صفحات الثقافة

عن الكتاب المدرسي السوري مرة أخرى/ محمد م. الارناؤوط

 

 

أود أن أشكر الصديق نبيل سليمان على إثارته لموضوع مهم وحساس ألا وهو حال الكتاب المدرسي السوري في سورية كمفتاح لفهم ما حدث ويحدث من أدلجة لهذا الكتاب في العقود الأخيرة، أو الآن في الكيانات التي تتحدث كلها باسم الشعب السوري، وهذا بفضل تجربته الغنية وجرأته في طرح بعض القضايا التي يصمت عنها المثقفون الآخرون. فالموضوع لا يقتصر فقط على الكتاب المدرسي الصادر في المناطق المنضوية تحت سيطرة النظام، وهو ليس بجديد منذ 1963 بل حتى من سنوات الوحدة 1958-1961 ثم الانفصال 1961-1963، حين كان يتم تسويد بعض المقاطع في الكتب إلى أن تصدر كتب جديدة مؤلفة حسب أهواء الطرف الحاكم، بل يشمل أيضاً، ما تمخضت عنه “الثورة السورية” من كيانات جديدة في دوما وجوارها، وفي إدلب وجوارها، وفي “ولاية الرقة” التابعة لـ”الدولة الاسلامية”، حيث لدينا ما هو أسوأ بعد ما انتهى إليه الحراك الديموقراطي الذي كان يطالب بدولة مدنية وديموقراطية في 2011.

وإذا كان النظام يسمح لمؤرخ مثل سامي مبيض بأن ينشر في جريدة “الوطن” (عدد 2/2/2017) نقداً حاداً لكتاب التاريخ للصف الثالث الثانوي (البكالوريا)، الذي يمهد الطالب لدخول الجامعة، ويكشف ما فيه من أخطاء لا تغتفر تتعلق بتاريخ سورية نفسها في القرن العشرين، فيجب أن يكون لدينا في المقابل “جرأة” للآخرين أن يستعرضوا ما هو موجود في الكتب المدرسية البديلة في دوما وإدلب والرقة وما فيها من أخطاء أكبر تصب في تجهيل التلاميذ في الوقت الذي يجري ذلك باسم “تحرير سورية” من “النظام العلماني”.

في مقالته يكشف نبيل سليمان خلال استعراضه نقد سامي مبيض عن مدى فهم المثقفين السوريين لمحطات مهمة في تاريخهم أصبحت مغيبة لدى أجيال، ومن ذلك الاستقلال الأول (8 آذار/مارس 1920) والاستقلال الثاني (28 أيلول/سبتمبر 1941). وبالنسبة للاستقلال الأول لا بد من ذكر عدة أمور بالإضافة إلى ما ذكره نبيل سليمان من تصادف عجيب بين 8 آذار 1920 و8 آذار 1963. فقد تمخّض الاستقلال الأول عن البدء بمناقشة مشروع الدستور السوري الأول، الذي كان الأكثر تقدمية في الشرق الأوسط، وأُقر دونما مشكلة البند الأول الذي كان ينصّ على أن نظام الحكم يتمثل أو يقوم على “حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق ودين ملكها الإسلام”، وكان هذا اليوم عيداً قومياً يُحتفل به كل عام في الأردن المجاور حتى 1963. والشيء المؤسف هنا أن المكان الذي أعلن فيه الاستقلال الأول (مبنى بلدية دمشق) في ساحة المرجة قد هُدم دونما اعتبار لمكانته التاريخية في عهد 8 آذار 1963 وأُنشأ مبنى تجاري ضخم لا ينسجم مع البنية المعمارية التاريخية لساحة المرجة، مما ساهم في تغييب 8 آذار 1920 عوضاً عن أن يتحول هذا المبنى إلى متحف للاستقلال السوري.

وأما في ما يتعلق بالاستقلال الثاني فقد لاحظ نبيل سليمان باستغراب تغييب هذا اليوم (28 أيلول 1947) فيما كتبه المؤرخ سامي مبيض في تصويباته على الكتاب المدرسي المذكور، مع ضرورة الإشارة إلى أن إعلان الاستقلال الثاني كان من قبل الجنرال كاترو في 27 أيلول 1947 (بعدما قام الحلفاء بتحرير سورية من قوات فرنسا الفيشية) وصاحبه الإعلان عن اختيار رئيس الوزراء السابق تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية السورية، بينما جرى في اليوم التالي (28 أيلول) الاحتفال بهذا التنصيب في حضور كبار الشخصيات.

والمشكلة هنا تكمن في تغييب الاستقلال الثاني (كما حدث مع الاستقلال الأول) لاعتبارات عديدة والخلط بينه وبين يوم الجلاء الذي يُحتفل به في 17 نيسان/إبريل من كل عام، مع أن الموت المفاجئ للرئيس الحسني في 1943 سمح لأول مرة بانتخاب حرّ لرئيس (شكري القوتلي) يعبّر عن رغبة غالبية السوريين في أول عملية ديموقراطية من نوعها. وعلى حين أن بريطانيا العظمى سارعت للاعتراف باستقلال سورية، في إطار التنافس بينها وبين فرنسا بالطبع، وتبعتها في ذلك الدول العربية المستقلة (مصر والعراق والسعودية)، إلا أن اعتراف الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى قد تأخر لاعتبارات شكلية حتى 19 أيلول 1944 ورفعت تمثيلها في دمشق إلى وزير مفوض. وقد سارع الرئيس القوتلي حينها بتعيين أول سفير لسورية (ناظم القدسي) في واشنطن الذي قدم أوراق اعتماده للرئيس روزفلت في آذار 1945. وبعد ذلك أعلنت سورية الحرب على دول المحور وشاركت في مؤتمر سان فرانسيسكو لإنشاء منظمة الأمم المتحدة الذي انطلق في 25 نيسان 1945، وهذا ما كان ليكون لولا أن سورية كانت دولة مستقلة آنذاك.

ومن هنا لا يجوز تغييب هذا الاستقلال، وبالتحديد سنوات 1941-1947، والقفز إلى سنة 1946 باعتبارها سنة الاستقلال بينما هي سنة جلاء ما بقي من قوات فرنسية من عهد الانتداب على نمط ما حدث مع الأردن وتونس وغيرهما. فالأردن يحتفل بيوم الاستقلال في 25 أيار/مايو 1946 مع أن بريطانيا احتفظت لنفسها بوجود عسكري بموجب معاهدة لم ينته إلا في 1957 مع إلغاء المعاهدة، وتونس تحتفل باستقلالها في 20 شباط/فبراير 1956، مع أن فرنسا احتفظت لنفسها بقاعدة بنزرت التي جرت حولها مواجهات دامية في صيف 1961 بين القوات التونسية والقوات الفرنسية مما استدعى تدخل الأمم المتحدة، وانتهى الأمر بانسحاب آخر جندي فرنسي من تونس في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1961. ولكن تونس تحتفل بعيد الاستقلال في 20 شباط، الذي هو يوم راسخ في الذاكرة والهوية التونسية، وليس بيوم الجلاء في 15 تشرين الأول.

ويترتب على ذلك التغييب للاستقلال خلال 1941-1946، وخاصة خلال 1943-1946، موقف يخفف مسؤولية النخبة الحاكمة عما حدث في 1948. ففي كتابه “سورية والولايات المتحدة: علاقات واشنطن مع دمشق من ولسون إلى آيزنهاور”، (لندن 2012) يذكر سامي مبيض أن فشل سورية في حرب 1948 يعود إلى أن الاستقلال جاء في 1946 ليجد فيه أفراد هذه النخبة أنفسهم فجأة في موقع المسؤولية “بعد 400 سنة من الحكم العثماني و26 سنة من الاستعمار الفرنسي”، وبالتالي لم تكن قد تكونت لديهم بعد تجربة في الحكم خلال 1946-1948 (ص 71).

وكما يلاحظ هنا لدينا حاجة ماسة إلى مناقشة مفتوحة للمفاهيم الأساسية التي يجب أن يتمحور حولها تاريخ سورية في القرن العشرين، وأن يتم توصيف الأحداث (الانقلابات والوحدة والانفصال الخ) بمقاربة تاريخية مناسبة للمرحلة الدراسية وصولاً إلى الجامعة حيث تبدو لدينا مشكلة أكبر مع الكتب المدرسية. فإذا كانت كتب التاريخ للمرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية لا يكتبها مؤرخون، بل قد يشرفون عليها، نجد أن الكتب الجامعية يكتبها مؤرخون مؤدلجون حسب ما تمليه التوجيهات وتطور العلاقات مع الدول المجاورة، كما هو الأمر مع تركيا وصورة الدولة العثمانية في كتب التاريخ الجامعية.

في 1999 كنا نعدّ لندوة في جامعة أردنية بمناسبة الذكرى الـ 700 لتأسيس الدولة العثمانية، وذلك لأجل مراجعة الحكم العثماني في البلاد العربية، وشارك فيها آنذاك من قسم التاريخ بجامعة دمشق اثنان من أفضل الموجودين في قسم التاريخ (محمد خير فارس وخيرية قاسمية). بعد الجلسة الختامية، التي أبرزت فائدة عقد ندوات دورية عن هذا الموضوع، قلت مازحاً لخيرية قاسمية “أقترح أن تكون الندوة القادمة عندكم” فردت: “اتركنا للأخير لأن الوضع كما تعلم”. كان الوضع كذلك لأن كتب التاريخ التي تتناول الدولة العثمانية والحكم العثماني للبلاد العربية كانت مؤدلجة ومشحونة أكثر من اللازم. ولكن بعد عام 2000 وتسارع التقارب بين سورية وتركيا فوجئت بتلقي دعوة من قسم التاريخ بجامعة حلب للمشاركة في ندوة بعنوان “الدولة العثمانية قراءة معاصرة” في شباط 2002. كان من الواضح أن هناك ضوءاً أخضر من فوق، ولذلك كان من الملفت للنظر الفارق الموجود بين المشاركين من حلب الأقرب إلى تركيا والمشاركين من دمشق، الذين لم يستطيعوا التوفيق بين ما هو مطلوب منهم (فتح صفحة جديدة تمهد لما هو قادم) وبين ما هو موجود في كتبهم التي تُدرّس لطلابهم.

وقد وصلت هذه الانعطافة إلى ذروتها في 2008 مع التوصل إلى مستوى “التعاون الاستراتيجي” بين الدولتين وتوقيع عشرات الاتفاقيات، التي كان من الطبيعي أن تنعكس على قضايا شائكة في الكتب المدرسية كقضية لواء اسكندرون، التي لم تعد مشكلة بعد أن أصبحت “متروكة للأجيال القادمة”. ولكن مع انطلاق الحراك الديموقراطي في آذار 2011 وموقف تركيا بدعم أطراف في المعارضة ضد النظام أدى ذلك إلى العودة بالكتب المدرسية إلى ما قبل 2000، على حين أن الكتب المدرسية في كيانات دوما وإدلب والرقة لا ترى مشكلة بالطبع فيما يسميه نبيل سليمان “الاحتلال العسكري” التركي لجزء من الأراضي السورية.

في ضوء كل هذا نحن نقترب الآن من مئوية مهمة إلا وهي إعلان الحكومة العربية بدمشق في 5/10/1918 التي أفضت إلى إعلان الاستقلال الأول في 8 آذار 1920، الذي يفترض أن يؤسس لتاريخ سورية المعاصر. وأتصور أن هذه مناسبة لكي يتداول المؤرخون السوريون في الداخل والخارج في مفاصل تاريخ سورية المعاصر بمقاربة مختلفة تأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه المقاربة تؤسس لهوية وطنية مدنية ديمقراطية كانت واضحة في دستور 1920، الذي يجب أن يبنى عليه دستور سورية الجديدة. وفي هذا السياق يمكن تبني الخطوط العامة لكتب التاريخ المدرسية الجديدة التي تخصّ تاريخ سورية المعاصرة والتي يجب أن تصدر عن مؤسسة مستقلة، يكون فيها حضور للمؤرخين من الداخل والخارج وليس للمؤدلجين، وتترك مساحة للرأي الآخر في الكتب المدرسية بشكل تدريجي وصولا إلى الجامعة.

في هذه الحالة تفيدنا تجربة الدول التي مرّت بحروب نابعة من رؤيتين مختلفتين للتاريخ مثل البوسنة (النزاع بين الصرب والبشناق) وصربيا (النزاع بين الألبان والصرب) وكرواتيا (النزاع بين الكروات والصرب) وألمانيا وفرنسا التي خاضت ثلاث حروب (1870-1914-1918 -1939-1945) وتعتبر كتبها المدرسية نموذجاً للتعلم من التاريخ لأجل المستقبل وليس للعيش فيه باستمرار.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى