حسين جموصفحات سورية

عن المتشابهين الذين قد يتحولون إلى جهاديين في حلب وأوهام «المناظرة الثقافية»


بعد ثوانِ من سقوط القذيفة..أشعل المقاتل سيجارته وسط الغبار

حلب ـ حسين جمو

بعد رحلة ماراثونية قطعنا فيها ما يقارب 200 كيلومتر داخل الأراضي السورية، وصلت وزميلي الاعلامي الملقب بـ»أبو فؤاد» إلى قلب المدينة. يواجه الصحفي إشكالية في أسماء الأشخاص هنا، فالاسم الحركي لأي شخص يبدأ بـ»أبو»، هناك أبو أحمد وأبو محمد وأبو تميم وأبو عبيدة وأبو علي ووو..ربما هنا 40 اسماً من تلك التي تبدأ بـ»أبو» يستخدمها آلاف المقاتلين، فهناك «أبو محمد» في كل مجموعة من الجيش الحر، وكذلك «أبو عبدو». بعضهم اتخذ أسماء تاريخية من الصعب أن تتكرر، مثل «أبو رواحة» و «أبو طلحة». كنت أفكر بالأسماء عندما كنت على الطريق الطويل إلى المدينة، فقد زودني الناشطون بعشرات الأسماء من قادة الكتائب والألوية ودونتها في هاتفي الجوال، لكن الأمور تغيرت بمجرد وصولي إلى المدينة: «هنا حلب».

الحرب العالمية الثانية

مررنا بسرعة جنونية من «جسر الحج» جنوب المدينة لتفادي قناصة النظام الذين يرصدون الطريق من مكان ما. ترجّلنا من الشاحنة لنتجه إلى حي بستان القصر. كان لا بد لي من الالتفات قبل دخولي في الشوارع الضيقة المؤدية إلى هناك، فدوي القذيفة التي سقطت على حي الإذاعة المقابل لنا أرعبني.. كانت القذيفة الأولى التي أعاينها عن قرب في حياتي. عدت أمتاراً لأطل على المشهد وأملأ عيني بها، فطالما أن القذائف تسقط رغماً عنا، إذاً لا مانع من أن نوجه إليها الكاميرا.. كان لدي خوف من أن أفقد ذلك الشعور التصالحي مع القصف، أو ما نسميه بـ»الألفة»، وهو ما حدث مع سقوط القذيفة الثانية بعد أقل من دقيقة. حينها فقط نلت الاعتراف الذاتي بأني واحد من سكان هذه المدينة.

يحترم الناس في شوارع حلب الصحافيين. فنظرات إعجابهم بي وأنا أحمل حقيبة ظهر صغيرة مع كاميرتين، واحدة في يدي والأخرى معلقة على كتفي، زادتني شجاعة. كانوا يدركون هوسنا كإعلاميين بملاحقة الصواريخ والقذائف التي تنهال على مدينتهم، ولم يتردد بعض الشبان في تهجئة كلمات باللغة الانكليزية فهمت منها أنه نوع من الترحيب بـ»الأجنبي» الذي هو أنا!

حركة النزوح في بستان القصر هي أقل من 50 في المئة، ما زالت الأبنية السكنية تعج بالقاطنين من أهلها، وهي حاضنة كبيرة للجيش الحر. من هناك، يمكن مشاهدة مقاطع حية من الحرب العالمية الثانية. وخاصة مشاهد الطائرات الحربية والمدفعية التي كانت تقصف مدن لندن وبرلين وطوكيو. كثافة ما يتساقط على حي الإذاعة من القنابل الضخمة لا يماثله سوى ما كنا نشاهده عبر التلفاز عن الحرب العالمية الثانية، حيث العبثية وغياب التخطيط والدقة في القصف هي سمة الحروب التي يسقط فيها عدد كبير من الضحايا غير المنخرطين في الصراع. ما يجري أشبه بغزو فاشل من النظام للمدينة وليست حرباً يتقاتل فيها طرفان.

نصبت حامل الكاميرا في شارع مطل مباشرة على الأبنية التي يتم قصفها على بعد كيلومتر واحد. الرصاص الطائش الذي ضرب الجدار بقربي استدعى تنبيهاً من القائد الميداني بأن ألتزم الالتصاق بالجدار وعدم الوقوف في منطقة مكشوفة. الاقتراب من حي الاذاعة هو تذكرة سفر إلى الموت، لكن أحياناً يتأخر المسافر عن موعد رحلته، وهذه هي نسبة النجاة للصحافي الذي يدخل إلى هذا الحي. المخرج تامر العوّام دخلها بعد عودتي من حلب بثلاثة أيام وغادر من هناك!

تماهي الأيديولوجيات

ولكي لا تبدو هناك مبالغة عن حي «الإذاعة» الواقع في جنوب غرب المدينة، على تلة مرتفعة عن محيطها، فإن سيطرة النظام عليها سيجعل تلقائياً أحياء الزبدية والمشهد وبستان القصر والفردوس والسكري هدفاً في غاية السهولة للمدافع والدبابات، أي أن انسحاب الجيش الحر من كل هذه الأحياء سيكون الاحتمال الأكبر بحسب قيادي منشق. لذلك فإن أشرس الكتائب ترابط على خط جبهة الإذاعة، وهؤلاء بينهم مقاتلون يحملون فكراً جهادياً، لكن الخطوط الأيديولوجية تكاد تختفي هنا بين من يواظب على الصلاة والذي لا يعرف شيئاً من الفرائض الدينية. الأيديولوجيا لا وزن أو مكان لها في حلب حتى الآن، فقط خارج الحدود هناك من يجعل الحديث عن موضوع الجهاديين أولوية من بين كل ما يجري.

قبل جولاتي على معظم خطوط الجبهة في أحياء حلب، كنت محرجاً مما يمكن أن أراه وما سأنقله مما قد أراه من مقاتلي تنظيم «القاعدة» وغيرهم. كان لدي هاجس مؤرق بأن لا أكذب، وأن يكون كذبي في حده الأدنى إذا اضطررت لذلك. لم أعرف معنى «انشراح الصدر» إلا في اليوم الثاني، حيث التقيت ثلاثة مقاتلين شباب جاؤوا من ليبيا، وقبلها 34 مقاتلاً عربياً من «جبهة النصرة»، التقيت أيضاً بشاب مغربي جاء لوحده وانضم إلى كتيبة للجيش الحر.

هؤلاء جميعاً جاؤوا بدافع الجهاد، وقد يبدو الأمر مفاجئاً للبعض، لكن حجم تواجدهم ونفوذهم يجعل منهم مجرد أرقام في الجيش الحر الذي يزيد عدد مقاتليه في مدينة حلب من دون الريف، عن عشرة آلاف مقاتل. الليبيون الذين يقاتلون في حلب هم جنود في الجيش الحر، ينتظرون الأوامر ليبدؤوا الهجوم أو الانسحاب. ما يميز هؤلاء المقاتلين الذين تبدو مهمة البحث عنهم كالبحث عن إبرة بين «كومة قش» هو اختيارهم للصفوف الأمامية للقتال، ويرفضون مثلاً التواجد في حي يسوده الهدوء منذ بضعة أيام، لأنهم يشعرون بـ»الملل». إذا لم يتحدث أحد هؤلاء المقاتلين عن نفسه فلا يمكن التعرف على توجهاتهم الأيديولوجية. وبإيجاز يمكن القول: هناك بضع عشرات من المقاتلين يحملون فكر القاعدة.. لكن لا وجود لـ»تنظيم القاعدة».. المشكلة أن وسائل إعلام تبحث عن هؤلاء، وعندما تجد أحدهم تصبح لديهم قصة خبرية مثيرة، ينالون عليها الثناء من القائمين على هذه المؤسسات الاعلامية.

الجهادي هو جندي

يوجه ضابط منشق نداء إلى مجموعة من المقاتلين العرب في الغرفة، وعددهم ثمانية، ويأمرهم بالتوجه فوراً إلى حي العامرية حيث كان يجري اشتباك مع القوات الموالية للنظام، يحمل الجميع أسلحتهم على عجل وينطلقون مسرعين في «بيك أب». رافقتهم إلى هناك: كان نحو 60 مقاتلاً سورياً يتواجدون في نقطة تماس العامرية، وهذه الإضافة من العرب لم تغيّر من المعادلة، بقي أبو الليث قائد المقاتلين هناك، وأمر اثنين من المقاتلين العرب باعتلاء مبنى في الشارع لمحاولة كشف مكان القناص في الطرف المقابل. ما شاهدته لم يضطرني لـ»اللف والدوران»، فأعداد الجهاديين العرب قليلة جداً، ولا قرار مستقلاً لهم، يخدمون كجنود في صفوف الجيش الحر ولا مجال للحديث عن «دولة الخلافة». في الظروف الحالية كل مقاتل، علماني من «شّريبة الكأس« أو مدني غير واضح في ملامح أيديولوجيته أو جهادي، هم مجرد جنود، وظيفتهم الوحيدة هي إطلاق النار على قوات النظام التي تحاول إبادة «الجميع».

إلى متى ستبقى الأمور تحت السيطرة؟

بحسب أحد القادة الميدانيين، وهو ضابط منشق برتبة ملازم، فإن السيطرة على الجهاديين مضمونة حتى الربيع المقبل، وإذا لم يتغير شيء حتى ذلك الحين فإنهم قد يتقدمون أكثر ويزداد عددهم بحيث يصبحون قادة ميدانيين. ولدى سؤاله عما قصده بقوله :»إذا لم يتغير شيء»، قال: «السلاح..ينقصنا السلاح والذخيرة.. نحتاج إلى مواجهة الطيران.. لو أن هناك ضوء أخضر من الدول التي تدّعي دعم الثورة بوصول صواريخ ستينغر أو مضادات متطورة للطيران الحربي فإن ما سيأتي من ليبيا وحدها سيقلب عالي المعادلة سافلها».

مساعد لهذا الضابط أوضح أمراً مهماً للغاية، فالجيش الحر يسيطر على خطوط الامداد من تركيا إلى حلب، وكذلك على الطرق الرئيسية، لذلك لا خوف من فقدان السيطرة على الموقف، لكن في حال استمرار التآمر من «حلفائنا» على الثورة فإنه ليس مستحيلاً أن يتمكن الجهاديون من إدخال شحنات متطورة من الأسلحة إلى البلاد، حينها قد تتنافس الكتائب على إرضائهم لينالوا حصة من الذخيرة والسلاح المتطور.

هذه ليست مناظرة ثقافية

الجهاديون الذين لا يتجاوز عددهم العشرات في كل جبهة يدركون هذا الأمر، ويبدو أنهم يتفقون تماماً مع رؤية القائد الميداني حول إمكانية تغير المعادلة، بل يراهنون على ذلك. «الناتو خيّب امل السوريين..وبات عليهم الاعتماد على قواهم الذاتية..ومن هنا ستنبثق الشريعة التي هي فطرة المؤمن». هذا كلام سمعته، ولا وزن له حتى الآن، لكن هؤلاء لهم رؤيتهم واستراتيجيتهم. وأهم ما لاحظته هو مراهنتهم على عدم تلقي الجيش الحر للدعم العسكري من الخارج، ونشوء طبقة سورية جهادية، إضافة إلى استمرار الطبقة المتعلمة والمثقفة في النأي بنفسها عن «الميدان». ولكي لا أتحمل ذنباً في إخفاء ما قد يجري مستقبلاً، أقول إن خارطة الطريق لبناء دولة مدنية في سوريا واضحة، وخارطة الطريق لمحاولة بناء دولة دينية أيضاً واضحة، والاحتجاج من على صفحات «الفيسبوك» لا يغير شيئاً. البعض بدأ الغرور يقوده إلى القول: «لقد حذرت من هذا الوضع قبل 13 شهراً.. لكن احداً لم يصغِ». ونسي أنه هو نفسه لا يصغي إلا إلى ما يكتبه. نسي البعض أن هذه حرب وليست مناظرة ثقافية..غسان ياسين هو ناشط مدني وسجين سياسي سابق، ورأيت كم يحظى بالاحترام من قادة الجيش الحر، لأنه يتواجد هناك بين حين وآخر. مجرد الحضور يخلق فارقاً مهماً.

مانيفستو الثورة!

ناشط إعلامي في حي الكلاسة تحدث بما يشبه «مانيفستو» للثورة رغم سنه الذي لا يتجاوز 25 عاماً، قال لي: «أنت كردي وذهبت إلى كل الجبهات الساخنة، ثق تماماً أن كل من عرف أنك كردي وتحدث بالسوء سابقاً عن الأكراد فإنه يشعر بالخجل من نفسه. الأمر ذاته ينطبق على الجهاديين وأصحاب الفكر المدني..الجائزة التي نقدمها للجهاديين يومياً أننا نجعل المقاتلين يتشابهون مع بعضهم البعض. عندما لا يجدون دعاة الدولة المدنية بالقرب منهم فلن يجدوا حرجاً في الدعوة إلى دولة الخلافة..وعندما لا يجدون غير العرب فإنه ليس مفاجئاً أن يطالبوا بـ»الجمهورية العربية السورية» على مستوى آخر.. لأننا تركنا الجبهة للذين يشبهون بعضهم البعض، ومن ثم نطالبهم بأن يساهموا في بناء دولة وفق مقاسنا ورؤيتنا..عندما تكون هناك مجموعة مقاتلة من 20 شخصاً، عشرة منهم جهاديون وعشرة علمانيون فإن هناك صيغة وسط ستنشأ داخل المجموعة، لأنهم سيكونون غير متشابهين.. حتى الآن الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات». ثغرة التشابه أدركه طلاب ومثقفون في حي بستان القصر، هؤلاء أسسوا «سرايا أمن الثورة»، وهي تشكيلات شبه مقاتلة مؤلفة من متعلمين وخريجي جامعات. ولا تتسع هذه السطور للتعريف بهم.

على خط الجبهة في حي العامرية، اندلع القتال. احتميت بجدار والتقطت بضعة صور لمقاتلين سوريين تتراوح اعمارهم بين 18 إلى 30 عاماً وهم يطلقون الرصاص باتجاه دبابة تتهيأ للقصف. تقصف الدبابة الجدار المقابل لي.. كان الغبار كثيفاً بحيث لم أر شيئاً سوى نار صغيرة..كان مقاتل يشعل سيجارته في ذلك التوقيت القاتل حيث كانت الدبابة تتهيأ لإطلاق القذيفة الثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى