صفحات مميزة

عن اللجوء السوري –مجموعة مقالات-

اللجوء السوري والحسابات الطائفية/ هوازن خداج

ارتفعت حدة الانتقادات الموجهة للجيش اللبناني من النشطاء السوريين ومن اللبنانيين المناصرين لهم إثر الانتهاكات الأخيرة التي تعرض لها لاجئو عرسال بحجة البحث عن أشخاص منتمين لتنظيمي جبهة النصرة وداعش، وما تلاها من إعلان الجيش اللبناني عن مقتل أربعة لاجئين بعد اعتقالهم خلال مداهمة للجيش اللبناني الأسبوع الماضي، لتمثل فصلا آخر من فصول مأساة اللاجئين السوريين في لبنان الذي شكل أول محطات السوريين الهاربين من نار الحرب ومن الخدمة العسكرية، وبات ملجأ لما يزيد عن مليون ونصف المليون لاجئ سوري يعانون امتحانات الذل اليومي، ويعيشون وطأة الانتهاكات اللبنانية التي وصلت إلى القتل والتعذيب.

معاناة السوريين في مخيمات اللجوء اللبناني من انتهاكات متكررة وحملات تحريض، إلى صيحات العنصرية والاعتداءات الفردية الكثيرة، تعود أسبابها لموروث أيام الوجود العسكري السوري في لبنان، وتوتر العلاقة الرسمية بين سوريا ولبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، ولانقسام القوى اللبنانية حول الملف السوري وشرعية الرئيس السوري والـذي انعكس على الهاربين من الموت في سوريا، وعلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها، ويضاف إليها ما يشكّله اللاجئون من ضغط ديمغرافي “سنّي” يتشارك فيه حزب الله والتيار الوطني الحر.

فإطالة أمد اللجوء ستؤثر على التركيبة الطائفية اللبنانية، وأي تغيير في لبنان الذي يعتمد ديمقراطية المحاصصة الطائفية يعتبر خطا أحمر. فمشكلة النازحين وبقائهم تؤهّل لانهيار لبنان بتركيبته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والديمغرافية، وتصل حدودها إلى زعزعة أسس العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية المتعددة، والتي تم التعبير عنها بسلسلة من الاعتداءات والاعتقالات وتمت تغطيتها بانتشار المجموعات الإرهابية بين صفوف اللاجئين، ففي مارس من العام 2014 اقتحمت فرقة من الجيش اللبناني عددا من مخيمات اللاجئين السوريين في عرسال واعتقلت ما لا يقل عن 450 لاجئا سوريا بينهم أطفال، وتكررت المداهمات والاعتقالات في سبتمبر 2015 وطالت 653 سوريا وأسفرت عن إصابة أربعة أشخاص بينهم امرأة، وقد أشار تقرير الرصد اليومي لـ”الهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين” في 4 يوليو 2017 إلى أن عدد المعتقلين بات يقدر بأكثر من خمسة آلاف معتقل موزعين على سجون سرية وعلنية في لبنان.

المداهمات الجديدة التي عدّها حزب الله استكمالا للجهود الأمنية في التعامل مع التهديد الإرهابي والقضاء عليه، كانت مسبوقة بدعوات متكررة طالب فيها حزب الله الدولة اللبنانية بوجوب إعادة أعداد كبيرة من لاجئي عرسال إلى سوريا، والإعلان عن إنشاء منطقة آمنة في القلمون برعاية حزب الله والنظام، وذلك لفتح المنافذ الدبلوماسية الرسمية المغلقة بين بيروت ودمشق للتفاهم والتنسيق على إعادة النازحين إلى مناطقهم، والتي تتطلب إعادة العلاقات كشرط لحلّ مشكلة اللاجئين.

لكن من دون رعاية الأمم المتحدة أو في غياب اتفاق دولي سيتعرّض لبنان لضغوط تتعلق بالواقع الإقليمي والدولي وإبقاء الملفّات عالقة إلى حين إيجاد حلول للحرب في سوريا، وبالواقع الداخلي اللبناني فإخراجهم القسري ستكون له تداعياته في توتر العلاقة بين المكون السني وبين الجيش والقيادات العسكرية باعتبارها مرهونة لقرارات حزب الله، أما انعكاساتها الأشد فستكون على اللاجئين الذين باتوا بين خوفين؛ الخوف من عمليات الدهم التي أجراها الجيش وقتل موقوفين تحت التعذيب وإن كان الجيش نفى ذلك مؤكدا أن وفاتهم حصلت بسبب أمراض مزمنة، والخوف من العودة فالكثير منهم مطلوبون في دمشق، إما لاتهامات سياسية أو لحمل السلاح أو للتهرّب من الخدمة العسكرية، وعودتهم تعني الاعتقال أو السوق الإجباري والذي اعتبر أقل الشرور لمن باشروا العودة إلى سوريا.

فصول متنوعة من المآسي يعيشها اللاجئون السوريون، فبلدهم لم ينصفهم وكذلك البلد الأقرب وهو لبنان، حيث إنهما في مقياس الجغرافيا والتاريخ يعتبران شعبا واحدا في دولتين، كما أن الطائفية السياسية والدينية الرائجة في كلا البلدين كانت لها كلمتها الفصل في هول الانتهاكات لإنسانية السوريين والتي ستدفعهم إلى القبول بأي مفاوضات ومساومات سياسية مهما كان سقفها منخفضا.

كاتبة سورية

العرب

 

 

 

 

غضب السوري في وجه السوري/ هنادي الخطيب

أُحيل الصحافي اللبناني فداء عيتاني إلى التحقيق في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في دعوى من الوزير جبران باسيل، بسبب الحملة التي شنها على وسائل التواصل الاجتماعي ضد معذِّبي وقاتلي السوريين في مخيمات عرسال، وبالطبع تملّكني كما تملّك كثيرين من السوريين شعور الواجب، واجب الخوف على فداء، واجب الإحساس بالذنب لأن جنسيتنا التي نحملها كانت سبباً في توقيفه والتحقيق معه، واجب الشكر العميق، واجب التضامن، واجب نشر الخبر إعلامياً وفايسبوكياً. وعن نفسي وعن كثير من السوريين: «شكراً فداء عيتاني».

تعرضت المحامية اللبنانية ديالا شحادة للمضايقات الأمنية والفكرية والاجتماعية، لأنها قررت وهي بكامل قواها العقلية تبني قضية الضحايا السوريين الذين قتلوا تعذيباً، ومحاولة الوصول إلى تحقيق شفاف في هذه القضية. ومرة أخرى، لا بد من قول «شكراً ديالا شحادة» عني وعن كثيرين من السوريين.

امتناننا كسوريين لديانا مقلد، حسام عيتاني، أحمد قعبور، ولبنانيين كثيرين آخرين، ولصديقتي يارا الصحافية المتابعة لشؤوننا أكثر من كثيرين منا، ولكثيرين من أهالي لبنان غير المشهورين لكنْ المتعاطفين وفق قدرتهم مع السوريين. الامتنان لمحاولتهم الوقوف على معاناة نعيشها منذ 6 سنوات، لا فرق بين عاميها الأول والسادس سوى ازدياد المأساة بؤساً، وتضخم التجاهل العالمي.

نحن اليوم ببساطة موتى بلا أسماء، ومقابر بلا شواهد، وجثث بلا معالم، وبعد كل ذلك التعب من محاولة إقناع العالم بعدالة قضيتنا، ويأسنا من لفت نظر الدول الكبرى إلى ما يحدث معنا، بتنا نهرول إلى كل من يتعامل معنا على أننا بشر طبيعيون لنا حاجات وعواطف ومشاعر، في عالم متوحش حرفياً.

منذ وقت قصير، كان الإحساس الغالب لدى السوري هو «الإحساس بالذنب»، الذنب لأنه لم يمت، الذنب لأنه استطاع النجاة بأطفاله من المذبحة السورية، الذنب لأنه ضحك، الذنب لأنه عشق، الذنب لأنه نجح في عمله، الذنب لأنه لم يغرق، الذنب لأنه لا يزال يحب الحياة. وأقول منذ وقت قصير، لأن هذا الوقت مضى وذهب، وأصبحنا كسوريين ننتظر التضامن من الآخرين، اللبناني أو المصري أو الفرنسي، لأن هذا التضامن يشعرنا بإنسانيتنا أكثر. وعلى ما يبدو فإن كثيرين من السوريين، وبدل أن يزيدهم تجاهل العالم إيماناً بعدالة قضيتهم، وبدل أن يزيدهم البعد من الوطن المذبوح كل يوم تقارباً في ما بينهم، أفرغوا غضبهم وعجزهم في وجوه البؤساء السوريين من أهلهم.

من جهة أخرى، وقبل أيام قليلة، انتشرت صورة قيل إنها التقطت في شوارع دمشق لفتاتين عاريتين تماماً، ولم يستطع أي ناشط او خبير نفي أو تأكيد حقيقة تلك الصورة، وجاءت التعليقات عليها في اتجاه واحد: «دعارة في شوارع دمشق، انحلال أخلاقي، ثقافة علوية…»، وبغض النظر عما إذا كانت الصورة التقطت فعلاً في دمشق أم لا (وأنا شخصياً أعتقد أنها غير صحيحة)، فإن رد الفعل الفايسبوكي السوري كان أقسى بكثير من رصاص الأسد.

فماذا لو أن هاتين الفتاتين معتقلتان لدى النظام وتم إخراجهما وهما على هذا النحو من المعتقل؟ ماذا لو أنهما أجبرتا على السير في الشارع لبضعة أمتار هكذا؟ ماذا لو كان أي سبب؟ (وكل هذا بافتراض صحة الإشاعة التي لم يتحقق منها أحد).

لكن كل هذا التفكير الموضوعي والإنساني لم يعد يرضي هوس «الأكشن» الفايسبوكي السوري. إنه يريد جدالات عقيمة تقضي على الملل العاجز، وتتماشى مع ما زرعوه فينا من إيمان وخشوع لتفسيرات نظرية المؤامرة. فالقول إن العلويين صدروا لنا هذه المشاهد أسهل بكثير من التفكير بسبب أقل تطرفاً، كما أنه يريح العقل في بازارات الطوائف والقوميات والقبائل. والقول إن الدعارة تتنقل في شوارع دمشق يريح نفسياً لجهة اتهام النظام بالإباحية والقذارة، وكأن من يعيشون في دمشق ليسوا سوريين، وليس منهم أهلنا وأقرباؤنا وأصدقاؤنا، أو كأننا نحن الذين نجوّنا بالصدفة أو بلطف من الله، ما كان يمكن أن نكون هناك بين بؤساء دمشق وغيرها من مدن سورية. ففوق كل ظلم النظام وميليشياته وشظف العيش وخطره، يأتينا من أهلنا هناك من يتهمنا بما لا نتخيل، فقط ليثبت لأصدقاء «الفايسبوك» أنه «ثوري مناضل». وهنا، هنا فقط، لا شعور بالواجب تجاه أحد، فنحن من نتهم بعضنا، ونحن من نرفع سيف الخيانة على كل من يخالفنا، ولا نزال ننتظر التعاطف من الآخرين.

لكن مرة أخرى يعود العقل ليسأل: لماذا تلومين الناس العاديين المقهورين ألماً والمشتتين بين كل النظريات والتحليلات والأخبار الكاذبة، والمنفيين جبراً وإكراهاً، إذا كان من يسمون «علية القوم» من نخب وقادة معارضة يعيشون في كون آخر، ولا يبدو أن مأساة السوريين في لبنان ودول الجوار على جدول أولوياتهم؟

لا أحاول جلد الذات السورية، ولكنني أحاول تفسير شعوري بالذنب حيال لبنانيين قالوا كلمة حرة في ما يخص السوريين، علماً أنهم يدافعون أولاً عن إنسانيتهم، وعن الحرية في بلد أهم ما فيه حرية الكلمة.

* كاتبة سورية

الحياة

 

 

 

عن سوريّي لبنان…/ حازم صاغية

كان في وسع كتلة المال الضخمة التي أودعها السوريّون الأغنياء في لبنان، معطوفة على التقديمات والمنح التي يتلقّاها لبنان من الدول والمنظّمات الدوليّة، أن تتغلّب على كثير من الصعوبات التي يشهدها سوق العالم إبّان الصراع بين المسيحيّين اللبنانيّين والفلسطينيّن، الذي انفجر في 1975، قدّم التسلّح الفلسطينيّ (غير الشرعيّ بطبيعة الحال) ذريعة وجيهة لكتلة مسيحيّة دفعها الخوف إلى التسلّح. هكذا، وتحت وطأة البندقيّة، احتجبت السياسة، وغابت عن النقاش مسائل مهمّة تتقدّمها معاملة المدنيّين الفلسطينيّين على نحو لائق ومحترم تضمنه القوانين. وغنيّ عن القول إنّ معاملتهم، قبل 1975، لم تكن كذلك.

من جهة أخرى، نشأ نوع من الاندماج بين التناقض اللبنانيّ – الفلسطينيّ والتناقض اللبنانيّ – اللبنانيّ المحكوم بتوزيع العوائد والحصص الطائفيّة. هكذا طرح المسلمون السنّة مطلب “المشاركة” في القرار السياسيّ، فيما طرح المسلمون الشيعة مسألة “الحرمان”، بينما كانت الزعامة الدرزيّة – الجنبلاطيّة تعترض على تهميشها وتوسّع نفوذها من خلال “الحركة الوطنيّة” اللبنانيّة. في هذا المناخ نشأت النظريّة القائلة إنّ المنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة هي “جيش المسلمين” في مقابل الجيش اللبنانيّ الذي تحكمه “المارونيّة السياسيّة”.

هذان العنصران ليسا متوفّرين في المشكلة اللبنانيّة – السوريّة الراهنة. فالسوريّون، أوّلاً، ليسوا مسلّحين ولا يملكون تنظيمات مسلّحة في لبنان. كذلك يتبدّى أنّ الطوائف الثلاث الكبرى، أي المسيحيّين والسنّة والشيعة، باتت لا تختلف إلاّ في تفاصيل صغيرة حول الموضوع السوريّ. وهذا ما بدأت تؤكّده مواقف متلاحقة لرئيس الحكومة سعد الحريري وبعض القيادات السنّيّة تقرّبهم من التوافق المسيحيّ – الشيعيّ في هذا المجال.

والحال أنّ ما يُعمَل على تقديمه إجماعاً وطنيّاً بين اللبنانيّين يستدعي التغلّب على حقيقة أنّ السوريّين غير مسلّحين. من هنا يكثر الغمز واللمز، وأحياناً التصريح، بهدف إقامة نوع كاذب من التماهي بين المدنيّين اللاجئين من سوريّا وتنظيمات إرهابيّة كـ “داعش” و”النصرة”. ذاك أنّ تماهياً كهذا هو الذي يقدّم ذرائع لضربات عسكريّة حصل بعضها وقد يحصل غيرها، على ما أنذر أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في خطابه الأخير.

واقع الأمر أنّ هذا “التوحّد” ضدّ السوريّين، بما يخفيه من تناقضات لبنانيّة – لبنانيّة لا ينقصها إلاّ القليل من الزيت لتشتعل، ليس بالأمر المشرّف للبنانيّين. فمسألة اللجوء السوريّ كانت نتاجاً طبيعيّاً لا مهرب منه تسبّبت به السياسات العنفيّة المتوحّشة لبشّار الأسد ولحليفه اللبنانيّ (الممثّل في الحكومة) حزب الله. وطالما لم يكن ممكناً أن يطير السوريّون، الهاربون من الموت، إلى السماء، بدا حتميّاً النزوح إلى المقلب الآخر من الحدود المشتركة.

صحيح أنّ نزوحاً بمئات الآلاف إلى بلد يعدّ أربعة ملايين نفس يطرح مشاكل صعبة ومعقّدة، لا سيّما في ظلّ أزمة اقتصاديّة ضاغطة يترتّب عليها انكماش فرص العمل وضمور الاستثمار. وهذا ما يتبدّى خصوصاً في التنافس الذي تشهده بعض المناطق بين الفقراء السوريّين واللبنانيّين من طالبي العمل. مع ذلك كان في وسع كتلة المال الضخمة التي أودعها السوريّون الأغنياء في لبنان، معطوفة على التقديمات والمنح التي يتلقّاها لبنان من الدول والمنظّمات الدوليّة، أن تتغلّب على كثير من الصعوبات التي يشهدها سوق العالم. لكنّ أمراً كهذا تحول دونه سياسات عديمة التخطيط وكثيرة الفساد.

وهذا لا يعدو كونه جزءاً من معادلة أكبر: كيف نحمّل اللاجىء المهيض الجناح أكلاف العجز الذي لا دور له فيه، لا من قريب ولا من بعيد. أو ليس الدينامو المحرّك لكلّ هذا السعار ضدّ السوريّين أنّ علاقات الطوائف في ما بينها، وعلى رغم كلّ مظاهر الوحدة، متصدّعة جدّاً، وأنّ مخاوفها المتبادلة كبيرة جدّأً، بسوريّين وبغير سوريّين.

 

 

 

 

عن عودة النازحين وتمويلها/ وليد شقير

فيما يشتد السجال اللبناني حول «التواصل مع الحكومة السورية من أجل إعادة النازحين السوريين الذين باتوا عبئاً أكيداً على الاقتصاد والمجتمع المضيف، عقد في مرسيليا في اليومين الماضيين اجتماع لـ «جمعية الأعمال السورية الدولية» بحضور البنك الدولي ورجال أعمال سوريين مهاجرين ومؤسسات تمويلية، من أهدافه الإفادة من الرأسمال السوري في الخارج لإقامة شركات ومؤسسات صغيرة في الدول التي نزح إليها السوريون هرباً من القتل والدمار منذ أكثر من 6 سنوات، لإيجاد فرص عمل لهم.

وهو ليس الاجتماع الأول من نوعه برعاية دولية، دافعه إخراج القدر الممكن من ملايين النازحين من حال البؤس والبطالة، نتيجة ما سببه بطش النظام السوري الأعمى، وميليشيات الشبيحة من تهجير، ثم ما أنتجه بعض قوى المعارضة و «داعش» من مآسٍ في مناطقهم، فضّلوا معها الخروج من منازلهم. ولعل دافع القيمين في الغرب لرعاية اجتماعات كهذه، تفادي مواصلة صرف المساعدات لمخيمات اللجوء من جهة، والحؤول دون أن يصبح هؤلاء لقمة سائغة لمنظمات التطرف من جهة أخرى.

بصرف النظر عن افتراض حسن النوايا أو سوئها، فإن للوقائع دلالات: خصص رأسماليون سوريون منتشرون في أوروبا وأميركا وبعض الدول العربية، بالاشتراك مع شركات أوروبية، بضع مئات من ملايين الدولارات (تردد أنها قد تبلغ خمسمئة) لصندوق استثمارات في الأردن، لإنشاء شركات ومصانع فيه بهدف تشغيل النازحين. سبق للأردن أن استفاد من استثمارات سورية خاصة برعاية دولية قبل 4 سنوات لتشغيل نازحين إليه، وفرضت عمان في حينها تشغيل نسبة معينة من الأردنيين في هذه المشاريع، فنشأت مصانع صغيرة موّلها رأس مال سوري وغربي.

عام 2013 عُرض على لبنان مشروع مشابه بناء على دراسة أعدتها منظمات وجهات دولية مطلعة يقوم على استصلاح أراض غير مزروعة في سهل البقاع لجعلها منتجة، على أن تتولى مجموعة مشتركة من المنظمة الدولية والقطاع الخاص التأهيل التقني للعمالة السورية للقيام بالمهمة. وأبدت شركات ألمانية استعداداً لتوظيف إمكاناتها في هذا المجال. لكن لبنان رفض العرض، بحجة المخاوف من التوطين… في ظل الهواجس الدائمة، الطائفية والمناطقية والسياسية، من وجود النازحين، الذين تكاثروا منذ حينها، قبل أن يفكر أي من المسؤولين اللبنانيين باشتراط نسبة من العمالة اللبنانية في مشاريع كهذه، أو أن يضع ضوابط مالية وضرائبية وقانونية عليها. ولم يناقش لبنان إمكان تسويق منتجات هذه الاستثمارات في أوروبا أو إعفائها من الرسوم أو خفضها، وهو أمر كان بين الخيارات المطروحة. لم يستفد لبنان من فرصة تنظيم العمالة السورية الموجودة قبل الحرب في شكل عشوائي، ومن فرض رسوم عليها.

هل فوت لبنان فرصة الإفادة من استثمار مئات ملايين الدولارات على أرضه، في شكل لا يحول دون طرح إعادة النازحين إلى سورية بعد 4 سنوات على هذا العرض؟

الناشطون السوريون المهتمون بتشغيل مواطنيهم في دول النزوح، يقولون إن مجموع المبالغ التي يبدي المتمولون المهاجرون استعداداً لرصدها في استثمارات كهذه قد تصل إلى 10 بلايين دولار، بدليل نشوء زهاء 4600 شركة ومصنع صغير بتمويل سوري في تركيا، وأن قيمة الاستثمارات السورية في مصر تناهز الـ7 بلايين دولار منذ عام 2011، والأموال الهاربة من سورية نتيجة الحرب، وكانت المصارف اللبنانية محطتها الأولى ثم انتقل معظمها إلى دول أخرى بعد أن تعذر توظيفها في لبنان، قاربت الـ17 بليون دولار أميركي.

راهنت التركيبة اللبنانية الطائفية على عودة النازحين، نتيجة تمنيات بعضها بانتصار النظام، أو آمال آخرين بسقوطه.

حاول نازحون العودة إلى مناطق سيطر عليها النظام في الأشهر الماضية. من لم يجد منزله مدمراً وجده هيكلاً منهوباً من ميليشياته، وخضع لمنطق الشبيحة بالخطف والقتل والخوات فرجع. فهل يمكن نقل استثمارات المتمولين السوريين إلى الداخل السوري لتثبيت مواطنيهم العائدين؟

هل المراهنة على تطوير الاتفاق الأميركي الروسي بجعل الجنوب الغربي منطقة آمنة ليشمل غيرها (لحماية أمن إسرائيل) وراء المراهنة الجديدة؟ أم هو توقع الحلول من جنيف- 7 لأن دونالد ترامب قد يهادن موسكو بعدم طرح مصير بشار الأسد، مقابل الحد من نفوذ إيران، ما يؤسس لمرحلة جديدة في الحرب؟ هل هو قرب انتزاع الرقة وغيرها من «داعش»، بينما تطرح الأسئلة عن البديل بعد تحريرها؟ هل بحثت مفاوضات جنيف، وقبلها آستانة، العودة وضمانها… في وقت هي عالقة عند مطلب اطلاق المعتقلين؟

الحياة

 

 

 

اللاجئون السوريون في لبنان وآلة الفرْم العنصرية/ دلال البزري

المناخ معبأ بمنهجيةٍ ذكية. الإعلام، السياسيون، المواطن العادي. كله ينشد سيادةً ولقمة عيش، ولا ينقصه غير التكلم عن “الكرامة الوطنية”، لولا العيب والاستحياء. هجوم عسكري على أحد مخيمات البؤس في عرسال، استباق عملية إرهابية، اعتقال نازحين على طريقة “الشّبيحة”، ثم وفاة أربعة منهم، وربما أكثر، في السجن في ظروفٍ مُريبة. إرتباك الجيش، حصار إعلامي، احتراق ثلاثة مخيمات لجوء. وبيانات لحقوقيين وجمعيات حقوق إنسان عن تعذيب السجناء، ومحاولات إخفاء الأدلة، تحت الابتزاز والتهديد الصريحَين. ولاجئون خائفون من البقاء وخائفون من “العودة”. كل هذا من أجل ماذا؟ “محاربة الإرهاب”، أو “البيئات الإرهابية”.

أما عن النعتْ الإرهابي، فقد صار بائخاً: بعد “الخائن”، جاء “الإرهابي”. صار الأمر معروفا، عالمياً ومحلياً: كل من قاوم الهيمنات، كل من تجرأ على رفض خططٍ مشبوهة، كل من باتَ أمر التخلص منه على أولويات الأجندة، يصبح “إرهابياً” بجرّة قلم. كان “الإرهاب” من سمات الفلسطينيين في عهدٍ بعيد؛ والآن أنظر إلى المخيمات الفلسطينية: بؤر بؤس وضياع، صندوق بريد للقوى الإقليمية المتصارعة، “مادة” بشرية دسِمة صالحة للاستلاب والاستغفال.

والآن، جاء دور اللاجئين السوريين. في بداية المقْتلة السورية، كان “التكْفيريون” الهدف العسكري المعلن لجحافل مليشيات حزب الله التي هبّت كرجل واحد لإنقاذ بشار الأسد من شعبه. أما الآن، فغاب المصطلح، بعدما غاب نظيره، “الخوَنة”، وحلّ مكانه “الإرهابيون”. السبب؟ ربما إضفاء صفة الشرعية الدولية على حربهم هذه. كما دونالد ترامب وضع أولوية الحرب على الإرهاب، نسّقوا جهودهم الإعلامية، ووحّدوا كلمتهم معه، فكانت حربهم على “الإرهاب”. هذا لا يعني أن الإرهاب غير موجود. لكن من حسن حظ مجموعاته العسكرية أن الذين يقودون الحرب ضده، يمنحون الصفة الإرهابية لكل من شاءوا؛ فوق أنهم متسبِّبون به، أو داعمون له، بشكلٍ أو بآخر. وهذا ما سمح للإرهاب بالحرث في المياه العربية.

ولكن، ما علينا: ماذا تريد الآن تحديداً هيئة الأركان العليا من كل هذه العملية؟ أي حزب الله؟ بعدما اعتدى هذا الأخير على سوريي المناطق المحاذية للحدود اللبنانية، وأنشأ في إحدى

“مسؤولية العنصرية ضد السوريين في لبنان على أكتاف: ما يسمى “الدولة”، بقيادتَيها، المعلنة وشبه المعلنة، ثم الشعب، بعوامه ونخبه” قراهم، القصير، واحدة من قواعده العسكرية، فقتل من أهلها، وهجّر البقية إلى جرود قرية عرسال. فحولهم إلى لاجئين، ضائعين، على أراضي دولةٍ، لا قانون لها ولا مؤسسات… يريدون الآن إعادتهم بالقوة إلى قراهم التي يسيطرون عليها نيابةً عن “الشرعية” الصوَرية لبشار الأسد، بإمرة قيادتهم الإيرانية العليا، بغية تحويلهم، تحت ضغط ضياعهم، إلى نوعٍ من أنواع “السرايا”، الشبيهة باللبنانية، يحملون السلاح الخفيف، أو يجنَّدون بالقوة في الجيش الأسدي؛ فيكونوا في الحالتين مُلك القيادة نفسها، الممانعة، المنسِّقة مع الروسية والأميركية… إلخ.

وقد أعانهم على المهمة إعلامٌ موجَّه، جذّاب؛ يفكِّك “العنصرية اللبنانية” ليرتدّ عمّا كان يكرّره سابقا، عندما كان يتعاطف مع اللاجئين السوريين ضد حيتان المحيط اللبناني. كلا! لسنا شعباً عنصرياً! يردِّد إعلامهم الوفيّ في الدفاع عن الانتهاكات العسكرية التي طاولت لاجئي جرود عرسال. وخلفية الكورس، رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، اللذان لم ينفكا، طوال سنةٍ بأكملها، عن المطالبة بطرد اللاجئين السوريين إلى سورية… ها هو اليوم، ينظِّر هذا الإعلام الوفي لإضفاء الهالة الوطنية على العمليات العسكرية ضد اللاجئين السوريين، بذريعة نيْلهم من أمن لبنان. وأين؟ في دولة انتهاك الدستور ونهب المال العام والانفلات الأمني. إعلامي من بينهم، وليس أقلهم شأناً، ذهب أبعد من ذلك: قال إنه عندما يتناول المرء موضوع اللاجئين السوريين، لا ضرورة للأخلاق السياسية، فالرؤية الثاقبة تقتضي الاحتكام إلى “المصالح” و”الأولويات”. كأنه يصرخ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. معركة قتل اللاجئين السوريين، وإهانتهم وتخريب خيمهم وحرقها، ووصمهم جميعهم بالإرهاب، لغايةٍ واحدة: إعادتهم إلى خراباتهم. ونحن نتكلم هنا عن العقول المتدبِّرة في محور الممناعة، لا الشعب أو بالأحرى الجماهير الطائفية، الحقيقية منها والافتراضية، التي تتلقى “أمر اليوم”، عند كل طلعة شمس: ماذا تقول، ماذا “تفكّر”، بماذا تتحجّج.

سياسيو المعسكر الآخر، المفترض أنهم “متعاطفون” مع الشعب السوري ضد الديكتاتور، لم يقصِّروا، بدورهم. سكتوا، بناءً على ما تمْليه كراسيهم. بالأمس، وزير الداخلية “لاحظ” أن

“كل من قاوم الهيمنات، كل من تجرأ على رفض خططٍ مشبوهة، كل من باتَ أمر التخلص منه على أولويات الأجندة، يصبح “إرهابياً” بجرّة قلم” الذين قُبض عليهم بجرم إطلاق النار العشوائي خرج غالبيتهم بعد ضغوط مارسها نظراؤه من السياسيين الآخرين (يسمّونها “غطاء”). هؤلاء الذين تسبّبوا بقتل مواطنين لبنانيين برصاصهم المبتهج، لم يسأل أحدٌ أين تبخّروا، ولا كيف. ضاع الموضوع في متاهات معركةٍ أكثر “مصيرية”: كيفية طرد اللاجئين السوريين من لبنان. مع أنهم أول الضالعين بكيفية الاستفادة من وجودهم بالمال والاهتمام الدولييَن؛ المال خصوصاً، الذي لا يعرف غيرُهم كيف صُرِف… وإذا جمعتَ “الحكام” وجماهيرهم الغفيرة وكتّابهم الألمعين، يمكنك القول إن ثمّة مرضاً ينخر الجسم اللبناني كله؛ مرض العنصرية الموسمية، الخاضعة لأجنداتٍ غير سرية. عنصرية للاستعمال السياسي. تشبه عنصرية اليمين الأوروبي المتطرّف أو النازية، لكنها تختلف عنها بمزاجها العشوائي (والمفارقة أن المجرمين اللبنانيين المتمتعين بالـ”تغطية” والإفلات من العقاب، جرائمهم علنية ومسجلة، فيما “الإرهابيون” من بين اللاجئين السوريين، لا جرائمهم واضحة ولا “محاكماتهم”).

هكذا تقع مسؤولية العنصرية ضد السوريين على أكتاف الإثنين: ما يسمى “الدولة”، بقيادتَيها، المعلنة وشبه المعلنة، ثم الشعب، بعوامه ونخبه. مقارنة بسيطة: في تركيا التي لا يعجبنا نظامها المتجه نحو التسلّط: وزير داخليتها استنكر انتشار دعواتٍ إلى ترحيل السوريين من تركيا في مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام، فأصدر بيانا، أعلن فيه “أن الجنايات والجنح التي يرتكبها سوريون هي أقل من تلك التي يقوم بها مواطنون أتراك”، بعدما تكلم بلغة التعاطف مع مأساتهم الوطنية. وكأنه بذلك يبعث رسالة إلى الداخل اللبناني: “الحكي إلك (لكِ) يا جارة، إسمعي يا كِّنة”…

العربي الجديد

 

 

 

اللجوء السوري في لبنان: ليست في كل جدل عنصرية/ محمد قواص

يدور النقاش حول مسألة اللجوء السوري في لبنان داخل مستويات مختلفة ووفق أمزجة متباعدة. فالمسألة ليست نظرية تطال مفاهيم وعقائد، بل إن الحضور السوري يخترق يوميات البلد، وبات يطال مسائل تتعلق بمعيشة اللبنانيين كما بأمنهم واستقرار كيانهم.

وفيما يسهل كيل الاتهامات بالعنصرية على كل من ينتقد هذا الحضور ويطالب برحيلـه، فـإن الخطـب المتضامنة مـع اللاجئين السوريين والمنتقدة للعصبيات العنصرية ضدهم تبقى إطلالات قيمية تنظيرية، ربما أنها ضرورية لاستمرار إسباغ الأخلاق على الخطاب السياسي، لكنها تبقى نخبوية فوقية تمس شكل الظاهرة دون مضمونها.

ورفض الوجود السوري في لبنان شبيه بذلك الرفض الذي طال الوجود الفلسطيني قبل عقود لجهة خـوف اللبنانيين، أو بعضهم، من تضخم أغلبية “غريبة” داخل توازنات “ولاد البلد”. وفي حيثيات المقت المحلي لأي أجنبي ما يكشف الوهن الذي أصاب مناعة البلد وديمومة منظومته، بما يعني أن الشكوى من وجود كائنات أجنبية تهدد النسيج الاجتماعي والسياسي والديمغرافي الأصيل، سببها عجز ذلك الأصل عن أن يبقى أصلا في لغته ولهجته وأسلوب عيشه.

تقليديا، وأكاد أقول بنيويا، فإن بعض مسيحيي لبنان ما زالوا مؤمنين بأن لبنان وطن للمسيحيين، تم اختراعه من أجل هذا الهدف، وأن خطيئة تاريخية أتاحت للمسلمين شراكة في اقتسام ثروات البلد والسلطة داخله. ما زال بعض المسيحيين غير مدركين بأنهم، ومنذ أكثر من 1400 عام يعيشون في منطقة يهيمن عليها المسلمون، وما زالوا يتصرفون وكأن هذه الواقعة عرضية ستزول يوما ما، وعليه فلا بأس في الاستغراق في تكتيكات تعايشية، بانتظار اندثار تلك الحقيقة والانتقال إلى وطن نقي الطبيعة والهوية والعقيدة والمضمون.

لكن لا بد من الإقرار بأن خصوصية لبنان الذي يعيش منذ أكثر من 1400 عام داخل ذلك العالم الإسلامي الممتد شرقا، تكمن في وجهه المسيحي الذي قد يكون، من بين أسباب أخرى، وراء تميّز ما عرف به البلد في صورته وثقافته وتقاليده ونظامه السياسي الفريد داخل مشهد “الأمة” الكبير. وعليه فلا بد من الإنصات جيدا إلى ما يقلق ذلك الوجه ويجعله مرتعبا من تلك الزلازل التي ترسل ارتداداتها إلى داخل البلد، مرة على نحو قومي، ومرة على نحو ديني، ومرة على نحو كارثي.

رفع مسيحيو لبنان يوما صرخة تطالب بأن لا يتحول بلدهم إلى الكيان المقاتل الأول والأخير لدولة إسرائيل، وأن لا يكون وطنهم صندوق بريد تستخدمه كافة أجهزة المخابرات في العالم لتبادل الرسائل. لم يفهم كل اللبنانيين ذلك الصراخ واعتبروه مشبوها عميلا لأجندات برانية تتآمر على ما هو جواني. قاد “سوء التفاهم” إلى حرب أهلية دامت 15 عاما قبل أن ينتج “حسن التفاهم” اتفاق الطائف الشهير الذي ما زال بعض المسيحيين يعتبرونه خطيئة ارتكبت بحكم القوة وقهر مفاعيلها.

في موسم التصدي لحزب الله في لبنان، أعاد لبنانيون آخرون متضامنون مع بعض المسيحيين إنتاج الخطاب المسيحي القديم. أضحى شعار “لبنان أولا” الذي كان كُفرا في زمن “عروبة لبنان” عنوانا سيدا للدفاع عن لبنان، ذلك “الوطن النهائي” الذي اكتشفه المؤتمرون في الطائف عام 1989. باتت السيادة والاستقلال والمطالبة بترسيم الحدود مع سوريا مبادئ تناضل من أجلها تشكيلات سياسية كان جمهورها إبان الحرب الأهلية ملتصقا بأيديولوجيات قومية أممية لا تؤمن بحدود وتستكثر على لبنان سيادته واستقلاله.

هزمت الحرب الأهلية الخطاب المسيحي القديم الذي كان ديدن أحزاب “الجبهة اللبنانية”. دخل لبنان عصر الوصاية السورية واخترقت مفاعيلها المشهد السيـاسي المسيحي فشوّهته وصـدّعت بنيانه وصادرت تمثيله السيـاسي وبات بعضُه ينظّر للعروبـة ويبشّر بالممانعـة ويُقسم بحياة الرئيس القائد في دمشق. وهزمت المواجهة مع حزب الله خطاب “السياديين” اللبنانيين. انكفأت قـوى السيادة والاستقلال إلى حصون السلطة بمعناها التحاصصي.

لم يعد النقاش يقتحم مسألة سلاح حزب الله المتمرد على الدولة ومسألة قرار السلم والحرب في البلد. وبات انهماك كافة التيارات السياسية يرتكز على تفاصيل محلية خدماتية إنمائية تقل فيها السياسة التي لا يتجاوز سقفها مسألة إنتاج قانون جديد للانتخابات. وعلى هامش ذلك الضجيج يكمل حزب الله، دون كسل، إكمال مشروعه اللبناني الإقليمي “الأممي” دون كثير اكتراث لجلبة الطوائف والأحزاب في تناحرها اليومي من أجل تحسين شروط المحاصصة داخل المؤسسات.

من تلك الهزائم يعود اللبنانيون لتلمس جسد كيانهم الذي أصابته رضوض الكوارث التي أتى بها “ربيع العرب”. ينتقل أكثر من 1.5 مليون سوري إلى أحضان البلد موقظين أهل البلد على وهن بناهم التحتية، بالمعنى المادي الذي ينظم عيش الناس اليومي، وبالمعنى الأيديولوجي الذي يرسم حدود الوطن وهويته ومزاجه.

يرى المسيحيون أو بعضهم في اللجوء خطرا مسلما يزحف باتجاه وجودهم. ويرى الشيعة أو بعضهم في اللجوء خطرا سنيا قد يقلب الغلبة الديمغرافية ويشكل مع ذلك اللجوء الفلسطيني القديم فائض قوة سنيا سيقف لا شك ندا أمام فائض القوة الذي ما برح حزب الله يتحكم بلبنان من خلاله.

فيما يسهل كيل الاتهامات بالعنصرية على كل من ينتقد الحضور السوري ويطالب برحيلـه، فـإن الخطـب المتضامنة مـع اللاجئين السوريين والمنتقدة للعصبيات العنصرية ضدهم تبقى إطلالات تنظيرية

أما السنة أو بعضهم فيتأرجحون بين تضامن مع السوريين ضد النظام المتحكم بهم في دمشق والمسؤول الأول عن نكبتهم، وبين عبء ذلك اللجوء الذي يثقل اقتصاد البلد وينافسهم بشكل غير متكافئ في سوق العمل.

لا يحمل اللجوء السوري في لبنان نفس الندوب التي يحملها في تركيا والأردن.فإذا ما كان عاملا الاقتصاد والأمن منطقيين في مقاربة ذلك الوجود في هذين البلدين، فإن لنفس الظاهرة في لبنان خصوصية تصاب بعدوى الخصوصية اللبنانية نفسها. فللجوء روائح مذهبية، إضافة إلى جوانبه المعيشية الضاغطة، وفوق هذا وذاك يأتي مخصبا بأخطار الإرهاب الذي يطل برأسه أكثر كلما اضمحل حجم الأورام الداعشية في الموصل والرقة.

وهناك نوعان من العنصرية في لبنان. نوع مرضي يُمارس ضد أي مخلوقات خارج حدود العرق والطائفة والملة، ويبنى ويتأسس على هذا الأساس، وبالتالي لا يمكن إلا إدانته ومحاربته وتجويف خطبه واستنكار الترويج له. ونوع ظرفي يمارس ضيقا من منافسة اقتصادية معيشية حقيقية تحوّل الوظائف إلى عمالة سورية رخيصة، وتتفاقم في قيام مؤسسات تجارية وخدمية سورية تنبت كالفطر تتنافس مع مؤسسات اللبنانيين ومتاجرهم ومطاعمهم.. إلخ. والنوع الأخير من هذه العنصرية أقل خبثا كونه عابرا للطوائف والمذاهب ترتفع وتيرته وتنخفض وفق قدرة الدولة اللبنانية وإداراتها على اتخاذ التدابير الحمائية المواتية.

وليست من الفطنة مواجهة خطاب العنصرية بخطاب أخلاقي متعال لا يعترف بأن هناك خطبا كبيرا ومشكلة ترقى إلى مستوى المأساة. وليس من الحنكة الانزلاق نحو نفس البلادة التي تمت بها مواجهة خطاب المسيحيين عشية انفجار الحرب الأهلية عام 1975. وليس ناضجا اختصار الآفة بعناوينها السطحية دون المغامرة بالإنصات مليا إلى حجج العامة الذين لا يتغذون بأيديولوجيا، ولا يتنفسون هواء الأجندات الخبيثة.

فإذا بقي الموقف من اللجوء السوري فضفاضا حمّال أوجه، فإن وفاة أربعة معتقلين داخل سجون الجيش اللبناني تصبح تفصيلا دراماتيكيا مروعا قد يبتلعه سجال اللبنانيين المسطح حول مسألة لا تحتمل فلكلورية الضيعة الرحبانية.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

العرب

 

 

 

توقفت كليتا توفيق: الجندي يضربه والطبيب عاجز

لم يصدر بعد أي تحقيق رسمي بشأن ما جرى في عرسال، خلال مداهمات الجيش، في 1 تموز. ورغم الاشكاليات الكثيرة التي أثيرت، حول حالات تعذيب ومعاملة مذلة تعرض لها لاجئون سوريون، بالإضافة إلى وفاة 4 سوريين في ظروف غامضة، لا يبدو أن أحداً معني، من الجهات الرسمية، بتوضيح ما حصل. حتى سعي المحامية ديالا شحادة لإعادة فحص عينات من جثث متوفين، لمعرفة أسباب الوفاة، قوبلت بالرفض والترهيب.

يتداول لبنانيون وسوريون، عبر واتسآب وفايسبوك، حكاية الشاب السوري توفيق محمد الغاوي، الذي أوقف في عرسال، وتعرض لعارض صحي خلال توقيفه بتهمة “أنه انتحاري”، فيما تقول شقيقته، وفق ما يُتداول، أنه بائع مياه بسيط:

“يوم السبت، في 1 تموز، غداة مداهمات عرسال الأمنية التي أوقف فيها نحو ٣٨٠ لاجئاً سورياً، وخلال تواجد الشاب العشريني السوري توفيق محمد الغاوي في مركز اعتقال في مطار رياق، اختلّ توازنه من شدة الإعياء وأوجاع الضرب الذي تعرّض له خلال الساعات الثلاثين على الأقلّ الأخيرة، وراح الدمّ ينزف من أذنه. استغاث زميله الذي كان بجانبه بالعسكري الذي كان يقف عند باب غرفةٍ لا تتعدى مساحتها ثلاثين متراً مربّعاً، محشورٌ فيها نحو مئة موقوف جميعهم مقيّدو المعاصم بأصفاد بلاستيكية ضيّقة ورؤوسهم مطأطأة بقوة العنف والتهديد بالعنف.

ردّ عليه العسكري من الباب المفتوح: بدّي إلعن أبوك وأبوه. عاملّي دكتور هون؟ ما تروح تعمل كلب عند بشّار، شو جابك لعندي لهون؟ بدّكن حريّة يا ولاد الكلب وأشكالكن هيّ اللي بدّها تسقّط بشّار الأسد؟ وأخذ يضرب جميع من في الغرفة بالهراوة بمن فيهما توفيق والشابّ الذي استغاث بالعسكري من أجله. فغطّى الأخير رأسه ليحميه من ضربات الهراوة، فيما هشّمت ضربات الهراوة جمجمة توفيق المغمى عليه. ساءت حالة توفيق وغزر نزيفه، فتمّ سحبه من الغرفة إلى مكان مجهول.

الاثنين، في 10 تموز، وبعد أكثر من أسبوعٍ على الحادثة، تمّ استدعاء شقيقة توفيق عبر قنوات من داخل مخيمها في عرسال إلى مستشفى زحلة الحكومي، بعدما تم إبلاغها أنّ شقيقها مُصابٌ وموجودٌ للعلاج فيه، وبأن المطلوب استلامه حيث أنه أنهى علاجه وتمّ تخلية سبيله. وقبل أن يسمح لها عناصرٌ بالزيّ المدني لقاءه في المستشفى، جعلوها توقّع مع صهرها الذي كان يرافقها إفادةً بأنهما استلماه حيّاً. بعدها سمح لها برؤيته من خلال زجاج غرفة العناية الفائقة. قالت: “كيف سيخرج وهو بهذه الحالة؟”. فكان الردّ أنه لا يزال هناك “أمور قضائية” يتعيّن إنجازها قبل خروجه. أجابت: “ليش أخي شو عامل؟ أخي بيّاع ماي”. أجاب: “أخوك حاول أن يفجّر نفسه في جمعٍ من الضباط. أخوكِ انتحاري”. قالت: “أخي لم يذبح دجاجةً في حياته ولم يحمل سكّيناً يوماً في جيبه. أخي درويش، الكلّ بيعرفه بيّاع ماي”. ردّ الشاب في الزيّ المدني: “يللا يللا خِلصِت الشوفة”.

“عند مغادرتها قسم العناية، رآها الطبيب المعالج واجتمع بها في خلوةٍ سريعة قائلاً لها: أنا طبيب وعملي إنساني ولا يعنيني ما فعله شقيقك. أضاف: شقيقك تعرّض لضربٍ عنيف على الرأس تسبّب له بنزيف داخلي، كمّا تعرّض لضربٍ عنيف على البطن ما أدّى إلى توقّف كليتيه عن العمل. وأضاف إنه كان يجري غسيلاً لكليتي توفيق في محاولة لإنقاذه فارتفع ضغطه إلى ٢٤، فتجمّدت مقلتاه ودخل في غيبوبة- كوما قبل أن يتمكن الطبيب من التدخل.

وقال الطبيب إن توفيق بحاجة الآن إلى جرّاح طبيب في الأعصاب الدماغية. ولا وجود لطبيب كهذا في المستشفى الذي هو فيه، وأكّد أنه لا بدّ من نقله فوراً إلى أيّ مستشفى آخر من أجل إنقاذه، وأنه لا أمل لنجاته من الموت ما لم يتمّ علاجه فوراً وعاجلاً من قبل طبيب جرّاح مختصّ بأعصاب الدماغ”.

المدن

 

 

 

 

العودة خشبة خلاص السوريين/ باسل أبو حمدة

تكبد الشعب السوري خلال السنوات السبع الماضية من عمر ثورته المجيدة خسائر كبرى غير مسبوقة، في محاولته الارتقاء بالنظام السياسي الرابض على صدور أبنائه منذ عشرات السنين، من موقع الاستبداد وظلاميته إلى رحاب قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة. ولا يزال الجرح السوري نازفا بلا هوادة، وقوافل الشهداء والضحايا ترتقي يوميا، وأعداد الجرحى والمصابين في تزايد مستمر، بينما يقبع مئات الألوف من المعتقلين ومجهولي المصير والمختفين قسرا، خلف ظلام زنانين النظام المارق وحلفائه من المرتزقة القادمين من كل حدب وصوب. مثلما يتواصل التدمير الممنهج للبنى التحتية والعمرانية وللمفاصل الحيوية في الاقتصاد السوري وحواضره وأريافه، لكن على الرغم من كل تلك الفظاعات وفداحتها، وما تولده من معاناة وآلام لا تحتمل في أجساد ونفوس جموع السوريين، تبقى قضية التهجير السكاني والتغيير الديموغرافي وتذويب الهوية الوطنية السورية الجامعة، وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري في صدارة مجموع تلك الخسائر الثقيلة، لا لشيء إلا لأنها ترتبط ارتباطا مباشرا بالمستقبل السياسي والاجتماعي والثقافي للبلاد، على المستويين الفردي والمجتمعي.في هذا السياق، يمكن تسجيل مجموعة من العوامل التي أدت إلى حالة العبث الطاحنة بالهوية الوطنية السورية ومكوناتها السكانية:

– انهيار الدولة المركزية أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وميدانيا، واتضاح المدى الفاضح لافتقارها للشرعية الدستورية، ما أدى، بالمقابل، إلى إحداث فراغ سياسي سرعان ما عملت الأطراف والمكونات الأخرى على ملئه بأشكال وطرائق غير مسبوقة.

– حالة الإنكار التي تبناها النظام السوري وتنكره لاستحقاقات التغيير السياسي الاجتماعي التي اندلعت الثورة السورية على أساسها، ما دفعه إلى اعتماد أشد الممارسات القمعية لوأد الثورة وحواضنها، تحت شعار»الأسد أو نحرق البلد».

– عندما فشلت أدوات النظام وممارساته القمعية المعتادة في وأد الثورة السورية في مكامنها التقليدية، استنبطت العقلية الشيطانية لدوائره العليا منهجا جديدا لتحقيق أهدافه الدنيئة، فتتالت عمليات التهجير السكاني، فرادى وجماعات، وتحولت إلى ظاهرة لا ترحم، واعتمدت كاستراتيجية الهدف منها تمزيق النسيج المجتمعي السوري، وحشر مختلف مكوناته في شرانق هوياتية ضيقة، تعويلا على خلق شرعيات بديلة يستند إليها نظام الاستبداد في بقائه على رأس السلطة السياسية أطول فترة ممكنة.

– تغول بعض مكونات الشعب السوري على بعضها الآخر، ودخولها على خط ممارسات النظام، وتماهيها مع سياساته القمعية المتمثلة بالقتل والقصف، وقضم المدن والقرى والتهجير الجماعي، تحت راية تحالفات محلية وإقليمية ودولية مشبوهة، تفوح منها رائحة الانتهازية والمصالح الفئوية الضيقة، وإدارة الظهر لمصالح واهتمامات بقية مكونات الشعب السوري.

– تقاطع ممارسات النظام التدميرية، مع مصالح قوى إقليمية ودولية عديدة، لا تبطن للشعب السوري الخير، بل تكن له حالة غير مسبوقة من العداء، فجاءت الأحداث الدامية في سوريا لتشكل فرصة ذهبية لتلك القوى، التي تحرص على ألا تفوتها تلك الفرصة الذهبية في تنفيذ أجنداتها العدوانية والنيل من السوريين بلدا وشعبا.

انطلاقا من المفهوم القائل بأن المشاركة السياسية هي في الأساس مجموعة من الإجراءات والفعاليات التي يقوم بها المواطنون، الذين لا يشاركون بالضرورة في الحياة السياسية مباشرة بغية التأثير على العملية السياسية ونتائجها، ولتحقيق الصالح العام للجميع، وفي محاولة جادة للخروج من النفق المظلم الذي وجد الشعب السوري نفسه محشورا في دهاليزه المعتمة، بأقل قدر ممكن من الخسائر الجمعية والفردية، تعالت أصوات مجموعة مستقلة من الشباب السوريين المنتشرين داخل الوطن وفي الشتات والمنافي القريبة والبعيدة إلى تشكيل إطار اجتماعي يعنى بقضية العودة إلى الديار، على قاعدة أن العنصر البشري يبقى الرقم الصعب، في أي معادلة سياسية مقبلة من شأنها رسم ملامح سوريا المستقبل بكافة مكوناتها السكانية المعروفة للجميع، بعيدا عن أدران التعصب والإقصاء، وخارج لغة الأكثرية والأقليات والامتيازات، والتفرد في مشروع وطني شامل يرمي لتحقيق هدفين رئيسيين اثنين لا انفصام في عراهما، مع احتمال ظهور الكثير من الأهداف الفرعية الأخرى التي لا تقل شأنا عما يعتمل في عقول وصدور هذه المجموعة من الشباب، لحظة اطلاق مشروعهم الوطني الشامل في قلب المجتمع السوري أينما كان.

الهدف الأول يتمثل في ضمان حق العودة لكل مواطن سوري إلى مدينته أو قريته، بغض النظر عما ستؤول إليه الأحداث الجارية على الأرض السورية، على اعتبار أن هذا الحق لا يسقط بالتقادم، مهما طال الزمن وتبدلت الظروف، وأنه حق فردي وجماعي تكفله القوانين والشرائع الدولية كافة للمواطنين الذين تعرضوا للتهجير القسري، وعمليات النزوح وإعادة الهندسة الديموغرافية، ما دفعهم إلى طلب النجاة بأرواحهم، سواء داخل حدود الوطن أو خارجه، حيث تتعانق ظاهرة النزوح الداخلي وظاهرة اللجوء الخارجي مشكلتان باجتماعهما معا التغريبة السورية الكبرى، التي صمم أصحاب مبادرة العودة من الشابات والشباب على التقليل من حجمها وآثارها تدريجيا قدر الامكان، على طريق محو نتائجها من المشهد السوري برمته، من خلال برامج ملموسة من شأنها ترسيخ فكرة العودة وضرورتها الوطنية في أذهان ووجدان أبناء الشعب السوري جميعا.

أما الهدف الثاني، فيذهب باتجاه تشكيل كيان وطني سوري حاضن لجموع النازحين واللاجئين السوريين في سائر أماكن عيشهم المؤقتة والاضطرارية، ومعبر عن هويتهم الوطنية، وعاكس لأحلامهم وتطلعاتهم وآمالهم في مواجهة ما يعترضهم من صعاب وتحديات سياسية وقانونية وثقافية في جغرافيات النزوح واللجوء المتناثرة حول العالم على اختلاف أنواعها وأشكالها، بحيث تشكل هذه المبادرة الوليدة صوت من لا صوت لهم، ممن يتجرعون مرارة المنافي وحرقة الاغتراب، ويتوقون للعودة إلى الديار والتواصل مع جذورهم الطبيعية في الوطن السليب، الأمر الذي يشكل رافعة مادية ومعنوية في الشتات، ومقدمة لتحقيق حلم العودة النهائية المنشود إلى وطن حر ومتحرر من أغلال الاستبداد والاحتلال.

هي دعوة للتفكير الجدي في العودة بوصفها حقا مطلقا غير منقوص لجموع السوريين المقتلعين من ديارهم، أمام أنظار الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بمختلف مؤسساته السياسية والحقوقية، فلقد آن الأوان لإعلاء الصوت والقول إن قضية الشعب السوري ليست قضية إنسانية فحسب، تحل عن طريق تقديم مساعدات انسانية وملاذات للجوء فقط، قضية الشعب السوري قضية سياسية بامتياز ومأساة اللاجئين والنازحين منهم لا تمثل سوى رأس الجبل الجليدي لنكبتهم وأوجاعهم، ولن تستقيم حياتهم ولن تولد سوريا الجديدة إلا بسواعدهم، التي باتت متمددة في تعرجات شتات مترامي الأطراف.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

 

 

 

ملامح هجرة عكسية إلى سورية/ لبنى سالم

تشهد المناطق التي تعيش أماناً نسبياً في سورية حركة نزوح عكسية إليها، من السوريين النازحين الذين يبحثون عن الأمان. هؤلاء اللاجئون الذين أنهكتهم ظروف الحياة في بلاد اللجوء. مدينة جرابلس التي تسيطر عليها قوات درع الفرات من أبرز المدن التي تحتضن خليطاً من السوريين النازحين المهجّرين وكذلك من العائدين من بلاد اللجوء.

أحمد ناشط سوري يعيش في مدينة جرابلس، يقول إنّ “ملامح الهجرة العكسية للسوريين إلى جرابلس ومحيطها راحت تظهر بوضوح، منذ بداية العام الجاري، حين بدأت الأمور تستقر في المدينة بعد تحريرها من تنظيم داعش. وكلّ من يقصد المدينة يلاحظ ازدحاماً كبيراً في شوارعها، إذ يعيش هنا سوريون من حلب ومن حمص وإدلب جذبهم كلهم إليها غياب القصف والبراميل”. ويوضح أحمد أنّ “الذين جاؤوا من الداخل يبحثون عن الأمان، أمّا العائدون من بلدان اللجوء فإنّ أحوال معظمهم المعيشية لم تكن جيّدة هناك ولم يستطيعوا الاندماج مع المجتمع المضيف. والعائدون من تركيا يتوجّهون بمعظمهم إلى جرابلس المدينة المزوّدة بخدمات الماء والكهرباء، والبقيّة إلى محيطها لا سيّما مدينة الباب”.

بعد عامَين كاملين في مدينة غازي عنتاب السورية، عاد أبو عمار مع عائلته إلى سورية منذ نحو أربعة أشهر. يقول إنّه “في نهاية عام 2014، خسرت ورشة صناعة الأحذية التي كنت أملكها في مدينة حلب، بصاروخ. فخفت أن يكون الصاروخ الثاني من نصيبي أو من نصيب أحد من أفراد عائلتي، وخرجنا عن طريق التهريب إلى تركيا ودفعنا كل ما تبقى معنا للوصول إلى هناك”. يضيف: “لم أكن أعرف أنّ لهفتي على العودة إلى سورية سوف تكون أكبر من لهفتي على الخروج منها. بقينا نحو سنتين في غازي عنتاب، بحثت خلالهما طويلاً عن سكن وعمل. بداية، سكنا في بيت من الصفيح عند طرف المدينة إلى أن وجدت عملاً في إحدى ورش صناعة الأحذية. وصرت أعمل 12 ساعة يومياً على الرغم من أنّ صحتي لا تساعدني، لأؤمن الحدّ الأدنى من قوت زوجتي وأطفالي”. ويلفت أبو عمار إلى أنّ “أياً منّا لم يتسنّ له تعلم اللغة التركية، وتحوّلت حياتي إلى كابوس. أصبح خوفي من البقاء هناك أكبر من خوفي من الصواريخ. فقررت العودة إلى أوّل مدينة تشهد استقراراً”. وحين بدأت الأمور تستقر في جرابلس، “لم أتردد، تركت كلّ شيء هناك وعدت مع عائلتي وأسست ورشة صغيرة لصناعة الأحذية الصيفية والمنزلية، يساعدني فيها ولدي وشاب صغير من المدينة. كذلك استأجرت غرفة لنعيش فيها، لكنّ الكثير ما زال ينقصنا. صحيح أنّ الوضع الأمني أفضل من أيّ مكان آخر في البلاد، غير أنّ غلاء المعيشة كبير، رغم وجود كل شيء، لست نادماً”.

من جهته، عاش عبد الباسط الحسن، وهو مصوّر سوري لمدّة سنتين في تركيا، قبل أن يقرر العودة إلى الوطن من جديد. يقول: “خرجت من منبج في عام 2014 عندما سيطر داعش على المدينة. طوال وجودي في تركيا، كنت أنتظر العودة إلى مدينتي. لا يمكن أن يُستبدَل الوطن بأيّ مكان آخر”. يضيف أنّه “عندما بدأت عملية درع الفرات، جئت إلى جرابلس بهدف التغطية الإعلامية لمجريات الأحداث في المدينة. كان أملي أن أتمكّن من الانتقال بعدها إلى منبج، لكّن الأمور لم تأتِ بحسب ما رغبت وبقيت في إحدى القرى في محيط المدينة”.

ويتابع الحسن: “عانيت بداية إذ غيّرت مسكني خمس مرات، وهو ما يحدث مع كثيرين غيري بسبب الارتفاع المتزايد في الأسعار هنا. إلى ذلك، ما زالت الخدمات هنا سيئة جداً، فتوفّر الكهرباء والماء محصور بمدينة جرابلس، فيما تغيب عن الأرياف”. ويلفت إلى أنّه “على الرغم من غياب الطائرات الحربية فإنّ الأمان ما زال ضعيفاً جداً. ومنذ دخول الشرطة الحرة قبل نحو شهرين، تحسّن الوضع الأمني قليلاً من دون أن يرقى إلى ما يأمله الناس”. ويقرّ “يصيبني الإحباط كثيراً من ظروف الحياة هنا، إلا أنّني لا أندم على العودة. مساهمتي في نقل واقع الناس عبر الإعلام تمنحني قوّة على التحمل”.

وكانت عودة عشرات آلاف السوريين اللاجئين في تركيا خلال فترة عيد الفطر (قبل نحو شهر) إلى سورية، قد ساهمت في تسهيل الهجرة العكسية على سوريين كثيرين كانوا ينوون العودة إلى البلاد. بلال من هؤلاء، وهو كان يعيش مع أبويه وأخويه في مدينة أنطاكيا التركية. يقول: “مضت ثلاث سنوات على خروجنا من بيتنا في إدلب. وعلى الرغم من الأمان، فإنّ والدَيّ المتقاعدَين لم يتأقلما على الحياة في تركيا. كنت أراهما يكبران بسرعة ويعيشان على الذكريات. وأتى هذا العيد ليكون فرصة للعودة وزيارة أقاربنا وبيتنا هنا”. يضيف: “يبدو أنّني سوف أعود مع واحد من أخويّ إلى تركيا. نحن وحدنا نعمل هناك ونؤمن مصروف الأسرة. كثيرون من الذين عادوا أخيراً إلى البلاد سوف يبقون هنا بينما يتوجّه أبناؤهم الشباب إلى تركيا من جديد ليؤمّنوا لهم المال من هناك. ففرق العملة من شأنه أن يوفّر ظروفاً معيشية أفضل للعائلة في سورية”.

ويتابع بلال إنّه “بعد سنوات من العيش في الغربة، تستنتج أنّ الأمان وحده لا يكفي ليعيش الإنسان براحة نفسية، خصوصاً بالنسبة إلى كبار السنّ. وعلى الرغم من عناء السفر، فإنّ الابتسامة عادت إلى وجهَي والدَيّ حين التقيا بمعارفهما وجيرانهما القدامى هنا، وحين ناما في بيتهما. أنا شبه متأكد من أنّ القسم الأكبر من السوريين سوف يعود إلى البلاد ما إن تستقر الأوضاع قليلاً”.

من جهته، يقول أبو بلال: “لا أرتاح إلا في بيتي. إن قدّر لي أن أموت، فأنا أفضّل الموت فيه على الموت في الغربة”. ويضيف ضاحكاً: “في عقلي لا تجد إلا اللغة العربية. بعد ثلاثة أعوام، لم أحفظ أكثر من 10 كلمات تركية نسيتها فور دخولي سورية. هل يعقل أن أعود إلى هناك لثلاثة أعوام حتى أحفظها من جديد؟”.

العربي الجديد

 

 

 

 

مخيم عرسال.. ماذا ينتظر السوريين؟/ فاطمة ياسين

الدخان الأسود يغطي سماء مخيم عرسال للاجئين السوريين.. رسمياً، ما زال المذنب مجهولاً، فتصريحات المسؤولين اللبنانيين، وما يقوله الناشطون وسكان المخيم، متناقضة، لكن الملفت تداول قضية إرجاع اللاجئين إلى وطنهم، على الرغم من انهيار اتفاقات الهدن هناك، وفشل خطة تخفيض التصعيد.. ستبدأ القصة باقتراحاتٍ حسنة النية، لإعادة اللاجئين الذين يقطنون الخيام إلى قراهم وبلداتهم، حيث من المفترض أن يستعيدوا بيوتهم ودكاكينهم وأراضيهم الزراعية التي تركوها.. اقتراحاتٌ لها شكل إنساني، ولون وردي، سيرفضها اللاجئ العارف حقيقة ما ينتظره في سورية.. سترتفع بعد ذلك شعارات عنصرية بشكل عفوي، أو مخطط له، وستحتل أخبار اللاجئ الذي يتلقى مساعداتٍ إنسانية محدودة من الأمم المتحدة مقدمات نشرات الأخبار في لبنان، بوصفه سبباً أساسياً، وربما وحيد، للأزمات العميقة التي تعاني منها الدولة، أكان ذلك على الصعيد الأمني أو الاقتصادي والاجتماعي، وستتحوّل اقتراحات التخلص من اللاجئين إلى مناشداتٍ ملحة، وسيبرز التواصل مع الحكومة السورية حلاً وحيداً لتنسيق عمليات إعادة اللاجئين.

انتشرت صور وفيديوهات عن ممارسات قتل واعتقال وتعذيب للاجئين سوريين في لبنان. وأشار ناشطون إلى مسؤولية الجيش اللبناني عمّا جرى، وتابعنا سيلاً عكسياً مدافعاً عن مؤسسة الجيش. المستغرب موقف مسؤولي حزب الله ومؤيديه الذين شاهدناهم يُثنون على ما قام به الجيش ضد السوريين، في سياق مكافحة الإرهاب، ويؤكد بعضهم أن هذا الجيش الذي طالما حطت المليشيا من شأنه وقوته وقدرته، بات مؤهلاً للدفاع عن الوطن! ألا يدفع ذلك إلى السؤال عن جدوى وجود المليشيا ذاتها، طالما لدى الدولة جيش قادر على الدفاع عن لبنان ضد الأخطار الخارجية؟ هذا ليس موضوع المقال، لكن علينا أن نذكّر بأن وجود الحزب ذاته في سورية سبب يعيق النازحين من العودة إلى أرضهم.

كان نائب أمين عام الحزب، الشيخ نعيم قاسم، أحد الأصوات التي اقترحت التواصل مع النظام في دمشق للبدء بإعادة اللاجئين، وأيده وزير العدل، سليم جريصاتي، ومسؤولون لبنانيون آخرون، وكانت الثقة تعتري سفير سورية، علي عبد الكريم، وهو يشير إلى ضرورة التواصل مع النظام السوري، بدون وساطة من أي طرف، احتراماً للسيادة السورية.

ينفع هنا تكرار وصف واقع الحال في سورية الذي يبدأ بالقصف والمداهمات والاعتقالات، ولا ينتهي بمراسيم الخدمة العسكرية التي تلزم الشبان بحماية كرسي الأسد، حتى لو قاربت أعمارهم الخمسين عاماً. ليست هذه مشكلة سورية، من وجهة نظر السفير، وحال السوريين المضطهدين في البلدان المجاورة أمر ثانوي أمام الرغبة الجامحة، واستغلال الأزمات لتلميع صورة نظام الأسد أمام الرأي العام..

أعلن الجيش اللبناني في بيان أن المقتولين من اللاجئين كانوا مصابين بأمراضٍ تفاعلت مع الظروف الجوية، فأدت إلى الوفاة. واحتراق المخيمات اتّهمت به أيضاً درجات الحرارة التي تجاوزت الأربعين.. على الجانب الآخر، يصر محللون لبنانيون على التأكيد بأن المخيم يؤوي عائلات أفراد تنظيمي داعش وجبهة النصرة، وكأن الأمر، إن صح، يعطي المبرّر لقتل ذويهم وحرق خيامهم. اختيار عبارة “عائلات الإرهابيين” سيغطّي على الأخبار التي تحكي عن مقتل أطفال، أو إصابتهم، طالما أنه من الطبيعي لعائلة الإرهابي أن تحوي طفلاً إرهابياً مستقبلياً.

تتتابع الروايات الرسمية وغير الرسمية، فتصبح القصة أكثر ترتيباً: اقتحم الجيش المخيمات في عمليةٍ وصفت بالاستباقية، بعد معلوماتٍ عن وجود مخططات للقيام بعمليات تفجير هناك، رغم ذلك حدثت هذه التفجيرات، وأدت إلى وفاة بعض سكان المخيم، وهجرة بعضهم الآخر.. الاستهتار في التعامل مع قضيةٍ خطيرةٍ بهذا الحجم وسهولة إنكار الجرائم التي ترتكب بحق السوري أينما كان باتا أمراً في متناول الجميع، بمن فيهم السوريون أنفسهم، طالما أن العالم يفتح أذنيه لتصديق كل شيء إلا الحقيقة.

العربي الجديد

 

 

اعتراض النفس الأخير/ فداء عيتاني

يقتل الجيش اللبناني معتقلين تحت التعذيب، تتعزز شبهة قيامهه بذلك يوما اثر يوم، وهي التهمة التي تجد من يرحب بها، ويرحب بعملية مداهمة عنيفة لمخيم للاجئين سوريين، مع اطلاق نار وقتل واعتقال المئات منهم، تحت ذريعة عملية استباقية، تخللها عمليات انتحارية.

يزداد عنف البلاد، العنف يتحول إلى الخيط الجامع بين كل المكونات الاجتماعية، ولم يمنع البعض انفسهم من دعوة المعترضين على العملية العسكرية الأخيرة إلى الرحيل من البلد، او دعوة القوى الأمنية إلى اعتقالهم وزجهم في الزنازين، بينما يحتفل اللبنانيون بنجاح ابنائهم بالمدارس باطلاق النار.

يتبرم بعض حاشية رئيس الجمهورية وبطانته من الانتقاد والاتهامات بالفساد، الاتهامات التي كانت تطال كل الرؤساء (والارجح انها محقة) وكل العهود بوزرائها ونوابها. الا ان هناك من بالغ في الفساد وبالغ ايضا وبشكل مواز برد فعله عليه، باتت الاشارة إلى الفاسد تتطلب تحمل كل سفاهته، وادعاءاته بالتفوق والاخلاقية، واتهاماته للاخرين بالشعبوية، لا وبل تحمل ترداد جمهوره لمقولاته دونما تمحيص او ادراك.

لقد انفك العقد الاجتماعي الواهي بين مكونات البلد، وباتت الطوائف اشد انعزالا، وصار قادتها يترنحون يمينا ويسارا دون رادع او وازع، بوصلتهم الوحيدة الانتفاع ورشوة بعض الخلص، والجمهور الاوسع يعاني ما يعانيه، الا ان الخوف من الطوائف الاخرى من جهة، وبعض الفتات من مقومات الحياة من ناحية اخرى، وضيق الحال عامة، يدفع جماهير الطوائف إلى الاستشراس ضد بعضها بعضا من اجل الحفاظ على وجود يشبه كآبة الموت.

بات من واجبنا اليومي ان ننعي بلدنا وما فيه.

وبلغ ضعف الاجهزة الرسمية عجزها عن التحفظ على تجار باجساد النساء عنوة واغتصابا، باتت الاجهزة الرسمية في موقع قوة فقط حين تطلب منها قيادات طوائف بذاتها قمع اللاجئين السوريين، وتهز باقي القيادات الطائفية رأسها موافقة، او حين تقرر اعتقال ناشطة من هنا او ضرب ناشط من هناك.

دولة العجز القاتل

تراكم العجز منذ العام ٢٠٠٥ خاصة. والعجز نهج مميز في بلاد تعتاش وتجدد حكم ديكتاتوريات طوائفها من خلال الازمات، الا ان الازمات وصلت جدارا صلبا هذه المرة، لم يعد يمكن تجاوزه، ومنذ اكثر من عقد باتت الأزمات تتراكم، والسلطة السياسية تشتد عجزا وترهلا، امام طوائف تزداد شراسة في مواجهاتها الدموية حينا والباردة احيانا، اشتباكات في مناطق هامشية كباب التبانة وجبل محسن، بينما ينعم البلد برخاء صيفي او قتال شتوي في سوريا، فشل في حل ازمة النفايات، تزايد اسباب الموت الجماعية وانتشار الامراض المستعصية دون ان يتحرك اي مسؤول حكومي، مترافق مع شعارات رنانة من قبيل تحرير فلسطين واستعادة حقوق المسيحيين، او العبور الى الدولة.

وصلت السلطات إلى ادنى احوالها مع مجيء ميشال عون قائد الجيش السابق إلى سدة حكم بعبدا، ليس أمام هذا الرجل وزبانيته من مخرج إلا القاء اللوم على غيره، والدفاع عن نظام متهاو، ولكن الـ”غيره” شرس وقادر على القتال، وهو في النهاية شريك في نهب المال العام وبعض من الثروات المتبقية في البلاد، كالعقارات والنفط وغيرها من الريوع. تم اختراع “آخر” على عجل، انه اللاجئ السوري، هذا الذي يستوطن في بلادنا وكأننا لم نرسل له مئات الاف المقاتلين، على دفعات وخلال اكثر من خمسة اعوام، لتدمير بلاده وقتل اقاربه، وقبضنا اكثر من ثلاثة مليارات من الدولارات ثمنا لوجوده عندنا.

الـ”اخر” هو سبب بلائنا، وهي ليست المرة الأولى التي يرفع بها لبنانيون هذا الشعار، المرة الماضية اوصلنا هذا الشعار إلى حرب اهلية، وغطى الصراع الداخلي بصخبه واسس لوطنية فاشية استطالت حتى نهاية الحرب، وما لبثت ان عاودت الظهور اليوم، ولكن مع تغيير اسم الاخر، من اللاجئ الفلسطيني، الذي تحول مقاوما، إلى اللاجئ السوري الذي يتم سحقه تحت احذية جنود مسحوقين في يوميات الحياة المحلية.

هذا الحل الوحيد للعجز القاتل للدولة الفاشلة، القاء اللوم على اخر، غريب، اجنبي، تحميله كل اوزارنا، وعلل الفشل الكامل لخدمات الدولة، واجهزتها، وتوجيه الانظار نحوه، بينما هناك من يفرغ جيوبنا من مواردها، ويكم افواهنا، ويمنعنا من الاعتراض وجعا.

وفوق ذلك هناك من يطالب بسجن المعترضين او رحيلهم من البلاد. والحل الأخير يحفظ بعض الانسانية فينا، ويقينا الانحدار الى موافقة مضمرة على عته يزداد انتشارا بين ابناء جلدتنا.

غدا (الأثنين في العاشر من شهر تموز لعام ٢٠١٧) سأمثل أمام التحقيق، في قضية لم ابلغ بمضمونها رسمياً بعد، الا انها ولا شك جزء من جو عام بات ينتشر ويطالب بمنع الاعتراض، ومنعنا من اطلاق الزفير الأخير في هذه البلاد التي تختنق بازماتها.

موقع الكاتب

 

 

 

الحجر الذي قتل اللاجئة السورية.. أصاب رأس الإعلام التركي/ عدنان نعوف

“لقد ذهبنا..هل أنتَ سعيد؟”. هكذا ردّت أماني الرحمون على مطالبة الرجُل التركي بخروج السوريين من بلده. وهنا أسلوب كاريكاتوري يتجاوز فكرة السخرية بمفهومها المبسّط إلى استنكار المطالَبات برحيل اللاجئين، والتي أدت بتأثير مباشر أو غير مباشر إلى رحيل أماني بالفعل، لكن إلى العالم الآخر! هذا ما جسدته اللوحة التي نشرتها المجلة الالكترونية التركية الناقدة “مسواك” Misvak، وذلك عقب تشييع جثمان اللاجئة السورية وجنينها ورضيعها في ولاية سكاريا، ومن ثم نقلهم إلى مدينة إدلب لدفنهم هناك.

حادثة كان لها بالغ الأثر في إحداث صدمة أدت إلى إخماد حرائق العنصرية مرحلياً، عبر استعادة مفردات الأخوة ونصرة المظلوم، لكنها في المقابل أشعلت نقاشاً حول مسؤولية “المحرّضين” عن الجريمة.

ولوهلةٍ بدا وكأن الحجر الذي أسقطه المجرم على رأس “أماني” نزلَ أيضاً على رأس الإعلام التركي. وبينما تسببت الضربة بمقتل اللاجئة السورية، فإنها أدت بالمقابل إلى استفاقة جمهور واسع من أثر الحملات التحريضية ضد الوجود السوري.

وضمن موجة المراجعة الشاملة للتعاطي مع ملف الوجود السوري في تركيا، لم يَغِبْ أيٌ من الأطراف عن المشهد، سواء كان بهدف النقد والتفسير، أواللوم وتحميل المسؤولية عبر تحليلات وتقارير ومقاربات مختلفة.

وبالنتيجة فقد أتيحت الفرصة لـ”المدافعين” عن اللاجئين لشنّ هجوم معاكس مُتّهمين من طالب بطرد هؤلاء بأنه هو الجاني الفعلي.

وفي المقلب “العلماني”، كانت لافتة مقاربة مختلفة كالتي قدّمتها الكاتبة في صحيفة “حريات”، ميليس ألفان Melis Alphan وحاولت فيها أن تمسك العصا من الوسط بالحديث عن أثر التجييش ضد السوريين ونسج القصص غير الحقيقية والمبالغات عنهم. واعتبرت أن النظرة الخاطئة من قبل المجتمع التركي تجاه اللاجىء السوري هي التي أفضت إلى قتل أماني الرحمون وابنيها.

ولم يَفُتْ ألفان أن تمرّر ما تريد من رسائل “غير بريئة” عبر التطرق إلى أوضاع السوريين وبشكل خاص على صعيد التعليم، مشيرةً إلى أن حوالى نصف المليون منهم لا يتلقون تعليماً، وتساءلت: عندما يكبرون، ماذا سيعملون؟ لتُجيب بأنهم سيعملون في الملاهي أو مع العصابات أو سيكونون مشاريع إرهابيين.

لكنها استدركت أن بين السوريين، متعلمين وأصحاب خبرات، مستندةً إلى النموذج المميز الذي عكسه استقرارهم في ولاية هاتاي، ونشاطهم التجاري فيها، وهو ما يفتح الباب برأيها للتركيز على الجوانب الإيجابية لديهم والإفادة من إمكاناتهم.

وخَلُصت ألفان إلى اعتبار الوجود السوري في تركيا أمراً واقعاً لا مفرّ من أن ترافقه مشكلات.

وعلى عكس التيار الآخر، لم تُرجِع الكاتبة في صحيفة “حريات” ما جرى من توترات مؤخراً والهجمة الواضحة على السوريين إلى “جهات” ما تسيء إلى مبادىء “حسن الضيافة”.

عند هذه النقطة بالذات، يبدو خطاب “الفتنة”، والحديث عن دَور الأيادي الداخلية أو الخارجية والحسابات الوهمية، كمَن يقوم بملء الفراغات الحاصلة في الرؤية الإعلامية من باب استكمال المعنى وتفسيره بمصطلحات عامة وغير موضعية.

ويمكن القول أن المرحلة التي وصل إليها موقف الأتراك من السوريين هي حصيلة محطات وتطورات ممتدة زمنياً، لكن الثابت هو أن استهداف اللاجئين يقف خلفه أفراد ينتمون أو يناصرون تيارات وأحزاب في مقدمتها حزب “الشعب الجمهوري”، ويتبنون وجهة نظر معارضة أصبح ملف اللجوء إحدى أوراقها في لعبة الشد والجذب وتسجيل النقاط على الفريق الآخر أو حتى محاولة سحب البساط من تحته.

وخلال الفترة السابقة، كان يمكن ملاحظة مَيل الكفة لصالح المعارضين، ضمن السجال الدائر حول الوجود السوري في تركيا إلى درجة أن مناصري حزب “العدالة والتنمية” باتوا في موقع التبرير والدفاع، قبل أن يستعيدوا زمام المبادرة بعد اغتصاب ومقتل اللاجئة السورية الحامل، مع رضيعها، بطريقة وحشية.

والحال أن رؤية ما يحصل في تركيا من خلال ذروتين مترابطتين؛ إطلاق الهاشتاغ وواقعة القتل بعدها، يلغي حقائق كثيرة تمت معايشتها خلال الشهر الماضي على وجه الخصوص. وبالتالي فإن استخدام نظرية المؤامرة وإرجاع أسباب التوترات إلى خلايا تابعة لدول أو تنظيمات معادية، يلغي عدداً من الحقائق السببية التراكمية التي أوصلت الأمور إلى هنا.

ولو وضعنا جانباً العوامل العديدة التي تحكم علاقة الأتراك بالسوريين وتعقيداتها، فإننا نستطيع ملاحظة أثر الحوادث الماضية التي أدت إلى حبس اللاجىء السوري في قالبين: نموذج المتحرِّش ذي الغرائز البدائية الذي يجهل قِيَم المجتمع التركي ويدمرها بتصرفاته، ونموذج الأجنبي المستفيد اقتصادياً من مزايا عملية وإغاثية تفوق ما يتمتع به المواطن التركي.

ومن بين الأحداث الأكثر تأثيراً، كان التحرش والأخبار القادمة من الشواطىء، والتي مسّت جانباً اجتماعياً حساساً ألا وهو الشّرَف بمفهومه الهوياتي الجمعي.

لكن الغريب أن تلك الأخبار تجاوزت إطارها هذا لتعيد إنتاج خطاب معادٍ للسوريين في تركيا مبني على جملة مبررات وسرديات أبرزها “تضحية” الجندي التركي في المعارك مقابل “تسكع” اللاجىء السوري وتخاذله عن الدفاع عن بلده. فضلاً عن عودة المقارنة بين “الامتيازات” التي يملكها كل من الطرفين خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، والحديث عن صرف حكومة “العدالة والتنمية” ملايين الدولارات على السوريين وإتاحة حرية الحركة والعمل لهم.

ونظراً لأن العمل على هذا الجانب وصورِه وتضخيماتها ليس جديداً، فإنه لا يمكن توقع انتهاء الحملات ضد السوريين بعد اغتصاب ومقتل أماني الرحمون، ليس لأن الورقة السورية ستبقى قائمة وقابلة للتحريك في مناسبات لاحقة فحسب، بل لأن الفترة الماضية التي سبقت الجريمة المروعة شهدت ردود أفعال شعبية ضد السوريين في مواقع الانترنت، وتمت ترجمة بعضها فعلياً. وتتمثل خطورة تلك المواقف بكونها توعّدت حينها بالمحاسبة و”إصلاح” الواقع الذي فرضه السوريون إذا لم تتحرك الحكومة لتنظيم هذه المسألة وضبطها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى