صفحات الرأيميشيل كيلو

عن الكذب في السياسة


ميشيل كيلو

عرف القرن التاسع عشر كذبتين لعبتا دوراً مهماً في علاقات دوله: واحدة جرت وقائعها بين ألمانيا وفرنسا، والثانية بين فرنسا والجزائر .

أما الأولى فكان بطلها بسمارك، مستشار ألمانيا الحديدي، الذي لفق برقية نشرتها صحيفة ألمانية صغيرة في مدينة طرفية تقول إن فرنسا توشك أن تنقض عسكرياً على ألمانيا . تلك الكذبة ترتب عليها استنفار وطني ألماني انتهى عام 1870 بانقضاض عسكري صاعق على فرنسا، كانت نتيجته احتلال باريس وفرض صلح مذل عليها، أرغمها على التخلي عن مناطق فرنسية، وإقامة علاقات سياسية مع برلين خدمت معركتها ضد إنجلترا وسهلت توسعها في المستعمرات والمناطق، التي لم يكن قد تم اقتسامها بعد بين القوتين الاستعماريتين الكبيرتين: الإنجليزية والفرنسية .

في حين كان بطل الثانية الملك لوي فيليب الفرنسي، الذي هاجم الجزائر واحتلها بعد أن استنفر مشاعر الفرنسيين القومية بكذبة تزعم أن حاكم الجزائر ضرب بمنشة كان يهش بواسطتها الذباب قنصل فرنسا هناك، وأن المهانة لا تمحى بغير الثأر العسكري لكرامة فرنسا واحتلال الجزائر .

في الحالة الأولى، أثبت المؤرخون أن بسمارك لفق الكذبة ونشرها وأشرف على تغذيتها بالمشاعر الملتهبة، إلى أن أوصل الأمر إلى شن الحرب . بينما كانت الحقيقة غير ذلك تماماً . وكانت ألمانيا قد استكملت قبل فترة طويلة استعداداتها العسكرية والسياسية والاقتصادية للقتال ضد جارتها المحسودة بسبب كثرة مستعمراتها وانتشارها العالمي، رغم أنها لم تكن في قوة أو ثراء ألمانيا، التي اعتبرت نفسها مظلومة نتيجة دخولها المتأخر إلى الحقبة الاستعمارية، وقلة وتفاهة مستعمراتها وتبعثرها وفقرها بالموارد والسكان . كان بسمارك يريد إعادة نظر جدية في العلاقات الدولية، انطلاقاً من أوروبا، مركز السياسات الدولية آنذاك . وكانت حساباته ترى أن ضرب فرنسا وقهرها يجعل ألمانيا ند إنجلترا، التي ستقبل عندئذ باقتسام جديد للعالم، بينما سترى فرنسا نفسها مجبرة بدورها على القبول بما يريده المنتصر . هكذا، كذب بسمارك كي يخلق ذريعة لشن الحرب، بعدما استكمل عدتها، فكانت كذبته محكمة استغلت تأجج الشعور القومي الألماني ضد الجارة القريبة، منافسة ألمانيا الرئيسة في البر القاري، التي كان العمل ضدها يجري على قدم وساق منذ سنوات طويلة، وكان من المكن أن يفشل حسابات المستشار في حال تم تأجيل الحرب لفترة أطول، وأن يفيد منه حزب الديمقراطية الاجتماعية، عدو الحرب، الذي ينشر روحاً سلمية وأخوية بين الشعوب، ويرفض صراعات حكوماتها على المصالح ومناطق السيطرة والنفوذ، داخل القارة وخارجها .

يصدق الأمر ذاته على الكذبة الثانية، التي أطلقها الملك الفرنسي كقنبلة دخان أراد أن يحجب بواسطتها حقيقة مراميه وخلفيات خططه، التي لم تأت بأي حال رداً على “ضربة” ذبابية وجهها إليه باي الجزائر، بل كانت نتيجة خطط طويلة هدفها احتلال شمال إفريقيا العربي/المسلم، بدءاً بالجزائر، كانت فرنسا قد توافقت عليها مع قوى أوروبية أخرى، ثم أقرت في مؤتمر الجزيرة عام ،1905 الذي قسم إفريقيا بين القوتين الاستعماريتين الفرنسية والإنجليزية، وجعل شمالها من حصة باريس .

تتشابه الكذبتان تماماً، وإن اختلفتا كل الاختلاف في نتائجهما، فقد احتلت ألمانيا باريس لكنها عقدت معها صلحاً أدى إلى انسحاب جيوشها منها بعد وقت قصير . بما أن بسمارك كان يؤمن بضرورة بقاء غريمته فرنسا جمهورية، كي تبقى أحزابها متنافسة وتسهم في بلبلة وحدتها الداخلية، لذلك لم يسمح بتغيير نظامها، ولم يوافق ملكه على اتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى إذلالها لأمد طويل، أو إلى إخراجها من الصراعات الدولية، لأن ذلك سيكون لمصلحة إنجلترا . وفي النتيجة، كان الاحتلال الألماني عابرا و”رحيماً” بالمقارنة مع ما حدث للجزائر، التي أراد الفرنسيون ضمها إلى ترابهم الوطني، وأسموها “فرنسا الإفريقية”، فكانت النتيجة مقاومة ضارية ضد الغزاة، جسدها عالم وشاعر معروف ومحترم في وطنه هو الأمير عبدالقادر، الملقب بالجزائري، الذي قاد حرباً ضروساً ضد الفرنسيين منعتهم من احتلال كامل التراب الوطني الجزائري طيلة قرابة أربعين عاماً، رغم ما ارتكبوه من مجازر أودت عام 1847 على سبيل المثال بحياة خمسين ألف إنسان دفنوا أحياء في كلس حي . من المعروف أن فرنسا بقيت قرابة مئة وثلاثين عاماً في الجزائر، ولم تغادرها إلا بعد حرب تحرير أقنعتها أنها ستخرج منها خاسرة لا محالة، فاعترفت بانفصالها عنها وغادرتها .

قبل فترة، قال جيتس، وزير دفاع أمريكا السابق أمام الكونغرس: إن الدول تكذب بعضها على بعض، وأقر أن أمريكا كذبت وتكذب كلما تطلب الأمر، وأنها فعلت ذلك في مناسبات كثيرة، حماية لمصالحها . والحق أن العالم لم ينس أن كونغرس أمريكا سمح بشن الحرب ضد فيتنام نتيجة كذبة زعمت أن زوارق طوربيد فيتنامية شمالية هاجمت مدمرة أمريكية في خليج تونكين . ولم ينس أيضاً أن السوفييت لم يكونوا أفضل حالاً في علاقتهم مع الحقائق والوقائع، بينما مر تاريخ الاستعمار القديم بأكمله تحت جسر أكذوبة زعمت أنه احتل بلدان الآخرين كي يمدن شعوبها، وليس لأي مأرب آخر؟ وللعلم، فإن تمدين العالم أودى بحياة مئات الملايين خلال القرون الثلاثة التي مارس الرهبان والتجار وقادة الأساطيل فيها عملية “التمدين”، الذي جعل زعيم قبيلة إفريقية يقول شاكياً، ما أن جاء المبشرون ثم التجار حتى أخذوا أرض أجدادنا وأعطوهم مقابلها الإنجيل .

ليست السياسة مجرد أفعال بلا أخلاق، مجرد كذب . إنها تستطيع أن تكون في بعض الأحيان شيئاً آخر أيضاً: خلطة تجمع بين المصالح والأخلاق . في الأمثلة السابقة، كان الكذب علاقة بين طرفين أجنبيين بقيا على عداء لفترة طويلة، هما ألمانيا وفرنسا، أو كان أحدهما طامعاً في أرض وثروات ضحاياه، أو راغباً في الإبقاء على هيمنته عليهم . في هذه الحالات جميعها، تعلق الأمر بمصالح تطلبت جرعات قوية من الكذب، أفقد الفاعلية السياسية أخلاقياتها . والآن، ماذا يمكن أن نقول نحن في كذب تمارسه حكومات محلية، يسمونها وطنية، تحابي وتحمي مصالح ضيقة تناقض مصالح شعوبها الخاصة، المحلية والوطنية، وتقوضها، تكذب على طريقة بسمارك ولوي فيليب وحتى النظام الاستعماري، مع أنها لا تريد تغليب سيادة أمة على أخرى، أو البحث عن مكان لدولتها تحت الشمس، على حساب غيرها، وإنما تسعى إلى شيء وحيد هو: البقاء في السلطة وكراسيها، لإدامة هيمنتها التي يرفضها شعبها، لأسباب لا حصر لها، منها الكذب، الذي تخدع نفسها عندما تظن أن المواطن العادي يصدقه، وتخدع نفسها أكثر بكثير، حين ترى في ثورته عليها، وهي حقيقية بأي مقياس، كذبة لا تستحق التصديق .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى