبط بعلاقات مميزة مع روسيا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، مع تغيرات من باب إشراك أطياف من المعارضة في “حكومة وحدة وطنية” مع النظام، وتوظيف القوى الداخلية والإقليمية، وربما عقد تحالفات دولية من أجل القضاء على خطر تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة والتنظيمات التي تصنفها موسكو إرهابية، هذا إضافة إلى بناء علاقات مميزة مع البلدان العربية وخاصة الخليجية في مجال التنسيق في أسواق النفط، وبيع الأسلحة.. الخ.
كما تراهن موسكو على أن الوصول إلى حل سياسي في سوريا يساعد بروكسل في حل قضايا اللاجئين وتبعاتها على مستقبل الاتحاد الأوروبي ما يمهد لعقد صفقة تنهي ملف ضم القرم، وحل قضايا شرق أوكرانيا مقابل رفع العقوبات الغربية المفروضة على القطاعين المالي والنفطي.
ومن نافلة القول، إن موسكو لا تأمل في تحقيق مجمل هذه الأهداف، ولهذا فإنها عمدت إلى خلط الأوراق، وغلفت تصريحات مسؤوليها بضبابية وغموض حمال أوجه متعددة. فقد أعلنت -على سبيل المثال- مرارا أنها لا تتمسك بالأسد ولكن تسعى للمحافظة على بنيان الدولة ومؤسساتها، وهي مع وحدة الأراضي السورية وضد مشروعات الفيدرالية، لكنها لا ترفض أي خيار للشعب السوري إن قرر ذلك، وهذه صيغة تفتح الباب أمام تفسيرات وتأويلات شتى.
الفيدرالية والورقة الكردية
وفي إقرار نادر، كشف الكرملين أن خبراء روسا ناقشوا مع نظرائهم الغربيين موضوع الفدرالية كحل لبنية الدولة السورية المستقبلية، وعدم استبعاد سيناريو كوسوفو. ويضمن هذا الخيار لروسيا الحد الأدنى من أهداف تدخلها في سوريا، فهو يقضي حسب تسريبات الصحافة الروسية بإنشاء “مثلث علوي” يضمن حقوق الأقلية العلوية المؤيدة للرئيس الأسد، ويحافظ على قاعدتي طرطوس البحرية ومطار “حميميم “إضافة إلى حقوق الشركات الروسية في استثمار ثروات السواحل السورية من النفط والغاز.
وحسب ذات المصادر فإن المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا سوف تكون منطقة حكم ذاتي للأكراد، ويمثل الدعم الروسي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري استكمالا لمسيرة بدأها النظام في 2011 حين انسحب من المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال الشرقي لسوريا، وسلمها لـ “وحدات حماية الشعب” في محاولة لخلط الأوراق وزعزعة الاستقرار الاجتماعي والأمني في هذه المناطق، وهو ما حصل مع سيطرة هذه القوات على مناطق عدة وممارسة تطهير عرقي بحق العرب والمعارضين من الأكراد.
واستفادت روسيا من السمعة الجيدة للقوات الكردية في محاربة تنظيم الدولة على الأرض بدعم من التحالف الدولي لتمنع أي فيتو أميركي على علاقاتها معه. وذهبت روسيا بعيدا في دعم أكراد سوريا بافتتاح ممثلية “غرب كردستان” في موسكو الشهر الماضي في خطوة لها دلالاتها السياسية والرمزية.
” ويشكل الدعم الروسي للأكراد ضربة قوية لتركيا لأنه سيؤدي إلى وصل الكانتونات الكردية التي أنشأها حزب صالح مسلم (الاتحاد الديمقراطي الكردي) على طول الحدود من الحسكة شرقا حتى حدود لواء إسكندرون غربا، ما يعني عمليا بروز كيان كردي متكامل على حدود تركيا يشكل قاعدة لزعزعة الأمن فيها وتدمير جهود التسوية السياسية مع الأكراد التي بدأتها أنقرة منذ سنوات لتضع حدا لحرب دامت أكثر من 30 عاما. ولعل الأخطر هو أنه يؤجج مشاعر أكراد تركيا للحصول على حكم ذاتي بعد العراق وسوريا.
ومن المؤكد أن الخبراء الروس يعلمون أن مشروع الفيدرالية في سوريا لا يمكن أن ينجح، ولا يصب على المدى البعيد في صالح إحلال الأمن والاستقرار في بلد متعدد الإثنيات والطوائف والمذاهب، فحتى “المثلث العلوي” الذي يجري الحديث عنه في المدن والجبال الساحلية مع حمص لا يحظى فيه العلويون بأغلبية عددية، والأمر ينطبق على التجمعات الرئيسة للأكراد. وربما يشكل مشروع الفيدرالية الخطة البديلة لروسيا في حال عدم تمكنها من إقناع البلدان الإقليمية والعالم بإبقاء الأسد في الحكم والتعاون معه في “محاربة الإرهاب”، أو هو بمثابة أداة لممارسة مزيد من الضغوط على تركيا.
بالمقابل فإن التقدم في مشروع سوريا فيدرالية سوف يدفع الدول الإقليمية إلى تحالفات كانت مستحيلة حتى وقت قريب، فالخوف من إعادة رسم الحدود سيوحد تركيا وإيران والسعودية في مواجهة هذا المشروع.
في خضم كل ما سبق؛ يمكن القول إن التعاطي الروسي مع الموضوع الكردي، أو التقسيم في سوريا، لا ينطلق حتى الآن من كونه مشروعا قائما بحد ذاته على المستوى الإستراتيجي، بل مجرد ورقة قوية في مواجهة قوى المعارضة السورية وتركيا، لكن اللعب فيها له محاذير كبيرة قد تقلب التحالفات والحسابات رأسا على عقب، مما يملي على موسكو التعامل معه بحذر شديد، وإجراء حسابات دقيقة ومعقدة.
وربما بات لزاما على روسيا تليين مواقفها بشأن مصير الأسد، والمحافظة على وحدة سوريا من دون مناورات لكسب الوقت، أو ترويع دول الجوار، لأن البديل هو الغرق في حرب استنزاف طويلة، ووصول الحريق السوري إلى قلب روسيا، واستمرار العقوبات الاقتصادية مترافقة مع انهيار النفط ما قد يثير الاضطرابات الاجتماعية والسياسية ضد الكرملين، وغوص روسيا في مستنقع طالما حذرت منه الغرب إثر تدخلاته في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها.
وعلى البلدان الخليجية وضع روسيا أمام خيار واضح وهو أن مصالحها الاقتصادية في المنطقة، والتنسيق في مجال النفط والغاز، واستمرار التعاون في مجالات الطاقة النووية السلمية، وعقد صفقات أسلحة له ثمن واضح وهو مراعاة تطلعات الشعب السوري ومصالح بلدان الإقليم في حل الأزمة السورية.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى