صفحات الثقافة

عن المنفى الذي ينهار/ زينب ترحيني

 

 

المنفى، مع دخول الثورة السورية عامها الخامس، يشكل أبرز عناوين السوريين. لا يستطيع السوري، اليوم، أن يفكر بنفسه دون منفى. لكل منا قصة وحكاية: البعض لم يغادر، إلا أنه يعيش منفاه في الداخل؛ والبعض غادر ولم يقبل المنفى؛ وآخرون قبلوا المنفى ولكنه لم يقبلهم. أصدقاؤنا وعائلاتنا تتوزع في جهات الأرض الأربع. يختلط الخارج والداخل والهوية والغربة والشرق والغرب والشمال والجنوب في قصص لا تني تكبر كل يوم.

المنفى عنوان من لا عنوان له.

للمنفى وجوه متعددة ومعانٍ مختلفة، ولكننا سنركّز على الشخصي والخاص. لم تحقق الثورة أهدافها بعد، إلا أنها فتحت باب الكلام الذي كان موصداً في مملكة الصمت. نريد أن يسمع السوريون بعضهم بعضاً، وأن يتفكروا في أحوالهم وأشجانهم وآمالهم ومخاوفهم.

الكلام يخفف عبء المنفى ويروّضه.

على مدى ثلاثة أشهر، ستنشر «الجمهورية»، ضمن ملف من إعداد عُدي الزعبي، مقالاً أسبوعياً يتضمن قصصاً شخصية وتأملات عن المنفى والغربة واللجوء والحنين. نُشر منها إلى الآن « ليس أقل من الموت بميليمتر واحد» لـ نائلة منصور؛ و«مذكرات الهروب من حضن الوطن» لـ أحمد إبراهيم؛ و«المنفى كحاجة لتأسيس الوطن/الفكرة» لـ سليم البيك؛ و« في الغربة والاغتراب» لـ رولا الركبي؛ و«أسد النمل والقطة الشامية» لـ جولان حاجي؛ و«سوف أزرع الفليفلة» لـ بكر صدقي؛ و«كرٌ وفر بين المنفى والوطن» لـ صادق عبد الرحمن؛ و«في تعاقب المنافي، ستحملنا الريح إلى الوطن» لـ محمد العطار.

نود أن نعرف المنفى عن قرب، علّ المعرفة تنفي المنفى، أو، على الأقل، تخلخله.

*****

كأنهم متفقون بصيغة جماعيّة، من دون أن يلتقوا لمرّة، على عبارة موحّدة: «ما عنّا شي نقوله».

من قلب حياتهم البائسة وصور الشهداء ومواكب التشييع التي تجوب المدن والأحياء والقرى، حيث يسكنون، لا يجد هؤلاء شيئاً لقوله.

جفّف حرّ الصيف شفاههم. لكنّ أحداً منهم لا يُلقي الحجّة عليه.

شكواهم إذا صبّت في مكان آخر. وهذه الغرف المُستجدّة، تماماً حيث انتظر الناس جحيمٌ ثانٍ، لم يُصبّرهم عليها إلاّ شعورٌ حفيف بالأمان.. أمان مؤقت، مهما اهتزّ سيبقى ألف رحمة ممّا عاينوه في سوريا. هنا لا موت سريعاً، لا قصف، لا اعتقالات ولا بيوت تهبط فوق الرؤوس أو جوع كبير، وهذا رحمةٌ لكثيرين، على الرغم من كلّ شيء.

قبل أقلّ من شهرين، قضى عاملان سوريان في قلب بئر في إحدى القرى الجنوبية. نزلا لتنظيفه، فاختنقا بدخان الـ«موتير» الذي نزل معهما وماتا. سُحبا جثتين، ونجا الآخران اللذان كانا برفقتهما. ضجّت الضيعة بأصوات سيارات الإسعاف. وصل الخبر أن سوريين قضيا… خير انشالله ولكن هل قضى أي لبناني؟

دُفن أحدهما في جبّانة مُخصّصة لجثث السوريين حيث يسكن، بينما رفضت عائلة الثاني – اللاجئ حديثاً – دفنه في أرض غريبة، فحضرت إلى المستشفى وحملته إلى سوريا.

عاد به أهله جثةً إلى حيث هرب: الموت.

***

– حيدر: إنتِ وين عايشة؟

– الأشرفيّة.

– حيدر: مسيحية يعني؟

– كيف بدّي كون مسيحية ومحجبة؟

– حيدر: ما بعرف. ضياع إنتو هون!

حطّ حيدر قبل سنتين في لبنان. وصل طفلاً عمره 11 عاماً ليعتاد سريعاً على شوارع بيروت وناسها. يُقلّب كل فترة بالمنطقة التي يقضي فيها وقته بائعاً لألواح الشوكولا والعلكة. حيدر بلغ هذه السنة عامه الثالث عشر. حضر قبل سنتين مع عائلته إلى لبنان، ليقيموا في منطقة الكولا.

الأصل من الشاغور، ولكن كان مكان الإقامة في الحجر الأسود.

يحكي أن رمضان في سوريا أجمل من لبنان. هناك كان يبيع الجلاّب والتمر الهندي (كانت تصنعها والدته) على عربة مع والده. وكان يبيع المشاطيح (عبثاً حاول تذكّر تسميتها بالسوري).

يشعر حيدر أن ناس سوريا غير، يشعر حيدر أن كلّ شيء غير مُذ أتى إلى هنا. ويحلم حيدر، كثيراً ما يفعل.. ويا الله كم يُحبّ لو يتحقق

***

كان طابوراً بشريّاً كبيراً. رجالٌ ونساء وأطفال يتدافشون أمام شباك فرن صغير، كُتب اسمه بالأحمر والأسود على لافتة حديديّة بيضاء. غبار كثير يحوم في الجوّ. كان ناتجاً عن حركة هذا الكمّ الهائل من الأرجل فوق أرض رمليّة. وصراخ وأصوات وأيدٍ مرفوعة نحو السماء، منها الثابت ومنها المُلوّح. في الجهة المقابلة للطابور، وقف رجل مع عربة يبيع عليها عصير الليمون الطازج. كان ثابتاً لا يأتي بحركة.

المشهد بكلّيته كان غريباً.

«كلّهم شبيحة، شو بدكن فيهن». عبارة أولى تلقّفت محاولة التوقّف وفهم سبب هذا التجمّع والتدافع. يشير رجل طرابلسيّ (يؤجر مكانين لعائلتين سوريتين) إلى أحجام الرجال منهم: «ليكوا ما أكبر كل واحد منهن. يروحوا يشتغلوا. كل النهار واقف ناطر ربطة خبز؟».

هي قصة ربطة خبز إذاً. وعيون تضيق لتزفر بوجه لاجئ أمامه لا شيء، ومن خلفه موتٌ ودمار.

تكاد ربطة الخبز أن تكون محور حياة السوريين في حيّ الشوك في منطقة أبي سمرا في طرابلس.

على طول الخطّ، دخولاً إلى لبّ الحيّ، تبان ملامح الفقر واللجوء مع كل خطوة.

فقراء هاربون من الموت في بلادهم، وقع قدرهم في أحياء تنوء فقراً وبؤساً بناسها الأصليين. يقفز الأطفال في الطرقات أمام أيّ سيارة عابرة، وتعبّ الأجواء تراباً لتغمرهم وأهلهم في البيوت.

لا شبابيك ولا أبواب، الأغلب الأعمّ يُغطّي الفتحات هذه بما تيسّر من خرق وشراشف في البيت.

وبينما تُعطي زواريب الحيّ انطباعاً باستحالة عبور سيارة، تتدلّى نسوة سوريّات ملوّنات بعباءاتهنّ من الشرفات وهنّ ينشرنَ الغسيل.

***

يجلس أحمد (4 سنوات) في المجلى الصغير، ويضع كثيراً من الصابون على رأسه ويفرك. ابتلّ هو وكنزته ورجلاه، بينما كاد يُغشى عليه من الضحك. وكذلك تفعل والدته «أم أحمد»، تضحك معه.

أحمد يجلس في المطبخ. أخته تجلس فوق الكنبة في غرفة الجلوس، أي المطبخ. أم أحمد تُمسك بيديها الشرشف الأبيض، محاولةً إزاحته قدر الإمكان لتسهيل الدخول والخروج إلى المطبخ، أي غرفة الجلوس. الجدّة «أم فوّاز» تلبس شرشف الصلاة الأبيض (حملته معها من حمص) في رأسها، وتعبر من غرفة النوم – حيث أربع فرش رفيعة أرضاً – إلى غرفة الجلوس والعكس.

تُعيد الجدّة قصصها بتلقائية. تُبكيها حكايتان: البيت الذي أوقعه القصف أرضاً، وبناتها الثلاث العالقات في حمص. وبين القصة والأخرى، عبارة واحدة: «ما عرفنا ولا درينا وما لقينا إلاَ صفّينا هون».

عُمُر إقامتها في طرابلس مع عائلة ابنها سنتان ونصف. تضحك وهي تتذكّر سكنهم لسنتين كاملتين في مستودع مؤلف من غرفة واحدة: «كانت ريحة الخرا يا بنتي بكلّ البيت». تضحك كنّتها مجرّد سماعها كلمة مستودع. هي التي لا تفعل شيئاً سوى الابتسام، ورفع ابنها من قلب المجلى.

تشير أم فواز بيدها إلى الغرفتين: «بحر، والله هيدا بحر».

عاشوا تجربة تحت الأرض، في غرفة واحدة بحمام لا باب له. لا يحكون ولا يأكلون ولا ينامون مثل البشر. وإذا ما وصل الحديث شقّ التسمية أو اللقب، لا يقبلون تسمية لاجئين ولا منفيين ولا مقيمين مؤقتين. هم لا شيء. هم غير موجودين. وعلى الرغم من ذلك الحمد الله.

في موقف باصات بيروت في طرابلس، كُتب بالأخضر على امتداد جانب أحد الباصات «خفَّف الحمل وحقّق الحلم!». ويجاور العبارة كدسة بالونات وفرح. وهذا رعب التناقض. بؤس البؤس.

***

– حيدر: نحنا بسوريا ما منقول فان!

– شو بتقولوا؟

– حيدر: أكيد مش متلكن بوووووسطة (محاولاً تقليد اللهجة اللبنانية). منقول باص أو ميكرو.

– يعني؟

– حيدر: هون بتصرخوا كتير. النبطية، صووووور طروبليس! كنّا نحنا بسوريا نكتب، ع يافطة كبيرة كلّ المناطق. مش هيك صريخ.

***

«إلاّ ما إنذلّ ما بيعطوني الكرتونة».

«الشيخ نفسه كذّاب. ترجّيته، قلّه عندي 7 أولاد. ولا كأنّي عم إحكي».

«الكرتونة فيها أغراض لشهر ونص، علب طون وعدس وسكر… كتير».

«نطرت 3 ساعات بالطابور. وهه رجعت متل ما رحت».

«مخنوقة والله مخنوقة».

«شي متل الكذب لبنان، متل الكذب».

***

تقبض أم خالد 15 ألف ليرة لبنانية على نهار عمل كامل. من الـسابعة صباحاً حتى الـثانية ظهراً. تعمل في محل لبيع الخضار، مهمّتها تنظيف البامياء والكوسا وخلافه… اليوم أحضرت معها إلى البيت قفصَيْ جزر هائلي الحجم. تسأل إن كان ممكناً أن تأتي بها إلى جلستنا، لبرشها.

عادت لتوّها إلى البيت، لتُكمل العمل من هنا. سبعة أولاد، أصغرهم طفلُ بسنة واحدة وفتحة في القلب. تضحك وتقول: «أنا تعيسة كتير. والله تعيسة».

لا مياه باردة للشرب والدنيا حرّ. لا كهرباء. ولا مياه لغسل الثياب. تصعب الحالة كثيراً. المعاملة السيئة تنتظرنا في كلّ مكان. حتّى الأطفال يأخذون نصيبهم فيُضربون ويسمعون يوميّاً السُباب «يا حيوانات، يا بهايم».

محاولة إحداهنّ ثنيها عن إكمال كلامها لا تنجح.

«يعني فوق هربنا ولجوءنا وشحارنا بدنا نسكت؟». كلّه يعرف.

تسألها إن نسيت ما يقع فوق رؤوسهم. تُحاول تذكيرها إن نسيت عندما قال لهم أحدهم «تأخذون من أمامنا وتأخذون تعبنا. أنتم آخرتكم لاجئين عنّا، ف ح تشتغلوا عنّا وبشروطنا».

زوجي لا تغيب الدمعة من عينيه. لا يعرف أن يقول إلاّ «من وين بجيب؟ شو بعمل؟».

تقول أم خالد: «ابنتي بدها شوكولا. والله ما فيّي جبلها، والله». تردّ أم وائل: «شوكولا؟ بدها شوكولا؟ هيدا وقته؟ لنجيب الأساسي، لياكلوا؟».

***

– حيدر: شاكريّة عاملي إمي اليوم. يا ويلي شاكريّة ح إتعشى.

– ومبارح؟

– حيدر: شاكريّة.

– وعلى شو مهيّص ومبسوط؟

– حيدر: ع الشاكريّة!

***

لا بُدّ من الأسماء المستعارة هنا. لاجئون ولكن؟ هؤلاء منفيّون في قلب منفى يعجّ عيوناً. لهذا كان لزاماً إجراء ما تيسّر من تعديل في أسمائهم ومناطقهم، خوفاً عليهم وإن كان يسهم في المزيد من الإقصاء والنفي.

تقول بسمة إن أحداً لا يتركهم بحالهم هنا في منطقة النبطية. أحداً لا يصدّقهم. أحداً لا يريد إعفاءهم من مسؤولية كلّ ما وقع ويقع، «أشعر أني أعيش في غابة».

«أنا السوريّة الآتية من درعا من بلد الثورة، وسأذهب للقتال مع النصرة وداعش. أنا السوريّة التي خربت بلدها وجاءت لتخرب بلدنا» تسيح هذه العبارات في رأسي. أشعرها من دون أن أسمعها.

أقصى أمنياتي؟ أن يعرف ابني مروان (13 سنة) كتابة اسمه.

قبل شهر حضر رئيس البلدية في ضيعتهم، حيث يقطنون، وتمنّى عليهم كعائلة سوريّة الامتناع عن الخروج بعد الثامنة ليلاً من البيت. «تمنّى علينا الـحبس».

لا تحكي بسمة القصّة لإدانة رئيس البلدية. بسمة تسرد لتصل إلى تبرير توقيف شبّان من «حزب الله» لأربعة شبّان سوريين عند الواحدة ليلاً، وذلك بعد أيّام من تبليغهم القرار. ترفع بسمة يداً أعلى من يد وتقول: هؤلاء يجنون على عائلات بأكملها؟ خلص، طلبوا ألاّ نخرج فلا نخرج، لما هذا العناد؟

كلّ المُراد السترة ودفش الموت والرعب بعيداً، بالأرجل وبالأيدي، بكل ما يتيسّر.

«أيّام بحب إحكي كل اللي بقلبي. قول للناس خلص بكفّي. بكفّي ظلم»، ولكن «المنفى خنق للبشر. حبس بس مع جيران». ولهذا يحطّ الصمت. اختناق بلا صوت، بصمت مُطبِق بثقله.

ما هي قمّة الرعب عند بسمة؟

وصول خبر موت شاب لبناني، من منطقة قريبة من سكنها، في سوريا. هذا خبر يعني الشارع، يعني لجوءاً جديداً، يعني تهجيراً، ويعني خوفاً وملازمة للبيت. يعني مفاجآت وأشياء كثيرة غير متوقّعة. يعني أن ترتمي فوق أولادها. وربّما لا يعني شيئاً، بل مجرّد احتساب احتمالات وهذا أصعب.

***

تلعب يارا (سوريّة، 6 سنوات) مع أولاد الحيّ، تخرج الجارة وتصرخ بابنتها «فوّتي هالداعشيّة عند إمها، واطلعي ع البيت».

تبكي والدة يارا، وتسأل بينما تستمرّ بالبكاء عن سبب وصف ابنتها بما وُصفت به.

تحضر الجارة مساءً للاعتذار.

تعتذر بينما والدة يارا تبكي.

***

أنا هنا أحبّ جيراني وهم يفعلون أيضاً. ولكن أخافهم. أخافهم وهم يحملون شهيداً جديداً إلى الضيعة، وهم يحملون ابنهم في النعش. أنا أعرف الموت. لقد شاهدت في درعا الصواريخ والطيران، شاهدت البراميل والموت.

ونهايةً هربت بولد مريض نفسيّاً، يُرعبه سماع أي صوت فيقضي وقته تحت الغطاء. وأنا أقضي وقتي أرفعه من تحت التحت، من قعره ومن قلب بؤسي.

ماتت عمتي وخالتي وأمي ومات زوج أختي. لا أعرف كيف أعبّر، هل تفهمين؟ هل من يفهم؟

هذه نار جرّتها النار، حريق كبير. قرّرت العيش في الجنوب لأنني لا أقوى على حياة المدينة. وبيروت غُربة كبيرة. هكذا أسمع. ومع هذا أشعر أن وحوشاً تُحيطني، أفهم ما يجري لكن لا أحد يريد أن يفهم ألاّ دخل لي شخصياً ولا لأولادي.

لستُ عزرائيل.

أحبّ مرّات أن أحكي بالسياسة، ولكن على الله.

أحب جاراتي. لا أحد يتركنا نجوع هنا أو نحتاج شيئاً.

ولكن تُرعبني ردّات الفعل.

***

– حيدر: هون ما في حدا كان صايم. كتااار مفطرين. بسوريا كلوا كان يصوم!

– كلوا كلوا؟

– حيدر: بس الرجال لأ. عشان بيدخنوا فما بيقدروا إلاّ ما يفطروا.

– وهون؟

– حيدر: بناتكن كلهن ما بيصوموا!

***

«وأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه»/ بدر شاكر السياب (قصيدة «غريب على الخليج» – 1953)

حملت بطنها والدماء بين رجليها من فقرا إلى مستشفى رفيق الحريري في بيروت.

استُقبلت عند الباب بكلمتين «إضراب إضراب، مسكّرين».

لفّ زوجها دولاب سيارة التاكسي وعاد بها إلى البيت، وذلك بعد تأجيل الولادة.

ليلاً أبلغت الجارة الزوج أن ساعات تفصل بين زوجته وبين الموت. استيقظت لتجد نفسها في مستشفى الرسول الأعظم في الضاحية. «بين أيدي الشيعة. لم أعرف إلاّ وأنا خارجة. كانت المعاملة ولا أطيب. لم أرض الخروج قبل تقبيل كل ممرضة على حدة، بالدور».

صار عمر الصبي سنة. يمرّ الوقت بطيئاً، ولا وقت لشيء. «شفتي ولاد الصومال؟ إي ابني متلهن اليوم». الجوع. المنفى هو الجوع.

في مستشفى طرابلس الحكومي طلبوا من أختها أن تمسح الأرض لأنها «راجعت» في وقت غير مناسب. تقول المنفى ذلّ. وتُعيد أنّ المنفى ذلّ، وكثيف لا ينتهي.

***

عبر «واتس آب»، بعد أن أرسلت أم خالد صورتها من بيتها في حمص إلى زوجة أخيها في لبنان:

– شو هالحلا. ما تبلي أم خالد، والله لساتك بتلبسي!

عبر «واتس آب» بعد أن أرسل أخوه صورةً لبيتهم في درعا، وصوراً لعمّهم في تركيا:

– بابا ليش انهدّ البيت هيك؟ وين ح نعيش؟ ليش عمه عمر بتركيا وأولاده بالأردن؟

إنّه حزن الصور بطعم اللجوء.

***

ذهبت إلى جامع الإصلاح في طرابلس. كانت هذه المرة الأولى التي أخرج فيها من الغرفة بعد سنتين من هروبي من حمص. عمري 80 سنة ولا قدرة لي على الحركة أصلاً. سمعت أنهم يقدّمون مساعدات للأرامل. قلت لأذهب، لعلّي أنجح بجلب شيء لعائلة ابني وليّ.

وصلت الجامع، استقبلتني امرأة منقّبة وأدخلتني إلى شيخ بلحية سوداء طويلة وعباءة بيضاء.

أنهيت كلامي، فصرخ طالباً من المرأة المنقبة التي استقبلتني النظر إليّ جيّداً: «شايفتيها هاي؟ اطلعي منيح. هيدي مش مخليّة جمعية مش شاحدي منها وهلق جايي تكذّب هون».

لم أشأ الردّ. خرجت ثم عدت لأقول كلمتين: «ما آخدي من حدا شي، بس سمعت إنه بالاصلاح عم يوزّعوا ويعطوا قمت جيت، بس لا خلص، تحرم عليّي».

لن أخرج من طرابلس. ولن أعود إلى سوريا والوضع على حاله، ولو هددوني بقطع رأسي. ما رأيته قبل سنتين، هناك، سيُرعبني لسنوات كثيرة. هذا إذا عشتْ.

***

سهى، كان من المفترض أن تكون سنة أولى حقوق في الجامعة اللبنانية في الحدث، لكن طالباً من مجلس طلاب الفرع أعاد لها ملفها بعد أسبوع «تقريباً» من تقديمه لأنه من المستحيل تسجيلها. لماذا؟ لخطأ في ملفّها. هو؟ إرفاق صورة عن شهادتها وليس النسخة الأصليّة.

بدأت سهى مسيرتها كموظفّة. عملت لشهرين ونصف (حظيت خلالهم بيومي عطلة فقط) في محلّ حلويات بمعاش 450 دولاراً، مقابل 12 ساعة عمل يوميّاً.

كيف تصفين وضعك في بيروت؟ مكركب.

ليه؟ ما شي ثابت فيها، مبرومة.

مشاكل بيروت؟ رواتبها، كلمات (كتير من ناسها) الناقصة بوجه السوري. وبيروت بالوعة الأحلام. موت بطيء. وقّفت إحلم فيها بشي.

لاجئة أو منفيّة أنت في بيروت؟ عابرة.

تخافين من فكرة أنك مخالفة قانونيّاً (إنتهاء صلاحية الإقامة)؟ أبداً، أحبّ فكرة «منع الدخول» إلى لبنان. جميلة العبارة والحالة وكل شي مربوط برّا البلد هيدا.

وين بدك تروحي؟ أي مكان إلاّ بيروت.

شو إحساسك وإنت بهيك وضعيّة؟ صاير عندي شي جديد إنه ما عم اقدر حسّ.

تعرّضتي لمواقف مزعجة؟ أكيد.

مثلاً؟ كنت عايشي ببيت طالبات بالأشرفية. صبيّة لبنانيّة كل يوم تنزل تفتّش ع شغل وترجع بالليل تسبّ علينا «كس إختكن ملّيتوا البلد. خلصونا ما ضلّ شغل».

لي بتكرهي بيروت؟ بـ8 شهور غيّرت سبع بيوت. كل الناس والأشياء بتفلّ وبترجع وبتطير وبتوقع وبتتغيّر أحوالها إلاّ أنا! أنا الثابت الوحيد فيها.

 

———————————-

 

المنفى، مع دخول الثورة السورية عامها الخامس، يشكل أبرز عناوين السوريين. لا يستطيع السوري، اليوم، أن يفكر بنفسه دون منفى. لكل منا قصة وحكاية: البعض لم يغادر، إلا أنه يعيش منفاه في الداخل؛ والبعض غادر ولم يقبل المنفى؛ وآخرون قبلوا المنفى ولكنه لم يقبلهم. أصدقاؤنا وعائلاتنا تتوزع في جهات الأرض الأربع. يختلط الخارج والداخل والهوية والغربة والشرق والغرب والشمال والجنوب في قصص لا تني تكبر كل يوم.

المنفى عنوان من لا عنوان له.

للمنفى وجوه متعددة ومعانٍ مختلفة، ولكننا سنركّز على الشخصي والخاص. لم تحقق الثورة أهدافها بعد، إلا أنها فتحت باب الكلام الذي كان موصداً في مملكة الصمت. نريد أن يسمع السوريون بعضهم بعضاً، وأن يتفكروا في أحوالهم وأشجانهم وآمالهم ومخاوفهم.

الكلام يخفف عبء المنفى ويروّضه.

على مدى ثلاثة أشهر، ستنشر «الجمهورية»، ضمن ملف من إعداد عُدي الزعبي، مقالاً أسبوعياً يتضمن قصصاً شخصية وتأملات عن المنفى والغربة واللجوء والحنين. نُشر منها إلى الآن « ليس أقل من الموت بميليمتر واحد» لـ نائلة منصور؛ و«مذكرات الهروب من حضن الوطن» لـ أحمد إبراهيم؛ و«المنفى كحاجة لتأسيس الوطن/الفكرة» لـ سليم البيك؛ و« في الغربة والاغتراب» لـ رولا الركبي؛ و«أسد النمل والقطة الشامية» لـ جولان حاجي؛ و«سوف أزرع الفليفلة» لـ بكر صدقي؛ و«كرٌ وفر بين المنفى والوطن» لـ صادق عبد الرحمن.

نود أن نعرف المنفى عن قرب، علّ المعرفة تنفي المنفى، أو، على الأقل، تخلخله.

 

———————————

 

موقع الجمهورية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى