صفحات مميزة

عن المسألة الكردية في سورية –مقالات مختارة-

الكرد والمسألة السورية والبديل الديمقراطي المنشود/ ميشيل كيلو

قبل اعتقال أجهزة الأمن التركية عبد الله أوجلان، في العام 1999، لم يكن هناك عربي أو كردي واحد يجهل أن هذا الرجل وحزبه حليفان مقربان من نظام الاستبداد الطائفي القائم في دمشق، وأنه يقدم لهما دعماً سياسياً وعسكرياً ومادياً متنوعاً، ويخصهما بوظيفة تنفيذية في استراتيجيته العامة، قال جميل الأسد، شقيق حافظ الأسد وصديق أوجلان، إن هدفها دعم ثورة حزب الأخير المسلحة في تركيا، لأن هدفها إقامة دولة كردية، تضم عشرين مليون علوي سيضافون إلى أربعة ملايين يحكمون سورية، وسيشكلون كياناً ضخماً أسماه “الشعب العلوي” إلى أغلبية ديمغرافية، ليس فقط في سورية، بل كذلك على مستوى الإقليم، ما سيغيّر، بصورة غير مسبوقة، علاقات القوى داخل العالم العربي وحوله، وسيعزّز قبضة العلوية الأسدية عليهما، ويجعل نظامها السوري/ التركي منيعاً، يستحيل القضاء عليه، أو شطبه من معادلات المنطقة، خصوصاً إن استمر تفاهمه مع إسرائيل.

ويعلم كل كردي وعربي، عاش في منطقة عربية، أو كردية، في أي مكان من سورية، أن حزب أوجلان كان قيمة أمنية مضافة إلى مخابرات الأسد، وأنه تعاون معها ضد الكرد والعرب، واحتل موقعاً خاصاً في مؤسسات سلطتها التي تبنته، وأطلقت يده في المناطق الكردية داخل سورية، يحكمها كما يشاء، حتى صار من الصعب تعيين الحدود الفاصلة بين المخابرات الأسدية وحزب أوجلان (العمال الكردستاني).

“يعلم كل كردي وعربي، عاش في منطقة عربية، أو كردية، في أي مكان من سورية، أن حزب أوجلان كان قيمة أمنية مضافة إلى مخابرات الأسد، وأنه تعاون معها ضد الكرد والعرب”

لم تتغير هذه العلاقة بعد الثورة، بل شهدت تنويعاً وطّدها، وجعل الحزب ينشط في كل مكان، وكأنه أداة من أدوات حزب البعث التي أحلته محل سلطته، وأسندت إليه مهامها، حيثما تراجعت أمام الثورة، فلا عجب أن يلعب الحزب دوراً خطيراً في قمع خصوم النظام من الثائرين الكرد، واغتيالهم واعتقالهم ومطاردتهم وتهجيرهم، وأن يقوم جيش النظام بتسليمه أسلحة ثقيلة ومتوسطة، أمسك بواسطتها بمناطق كثيرة أول الأمر. وفي مرحلة تالية، وضع الحزب يده في أيدي الأميركيين، وسخر قدراته لخدمة “حربهم ضد الإرهاب” التي سرعان ما حولها إلى حرب ضد العرب، استهدفت أي عربي أو كردي لا يدين له بالولاء، يسكن أو يجاور مناطق واسعة من سورية ادعى أنها “غرب كردستان”. وبالتالي، أرض كردية مستعمرة، يحق إقامة دولة كردية مستقلة عليها، بعد تحريرها من دواعشها العرب، بمن في ذلك من قاتلوا معه من الجيش الحر لتحرير مدينة عين العرب (كوباني) من “داعش”. بذلك، وجد من تحرّروا من النظام، وقاتلوا “داعش” قبل الحزب بأكثر من سنة ونصف السنة، وكانوا مقتولين أو مهجرين أو ممنوعين من العودة إلى بيوتهم، أو معتقلين أو مختطفين، كما حدث مثل هذا لعشرات الآف من كرد سورية، وقد فرّوا من استبدادية الحزب القومجية/ الأسدية التي ألغت أحزابهم التاريخية، ولاحقتها واعتقلت قادتها ورموزها، واستهدفت، بصورةٍ خاصة، من كرّس منهم حياته للدفاع عن حقوق الكرد السوريين الديمقراطية والقومية، وشارك في حراك الثورة السلمي/ المدني، واعتبر نفسه بحق من مؤسسيه، وشكل تنسيقياتٍ، وقدّم الشهداء والجرحى، قبل أن يتسلط الحزب، ويا لسخرية الأقدار، ما يسميها “قوات حماية الشعب” عليهم، ويعاقبهم بقسوةٍ مخابراتيةٍ على تمردهم ضد الأسد ونظامه.

وقد استغل حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادا) نجاح “داعش” في إخراج الجيش الحر من شرق وشمال شرق سورية، ودعم أميركا العسكري والسياسي المكثف له، فوضع يده على المنطقة واعتبرها “كردستانية”، وأقام فيها حكماً انفرد بقيادته وزوّده بأجهزة سياسية/ أمنية معادية لسورية وانفصالية، ولم يمر طويل وقتٍ، حتى شرع يجتث العناصر والقوى الديمقراطية الناشطة في مناطقه، كردية كانت أم عربية، بحجة أن العرب “دواعش”، والكرد خونة وعملاء لهم يستحقون القتل. لذلك، كتب أسماء بعض قادتهم على جدران بيوت المدن والقرى، مطالبا “الشعب” بقتلهم! يفعل الحزب هذا كله، وسيفعل مستقبلا ما هو أشد فظاعة منه بكثير، للقضاء على مشروع ديمقراطي كردي، عمره أكثر من نصف قرن، ناضل وضحى من أجله الجمهور الكردي الذي أراد دوماً نيل حقوقه القومية والديمقراطية في إطار ديمقراطي، يمثله اليوم “المجلس الوطني الكردي”، وأحزاب وشخصيات مناضلة ورفيعة المقام، لها باع طويل في النضال ضد الاستبداد، تعتقد، على عكس حزب “البايادا” الذي تحالف دوماً مع نظام أسدي مجرم، قمع الكرد قبل العرب وأذاقهم الأمرين، أن وحدة القوى الديمقراطية العربية/ الكردية ضرورية لإسقاط الأسد ونظامه، في مرحلة أولى، ولنيل حقوقهم كاملةً في مرحلة ما بعد الاستبداد، بدعم من جميع الأطياف الديمقراطية العرب التي سيشاركونها بناء النظام الجديد، بصفتهم طرفاً يستحيل تخطيه أو تجاوز حقوقه، السياسية والقومية، لأن تخطيه سيدمر الثورة، وسيحول دون تحقيق وعودها، للعرب قبل الكرد. بذلك، سيقدّم الشعب السوري لمكونه الكردي حقوقه على طبقٍ من ذهب، اعترافا منه بدوره في القضاء على الاستبداد وإقامة الديمقراطية، وسينال الكرد، بنضالهم السياسي وتضحياتهم، ما لن ينالوه بسلاح حزبٍ يضطهدهم وإخوتهم العرب، ويدمر قضاياهم المشتركة، ويسهم، بالخروح على أولويات الثورة، ومناهضة أهدافها، في بقاء النظام القاتل، متسلطاً عليهم، ويهدّد بجرّهم من أجواء الإخاء الذي أوجدتهم شراكتهم في الثورة إلى أجواء عداء مدمر، لا مصلحة لكردي أو عربي فيه. لذلك، لا مفر من إفشال خطط “البايادا” اليوم قبل الغد، لكيلا يصير من الصعوبة بمكان وقف تدهور علاقاتهم الأخوية التي يُرجّح أن تشهد تجدداً وتعمقاً غير مسبوقين في العصر الديمقراطي المقبل الذي صنعاه معاً.

“يؤيد الديمقراطيون السوريون حقوق الكرد القومية، من دون تحفظ، لكنهم يعتقدون أنه يستحيل الحصول عليها، بالتعاون مع نظام الاستبداد، أو في ظله، أو ضمن سياق إقليمي، يتعين بصراعات مصالح دولية”

يستميت “البايادا” في سعيه إلى تدمير المشروع الديمقراطي الكردي المنافس، وللقضاء على حملته القياديين والشعبيين الذين يطاردهم بلا رحمة، ويسفك دماءهم، ويحرّض على قتلهم بواسطة أجهزة محترفة، درّبتها مخابرات الأسد، وتقوم اليوم بممارساتٍ مطابقةٍ تمام المطابقة لما تعلمته. يضع الحزب قومجيته في مواجهة الديمقراطية، في طبعتها العربية والكردية الموحدة، ويزعم أنه يضمن اليوم للكرد دولة خاصة بهم، في أرضٍ كردستانية خاصة بهم، كانت على مر التاريخ ملكاً لهم، ويتهم كل من لا يسير وراء نهجه هذا من الطيف السياسي الكردي بالخيانة، والتخلي عن حقوق شعبٍ صارت في متناول اليد، انتزعها من غاصبيها العرب، ولن يتسامح، بعد الآن، مع أي كردي يلعب لعبة أعداء الكرد التاريخيين الذين سيغدرون بهم، في حال سقط الأسد، بينما يقدم”البايادا” لهم أمراً واقعاً، لا ولن يستطيع أحد تغييره، علماً أنه لا يمثل عدواناً على العرب وبقية السوريين، ولا يمس بحقوقهم، ما دام يقيم دولة كردية على أرضٍ غير سورية، لن تكون هناك مشكلات إذا لم يعترض العرب عليها، في حين يحقق قيامها حقوقاً يفترض بهم، إن كانوا ديمقراطيين حقاً، تأييدها.

يؤيد الديمقراطيون السوريون حقوق الكرد القومية، من دون تحفظ، لكنهم يعتقدون أنه يستحيل الحصول عليها، بالتعاون مع نظام الاستبداد، أو في ظله، أو ضمن سياق إقليمي، يتعين بصراعات مصالح دولية، سرعان ما تتخلى عنه، هذه المرة أيضاً، مثلما تخلت عنه بعد اتفاقية سان ريمو، فهي ليست اليوم أيضاً، ولن تكون غداً في مصلحة الكرد أو مؤيده لهم، فضلا عن أنه يستحيل الحصول عليها كحقوق، يتم انتزاعها بالقوة من العرب والترك والإيرانيين، ومن الأفضل والأصح أن يضع الكرد أيديهم في أيدي بقية السوريين، ويسهموا معهم في إسقاط الأسد وإقامة نظام ديمقراطي، يعترف بحقوقهم ويعطيهم إياها كاملة غير منقوصة، لأنهم نالوها بنضالهم المخلص وتضحايتهم النبيلة، ولأن الديمقراطية ستفشل إن تنكرت لها أو قيدتها.

هذان هما الخياران المطروحان اليوم على الكرد وسورية. خيار انفصالي مصيره الفشل، ينضم إليه عن وعي أو لا وعي كل عضو “مجلس وطني كردي”، يتحدث عنه باعتباره خيار الكرد، ويتهجم بلغةٍ قومجيةٍ سخيفةٍ، قدر ما هي ممجوجة على أي عربي يرفضه، ويحذر من نتائجه المرعبة، ويعتبره مشروعاً انفصالياً، واقتلاعياً يشبه المشروع الصهيوني، متهماً إياه بالشوفينية والبعثية، حتى إن كان من الذين ناضلوا ضد “البعث” حتى قبل أن يولد المتهم. إنه مشروع يبقي على الاستبداد، ويتعاون معه، ويمثل جزءاً من منظومته، يرفض الديمقراطية خياراً سورياً عاماً، ويقوّضها عبر سياسات قومجية عدوانية ومسلحة، لا مكان فيها لكرد أو سوريين من غير أتباعه. وخيار آخر، ديمقراطي، أولويته تعاون جميع القوى المعادية للاستبداد، من أجل رحيل الأسد وإسقاط نظامه، وبناء سورية ديمقراطية، ينال الكرد، وغيرهم، حقوقهم القومية فيها، باعتبارها جزءاً من الحقوق المشروعة والقانونية لجميع مكونات الجماعة الوطنية السورية التي يجب أن تتوافق منذ اليوم على شكل الدولة المقبلة ونظامها السياسي الذي لا بد أن يضمن حقوق القوميات وحقوق المواطنة لكل سوري إلى أية جنسية أو اتنية أو مذهب أو طبقة أو دين أو فئة انتمى، وستكفل العيش بسلام وحرية لخلق الله جميعاً، في وطن ينعم أبناؤه بالعدالة والمساواة والكرامة.

“حزب البايادا مصمم على تقسيم سورية. لذا، من الضروري جداً أن يلعب عموم الكرد دورهم الحاسم في منعه من تحقيق ما يريد”

هل سيتفاعل الوضع الديمقراطي بإيجابية مع ما قد يطالب به كرد سورية من حقوق، بما في ذلك حقهم في الفيدرالية؟ أعتقد أن عليه الموافقة على ذلك، وأتعهد أن أحاول إقناع بقية السوريين بأنه لا يمس بمصالح بلادنا العليا، وربما كان أفضل الخيارات لها، لأنه يتم في إطار الديمقراطية الجامع، ولا يهدّد وحدة الدولة والمجتمع السوريين، ويريح الجميع.

ويدعي حزب “البايادا” أن أغلبية الشعب الكردي تؤيد مشروعه، وتدين المشروع الآخر، الديمقراطي، وأن إفلات السانحة الحالية يعني التخلي عن حقٍّ ثابتٍ وتاريخيٍّ لشعب مظلوم، يستعيد اليوم جزءاً من “كردستان الكبرى” التي يؤسسها بالتدريج، خطوة تلو خطوة، بعد أن استحال تشكيلها بخطوة واحدةٍ بعد الحرب العالمية الأولى، بسبب نزعات الترك والإيرانيين القومية المتطرفة، وما رافق تشكل دول المنطقة الراهنة من تخلٍّ دولي عن مشروع الدولة الكردية الموحدة التي كانت ستضم أراضيَ عراقية وتركية وإيرانية (ليس بينها أرض سورية). أخيراً، وأمام الضغوط الشديدة التي يتعرّض لها حزب “البايادا”، يزعم قادته، من حين إلى آخر، أنهم لن يتخلوا عن المشروع الديمقراطي، أو ينجروا إلى الانفصال، لكن سلوكهم العملي، وما يثيرونه من عداء مقصود، ومبالغ به، تجاه العرب كـ”دواعش”، يجب القضاء عليهم، ويروجونه من أغاليط حول تاريخ الجزيرة، ويبادرون إلى اتخاذه من إجراءاتٍ في كل قريةٍ أو بلدةٍ يحتلونها. وفي مقدمها إعلانها كردية، وتغيير اسمها العربي، وتهجير سكانها، كلياً أو جزئياً، أو منع عودتهم إليها بالقوة، ونسف قرى عديدة فيها، ورفع علمهم الحزبي وحده في كل مكان، باعتباره العلم الشرعي الوحيد الذي له الاحترام رمزاً وطنياً/ سيادياً، وما يقومون به من عمليات تجنيد وتعبئة وتحريض للشبان الكرد على محتلي وطنهم وغاصبيه العرب، ومن تغيير للمناهج الدراسية “كي تتفق مع أفكار عبد الله أوجلان”، واختيار بعض أتباعهم من شيوخ العشائر العربية شركاء لهم في الحكم، يبرّرون بأدوارهم أكذوبة “الحكم المشترك والديمقراطي” الذي يمثل جميع “القوميات”، فضلا عن وضع دستور لما يسمونه “روج آفا”، كردستان سورية.

ومع أن مستقبل هذا الوهم ليس مضموناً ولن يكون، على الإطلاق، فإنه سيأخذ الكرد إلى عكس ما يعدهم به، إلى خلافٍ تستحيل تسويته خارج إطار الديمقراطية مع سورية وتركيا وإيران، سيجعل من المحال قيام دولة كردية في سورية. هذا إذا افترضنا أن لها مقومات النشوء والبقاء، وسيورّط كردها في حربٍ لا نهاية لها مع العرب والترك والإيرانيين، لن تكون لها أية نتيجة أخرى غير القضاء على المنجز الديمقراطي العظيم الذي يناضل الكرد والعرب، اليوم، من أجل بلوغه. وفي سبيل ما يمكن أن يقدمه لهم من تسوياتٍ تلبي مطالبهم القومية والشخصية التي ستكتسب طابعاً شرعياً وقاونياً، يحتمه دورهم في الصراع ضد الاستبداد وإقامة نظام حياة وحكم جديد، لهم فيه ما لغيرهم من حقوقٍ وواجباتٍ، كمواطنين يحميهم القانون، ويعطيهم حق إدارة شؤونهم بالطريقة التي يختارونها.

ليس هناك بدائل أخرى غير البديل القومجي الكارثي الذي اختاره حزب “البايادا”، ويتعارض أشد التعارض مع البديل الديمقراطي الذي يناضل جميع السوريين من أجل إقامته، والبديل الوطني الديمقراطي الذي اختاره الكرد، في أغلبيتهم الساحقة، ويشاركون اليوم في النضال من أجله، وسيتيح لهم كل ما هم بحاجه إليه للتعبير عن هويتهم القومية ووطنيتهم السورية، في إطار المساواة والعدالة وحكم القانون والمواطنة. لو كان حزب الاتحاد الديمقراطي حريصاً على الكرد، لضم جهوده إلى جهود التيار الثاني، الديمقراطي الذي أفنى معظم كوادره ومناضليه حياتهم في النضال ضد نظام الأسد الاستبدادي، بينما كان هو يتحالف معه، ويعمل في إطار أجهزته وخططه. لكن الحزب مصمم على تقسيم سورية. لذا، من الضروري جداً أن يلعب عموم الكرد دورهم الحاسم في منعه من تحقيق ما يريد، حفاظاً على سوريتهم، وعلى حياتهم وحياة إخوتهم السوريين، ولمنع تدمير وطنهم.

العربي الجديد

 

 

 

 

فيدرالية الكرد… خطأ القرار والتوقيت والأسلوب/ نادر جبلي

يمكن القول، بثقةٍ عالية، إن هاجس الدولة الكردية المستقلة، أو الإقليم المستقل على طريقة كردستان العراق، هو هاجس وطموح كل كردي سوري، كما يمكن القول، بالثقة نفسها، إن إعلان الفيدرالية، منتصف الشهر الماضي، في الرميلان من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وحفنة من القوى الديكورية، إنما يحظى بشعبية عامة لدى معظم الكرد، تفوق بأضعاف شعبية حزب الاتحاد الديمقراطي نفسه.

لن تدخل هذه المقالة في جدل حول الحقوق التاريخية للكرد في الأرض والوطن، فكاتب المقالة يسلم سلفاً بأن للكرد حقوقاً لا تنقص، ولا تزيد عن حقوق أي سوري آخر لمجرد وجودهم في هذا الوطن، ورغبتهم العيش فيه، ولو كان عمر ذلك الوجود عشر سنوات، وهي المدة الكافية للحصول على جنسية أية دولة، والكردي غير مضطر للمجادلة في حقوقه تلك.

ولا يجادل صاحب هذه السطور، أيضاً، في حق الكرد بأن يحلموا بدولتهم، وأن يسعوا إلى الخيارات التي تناسبهم، بما فيها الدولة المستقلة، فحق تقرير المصير للشعوب أصبح مكفولاً بموجب شرائع دولية، كما أن إرغام شعب على البقاء جبراً تحت صيغة حكم لا يقبلها هو بمثابة إغلاق جرح بالقيح والصديد الذي فيه، من دون معالجة وتعقيم.

ومن جانب آخر، ليست الفيدرالية سُبّة، والأنظمة الفيدرالية من أنجح الأنظمة في العالم، وقد يكون خيار الفيدرالية هو الأنسب في دولةٍ تتوفر على هذا التنوع العرقي والديني والثقافي، كسورية، وخصوصاً بعد أن وصلت مستويات الشك والريبة بين المكونات، وربما العداء بين بعضها، إلى مرحلةٍ متقدمة يصعب جبرها، بسبب الإدارة السامة لمسألة المكونات من نظام الطغمة، ثم بسبب الصراع العنيف والمديد الذي تسبب به النظام نفسه، لكن القضية لا تكمن في مبدأ الفيدرالية بحد ذاته، وإنما بالطريقة والظروف والتوقيت، فالوصول إلى فيدرالية ناجحة تكون حلاً ناجعاً لأزمة العلاقات بين السوريين، وتسمح للبلد بالبقاء موحداً وقابلاً للتقدم، هو عمل حساس ومعقد، وله شروطه وآلياته ومقدماته وبيئته المناسبة، والتي لا يمكن تجاوزها تحت طائلة إدخال الجميع في صراعاتٍ ومشكلاتٍ تستنزفهم إلى أجل غير مسمى.

من زاوية أبطال الفيدرالية، صالح مُسلم وموالوه، فإن اللحظة التاريخية الراهنة هي أفضل لحظةٍ يمكن اختيارها للبدء بتنفيذ مشروع الفيدرالية، الذي هو مقدمة لمشروع الكانتون المستقل على طريقة كردستان العراق، فهم يرون أن الكرد في أقوى حالاتهم، بحكم ضعف خصومهم المحليين والإقليميين، أو انشغالهم بقضاياهم المصيرية، وبحكم دعم دولي استثنائي لهم، أميركي وروسي خصوصاً، على خلفية خدماتهم المطلوبة في محاربة التنظيمات المتطرفة، وربما في الضغط على الأتراك، وبحكم دعم نظام الطغمة لهم وتأييده العملي خطوتهم (المعلن هو العكس)، لأنها تساهم في تأجيج الصراع وتعقيده، فتزيد من فرص النظام في البقاء، ولأنها، من جانب آخر، تفتح الباب أمام مشروع التقسيم الذي يتحرّج النظام فتحه، والذي أصبح مطلوباً له قبل غيره بعد أن تضاءلت فرص بقائه على رأس البلاد.

ومن زاوية المنطق والمصلحة، مصلحة كل السوريين، وفي مقدمتهم الكرد، يمكن القول إن

“اللحظة التاريخية الآن هي أسوأ لحظةٍ يمكن اختيارها لإعلان خطوات مصيرية حساسة، ذات أبعاد وطنية وإقليمية ودولية، كقضية الفيدرالية” اللحظة التاريخية الآن هي أسوأ لحظةٍ يمكن اختيارها لإعلان خطوات مصيرية حساسة، ذات أبعاد وطنية وإقليمية ودولية، كقضية الفيدرالية، فالبلد مفجوع بهذا الصراع الكارثي العنيف الدائر منذ سنوات، والشعب منهك إلى أقصى الحدود، والاستقطاب بين المكونات على أشده، ولا دولة ولا مؤسسات ولا أمن.. فكيف، والحال هذه، يمكن الحديث عن مشروع فيدرالية تتطلب استقراراً ونقاشاً وطنياً وتوافقات ومؤسسات شرعية ومظلة قانونية واستفتاءات…؟

يتناسى صالح مسلم وفريقه، وهم يتوسلون القوة والغلبة في فرض مشروعهم، أمرين رئيسين، الأول أن قوتهم وهمية، ولا أساس متين لها، لأنها تقوم على ضعف الآخرين وقلة حيلتهم من جانب، وعلى دعم دولي وفّرته معطيات الصراع من جانب آخر، وكلا الأمرين، ضعف الآخرين والدعم الدولي، استثنائي ومؤقت ومرتبط بظرف تاريخي، لا يلبث أن يتغير، فالمحيط العربي سيستعيد قوته عاجلاً أم آجلا، وتركيا ستستعيد قدرتها على الفعل، والتي تضرّرت بسبب توتر العلاقة مع الأميركان والحضور العسكري الروسي الكثيف والمباشر، وستعود لعلاقاتها الوطيدة مع الناتو والولايات المتحدة، لأنها حليف أكثر من استراتيجي لهما، وهي، بالتأكيد، لن تهادن مع كانتون كردي على حدودها الجنوبية، تحكمه نسخة من حزب العمال الكردستاني.. أما النظام القائم شكلاً بقوة الآخرين ودعمهم فهو زائل لا محالة، ولا توجد قوة في الأرض تستطيع إعادة تدويره.

أما الأمر المنسي الثاني فهو أن الولايات المتحدة لا تحتفظ بسجل مشرف في المحافظة على صداقاتها ودعم أصدقائها، ولا تتردد في التخلي عنهم بدم بارد، عندما تستدعي مصلحتها. ولدى المبدأ المحترم لديها أنه لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة. لذلك، يكون التعويل على بقاء دعمها خطأً فادحاً، وانتهاء دور الكرد في محاربة داعش قد يكون بداية النهاية لهذا الدعم، إذا لم تبرز مصلحة أخرى تستدعي تجديده.

سيكون على الكرد، إذن، حماية إقليمهم الناشئ الضعيف المشوّه المثقل بأمراض الولادة، وسط محيط معادٍ بكل معنى الكلمة، تركيا شمالاً والعرب غرباً وجنوباً. كما سيكون على الكرد حماية أنفسهم من أكثر من نصف سكان الإقليم من العرب، والذين سيتولى أعداء الخارج دعمهم بكل سرور. ولن يكون أمامهم، في هذه الحال، سوى الاستقواء بالخارج، بدول قوية قادرة، ولها مصالحها في المنطقة. وهذا يعني تنازلهم عن قرارهم الوطني المستقل لصالح لتلك الدول، والعيش تحت رحمتها وبشروطها، والخارج جاهز لهذا الاستثمار، طالما كانت لديه طموحات ومشاريع هيمنة في المنطقة تتطلب مساعدة عملاء من أهلها، ومشاريع الهيمنة موجودة، وهي واضحةٌ لدى كل من إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا على الأقل. وسرعان ما سيصبح الكانتون الكردي، وباقي الكانتونات التي قد تتبعه، أدوات بين أيدي دول متصارعة، الأمر الذي سيحول المنطقة إلى ميدانٍ لصراعاتٍ وحروبٍ لا نهاية لها.

عملياً، لا يمكن تخيل استمرار كانتون ضعيف في بيئة معادية، من دون الارتهان لدولة قوية تحميه.

لا ترسم الحدود بالدم على ما يقول مسعود البرزاني، ولا بالغلبة، فهي أسوأ طرق الرسم، خصوصاً في حالتنا السورية التي لا تشبه حالة العراق، لأن الأمر لا يتوقف فقط على الدماء التي ستسفك لرسم الحدود، بل على الدماء التي ستسفك مستقبلاً، ولسنين طويلة، لحماية تلك الحدود وحماية من بداخلها.

سيرتب رسم الحدود بالدم والغلبة على الجميع، كرداً وعرباً، ضريبة دم باهظة لا يعلم مقدارها ومداها إلا الله.

ما زالت الخطوة في بدايتها، وما زالت آثارها محدودة، والتراجع عنها ما زال ممكناً إذا أُعملت العقول وتفكّر الجميع بأبعاد المسألة وتداعياتها. لكن، يبدو أن كل شيء متاح في هذه الأيام إلا العقل والتفكير، فالأجواء مسمومة، والتوتر والاستقطاب على أشده بين السوريين، والعصبية والتعصب والعنصرية والتشنج وقلة العقل هي سيدة الموقف، والاتهامات تتطاير بين الأطراف، ولا تُسمع سوى أصوات التهديد والوعيد وطبول الحرب.

يتحمل القومجيون العرب بالتأكيد جزءاً كبيراً من المسؤولية عن هذا التصعيد والأجواء

“سيكون على الكرد، حماية إقليمهم الناشئ الضعيف المشوّه المثقل بأمراض الولادة، وسط محيط معادٍ بكل معنى الكلمة” المشحونة، مثلما يتحملون بالأساس جزءاً من المسؤولية عن إيصال الكرد إلى مرحلة الكفر بالوطن الواحد والعيش المشترك، فهم طالما نظروا إلى الكرد كأغيار، وتجاهلوا قضاياهم وحقوقهم، وتراهم الآن أكثر من يستنكر ويهاجم خطوتهم نحو الفيدرالية، وبخطاب متشنج عنصري أحمق، غير مدركين أنهم، بذلك، إنما يزيدون الأزمة تعقيداً، ويستدعون ردات فعل من الطبيعة نفسها، ويدفعون غلاة القومية الكردية إلى مواصلة مشروعهم الانفصالي بحماسٍ أكبر، ويجلبون لهم دعماً أكبر.

تكمن مشكلة الكرد، كما أراها، في أنهم يقيسون حياتهم ومستقبلهم في سورية من خلال معيار وحيد أوحد، هو تجربتهم السيئة مع نظام “البعث” وحكم الطغمة الأسدية خلال نصف القرن المنصرم، معتبرين أن تلك الفترة تعبر عن تاريخ سورية ومستقبلها، وأن شراكتهم مع العرب في وطن واحد ستأخذ دائماً المنحى نفسه، وستكون حقوقهم مهضومة على طول الخط، ومهما حصل من تغييرات. متجاهلين أنهم كانوا على قدم المساواة مع شركائهم في الوطن، قبل مجيء “البعث”، وأنه كان من بينهم الرؤساء والوزراء والقادة العسكريون، ومتجاهلين أن حكم الطغمة ظلَم الجميع، وأن الجميع يتطلع ويناضل للخلاص من هذا الكابوس وتصفية آثاره، والوصول إلى دولة الحريات والمواطنة المتساوية.

لم تكن مشكلة الكرد يوماً في العروبة ومع العرب، فالعروبة نفسها كانت أولى ضحايا حكم البعث ونظام الطغمة الذي استثمرها لتحقيق مصالحه وشرعَنة حكمه، وإخفاء عيوبه. المشكلة تكمن في الاستغلال السيئ للعروبة وليس فيها. كما أن مشكلتهم لم تكن يوماً مع مركزية الدولة، فالمركزية طريقة في إدارة الدولة، وهي معتَمدة في دول ديمقراطية مرموقة، وهي ليست صنواً للاستبداد. طبيعة النظام الحاكم في الدولة المركزية، ومدى احترامه مبادئ الدولة الوطنية الحديثة، وفي مقدمتها المواطنة والمساواة والعدالة والحرية وسيادة القانون والمشاركة، هي من يأخذ الدولة المركزية في هذا الاتجاه أو ذاك.

مشكلة الكرد، وكذلك العرب وكل السوريين، هي مع نظام طغمةٍ بوليسي مافيوي، احتل الدولة نصف قرن، قمع الجميع، وسرق الجميع، وأهان الجميع، وضرب الجميع بالجميع، وألغى السياسة والثقافة والتواصل والنقاش بين السوريين، وأوصلهم إلى ما هم عليه من شكٍّ وريبةٍ وتوجس وعداء بين بعضهم. ولا يصح تحميل العرب أو العلويين أو مركزية الدولة وزر ذلك.

وحل مشكلة الكرد والعرب وكل السوريين هو في قيام الدولة الوطنية الحديثة التي توفر البيئة الملائمة لقيام علاقاتٍ صحيةٍ وصحيحةٍ بين المكونات، عمادها العدالة والمساواة، ولإطلاق نقاش مسؤول في جميع القضايا الوطنية ومعالجتها، بما فيها قضايا تقرير المصير.

رحم الله مشعل التمو، المناضل السوري الكردي البارز، الذي دفع حياته ثمناً لتمسكه بالشعار الوطني الجامع “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”.

العربي الجديد

 

 

القضية الكردية بين الفيدرالية والكونفيدرالية وتقرير المصير/ خورشيد دلي

ازداد الجدل بشأن التطلعات الكردية، بعد أن قفزت القضية الكردية إلى واجهة الأحداث المتفجرة في المنطقة، على وقع تفاقم الأزمة السورية، ومن قبل انهيار نظام صدام حسين في العراق، وتحول إقليم كردستان العراق إلى ما يشبه دولةً، وإعلان أكراد سورية الفيدرالية، واشتداد الحرب بين تركيا وأكرادها. حتى وقت قريب، كانت برامج الأحزاب العربية، على اختلاف مشاربها القومية والإسلامية، تخلو من مقاربة سياسية واضحة للقضية الكردية، فغالباً ما كانت هذه الأحزاب تنطلق من مقاربة أخلاقية أو أيديولوجية، تقوم على النظر إلى الكرد بوصفهم مواطنين، وأن المطلوب هو مساواتهم بالعرب، من دون النظر إلى قضيتهم القومية، بوصفها قضية شعب مختلف قومياً، ويعيش في مناطقه التاريخية، ويطالب بالاعتراف بهويته، وبشكل من إشكال الحكم المحلي، تعبيراً عن إرادته وتحقيقاً لتطلعاته القومية.

يبدو المشهد الكردي في العراق وسورية وتركيا، اليوم، وكأنه أمام احتمالاتٍ مفتوحة على أشكال من الحكم الذاتي والفيدرالية والكونفيدرالية وحق تقرير المصير، فيما يبقى المشهد الكردي في إيران وكأنه راقد تحت النار، بسبب المركزية الشديدة للنظام، ولعل حضور هذه الخيارات مجتمعة في المشهد الكردي نابع من اختلاف الظروف التي يعيشها الكرد في الدول المذكورة ودرجة تطور القضية الكردية في هذا الجزء أو ذاك، وعلاقة ذلك بالمركز وجملة الظروف الإقليمية والدولية التي تحدّد، مجتمعة، العوامل السياسية التي تتحكم بواقع القضية الكردية ومسارها في كل جزء.

في معرض الجدل بشأن طرح الكرد هذه الخيارات، ثمة أسئلةٌ تتعلق بالأسس القانونية والدستورية للفيدرالية والكونفيدرالية وحق تقرير المصير، وهي أسس مهمة وجوهرية، للقبول بها، نظراً لأنها قضية تخص أكثر من طرف معني بالقضية المطروحة. فما هي الفيدرالية والكونفيدرالية وحق تقرير المصير؟ ثمة من يرى أن للفيدرالية أكثر من شكل، إذ أنها يمكن أن تكون اتحاداً بين كيانين أو أكثر، من خلال تخلي هذه الكيانات عن جزء من سيادتها وسلطاتها لصالح سلطةٍ عليا تحكم القضايا الأساسية، الجيش والسياسة الخارجية والموازنة العامة، فيما تترك الشؤون الأخرى للكيانات المنضوية للفيدرالية. يقوم الشكل الثاني للفيدرالية على تخلي السلطة المركزية عن جزء من صلاحياتها لصالح الإقاليم أو الكيانات المحلية. وغالباً في مثل هذه الحالة، تكون هناك مشكلات وإشكاليات قومية واجتماعية وسياسية ودينية. وهكذا، يتحول النظام من المركزي إلى اللامركزي على شكل مجموعةٍ من الكيانات والولايات، ينظم العلاقات بينها الدستور، كما هو الحال في دول فيدرالية عديدة، مع الإشارة إلى أن الصلاحيات المحلية قد تختلف من نظام فيدرالي إلى آخر.

تشكل الكونفيدرالية كنظام للحكم خياراً لإقامة اتحاد بين مجموعة من الدول، إذ إنها تقوم على

“ثمّة عتب كردي شديد على الأنظمة والأحزاب في الدول التي يوجدون فيها” إقامة شكل من أشكال الاتحاد بين دول مستقلة تماماً، وتبقى هذه الدول تحتفظ باستقلالها وسيادتها وقراراتها وجنسيتها، وتقوم فلسفة الكونفيدرالية على إقامة هيئاتٍ ومؤسساتٍ عليا تمثل الدول المنضوية في هذا الاتحاد الكونفيدرالي. مع أن الفيدرالية والكونفيدرالية هما من أشكال تقرير المصير، إلا أنه غالباً ما اتخذ حق تقرير المصير شكل الاستقلال أو الانفصال، وهو حقٌّ نص عليه ميثاق الأمم المتحدة ومعاهدات دولية عديدة والإعلان الدولي العالمي لتصفية الاستعمار، وقد اتخذ هذا الحق تاريخياً شرعيته من النضال القومي التحرري في أوروبا، على أساس الحق في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة.

تبدو هذه الخيارات مطروحة كردياً، تبعاً لاختلاف واقع القضية أو القضايا الكردية في العراق وسورية وتركيا وإيران، إذ ليس خافياً أن ثمة قناعة عامة لدى كرد العراق، وتحديداً قيادة إقليم كردستان، بأن الفيدرالية لم تعد مناسبة للتطلعات الكردية، خصوصاً في ظل تفاقم الخلافات بين أربيل وبغداد وسيطرة الإقليم على مناطق عديدة متنازع عليها، والبدء بتصدير النفط من دون موافقة بغداد، كما أن كرد سورية، وعلى الرغم من الانقسام السياسي في صفوفهم، فإن ثمة إجماعاً على الفيدرالية، بغض النظر عن مضمونها والأطراف المشاركة فيها. كذلك، فإن كرد تركيا طوروا تطلعاتهم في المطالبة بإقامة حكم ذاتي، فيما شعار إقامة الحكم الذاتي ترفعه الأحزاب الكردية في إيران.

في مطالبة الكرد بهذه الحقوق، ثمّة عتب كردي شديد على الأنظمة والأحزاب في الدول التي يوجدون فيها، مفاده بأن هذه الأنظمة والأحزاب تتنكّر لهذه الحقوق، ولا تعطي أهمية لحل قضيتهم سلمياً، وهو ما يدفعهم إلى التحرك بعيداً عن المركز، فيما ترى هذه الأنظمة والأحزاب أن التحركات الكردية هذه هي مقدمات للانفصال والتقسيم، وأنها لن تسمح بمثل هذا الأمر، لطالما تتعلق القضية بسيادة الدول ووحدة أراضيها. وبين التمسك الكردي بهذه التطلعات والمطالب ورفض الأنظمة لها، يبدو المشهد المقبل للقضية الكردية مزيداً من الحروب والعنف، خصوصاً وأن رفض الأنظمة التجاوب مع التطلعات الكردية يدفع أحزاب الحركة الكردية إلى الذهاب بعيداً في تحالفاتٍ خارجيةٍ، تزيد من حدة الحروب وعدم الاستقرار وخلط الأوراق. ليبقى السؤال الأساسي، هنا، كيف يمكن حل القضية أو القضايا الكردية، بعد أن بلغت هذا المستوى المتقدم من النضج العسكري والسياسي والقومي؟

العربي الجديد

 

 

العلاقة التركية – الكردية التي تتوسّطها واشنطن/ هوشنك أوسي

حاولت تركيا إيجاد موطئ قدم لها في العراق، خصوصاً في إقليم كردستان، عبر طرح مشروع إقامة منطقة أمنيّة عازلة، داخل أراضي كردستان، بحجّة مكافحة «الإرهاب» ومحاربة الكردستاني. لكن الأميركيين رفضوا الطلب التركي في شكلٍ قاطع. وبين 2004 وخريف 2007، خفّض الأتراك طلبهم إلى السماح بغزو كردستان العراق، بحجّة مكافحة الكردستاني، وأيضاً رفضت أميركا ذلك. وفي 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2007، زار أردوغان أميركا، والتقى بجورج بوش الإبن، وأبدى كل صنوف الندم والاعتذار لأميركا عن عدم تعاونه في حرب إسقاط صدّام حسين في 2003. وتحدّث الإعلام التركي والعالمي عن التوبيخ الذي تلقاه أردوغان من بوش. وكان كل ذلك فقط كي تسمح واشنطن لأنقرة بغزو كردستان.

بعد تلك «البهدلة» ومرور نحو 5 سنوات على إسقاط صدّام، سمح بوش لأردوغان بغزو كردستان، عبر التنسيق الأمني والعسكري مع واشنطن التي حددت لأنقرة «ساعة الصفر» في شباط (فبراير) 2008، وكان ذلك لمصلحة الكردستاني بالضدّ من قدرات الجيش التركي. ذلك أن كثافة الثلوج والظروف الجويّة الصعبة، والمناطق الجبليّة الوعرة في مناطق زاب وقنديل في ذلك التوقيت للعمليّة العسكريّة، كانت تماماً لمصلحة المقاتلين الأكراد. وغزت تركيا كردستان العراق في 19/2/2008، ومنيت بهزيمة كاسحة. وقتل 250 جندياً، ودمرت مدرّعات وأسقطت مروحيّة كان على متنها ضبّاط كبار. ووقع العديد من الجنود الأتراك أسرى. كل ذلك، خلال أسبوع.

وبأمر من وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، هرع الجيش التركي منسحباً في 29/2/2008. وكالعادة، أصدرت هيئة الأركان التركيّة بياناً قالت فيه إن الاجتياح العسكري حقق كل أهدافه، وقتل آلاف «الارهابيين» ونظّف المنطقة منهم. وتكتّم البيان على الخسائر الفادحة التي مني بها الاتراك. ماذا حدث عقب ذلك؟ اضطرت تركيا للدخول في مفاوضات سلام مع الكردستاني في أوسلو. وانتقلت هذه المفاوضات إلى سجن عبدالله أوجلان، ومقر قيادة الكردستاني في جبال قنديل! علاوة على ذلك، اضطرت تركيا للاعتراف بالفيدرالية الكرديّة العراقيّة، وفتحت قنصليّة تركيّة في أربيل عاصمة الإقليم، وصارت تستقبل رئيسه مسعود بارزاني استقبال القادة والملوك والرؤساء، بعد أن كان أردوغان يرفض مجالسته ويعتبره مجرّد «زعيم عشيرة»!.

من الأهميّة بمكان إعادة التذكير بهذه التواريخ والأحداث، لأن ذاكرة الرئيس التركي إمّا مثقوبة أو أن المحيطين به من رهط المستشارين السياسيين والأمنيين مصابون بثقب متفاقم في الذاكرة. ذلك أن تنظيم «داعش» الإرهابي حل محلّ نظام صدّام حسين، بحيث شكلت واشنطن تحالفاً دولياً ضد التنظيم، وطولبت أنقرة بالمشاركة فيه، إلاّ أنها لم تمانع وحسب، بل تورّطت في دعم التنظيم أيضاً، وفي دعم «النصرة» وجماعات تكفيريّة إرهابيّة أخرى، تقاتل على الأرض السوريّة، وتستخدمها أنقرة كأذرع عسكريّة في مواجهة الأكراد بالدرجة الأولى، وفي مواجهة النظام السوري ثانياً.

ومجدداً طالبت تركيا مراراً حلفاءها الغربيين بضرورة إقامة منطقة عازلة، تشرف عليها أنقرة، داخل الأراضي السورية، تارةً بحجة حماية اللاجئين والنازحين، وتارةً أخرى بحجّة توطينهم فيها، ومنع الهجرة إلى أوروبا، وتارةً ثالثة، بحجّة جعل هذه المنطقة قاعدة انطلاق العمل العسكري ضدّ نظام الأسد. رفضت أميركا وأوروبا الطلب التركي، بسبب عــدم الثقــة بــنوايا تركيا، بعد كل ذلك التورّط والضلوع في دعم التنظيمات التكفيريّة، لا سيما «النصرة» و»داعش»، والسماح لمرور المقاتلين من سورية وإليها، ومن أوروبا وإليها، وشراء نفط «داعش»، ومعالجة جرحى التنظيم الإرهابي في المستشفيات التركيّة… الخ. زد على ذلك عدم وجود أية ضمانة لعدم تحوّل هذه المنطقة، في ظل السيطرة التركيّة، إلى مقرّ للتنظيمات التكفيريّة، وألاّ تستخدمها تركيا للضغط على نظام ما بعد الأسد، في حال لم يــتــوافــق مــع الأجــندة التركــيّــة. وليست هنالك ضمانات مسـتقبلاً بألا تجري تركيا استفتاءً صورياً، يقضي بضم هذه المنطقة إليها، كما حدث سنة 1939 مع لواء اسكندرون!.

عليه، وقفت تركيا في الضفّة المقابلة لأميركا، عبر الدعم الخفي والظاهر للتنظيمات التكفيريّة وجماعات الإسلام السياسي في مصر وليبيا والعراق وسورية. وبعد تحرير كوباني من «داعش»، وسيطرة المقاتلين الأكراد على منطقة تل ابيض، بما يناقض الرغبة التركيّة، وضمّها إلى المنطقة الكرديّة (الإدارة الذاتية الديموقراطية التي أعلنها حزب الاتحاد الديموقراطي من جانب واحد) بدأت أنقرة تخشى تكرار سيناريو 2003، وصارت تبدي رغبتها في الانخراط المتأخّر بالحرب على «داعش». ولكن بعد ماذا؟ بعد أن أعلن الكرد الفيدراليّة، وبدأوا يحاولون الاتجاه نحو مناطق الباب ومنبج وجرابلس التي ما زالت تحت سيطرة «داعش»، أي بعد أن ملأ الكرد الفراغ الذي تركته تركيا في الحلف الأميركي ضد «داعش» و»النصرة» وتفريخات «القاعدة» في سورية!.

ولتلافي الخطأ الجسيم الحاصل، ومحاولة إعادة الودّ بين أنقرة وواشنطن، اجتمع أردوغان بأوباما على هامش قمّة النووي المنعقدة في واشنطن. وحاول تقديم الاعتذارات والأعذار للإدارة الأميركيّة في 31/3/2016، كما فعل في 2007 مع بوش الابن، لإرضاء واشنطن وطلب الصفح والعفو، وإقناع الأميركيين بضرورة إقامة منطقة عازلة في سورية، تحت السيطرة التركيّة، والحؤول دون تنامي السلطة الكرديّة ونفوذها شمال سورية.

الإعلام التركي الموالي للحكومة هلل لهذا اللقاء على أنه تغيير جوهري في استراتيجيّة أميركا، واستجابةً للرغبة التركيّة في نفض اليد من الأكراد. لكن من المبكر جداً القول إن أميركا الأوباميّة ستمنح تركيا الضوء الأخضر لإقامة المنطقة العازلة أو تفويضها بأي تدخّل عسكري في سورية. وحتى لو وافقت واشنطن على إقامة منطقة عازلة بين المنطقتين الكرديتين (القامشلي وعفرين) الواقعتين تحت سلطة «الاتحاد الديموقراطي»، وهذا سقف ما يطمح إليه الأتراك حالياً، فهذا لا يعني أن واشنطن رمت بالورقة الكرديّة في سورية، بعد كل الخذلان والخيبة من حليفتها أنقرة، في ما يخصّ الحرب على «داعش». غالب الظن أن السلطة الكرديّة (الحكم الذاتي او الفيدرالية) في شمال سورية ذاهبة إلى التكريس، في سياق تفاهم أميركي – روسي. أما تركيا فمستعدّة ليس فقط للقبول ببقاء الأسد، بل أيضاً لإعادة العلاقة معه، فقط لنسف هذه التسوية التي تصبّ في طاحونة أكراد سورية. فهل تنجح في ذلك؟!.

الحياة

 

 

 

في الجدال الكردي العربي الراهن/ حواس محمود ()

تستأثر القضية الكردية باهتمام دولي وإقليمي واسع النطاق لا سيما في المرحلة الراهنة، وكذلك وبشكل خاص لدى الأوساط السورية من جميع الأطراف والمكونات السورية، ويأخذ هذا الاهتمام اتساعه وتركيزه وأهميته من خلال ما تم طرحه مؤخراً من قبل الادارة الذاتية الـ ب ي د تحديداً – في المناطق الكردية من مشروع لإدارة هذه المناطق وهو المشروع الفدرالي في الوقت الذي كان فيه وفدا المعارضة والنظام يعقدان اجتماعاتهما في جنيف لوقف العنف والأعمال القتالية وإيجاد تسوية سياسية للازمة كل بحسب ما يبتغيه من هذا المؤتمر الدولي برعاية الامم المتحدة ممثلة بديمستورا.

لقد اثار المشروع الفيدرالي نقاشاً واسعاً، وتحول لدى بعضهم إلى مناسبة للمهاترات لا بل والمشاجرات ومنهم من الوسط العربي السوري المثقف والمعارض من تجاوز موضوع نقد الطرح من جانب واحد لمشروع الفيدرالية إلى محاولة طمس وإلغاء الوجود الكردي من أساسه والادعاء بعدم وجودهم التاريخي في سورية، وأنهم مجرد مهاجرين جاؤوا إلى سورية من أصقاع الأرض كافة، وهذا غير منطقي وغير تاريخي وغير واقعي جملة وتفصيلاً، فمن يقرأ تاريخ الكرد يعرف أن الكرد يتوزعون على أربعة اجزاء من جغرافية المنطقة بين تركيا وإيران وسوريا والعراق وذلك كنتيجة لاتفاقية سايكس بيكو وبعدها لوزان في القرن المنصرم، كما وظهرت أصوات عربية بنفس شوفيني غريب لا تتحدث عن المشروع ولا عن الجهة التي طرحته وحسب وإنما تجاوزت لا بل قفزت عن ذلك بطروحات غريبة من قبيل أن الكرد من الغجر والنور (القرباط)! او أن الكرد لا تاريخ لهم ولا وجوداً جغرافيا محدداً لهم، كل هذه الآراء والطروحات تؤدي لدى الطرف الآخر الكردي إلى ردود فعل عنيفة متعاكسة ومتضادة، وهذا يفضي إلى خلق أجواء التشنج والتعصب المتضاد، وهذا ما لا يريده الشعب الكردي ولا الشعب السوري ولا الشعب العربي الذي يتعايش مع الشعب الكردي عبر آلاف السنين بمحبة ومودة وتضامن أخوي في مختلف العصور والأزمان، مع وجود راوبط الدين والمذهب والعيش والتاريخ المشترك.

إن ما جرى ويجري اليوم من نقاش متضاد يصب في مصلحة القوى المعادية للشعبين العربي والكردي ويصب ايضاً وبصورة أساسية في خدمة النظام المجرم الذي ديدنه وهمه الأوحد لا بل وبرنامجه ومنهجه هو بث الفرقة والفتنة والنزاع بين المكونات السورية كافة، وهذا من المفترض ألا ينطلي على قادة المعارضة السورية وعلى القيادات الكردية وعلى المثقفين الكرد والعرب على حد سواء، وأن يتم الانتباه إلى دقة وحساسة المرحلة التاريخية الراهنة وأن يتم زيادة نقاط الاقتراب والالتقاء وإنقاص وإضعاف نقاط الاختلاف والافتراق.

ويمكننا ان نؤكد على حقيقة مفادها أن القضية الكردية وان طرحت على صورة مشروع

فيدرالي من الب ي د إلا أنه يمكن مناقشتها بروح ديموقراطية وكذلك يمكن انتقاد المشروع والجهة صاحبة الاعلان من خلال نقاط نقاشية معينة، لا ان يتم نسف المشروع برمته أو الغاء الوجود الكردي بكامله وذلك من خلال القفز للأمام بردة فعل متشنجة وغاضبة، نقطة الخلل الأساسية هي ان الطرف السوري المعارض لا يحاول جمع وتقريب الكرد إلى المعارضة السورية من خلال الاقرار بالحقوق الكردية والاعتراف بوجود خصوصية تاريخية وجغرافية للكرد ووضع أسس مبدئية للتعامل مع الكرد في سوريا المستقبل، وعوضا عن ذلك (ومع عدم اغفال وجود أصوات ديموقراطية ومنصفة في المعارضة السياسية السورية) نجد ان الاصوات الشوفينية هي الأعلى وتلقى اهتماماً اكبر وتؤثر على الشارع السوري خصوصاً والعربي عموماً، وتؤثر سلباً على مسار الثورة السورية المباركة وتبعد الأصوات المعتدلة الكثيرة من جانب الاقليات، وكذلك تخلق ردود فعل كردية غاضبة وجر المزيد من القوى الكردية المعتدلة وانضمامها إلى الأصوات المؤيدة للبـ ي د، وهذا يضعف المعارضة السورية رغم وجود الكرد ممثلين في المعارضة والوفد التفاوضي بجنيف ممثلين بالمجلس الوطني الكردي، وهم أيضا يلاقون احراجا من الوسط الشعبي الكردي من خلال مواقفهم الخجولة ازاء تصريحات شخصيات معارضة مسيئة للكرد، وهي موجودة في القيادة وموجودة بالوفد التفاوضي ايضاً.

الحالة الكردية السورية حالة موضوعية، وهناك خلل حدث بين القوى الكردية والقوى المعارضة ويحتاج إلى اعادة البناء من جديد لا سيما وأن توتراً لا بل اشتباكات عنيفة حدثت مؤخراً بين القوى الكردية متمثلة بالقوات التابعة للـ ب د من جهة وقوات النظام وما تسمى بقوات الدفاع الوطني من جهة اخرى في مدينة القامشلي، وتم قصف المدينة بالمدافع من قبل النظام وقتل العديد من المدنيين الكرد، كما وان النظام ايضا دفع خسائر ملموسة في هذه الاشتباكات، وتم تمزيق صور بشار الاسد وأبيه من قبل القوات الكردية، ربما تعود اسباب هذه الاشتباكات إلى ان النظام الذي رفض مشروع الفيدرالية يريد تقليص دور وحجم قوات الـ ب ي د لكي يحاول اعادة السيطرة الكاملة على القامشلي والمدن الكردية الأخرى، وكاتب السطور يرى ان ما حدث لا يمكن ان يكون مسرحية كما ذهب بعض المحللين إلى ذلك وإنما هو انفجار الصراع الخفي بين الطرفين بعد طرح الفيدرالية كما أفادت الأنباء عن اعتقال النظام للشباب الكرد وسوقهم للجيش، واستياء الـ ب ي د من هذه الممارسات من قبل النظام، وهذا ما حدث بالضبط في منطقة السويداء السورية وجرت الاشتباكات بين اهالي السويداء والنظام بحالة تتشابه قليلاً مع الحالة الكردية في ما يتعلق بموضوع سوق الشباب إلى الجيش، إلا أن الحالة الكردية تتميز بتعقيدات اكثر في المشهد السوري في ظل تدخلات دولية واقليمية عديدة في الازمة السورية وامتدادات وتأثيرات الحالة الكردية السورية على دول الجوار والإقليم كايران وتركيا وجزئياً العراق، وهناك انباء ترد من الجزائر عن وساطة جزائرية بين النظام السوري وتركيا لضرب الحركة الكردية في سورية وتركيا معاً بما يشبه اتفاقية الجزائر عام 1975 بين العراق صدام حسين وشاه إيران، التي أدت إلى ضرب الثورة الكردية في كردستان العراق بقيادة الملا مصطفى البارزاني والتي كانت بمبادرة من الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين، وكذلك ان النظام يشعر انه بوجود القوات الروسية ودعم قوي من ايران أنه يمكن ان يستعيد سيطرته على المناطق الكردية، اعتقد ان كل هذه الاسباب منفردة ومجتمعة لها دور في تأزيم الوضع الكردي داخل سورية الأمر الذي ينبئ عن تحولات نوعية في القادم من الايام في المسارين الميداني والسياسي (مع عدم نسيان ان مفاوضات جنيف قد توقفت بسبب احتجاج المعارضة على استمرار قصف النظام لقوات المعارضة والمدنيين ووجود محاولات روسية لإيجاد بدائل للمعارضة المتمثلة بالائتلاف لكي تنوب عنه في هذه المفاوضات) ليس على صعيد المناطق الكردية وإنما على صعيد سوريا عموماً.

() كاتب من سوريا

المستقبل

 

 

 

هل يعلم أوجلان بما يجري خارج سجنه؟/ هوشنك أوسي

منطقة الشرق الأوسط على صفيح ساخن وملتهب. تعيشُ مخاض ولادة جديدة، عسيرة ومؤلمة جداً. كل المشاكل القوميّة والدينيّة العالقة، طفت على سطح صراعاتها. لكن الشرق الأوسط لن يعيش في هذا الجحيم، إلى الأبد. وحتّى لو فشلت الثورات فإن علم الاجتماع السياسي سيبقى يسمّيها ثورات، لأنها ساهمت في خلخلة البنى الاجتماعيّة والفكريّة الجامدة في المجتمع، وفتحت المجال أمام التحوّلات وولادة أفكار جديدة.

مناسبة هذا الكلام، هو الموقف السلبي لحزب العمال الكردستاني من ثورات المنطقة. إذ لم يشذّ خطابه عن خطاب الذين يحاولون، بشتى الوسائل، الطعن بها، واعتبارها «مؤامرة إمـــبرياليّة علــــى الأنظمة التقدميّة والمقاومة». لقد شكك الكردستاني بالثورة الليبيّة، بحجّة تدخّل الناتو، وانتعاش جماعات الإسلام السياسي. وكـــان بعض قياداته يقولون: «لقد وقف القذّافي إلى جانبنا يوماً ما». ونسي هؤلاء أن القذّافي ديكتاتور وطاغية امتدّت شروره حتى خارج ليبيا. وأنه قدّم جائزة حقوق الإنسان لأردوغان فيما كان يقمع الكرد والكردستاني! الموقف نفسه اتخذه حزب العمال من الثورة السوريّة، والكثير من المعطيات والمؤشّرات يؤكّد وجود علاقة وتنسيق بين الكردستاني ونظام الأسد. كذلك استخدمت الحجّة نفسها: «ساعدنا نظام الأسد، لمدّة 20 سنة». ويتناسى هؤلاء أن ذلك لم يكن كرمى لعيون الكردستاني والكرد! وأن الأسد الأب وقّع اتفاق أضنة مع تركيا، وشارك في اختطاف اوجلان، مباشرة أو مداورة.

ولأن الكردستاني قاد ثورة لحقوق الكرد المضطهدين، كان يُفترض أن يكون أوّل المدافعين والداعمين للثورات في المنطقة، لكنه انزلق نحو المصالح الحزبيّة الضيّقة، بحجّة تحييد الكرد، وتجنيبهم ويلات الحرب في سورية، علماً أنه أقحم كرد تركيا وسورية والعراق وإيران في حربه على أنقرة، مدة 30 سنة!

ويبرر الكردستاني موقفه السلبي من الثورة السوريّة بأن هنالك تدخّلات أميركيّة وتركيّة وقطريّة وسعوديّة، وإمبرياليّة… في هذه الثورة. وهذا صحيح. ولكن صراع الكردستاني مع تركيا، وحربه عليها، كانا أيضاً بدعم سوري وإيراني ويوناني وأرميني! ويتناسى الحزب أنه كان مخترقاً من الدولة الخفيّة التركيّة أيضاً! بالتالي، ووفقاً لمعاييره في سورية، فإن ما قام به الكردستاني ضدّ تركيا لم يكن أيضاً ثورة، للأسباب نفسها.

خلال سنوات اعتقاله، بذل أوجلان جهداً سياسيّاً وفكريّاً كبيراً لطيّ صفحات الحرب في تركيا. ويمكن القول إن أردوغان مدين لأوجلان، لجهة تحقيق حزب العدالة والتنمية نجاحاته وانجازاته السياسيّة والاقتصاديّة، بفضل التسهيلات والتساهلات والتنازلات الكثيرة والمؤلمة التي قدّمها في إطار سعيه الى حلّ القضيّة الكرديّة. بالتزامن، بذل أوجلان الكثير من الجهد كي يبقي حزبه تحت السيطرة، بالإضافة إلى محاولة إخراجه من العسكرة الى الحياة المدنية. وصحيح أن الكردستاني تبنّى المراجعات النقديّة لأوجلان في الكتب التي ألّفها داخل السجن، وأكّد أنه يتبنّى نظرياً مفاهيم المجتمع الإيكولوجي والأمّة الديموقراطيّة والجمهوريّة الديموقراطيّة والمواطنة الحرّة…، لكن الكردستاني ما زال عملياً منغلقاً على آيديولوجيّته اليساريّة السابقة، بل انزلق أكثر نحو التزمّت والدوغمائيّة، وعبادة القائد… وتسيطر على سلوكه، بخاصّة في سورية، نزعة عدوانيّة، كارهة للتنوّع والاختلاف. وأصبح التخوين، أسهل وأبسط تهمة يطلقها على من يختلف معه!

فهل يعلم أوجلان حقّاً ما يقوم به حزبه في سورية؟ هل هنالك من يقول له إن ذهنيّة التخوين هي الحاكمة في أداء الكردستاني، وإن ممارسات حزبه، هي على الضدّ تماماً مما يطرحه من أفكار ومشاريع؟! هل يعلم أن حزبه يمارس العنف، ضدّ الكرد السوريين، المختلفين معه ويعتقل النشطاء والسياسيين والصحافيين، ويقتل المدنيين في مدينة عامودا وكوباني؟! هل يعلم أن رهان حزبه على نظامي الأسد وطهران، خاسر؟ وأن حزبه يشنّ حرباً إعلاميّة وسياسيّة شعواء على الديموقراطي الكردستاني ومسعود بارزاني، ويتهمه بالخيانة؟ هل أوجلان راضٍ عن محاولات شيطنة بارزاني التي يمارسها الكردستاني منذ أشهر، بما يضع كرد سورية في مواجهة كرد العراق؟

أغلب الظنّ أن المعلومات التي تصل أوجلان حول كرد سورية، وكردستان العراق، فيها الكثير من المبالغة والتضليل. وربما كانوا يوصلون إليه أخباراً من نوع أن بارزاني خائن وعميل لتركيا، ومتآمر على الحزب والثورة!. أو أن فكره «تهتدي به شعوب المنطقة» ويتم تدريسه في كبريات الجامعات العالمية! لكن أوجلان يفترض أن يعرف، قبل غيره، كذب ذلك وما فيه من نفاق، وأن يتحسس المسؤولية التاريخيّة الملقاة على عاتقه، وهي كبيرة وثقيلة جداً، حيال الأكراد وحيال المنطقة، بحيث لا يتحوّل حزبه ورقة في يد سواه. وأغلب الظنّ أنّ هذا لا يوصله إليه المقرّبون.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

 

الأكراد من صديق طارئ إلى لاعب دائم/ زيور العمر

يُحسب للأكراد في سورية، منذ اندلاع الثورة السورية قبل أكثر من خمس سنوات، أنهم سجّلوا حضوراً مستمراً، ومهماً، في واجهة الأحداث. وكان لافتاً للنظر، تلك المرونة والقدرة على المزاحمة، في جو يعجّ بقوى محلية ولاعبين إقليميين ودوليين، سعياً وراء مشاركة ودور في رسم ملامح مستقبل سورية، يلبي طموحاتهم، ويضمن حقوقهم مستقبلاً. والسؤال الذي يدور، اليوم، في الأذهان، ويشكل حيّزاً مهماً من النقاش العام هو: هل يتحوّل الأكراد من مجرّد أدوات في لعبة أمم، اعتادت استغلالهم، كلما اقتضت الحاجة إلى تحقيق مصالحها، وتنفيذ مخططاتها في المنطقة، أم أنهم باتوا، اليوم، لاعبين أساسيين، لا يمكن تجاهلهم وإقصاؤهم عن طاولة البحث عن حلول مستدامة لمشكلات المنطقة، التي شكلت قضيتهم أحد أهم معالم أزمتها، لعقود من الزمن؟ أو، بالأحرى، هل يتحوّل الأكراد من ضيف طارئ على مشهد صراعات المنطقة وتناقضات أطرافها، إلى لاعب دائم ومؤثر في صياغة مستقبلها؟

إلى جانب الظروف المحيطة بالقضية الكردية في هذه المرحلة، ثمة ميزة لدى الأكراد تجعلهم ينفردون عن باقي شعوب المنطقة. ذاك أنهم لا يلتفتون إلى ماضيهم كثيراً، ولا تخلّف انكساراتهم وإخفاقاتهم في ذاكرتهم الجمعية جروحاً لا تندمل، علاوة على أنهم لا يحملون «عقدة الاستعمار» تجاه مستعمريهم، لا السابقين ولا الحاليين، كتلك التي يحملها العرب، عادة، تجاه الأوروبيين والغرب بصفة عامة.

من جهة أخرى، ثمّة اعتقاد لدى الأوساط الكردية، السّياسية والثّقافية، مفاده أن ما يجري اليوم في المنطقة لا تمكن مقارنته بما حدث في عقود ماضية. وذلك لجهة الحديث عن تغييرات جذرية مرتقبة في الشرق الأوسط، وبعد أن بات بحث مشاريع إعادة تشكيل صورة المنطقة أكثر وضوحاً وجديّة من ذي قبل. إذ يبدو من سياق السيناريوات المُعلنة في هذا الإتجاه، أن الأمر لم يعد مقتصراً على السماح أو القبول بإسقاط بعض الأنظمة القمعية، التي كان يُراهَن عليها سابقاً في حفظ بعض التوازنات الإقليمية، أو حماية المصالح العابرة للقارات، مقابل التغاضي عن ممارساتها وانتهاكاتها بحق شعوبها، طالما أنها لا تشكل تهديداً مباشراً للأمن والسّلام الدوليين.

يُدرك الأكراد، اليوم، جيداً، أن جانباً من أولويات القوى العظمى قد تغيّر، وأن مكافحة ظاهرة الإرهاب الإسلامي باتت عنواناً رئيساً لاتفاق دولي، ليس فقط في مواجهة جماعات دينية متطرفة، تهدد أمن وسلامة المدنيين في العالم، وإنما، أيضاً لمحاصرة البيئات التي نشأت فيها، وانطلقت منها. ويبدو من واقع الحال ومن سير الأحداث، أن محاصرة هذه البيئات وعزلها دفعا مراكز القرار الدولي إلى التفكير جدياً في إقتراح خرائط جديدة للمنطقة، تسمح بتشكيل طوق محكم حول الجماعات المتطرفة وبيئاتها الحاضنة.

وإذا كانت الحجج الإستراتيجية والذرائع الاقتصادية قد حالت سابقاً دون الإعتماد على الأكراد، كحلفاء دائمين في المنطقة، فإن التحديات الوجودية، في الوقت الراهن، باتت تحتّم هذه العلاقة، وتُخطط لجعلها ركناً أساسيّاً في إستراتيجية دولية لمواجهة الإرهاب، وتجفيف منابعه، انطلاقاً من قناعةٍ بأن عزل المناطق الحاضنة للإرهاب سيضع المجتمعات المحلية في اختبار مواجهة ظاهرة الإرهاب في بيئاتها بنفسها.

من هذه الزاوية بالتحديد يجب النظر إلى العلاقة الجديدة مع الأكراد في المنطقة عموماً، لجهة أن مناطقهم في سورية والعراق بإمكانها أن تشكل جزءاً كبيراً من طوق بشري وجغرافي حول المناطق المنتجة / المصدرة للإرهاب الإسلامي، لا سيما بعد أن أثبتت المجتمعات الكردية قدراً كبيراً من الرفض والنفور تجاه ظاهرة الإرهاب الديني، وشجاعة لا مثيل لها في محاربتها، حتى أصبحت القوى الكردية في سورية والعراق جزءاً مهماً من تحالف دولي عريض لمحاربة الإرهاب، يُشار إليها بالبنان، كلما جرى حديث عن نجاحاتٍ في مكافحتها، وعن تقليص المساحات التي يهيمن عليها تنظيم «داعش» في سورية والعراق.

وإذا كان الأكراد، خلال تاريخ طويل من التجاهل والتهميش لطموحاتهم، يتطلعون إلى الالتقاء مع مصالح الدول العظمى، فإن الظروف والمستجدات الراهنة تقدم لهم فرصة على طبق من ذهب لتحقيق هذا الهدف. وذلك بعدما باتوا مرشحين للعب دور أساسي في رسم مستقبل المنطقة، وركناً رئيساً في إستراتيجية إعادة تشكيلها، وفق أولويات أوروبية وأميركية مغايرة عما سبق.

تبقى في الأخير أهمية أن يعي الأكراد أنفسهم مصالحهم جيداً، ويدركوا حاجة الآخرين إليهم، بعد أن كانوا يتوقون شوقاً إلى لفتة عطف من الآخرين عليهم. وإذا كان في نيتهم، بالفعل، أن يكونوا مهمين، من حيث المساهمات والأدوار في عالم اليوم، فإن على عاتقهم تقع مسؤولية كبيرة، من شأن التصدي لها، وإدارتها في الشكل الصحيح، رفع موقعهم، لأول مرة في تاريخهم، من مرتبة صديق طارئ إلى مصاف حليف دائم.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى