صفحات الرأي

عن اللامساواة والثورة/ سمير سعيفان

 

 

كنتُ أظن، كغيري من ماركسيين، أنني أعرف ما هي الثورة، فقد قرأت عن الثورتين، الفرنسية والصينية، وعن ثورة أكتوبر وثورات عالمية في كوبا وفيتنام، وعاميات سورية ولبنان في القرن التاسع عشر، وقرأت في السياسة والاقتصاد والمجتمع والأدب والتاريخ وغيرها. وكنت أختزل معرفتي بالتنظير الذي قدّمه لينين، قائد أشهر ثورات القرن العشرين، فقد كنت أردّد التصور النظري عن الظرف الثوري الذي يؤدي الى ثورة وعوامله ثلاثة: بلوغ الجماهير وضعًا من البؤس والقهر لا تستطيع تحمله وتبدي استعدادها للثورة. سلطة عاجزة عن تلبية مطالب الشارع ومعالجة المشكلات التي تواجهها. حزب ثوري قوي يطلق الثورة ويقودها وينظمها كي لا تتحول إلى فوضى.

ولكن حين شبت ثورات الربيع العربي بتعقيداته، اكتشفت، كغيري، أنني لا أعرف شيئًا عن الثورة، فالفرق بين هذا التصور النظري والواقع كالفرق بين تعلم السباحة على الورق والتخبط في الماء.

لا أحد يعرف متى تقوم الثورات، بل من الصعب تحديد الأسباب المباشرة لتفجّرها، على الرغم من أنه يمكن إعداد دراسات كثيرة تبيّن، بالوصف والوقائع والأرقام، تدهور أوضاع الناس المعيشية، ومستويات انتشار الفساد ومكامنه، أو بؤس الواقع السياسي المحكوم بالاستبداد أو غيرها من أسباب تدفع الناس نحو الثورة. لكن على الرغم من ذلك، لا تنطلق الثورة، بينما قد تأتي حادثةٌ تبدو ثانويةً فتشعل لهيبها.

“الثورات تفتح آفاق المستقبل، لكنها قد تتحول إلى كوارث أحياناً عندما يسعى بعضهم لتحويل مياهها إلى طواحينه، كما فعلت قوى الإسلام السياسي”

 

الربيع العربي أطلقته حادثة صغيرة، هي أن مواطنًا في بلد عربي أحرق نفسه، فأشعل سلسلة من الثورات. وكان لهذا الأمر أن يمر بسهولة ويسر، إذ يموت يوميًا كثيرون من دون أن يؤدي ذلك إلى ثورة، لكن ظرف حادثة محمد البوعزيزي اختلف، والأهم أن سبب البوعزيزي المباشر كان العمل وضيق مصدر العيش أمامه، والسلطة السياسية كانت السبب في هذا الضيق، إذ منعته من بيع الفاكهة على عربته، ثم جاء امتهان كرامته، عندما صفعته شرطية البلدية، خصوصًا أن الصفعة جاءت من امرأة، وهذه خصوصية عربية، فأحرق ذاته، فأشعل فتيل ثورات ربيع عربي افتقدت إلى الحزب الثوري، وإلى التنظيم والقيادة، فكانت أشبه “بالقومة” أو “العامية”.

من أهم الدروس التي تحققت منها كغيري أن الثورات تنفجر عندما تغلق سبل التغيير التدريجي، فيتراكم الغضب، وهي تفتح آفاق المستقبل، لكنها قد تتحول إلى كوارث أحياناً عندما يسعى بعضهم لتحويل مياهها إلى طواحينه، كما فعلت قوى الإسلام السياسي، ومن يقف وراءها، بثورات الربيع العربي، فخرّبتها، أو عندما يعمل بعضهم لتحويلها إلى كوارث، لتكون درسًا لشعوب أخرى كي لا تثور. ولكن أياً كان مصير الثورات، فإن ما بعدها لن يكون كما قبلها.

اللافت في الثورات هو التركيز على الأسباب السياسية وعسف السلطة ومطلب الحرية، وقليلاً ما يُمنح الاقتصاد أهميةً في صنعها. فمشاركة الحشود الغاضبة هي ما تصنع ثورة، وليس نظريات النخب وتحليلاتهم. ويكمن مصدر غضب الحشود في البطالة وفقدان فرص العمل وتدني الأجور وشروط العمل المجحفة وشعور رب الأسرة بالعجز عن تأمين سكن جيد لعائلته ومدارس لأبنائه وعلاج طبي لأفراد أسرته وتأمين مستوى حياة مقبول لهم، وابتزازه من جهاز بيروقراطي فاسد، وهو يرى غنىً فاحشاً لفاسدين، يهرّبون ثروات وطنه إلى الخارج، إضافة إلى تعسّف أجهزة الدولة ضده، وهدر كرامته والاعتداء على حرياته العامة، بينما يُقارن وضع بلده مع بلدان متقدمة. كل هذا سيجعله أشبه بقنبلة موقوتة مستعدة للانفجار، ولا أحد يعلم متى تنفجر، لكنها انفجرت في ديسمبر/ كانون الأول 2010. فلم يكن حادث البوعزيزي ليحدث كل هذا الانفجار، لولا الغضب المتراكم، فالملايين التي خرجت إلى الشوارع تتشكل من هؤلاء الغاضبين. ولهذه الأسباب، وتحريضات السياسيين وكتابات المثقفين و”مؤامرات الخارج” لن تلقى أي تأثير ما لم يكن الغضب، وقد بلغ في الناس مبلغه، فاحذروا اتساع اللامساواة في توزيع الدخل والثروة.

جاء في تقرير لمصرف “كريدي سويس” في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أن 1% من سكان العالم يملكون نصف ثرواته. وبحسب تقرير لمنظمة أوكسفام البريطانية، كانت ثروة أغنى 65 ثرياً في العالم سنة 2016 (ممتلكات وليس الدخل) تعادل ثروة النصف الأفقر من سكان الأرض. وبيّن “تقرير اللامساواة في الدخل والثروة في العالم لعام 2018” الذي يصدر عن “مدونة اللامساواة في الدخل والثروة في العالم”، أن اللامساواة اتسعت في كل مناطق العالم في العقود الأخيرة. وكانت أعلى مستوياتها في الشرق الأوسط وأضيقها في أوروبا، فأوروبا اليوم هي، نسبيًا، الأكثر عدلًا على وجه الأرض، وليست الصين “الشيوعية”، ولا روسيا التي كانت “شيوعية”.

اليوم تبلغ حصة شريحة الـ 10% الأعلى دخلاً من إجمالي الدخل الوطني في: أوروبا 37% وفي الصين 41% وفي روسيا 46%، الولايات المتحدة 47%، الهند 55%. أما في الشرق الأوسط فتبلغ حصة هذه الشريحة أكثر من 60 – 66% من الدخل، وأما شريحة الـ 50% الأفقر في الشرق الأوسط فحصتهم أقل من 10% من الدخل الوطني. ويبلغ عدد سكان دول الشرق الأوسط 410 ملايين نسمة، ويضم كلاً من تركيا ومصر وإيران وسورية والأردن ولبنان وفلسطين وإسرائيل والعراق واليمن ودول مجلس التعاون التي حصلت لوحدها، بعدد سكانها القليل، على 42% من الدخل المتشكل في الشرق الأوسط.

بحسب ما أشار التقرير نفسه، إذا استمرت الاتجاهات الحالية نفسها بسياساتها الليبرالية، فإن اللامساواة العالمية ستزداد، وستتقلص ثروة الطبقات الوسطى، وتنحدر إلى الفئات الفقيرة. بينما إذا اتبعت مسارًا معتدلًا وسياسات معتدلة في الضمان الاجتماعي ودولة الرعاية الاجتماعية،

فإن اللامساواة العالمية ستتقلص. وفي هذه الحالة، ستحقق البشرية تقدمًا كبيرًا في القضاء على الفقر في العالم.

تتطلب معالجة اللامساواة في الدخل والثروة في العالم اليوم تحولًا مهمًا في سياسات الضرائب على المستويين، الوطني والعالمي، وفي سياسات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، بما يتيح للفئات محدودة الدخل الوصول إلى هذه الخدمات، أسوة بالفئات الغنية. كما تحتاج إعادة تقييم ورسم سياسات حوكمة الشركات وسياسات الأجور وسياسات سوق العمل، بما يمكّن الفئات في أسفل سلم الدخل من الوصول إلى الوظائف المجزية. فإن الضرائب التصاعدية والضريبة على التركات أداة مجربة لمحاربة تطرّف اللامساواة في الدخل والثروة، بعد أن جرى خفض معدلات الضرائب في البلدان الغنية والفقيرة على السواء في العقود الأخيرة. كما تلعب سياسات مكافحة الفساد والتهّرب الضريبي الكبير، وخصوصًا مكافحة الجنّات الضريبية التي تحفظ فيها ثروات تشكل نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، هاربة من الضرائب، بما يؤمن إيرادًا أكبر لخزينة الدولة، لاستخدامها في تمويل التعليم والصحة وشبكة الضمان الاجتماعي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى