سلامة كيلةصفحات الرأي

عن المسألة الطائفية/ سلامة كيلة

 

ككل المصطلحات، يعاني مصطلح الطائفية من سوء الفهم والتشوش، لهذا يختلط بالمنظور الطائفي، ويصبح مدخلا لرؤية طائفية مقابلة. فالطائفية تعني الانغلاق والتعصب، وهي في الدين تعني الانغلاق والتعصب لمنظومة دينية.

ولهذا، لا بد من التمييز بين الطائفة كوجود فئة معينة تحتكم إلى منظور ديني محدَّد متوارث تاريخيا، بغض النظر عن فاعليته، أو مدى التمسك به، وبين الطائفية التي تعني التعصب لذلك المنظور واعتبار أنه الحقيقة، ومن ثم رفض الآخر، والسعي لمحقه.

فالعادات والتقاليد الدينية لأي طائفة أو دين ليست منظورا دينيا، هي متوارث ديني ربما يجري التمسك الشكلي به، أو يجري التمسك بأساسياته العامة (العبادات)، هي أفكار وتصورات دينية تعممت في مرحلة معينة من التاريخ، وربما كانت بديلا عن أخرى، لكن في سياق الصراع الاجتماعي الذي كان قائما في الماضي.

ولقد أصبحت مع تطور الحياة، وتعقدها، وتلاشي فاعلية تلك الأفكار، أقرب إلى الموروث الشفوي، لكنها تعايشت في ما بينها، ولم تتفعل في شكل صراع إلا لسبب اقتصادي (تنازع على مناطق مثلا)، أو عبر تدخل خارجي كان يدفع لتحويلها إلى أيديولوجية تناحر. بالتالي، كان يستخدم الاختلاف لضرب التعايش، من قبل فئات وقوى لديها مصالح.

أما الطائفية، فهي تقوم على تأسيس “تماسك بنيوي” بين أفراد الطائفة من أجل فرض المنظور الديني على الذات وعلى الآخرين، بحيث يجري إظهار التميّز والاختلاف والأحقية، كما يجري تشويه الآخر، وبالتأكيد يجري استغلال الموروث من أجل ذلك. هنا يتحوّل التمايز والاختلاف إلى عداء.

وهذا “التماسك البنيوي” يقوم على موروث الطائفة، ويهدف إلى فرضه بوصفه سلطة سياسية بعد أن يكون قد رفعه إلى سلطة أيديولوجية، ولا يتحقق ذلك إلا بالشحن ضد الآخر، الذي هو الطائفة الأخرى أو الدين الآخر.

ويمكن أن نلمس شكلين لذلك: الأول يتعلق بتحويل المنظور الديني إلى أيديولوجية وتأسيس الطائفة على أساسها، وهنا يكون الصراع في داخل الطائفة أولا من أجل فرض “النقاء الديني”، والسلطة الواحدة التي تطبق المنظور الديني الخاص بالطائفة.

وهنا يمكن أن نورد جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية، وحركة أمل (بداية وجودها) وحزب الله وحزب الدعوة في العراق (وباقي المجموعات الطائفية)، وحزب القوات اللبنانية، والعديد من المجموعات الطائفية التي تشكلت على هذا الأساس، من مختلف الأديان والطوائف.

وفي هذا ليس من طائفة أكبر أو طائفة أصغر، لأن الأمر يتعلق بالمنظور ذاته، وبالتالي فإن كل تشكّل على أساس ديني يصبح تشكّلا طائفيا لا نستثني “الأغلبية” (السنة) أو “الأقليات” (الطوائف)، ولذا يمكن القول إن الطائفية هي التعلّق بما هو ماضوي يخص الدين، وتحويله إلى مطلق، وتوجيهه ضد الآخر.

أما الثاني، فيتعلق باستغلال تخلف وعي الشعب، ومحاولة اللعب على الاختلاف القائم على أساس ديني وطائفي، لدفع الطوائف لكي تتقاتل في ما بينها. هنا يجري استغلال مشاعر وموروث من أجل الصراع والتناحر، وتفكيك المجتمع.

وبهذا يدخل هؤلاء في حالة صراع طائفي رغم أنهم غير طائفيين بالمعنى المحدَّد للتو، بل لأن لديهم موروثا دينيا يجري التعامل معه بهذا القدر أو ذاك من الاهتمام، لكنه يشكّل المحدِّد لتمايز معيّن. في هذه المعادلة يمكن لقوة طائفية أن تعمل على ذلك، كما يحدث بالضرورة حين وجود قوى طائفية، وفق ما أشرنا من قبل.

وقد عملت القوى الاستعمارية على “التحريض الطائفي” والدفع نحو إشعال الصراع الطائفي، رغم أن القوى الاستعمارية ليست طائفية بعد أن باتت تؤسس لدول علمانية، وتعتبر الدين شأنا شخصيا.

وهنا نلمس أن صراعا طائفيا نشأ نتيجة هذا التحريض بين فئات مجتمعية ليست طائفية، لكن الشحن الذي يمكن أن يمارس وبعض التحريض والممارسة، يمكن أن يدفعا شعبا بسيطا لأن ينجرف في صراع طائفي، وهو بالضرورة ليس طائفيا، وتمسكه بالمنظور الديني شكلي إلى أبعد الحدود، ويمكن أن يعتمد الاستخدام على فئات منعزلة وتمتلك قدرا من التعصب الديني، مثل بعض المناطق المتخلفة والمهمشة الريفية بالأساس (جرود كسروان، ريف حلب، وما يمكن أن نجده في كل بلدان المنطقة).

بالتالي، سنميّز هنا بين الطائفي -أي الذي يمتلك أيديولوجية طائفية- وبين الذي ينجرف في لحظة إلى الصراع الطائفي نتيجة شحن الموروث في مواجهة الخطر الذي يمكن أن تشكله الطائفة الأخرى. الأول يعتمد على تماسك أيديولوجي وبنية مؤسسية، والثاني لا يمتلك غير الموروث في شكل مهلهل، لكن يمكن في ظرف معيّن شحنه. وهنا لا بد أن نرى أن هذا الشحن مؤقت، وخاضع للظرف القائم، وليس نتيجة تنظير أيديولوجي.

في الحالة الثانية يمكن تفكيك الشحن بتفكيك الظرف الذي أوجده، أما في الحالة الأولى فليس سوى الصراع مع تلك القوى التي تتأسس على أساس طائفي، الصراع الفكري من أجل تفكيك منطقها، وسحب قاعدتها التي تعتمد عليها من خلال الشحن الأيديولوجي.

ويمكن أن يكون الصراع أبعد من ذلك استنادا إلى فعل تلك القوى (في ما إذا قامت بعمل مسلح مثلا). هنا الصراع سياسي أيديولوجي (وربما مسلح)، حيث إن هذه القوى تمثل مصالح طبقية -مباشرة أو مضمرة- أو “ساكنة في اللاوعي”، أو موظفة لخدمة مصالح طبقية، فكل هذه القوى تنطلق من “الحرية الاقتصادية” بغض النظر عن مسمياتها الدينية- وتدافع عن فئات اجتماعية تمتلك الثروة، وتسعى إلى فرض مصالح هذه الفئات.

فحزب الكتائب اللبناني -مثلا- ليس طائفيا، بل يمثّل مصالح الرأسمال “المسيحي”، كما تشكل في التكوين اللبناني الذي قام على أساس تكريس سلطة الرأسمالية “المسيحية” في دولة “مسيحية” الطابع، لكن الحزب شحن المسيحيين طائفيا للدفاع عن سلطة هذا الرأسمال، والقوات اللبنانية تشكلت على أساس طائفي لدعم الرأسمال المسيحي كذلك.

أما حركة أمل التي انطلقت من دفاعها عن “المحرومين” (الكلمة التي كانت تعني -وفقه- الشيعة)، فقد هدفت إلى تحسين وضع الرأسمال الشيعي في الدولة اللبنانية. وحزب الله تشكل على أساس طائفي وكجزء من ولاية الفقيه، ورغم أنه أخذ كل “مجده” على أساس الصراع ضد الكيان الصهيوني، وتحرير الجنوب اللبناني، فقد خدم تحسين وضع الرأسمال الشيعي في الدولة، ولم يحسّن وضع المحرومين. وجماعة الإخوان المسلمين تمثّل فئات رأسمالية تقليدية (تجار بازار)، وقد سعت لأن يسيطر هؤلاء على الاقتصاد بعد سيطرتهم على السلطة في مصر.

بالتالي، فإن الصراع مع هؤلاء هو صراع طبقي، كونهم جزءا من التكوين الرأسمالي الرث المسيطر، أو الذي يسعى إلى السيطرة. والأيديولوجية الدينية هنا هي واجهة ذلك، والانغلاق والتعصب هما أساس تكتل الطائفة من أجل تشكيل قوة قادرة على الفرض. وهي هنا تشحن الفئات الشعبية من أجل تشكيل هذه القوة، فتستخدمها لخدمة مصالح مناقضة لها، على الضد من مصالحها.

هناك -إذن- منظور طائفي يهدف إلى خدمة مصالح معينة، أو حتى استرجاع أوهام ماضوية (السلفيون مثلا، ومنهم “الجهاديون”)، وهناك طوائف تشحن في لحظة نتيجة وضعها المتخلف من حيث الوعي (ككل الشعب)، ووضعها في ظرف يدفعها إلى ذلك (التهديد بالخطر أو الخوف من الخطر). وعدم فهم هذا الفارق يفتح على “تعامل طائفي”، حيث يجري التعامل مع الطائفة وكأنها هي كلها متماسكة أيديولوجيا وبنيويا في إطار طائفي.

ولذا، فإن أساس النظر هنا مهم، أي هل المنظور الذي ننطلق منه في فهم الظاهرة هو منظور طائفي أو هو منظور سسيولوجي؟ المنظور الطائفي يفرض أن تصبح الطائفة طائفية لأن هناك قوة طائفية تتحدث باسمها، أما المنظور السسيولوجي فهو يرى التكوينات الاجتماعية قبل أن يلمس وعيها والدوافع التي تحركها. لهذا نجد أن المنظور الطائفي يعمم كل ميل طائفي لدى قوة على الطائفة، ولا يميّز بين الطائفة والأيديولوجية التي تصبح هي أساس نشاط القوة الطائفية، فقط نتيجة أن هذه الأخيرة تعتمد على ما يُربط تاريخيا بالطائفة من منظورات هي تقاليد وعادات أكثر منها دين.

إن كل منظور يرى الطائفة طائفية هو منظور طائفي بالضرورة، وكل منظور يسارع إلى التعميم الطائفي هو منظور طائفي أيضا، وإن كل عدم تمييز بين “البنية الطائفية” التي تستند إلى تطبيق أيديولوجية دينية أو تخص طائفة، وبين الدين والطائفة هو منظور طائفي، حيث يرى في الواقع ما هو مخزّن في الوعي، ويؤسس فهم الواقع على التقسيم الطائفي القائم في الواقع مع إعطائه حده المتطرف.

هنا المنظور الذاتي هو الذي يحكم فهم الواقع وليس المنظور الموضوعي، الذي يحتكم لمنظور سسيولوجي، وما دامت الذات طائفية سترى في الواقع بنى طائفية، فتنحاز لطائفتها ضد الطوائف الأخرى، لتعود فتضخم من طائفية الآخر كي تدافع عن ذاتها على اعتبار أن الواقع هو الذي يفرض ذلك وليس لأن الذات طائفية.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى