صفحات مميزة

عن الموقف الروسي من الثورة السورية –مجموعة مقالات-

نخب بوتين على جثّة كرامة إيران/ غازي دحمان

تبدو مفهومةً المرارة التي تحدث بها وزير الدفاع الإيراني، حسن دهقان، عن لا مبالاة روسيا في استعراضها عملية إذلالها إيران على رؤوس الأشهاد، ذلك أن طهران كانت ترغب في حصول مثل هذا الأمر بالخفاء، وتريد من روسيا أن تحقق لها الانتصارات على الخصوم، بدلاً منها، وتبقى محتفظة بسمعتها دولة إقليمية كبرى، مقرّرة وصانعة للتغيرات. أوجعها أن يتم الإعلان عن تحوّلها إلى تابع. لكن، هل يكفي الغضب والعتب لإخفاء هوان إيران؟

كشفت التطورات في سورية، أخيراً ومنذ عام، حدود القوة الإيرانية ومقدار فعاليتها، فهي ظهرت أصغر حتى من قوة إقليمية عادية، ورّطت نفسها في صراعاتٍ بدون حساب دقيق للخسائر والأرباح الممكن تحصيلها، واستندت إلى جملة من المعطيات المضللة ذات الطابع الآني، مغلفة بحماس ملالي إيران بالنصر الإلهي المؤزر.

استخدام روسيا قاعدة همدان في جهودها الرامية إلى إخماد الثورة السورية، وعلى عكس ما روّجه إعلام حلف ايران، وحتى وإن أعلنت إيران توقيف الأمر في الوقت الراهن، هو الحدث الذي سيؤسس لسياقاتٍ جديدة في الواقع الإقليمي الذي تدّعي إيران أنها تسيطر على مساراته، وهو في الواقع سيشكّل مساراً لضبط إيران، وإخضاعها لمنطق السياسة الدولية، بمعنى إعادة تحديث لهوية الدور الإيراني، ليصار إلى إعطائه توصيفاً سياسياً محدّداً ضمن لعبة الأمم الجديدة، بوصفه طرفاً سياسياً يدور في الفلك الروسي، ومحسوباً عليه.

تلك واحدة من أهم نتائج تداعيات الهزيمة الإيرانية في سورية، والاستنزاف الكبير الحاصل في مركّب قوتها، جرّاء انتشارها غير المحسوب في المشرق العربي، وسواء اعترفت دولة الملالي بهذا الأمر، أم استمرت في خداع أتباعها وتضليلهم، فذلك لن يغير في موازين القوة والمعادلات على الأرض.

استدعاء إيران الدب الروسي إلى ما كان يعتبر كرمها حتى وقت قريب، وإن كان استدعاء الضرورة، كونه أنقذ ماء وجه إيران من هزيمةٍ علنية في المنطقة، لن يكون بلا ثمن، وبالحسابات الروسية، فإن مثل هذا الاستجداء سيكون ثمنه الطبيعي الخصم من دور إيران ومساحة مصالحها ونفوذها، ذلك أنه، نظرياً، يعتبر النفوذ الإيراني بحكم الساقط، عشية اليوم الذي هرع فيه قادة إيران يطلبون النجدة من الكرملين، وبما أن روسيا ليست جمعيةً خيريةً وخاصةً، في ظل الظروف التي تعاني فيها من أوضاع استراتيجية معقَدة، فهي لن تبذل أي مجهود مجاني من دون حسابات دقيقة، وبما أن البيدر السوري لا يغطي في المساومات الدولية سوى مساحة صغيرة من حلولٍ ممكنة مع الغرب، فإن روسيا لن تترك لطرفٍ غيرها أن يحصل على نتائج مهمة، سورية لا يمكن قسمتها على طرفين. إما أن تشيل روسيا الملف السوري بكامله، وتتفاوض فيه على القرم وأسعار النفط والعقوبات الغربية، أو لن تحصل على شيء مقابل. وبمعنى آخر، لن يدفع الطرف الآخر ثمن سورية مرتين ولطرفين، حينها ستبدو الخيارات الأخرى أقل تكلفة.

كل خطوة روسية في سورية يجري حسابها بدقة في الكرملين، من حيث جدواها في الميدان

“في حسابات الملالي الرضوخ للأجندة الروسية يبقى خياراً أفضل من خياراتٍ كثيرةٍ” وفعاليتها في المساومات الدولية، وتعمل روسيا على هندسة واقعٍ في سورية وحولها، يتفق مع تطلعاتها السياسية في بيئةٍ دوليةٍ معقّدةٍ، تحتاج إلى خوض صراعاتٍ عنيفة فيها، ولا شك أن الساحة السورية، في تقديرات صانع القرار الروسي، توفّر فرصةً مهمةً سواء على الصعيد الجيوبوليتيكي أو على اعتبار أنها الساحة الأكثر إنتاجاً للتداعيات وإمكانية استثمار تلك التداعيات في سياق إعادة التموضع الروسي في الواقع العالمي الجديد.

من الطبيعي أن تنظر روسيا إلى إيران، بعد أن عرفت مكامن ضعفها، وفكّكت شيفرة قوتها، على أنها مجرد جسر عبور لمرحلة، ومن الطبيعي أن إيران إذا أرادت أن تكون شريكاً لروسيا، فإن وضعها الحالي، بوصفها طرفاً استدعى الحماية، لا يؤهلها للشراكة، وإن حصول هذا الأمر يستدعي إعادة هيكلة لإيران، ليست الهيكلة السياسية التي يطالب بها الغرب، فتلك قد تكون أرحم بالنسبة للملالي، بل إعادة هيكلة القوة الإيرانية، بما فيه عقيدتها القتالية وإعادة هيكلة الدور الإقليمي لإيران، بما يتناسب والمصالح الروسية في المنطقة.

يغطي غبار الحرب السورية إلى حين على الواقعة الكبرى التي حصلت في الإقليم، والممثّلة بهزيمة مشروع إيران، وربما في حسابات الملالي أن الرضوخ للأجندة الروسية في المنطقة يبقى خياراً أفضل من خياراتٍ كثيرةٍ، بدأت تطل برأسها، مثل الصدام مع الغرب، نتيجة فشل الاتفاق النووي، أو انتقال الصراعات إلى الداخل الإيراني، من جرّاء الضعف الذي يجري تغطيته بغبار صواريخ بوتين المجنّحة وقاذفاته الاستراتيجية. لم يعد باستطاعة إيران إنكار حقيقة تراجع دورها لصالح روسيا، لكنها تخشى من إعلان هذه الحقيقة الآن، لكن لا وقت لدى فلاديمير بوتين لمراعاة خواطر الملالي، لديه فرصة مهمة لشرب نخب تحوّله اللاعب الأوحد في سورية، ولو على جثة كرامة إيران.

العربي الجديد

 

 

 

 

موسكو من دمشق إلى طشقند/ باسل الحاج جاسم

لا يختلف اثنان في أن أوزبكستان كانت على قائمة الثورات الملونة في وزارة الخارجية الأميركية منذ سنوات، ففي بدايات الألفية الجديدة، كان التأثير السائد في آسيا الوسطى هو تأثير روسيا. حينها بدأت أوزبكستان بالانجراف نحو مزيدٍ من التعاون مع أميركا، وعندما ازداد نفوذ واشنطن بشكل كبير، وقامت ثورة ملونة في قيرغيزستان المجاورة عام 2005، قرّرت أوزبكستان التخلص من القواعد العسكرية الأميركية، وبدأت التركيز أكثر على روسيا.

التدهور الأكثر دراماتيكية في العلاقات مع الغرب حدث في عام 2005، بعد أحداث أنديجان، قتل فيها نحو 187 شخصاً، واعتبرت الحكومة الأوزبكية بعد محاكماتٍ شكّك بها حقوقيون، أن المتظاهرين دعوا إلى الجهاد، وكانوا يريدون إطاحة الحكومة وإقامة دولة الخلافة الإسلامية.

اتبع رئيس أوزبكستان الراحل، إسلام كريموف، طوال فترة حكمه، سياسة خارجية مستقلة، ولم يصبح موالياً لأميركا أو ورقةً بيدها، حتى إنه طرد القاعدة العسكرية الأميركية من أراضي بلاده. وفي الوقت نفسه، فضّل البقاء خارج التجمعات التي ضمت جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق تحت وصايةٍ روسية، إذ انسحبت أوزبكستان من منظمة معاهدة الأمن الجماعي مراتٍ، ولم تنضم إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، إلا أن كريموف اعتبر على الدوام روسيا دولة صديقة.

يعتبر المراقبون أوزبكستان أكثر دول آسيا الوسطى استفادةً من حرب واشنطن على “الإرهاب الدولي”، فقد كانت في طليعة دول العالم التي استضافت على أراضيها قوات أميركيةً قرب الحدود الأفغانية في منطقة خان آباد، كما أن المساعدات الأميركية كانت متواصلةً إلى أوزبكستان، طوال السنوات التي تلت الحرب على أفغانستان.

أجاد كريموف سياسة اللعب على وتر المصالح الدولية، يساعده في ذلك موقع بلاده الجيوسياسي المهم، مستغلاً التنافس الأميركي- الروسي في منطقة آسيا الوسطى، ليحـصل من هـــذا الطرف أو ذاك على ما يخدم أهداف سياسته في البقاء على رأس السلطة، كما أن التنافس الصيني لم يكن بعيداً عن الأجواء، وطشقند تعتبر شريكاً تجارياً رئيسيا لبكين، وكذلك حليفاً في محاربة الإرهاب والانفصالية التي تعتبر ملفات أساسية للصين، وخصوصاً مع وجود أعداد كبيرة من الإيغور في أوزبكستان وعموم آسيا الوسطى.

كان إسلام كريموف قادراً على بناء التوازن الضروري بين العشائر والعلاقات الخارجية، وجاء

“تنظر موسكو إلى طشقند حديقة خلفية، لا تقل أهميةً عن القرم وطرطوس” توازناً ناجحاً حقق استقراراً لسلطة كريموف نفسه. ولكن، بعد وفاته قبل أيام، يمكن أن تصل الأمور إلى حرب شاملة بين العشائر للسيطرة على “عرش طشقند”. وفي إشارةٍ واضحة إلى نجاحه في إنشاء نظام من الضوابط والتوازنات، طوال فترة حكمه، والذي استمر أكثر من 26 عاما، لم يتعرّض كريموف لأي محاولة انقلاب من العشائر أو من محيطه.

يبدو على الساحة الأوزبكية اليوم أنصار الحكومة القوية، والإسلاميون المتطرفون، وممثلو هياكل السلطة، والعشائر الإقليمية، وبالتالي، تفتقر الساحة السياسية إلى العوامل التي هي الأهم لتنفيذ “ثورة ملونة”، أو انقلاب عسكري، خصوصاً أن الوضع على الحدود مع أفغانستان معقد. وحتى في زمن الاتحاد السوفييتي، حاول المتطرفون التسلل إلى أوزبكستان، وفصل وادي فرغانة عن الدولة.

تعتبر أوزبكستان من أهم قنوات عبور المخدرات من أفغانستان إلى روسيا وأوروبا، ويعاني غالبية سكانها من الفقر المدقع، مع غياب فرص العمل، وغالبية العمال هم من المهاجرين في روسيا من أوزبكستان. ويزيد ذلك كله في السخط والتطرف بين صفوف سكان الدولة ذات الثقل الأكبر ديمغرافياً وتاريخياً في آسيا الوسطى، ويشكل العرق الأوزبكي غالبية سكانها (يتجاوز 30 مليون نسمة)، فيما يدين أكثر من 88% من الشعب بالإسلام.

وتنشط هناك حركة أوزبكستان الإسلامية وحزب التحرير، والحزب التركستاني الإسلامي، وحركة الإكرامية، وكذلك جماعات إسلامية عديدة متطرفة صغيرة تجنّد بنشاط أنصارا جدداً. ولا يستبعد أن وفاة كريموف فتحت الباب لتنظيم داعش لبدء العمل في أوزبكستان، لتكون البلاد ساحة لعدم الاستقرار وإحدى النقاط المرجعية للتنظيم المذكور، في حال فشل الحرس القديم في الاتفاق على خليفة قوي لكريموف، وهو الذي لم يسم أحداً. ومن المحتملين لولا كريموفا، الابنة الصغرى للرئيس، الممثل الدائم لأوزبكستان لدى اليونسكو، ورئيس الوزراء شوكت ميرزاييف، ونائب رئيس الوزراء وزير المالية رستم عظيموف، ورئيس جهاز الأمن القومي رستم إينوياتوف، ورئيس مجلس الشيوخ في الجمهورية نيغماتولا يولداشيف، ويتصف عظيموف باعتباره الأكثر ارتباطا بالمؤسسات المالية الدولية، وبالتالي، لديه فرصة أفضل لتحويل سياسة أوزبكستان نحو الغرب، بينما يُنظر إلى ميرزاييف على أنه حاكم مستقبلي مستبد، وهو أقل رضا من الغرب.

وفي غياب شخصية موحدة للخلافة، ستحافظ النخبة البيروقراطية الحاكمة على تعاونها، لضمان

“في غياب شخصية موحدة للخلافة، ستحافظ النخبة البيروقراطية الحاكمة على تعاونها، لضمان سيطرتها على السلطة” سيطرتها على السلطة، والحيلولة دون انتقالها إلى جهة أخرى، في ظل ارتباك المجتمع، ومن غير المستبعد أن تتحالف شخصياتٌ ضعيفة، لإقصاء المرشح القوي.

يبلغ متوسط عمر المواطنين في أوزبكستان 27 عاماً، أي ما يعادل فترة حكم كريموف، ويمكن لهؤلاء أيضا الخروج للشوارع، في ظل افتقارهم إلى متطلبات الحياة. وقد يكون هذا التطور بداية ظهور قوة جديدة في البلاد، تطالب لنفسها بالحكم، أو قد يدخل أوزبكستان في الفوضى التي قد يزيد من حدّتها استغلال الحركات المتطرفة للحدث، وعودة نشاطها، والمشاركة في تفاعلاتها.

أوزبكستان محاطةٌ بدول غير مستقرة، ومعرّضة أيضا للانفجار. وحدها كازاخستان يبدو الوضع فيها مطمئناً حتى الآن، إلا أن طاجيكستان وقيرغيزستان مهدّدتان بخطر الحركات المتطرفة والنزاعات العرقية والحروب الدينية، ووحدها روسيا ستكون في مواجهات كل تلك التحديات من استقبال اللاجئين إلى التعامل مع تهديدات انتقال الفوضى والتطرّف.

صحيح أنه يمكن لأوزبكستان أن تنحدر إلى حالةٍ من الانقسام والتردّد، خصوصاً أن البلاد غنية بعوامل الانفجار، إلا أن تجربة الجارة تركمانستان تبشر بنتائج مشجعة، فهناك، أيضا، كانت البلاد مغلقة، ولم تكن ديمقراطية. ومع ذلك، لم تنشب هناك حرب أهلية عند وفاة حاكمها المطلق سابار مراد نيازوف المفاجئة، وتم اختيار زعيم جديد بسلاسة مطلقة.

يبقى القول، إنه في الوقت الذي تسعى روسيا على أكثر من جبهة، لتعزيز وجود عسكري دائم لها في سورية، وإجبار الأطراف الإقليمية والدولية على تقديم تنازلاتٍ في أكثر من ملف لا علاقة لسورية بها، جاءت زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في طريق عودته من قمة العشرين، إلى مدينة سمرقند الأوزبكية، ولقاؤه عائلة الرئيس الراحل، ورئيس الوزراء، في رسالة واضحة إلى أكثر من جهة داخلياً وإقليميا ودوليا، أن طشقند تنظر إليها موسكو، السوفييتية والروسية، حديقة خلفية، لا تقل أهميةً عن القرم وطرطوس، وسط شرق أوسط كبير.

العربي الجديد

 

 

 

واشنطن وموسكو: اختلاف لا خلاف/ علي العبدالله

انتهى اجتماع قمة العشرين، وتبخرت وعود اللقاءات الثنائية التي روّج لها كمنصة لاطلاق الدخان الابيض حول الاتفاق على مخرج للاستعصاء في سورية، فلا اللقاء الطويل الذي جمع الرئيسين الاميركي والروسي(90 دقيقة) أسفر عن اتفاق، كان قيل انه شبه جاهز، وانه يحتاج الى وضع بصمة الرئيسين عليه، ولا اللقاء الاستدراكي لوزيري خارجية البلدين، حقق ذلك.

لم وأين المشكلة؟.

بعد لقاءات ثنائية عديدة (الأميركي الألماني، الأميركي الفرنسي، الأميركي البريطاني، الأميركي التركي. الروسي التركي، الروسي الفرنسي، الروسي الألماني، الروسي السعودي … الخ) وحديث عن اجواء ايجابية، ودعوات ومواقف واعدة، جاء اللقاء الأميركي الروسي ليعيد الحديث الى المربع الأول: لا اتفاق. ووعد بلقاءات جديدة لمتابعة المفاوضات لانجاز الاتفاق العتيد.

حاول الطرفان احتواء المفاجأة وتخفيف ردود الأفعال على فشل لقاء الرئيسين في الاعلان عن الاتفاق على خريطة الطريق، التي تم بحثها ودراستها في جنيف طوال اسابيع من قبل فريقي عمل البلدين اللذين ضما خبراء عسكريين واداريين وحقوقيين وتقنيين، فقدما أجوبة ذات طابع اجرائي او تقني من نوع “عدم الاتفاق على تحديد لائحة المنظمات الارهابية” و”عدم الاتفاق على آليات ضمان دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة وخاصةً في حلب”، وحاول كل طرف تحميل الطرف الآخر مسؤولية الفشل، حيث اعلنت الخارجية الأميركية “عن تراجع روسيا عن بعض القضايا التي اعتقدنا أننا اتفقنا عليها”، ورد الخارجية الروسية انه  “لا يوجد ما يستدعي إطلاق تصريحات درامية”، و “أن النقاشات ستتواصل”. اسباب ليست سوى قمة جبل الجليد، كما يقال، وان الاسباب الحقيقية لعدم الاتفاق، أو الجزء المغمور من جبل الجليد، هي خلافات جوهرية حول المنطلقات والأهداف الاستراتيجية للبلدين وعدم الاتفاق على زوايا النظر الى الملفات والقضايا العالقة بينهما، وهذه (الملفات والقضايا العالقة) تشمل مسائل كثيرة وخطيرة تحتاج الى الاتفاق على محددات للتعاطي حولها، وهذه بدورها تستدعي الاقرار بالاحجام والادوار والمصالح المترتبة على ذلك. فالادارة الأميركية ترى في روسيا دولة عدوة، وفق ما ورد في وثيقة الامن القومي التي اصدرتها عام 2015، وانها تعمل على تقويض النفوذ الأميركي في العالم، وتنسق مع دول أخرى(مجموعة البريكس) لتحقيق ذلك، وسلوكها في ملفات اقليمية ودولية يشي بانها مخادعة، كما تجلى ذلك في اوكرانيا، وتبيت لاعمال عدائية على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في اكثر من منطقة في العالم، وخاصة دول البلطيق واوروبا الشرقية، وبالتالي فليس من الحصافة في شيء اعطاؤها ما تريد: الاقرار بها كدولة ند للولايات المتحدة واشراكها في ادارة الملفات الدولية والاقليمية وحلها في نظام ثنائي القطبية. روسيا من جهتها ترى في التحركات الأميركية، من نشر الدرع الصاروخية في جوار روسيا الجغرافي (تركيا ورومانيا وبولندا وتشيكية)، وفي كوريا الجنوبية أخيرا، الى تمدد حلف الناتو نحو حدودها الغربية بضم دول كانت في المدار الروسي ايام الاتحاد السوفياتي وتقع في الحديقة الامامية لها، ونشر قوات للأطلسي في دول البلطيق وفي البحر الاسود واجراء مناورات وتدريبات مع دول شرق اوروبا، واعلان الاطلسي عن استعداده للدفاع عنها في وجه أي عدوان روسي، وعزلها دوليا، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربة الارهاب دون اشراكها، وخرق اتفاقات الحد من التسلح عبر قيام واشنطن بتحديث سلاحها النووي التكتيكي عبر تمديد عمره ورفع درجة دقته وفعاليته(نحو 200 قذيفة من طراز “بي ـ 61” منشورة في بلجيكا وهولندا وألمانيا وتركيا، وتكييفه بحيث يصبح بالإمكان إطلاقه من قاذفات “إف ـ 35”)، كان اتفق على التخلص منها، الى تشجيع الثورات الملونة واللعب داخل روسيا ذاتها بفرض عقوبات اقتصادية عليها والتلاعب باسعار النفط وبسعر صرف الروبل وتشجيع منظمات حقوق الانسان على التصدي لسلطة الكرملين، ترى فيها تهديدا مباشرا لها ولامنها القومي واستقرارها السياسي. وعليه يمكن قراءة التصعيد العسكري الروسي وتركيزه على نقاط محددة ذات اهمية استراتيجية(مدينة حلب) وحشد قوات بحرية وبرية كبيرة شرق المتوسط لتحقيق مكاسب وتسجيل نقاط كوسائل ضغط من اجل دفع الطرف الآخر للقبول بالتفاوض من أجل اتفاق استراتيجي شامل حول هذه الملفات والقضايا في ضوء رفض أميركي لمفاوضات من هذا النوع، لانها( الولايات المتحدة) لاتنوي اعطاء روسيا مكاسب استراتيجية، وانها مازالت تراها قوة اقليمية، كما قال الرئيس الأميركي في مقابلته المطولة مع مجلة ذا اتلانتك، وتعمل على احتوائها ضمن توازناتها الشاملة في استراتيجيتها الكونية.

تصريحان للرئيسين الأميركي والروسي كشفا حقيقة الموقف، فقد أشار الرئيس الأميركي الى “خلافات كبيرة”، وتحدث عما أسماه “أزمة ثقة” بين البلدين منعت الاتفاق، وقال الرئيس الروسي:”واشنطن وموسكو ستكثفان مواجهة “الارهاب”، لكن ينبغي تحسين العلاقات بين البلدين أولا”. ما يعني اننا أمام اختلاف عميق، وان الاتفاق مستبعد مالم تتغير أسس النظرة بحيث تسمح بالولوج الى بحث الملفات والقضايا العالقة على قواعد متفق عليها، وان الحل في سوريا مازال بعيدا، وان أي اتفاق سيتم لن يتجاوز حدود وقف اطلاق نار في حلب كمدخل لوقف اطلاق نار شامل، و “أنه لن يتم الانتقال إلى الشق السياسي قبل الانتهاء من الشق العسكري”، كما قال الرئيس الأميركي، وان الحل السياسي مؤجل الى ما بعد الانتخابات الأميركية وتسلّم الادارة الجديدة وترتيب بيتها الداخلي.

المدن

 

 

 

الأمريكي والروسي اتفقا…لم يتفقا… الخراب مستمر/ بكر صدقي

إنه لأمر ذي مغزى أن تجتمع «النواة الصلبة» لما كان يسمى بمجموعة أصدقاء سوريا، في مركز أبحاث في لندن، للاستماع إلى «رؤية» الهيئة العليا للتفاوض لـ»الحل السياسي» في سوريا. وما يزيد من عبثية المشهد، ويعطيه حجمه الحقيقي في حسابات الدول، مشاركة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في ورشة العمل البحثية هذه، عبر دارة تلفزيونية، بالصوت والصورة!

فالرجل السبعيني أتعبته أسفاره الكثيرة إلى موسكو وسوتشي وغيرها من مدن العالم، في ملاحقة زميله الروسي لافروف، والرئيس الروسي بوتين، بحثاً عن حل للمشكلة السورية التي شيَّبَت شعر رئيسه أوباما، وآن له أن يرتاح يوماً من عناء السفر، ويقوم بواجباته عبر وسائل الاتصال الحديثة، بدلاً من رحلة جديدة إلى لندن. خاصةً وأن ما سيسمعه من رئيس الهيئة التفاوضية العليا رياض حجاب، لن يغير شيئاً في معادلات الصراع أو في اجتراح حلول سحرية، بعدما أعلن أوباما الآيل إلى الرحيل عن البيت الأبيض، من الصين، عدم الوصول إلى اتفاق مع الروس على وقف إطلاق النار، وعن «أزمة الثقة» بين واشنطن وموسكو التي أفشلت الوصول إلى الاتفاق، على رأيه.

أزمة ثقة! وليس إعادة حصار حلب الشرقية بفضل الطيران الروسي المتخصص في استخدام أسلحة محرمة دولياً، وفي قصف المستشفيات والمباني الآهلة بالسكان!

أزمة ثقة، وليس عدم اتخاذ مجلس الأمن الدولي أي موقف (حتى لا نقول أي إجراء) من ثبوت إدانة النظام الكيماوي باستخدام السلاح الكيماوي، على قدم المساواة مع داعش على الأقل، وفقاً للجنة التحقيق الأممية التي قدمت له تقريرها.

أزمة ثقة، وليس استخدام روسيا لقواعد جوية إيرانية في قصف المدن السورية.

وكل ذلك من أجل مجرد إعادة تثبيت ما سمي بـ»وقف الأعمال العدائية» الذي أفشله الروسي قبل عميله الكيماوي في قصر المهاجرين، ولا يرضيه مجرد التباحث في وقف تحليق طيران النظام المتخصص في قتل المدنيين ببراميله الشهيرة التي دخلت التاريخ.

يلاحظ أنه كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية انخفض سقف «المطالب» (!) الأمريكية من روسيا. فقد نسي كيري، في زحمة أسفاره المرهقة ومفاوضاته «الشاقة» مع الشريك الروسي الفاقد لثقة واشنطن، أنه كان قد حدد موعداً، وإن كان «مرناً»، لبدء المرحلة الانتقالية، في مطلع شهر آب الذي مضى منذ أسابيع، وبات كل جهده ينصب لإقناع الشريك الروسي بإعادة فتح طريق الكاستيلو لمرور المساعدات الإنسانية!

في حين تصل ملايين الدولارات من الأمم المتحدة إلى «جمعية البستان» المملوكة لرامي مخلوف، لتمويل مجموعات الشبيحة التي أصبحت خارج سيطرة «مؤسسات الدولة» العزيزة على قلب الأمريكيين والروس، وفقاً لتقرير صحافي نشر قبل أيام وأكد تفسخ تلك المؤسسات بما يفوق أكثر التوقعات تشاؤماً.

وفي حين تصل ملايين أخرى، من المنظمة الأممية نفسها، العاجزة عن إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة من قبل الميليشيات المتعددة الجنسيات، إلى محافظة حمص، لإعادة تأهيل السوق الأثري الذي دمره النظام، في السنوات السابقة، على رؤوس أصحابه.

«سيكون السوق نقطة جذب للسياحة»! قالها مسؤول محلي في النظام المدان رسمياً باستخدام الكيماوي، في غمرة الترويج السياحي الذي يقوم به وزير السياحة في الآونة الأخيرة، ويسمي النزوح الداخلي للمدنيين الهاربين من البراميل القاتلة بالسياحة الداخلية! نعم، أليس قسم من نازحي حلب، خلال السنوات الماضية، في رحلة استجمام طويلة على شواطئ اللاذقية؟

هذه ليست زلات لسان أو أخطاء غير مقصودة في التصريحات الإعلامية لمسؤولي النظام. بل هي عمل مقصود تماماً كنوع من مد لسان السخرية من العالم الذي يتساهل مع مجرم مدان، مهما ارتكب من جرائم في سوريا أو دول الجوار. وفي الأمس أدانت محكمة لبنانية ضباطاً في المخابرات السورية، بالاسم، قاموا بتفجير جامعين في طرابلس، بعد ثلاثة أيام من الهجوم بالسلاح الكيماوي على الغوطتين الغربية والشرقية قرب دمشق. هذا الهجوم الذي قام به النظام على مرأى مفتشي الأمم المتحدة الذين كانوا في دمشق في ذلك الوقت. نعم، يتصرف النظام بوقاحة أكثر كلما أحس بأن أقوياء العالم ما زالوا يسمحون له بمواصلة تدمير سوريا فوق رؤوس السوريين.

في طريق عودته من قمة العشرين التي انعقدت في الصين، سئل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن فحوى اللقاءات الثنائية التي عقدها مع زملائه، فقال إنه أكد على زميله الروسي ضرورة وقف إطلاق النار في حلب قبل حلول عيد الأضحى، لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى القسم المحاصر من المدينة، ليتمكن الهلال الأحمر التركي من إيصال الملابس والأدوية وألعاب الأطفال، قال أردوغان الذي لا يمكنه أن ينسى أن العيد للأطفال أولاً! ونقل عن بوتين تفاؤله بشأن الوصول قريباً إلى وقف إطلاق النار.

أما عن باراك أوباما فنقل أردوغان رغبة الرجل في «عمل مشترك» مع تركيا من أجل الرقة! مع العلم أن وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو كان واضحاً بشأن ضرورة قيام «إدارة علمانية» في سوريا تمثل جميع الأطراف، مع التوكيد على وحدة الأراضي السورية!

لكل ما سبق، يبدو مفهوماً لماذا تَعقدُ النواة شديدة الصلابة لأصدقاء الشعب السوري ورشة عملها الفكرية في مركز أبحاث لندني، بمشاركة باهتة من الدول الإقليمية، وعبر وسائل الاتصال من جون كيري، للاستماع إلى «رؤية» الهيئة العليا للحل السياسي، التي باتت شبه متطابقة مع «رؤية» قرار مجلس الأمن بشأن الحل السياسي (6 أشهر للتفاوض، و18 شهراً للانتقالية! الدقة مطلوبة)، في الوقت الذي بات العالم بغالبية دوله الفاعلة يكاد يتبنى «رؤية» النظام للمشكلة (حرب على الإرهاب) وللحل (إعادة إعمار ما دمره النظام بأموال الأمم المتحدة، واستكمال التجريف السكاني بإشراف الأمم المتحدة، لتعود «سوريا الأسد أو نحرق البلد» جنةً سياحية بإشراف الأمم المتحدة)

عصفورية!

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

أوكرانيا مقابل سورية/ بشير البكر

توحي مجريات الحوارات الأميركية الروسية الأخيرة أن الحل السوري لم ينضج بعد على أقل تقدير، هذا إذا كان المرء متفائلاً، وأراد أن يطرد غيوم التشاؤم، فاللقاء الذي استمر ساعة ونصف الساعة بين الرئيسين، الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، في الصين يوم الإثنين الماضي، انتهى من دون أي نتيجة ملموسة، على الرغم من التمهيد الإيجابي له من الطرفين اللذين صاغا نص اتفاقٍ كان سيعلن في ختام اللقاء، وهو هدنة تبدأ في حلب، وتعمّم لاحقاً على مستوى سورية، لتشكل مدخلاً إلى وقف إطلاق نار شامل.

قبل يوم من انعقاد الاجتماع على هامش قمة العشرين، سرّب المندوب الأميركي إلى سورية، مايكل راتني، نص الاتفاق الأميركي الروسي، في رسالة بعثها إلى الفصائل الرئيسية في المعارضة السورية المسلحة. وتحدّث وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن عقبتين باقيتين في طريق الاتفاق، بحاجة إلى تذليل في اجتماع الرئيسين، تتعلق الأولى بالضمانة الرئيسية للرد على انتهاكات النظام الرسمي الهدنة، بينما تتركز الثانية على مسألة ضبط “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقاً).

اتسمت الساعات التي سبقت اللقاء بالشد والجذب على الصعيد الدبلوماسي والتسخين الميداني الذي انتهى لصالح الروس في حلب، باستعادة النظام السوري وحلفائه الإيرانيين فرض الحصار على حلب، وإعادة الموقف إلى ما كان عليه قبل السادس من أغسطس/ آب الماضي. وعكس ذلك جانباً من أساليب المناورة الروسية داخل الملعب السوري، والتي تنطلق من حسابات خاصة، قائمة على منطق المصلحة الروسية أولاً. وانعكس ذلك في حديث بوتين في المؤتمر الصحافي الذي عقده، بعد ختام الاجتماع مع أوباما. وكان الرئيس الروسي صريحاً، حين أفصح أن جانباً من الاجتماع تناول العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، بسبب النزاع في أوكرانيا.

أوضح بوتين أن المفاوضات كانت معقدة، لأنها تناولت قضايا متشابكة، وكشف خبراء تابعوا الاجتماع أنه تناول الملفين السوري والأوكرواني فقط، وأن بوتين ربط بينهما. ومن هنا، يرى الخبراء أن رمي ورقة العقوبات على الطاولة كان من قبيل تقديمها مفتاحاً للحل في سورية، وهذا لا يعني أن رفع العقوبات سيدفع الروس إلى التنازل في سورية، إنما سيمهد للتعاون من أجل البدء في مفاوضات الحل في سورية، وهذه مسألة أخرى، سوف يكون البحث فيها على أسس أخرى، ووفق حساباتٍ تنطلق من موازين القوى على الأرض. إذن، طرح بوتين مقايضة الهدنة برفع العقوبات، وربما تشهد الفترة المقبلة وضوحاً أكثر، وألا تبقى المساومة في الكواليس، وذلك تبعاً لتقدم المفاوضات بين كيري ولافروف.

يتصرف الروس من موقع أن أوراقهم في سورية أقوى من الأوراق الأميركية، بل من الأطراف كافة، بما في ذلك النظام وإيران، وأنه في وسعهم أن يفرضوا وقفاً لإطلاق النار على الأطراف كافة، كما بمقدورهم تصعيد الأوضاع. وقد تبين، خلال السنة الماضية، أن الثمن الذي يطلبونه من أجل المساعدة على حلٍّ بنّاء في سورية كبير، وقد تجاوز ذلك العروض التي قدمتها الأطراف الإقليمية لموسكو، وهم لا يخفون أن هدفهم الأسمى أن يرفع الغرب يده عن أوكرانيا ويغلق هذا الملف. ويتبين من مسلسل كيري لافروف عن سورية أن الروس غير مستعجلين من أمرهم في الوصول إلى تسوية، فهم من جهةٍ يعتقدون أن الورقة السورية في يدهم يزداد ثمنها كل يوم. ومن جهة أخرى، يأخذون في عين الاعتبار الانتخابات الرئاسية الأميركية التي باتت على الأبواب، ويفضلون أن يتريثوا كي يتفاوضوا مع الإدارة الأميركية المقبلة، والتي لن تكون لديها بالضرورة مقاربة إدارة أوباما.

العربي الجديد

 

 

 

 

بين أميركا وروسيا/ ميشيل كيلو

استقرت في رؤية معارضين سوريين كثر آراء ثلاثة متناقضة حول الغزو الروسي لسورية، قال أولها إن أميركا نجحت، أخيراً، في استدراج موسكو إلى فخ في المستنقع السوري، حيث ستتعرض لضرباتٍ مؤثرةٍ كالتي تلقتها في أفغانستان، ولعبت دوراً كبيراً في انهيار الاتحاد السوفييتي. وقال ثانيها عكس ذلك، وهو أن روسيا دخلت إلى سورية، لتنجز مهمة أميركية هي إضعاف المعارضة المسلحة إلى حدٍّ يرغمها على قبول حل سياسي، يبقي على الأسد خلال فترة انتقالية اتفق عليها الجباران، فضلا عن السماح له بإعادة ترشيح نفسه في الانتخابات التي ستجري بعد نهاية هذه الفترة، بينما زعم رأي ثالث أن هدف الغزو المدعوم أميركيا هو إضعاف إيران، تمهيدا لإرغام الأسد على قبول الحل السياسي الذي دأب على رفضه، تمسّكاً منه بحل عسكري تؤيده طهران، كان من المحال إقناعه بالتخلي عنه من دون تدخل عسكري روسي، يمسك بأوراقه ويضعف إيران ويفرض عليهما الحل الدولي.

قامت نظرية “الفخ والمستنقع” على الاعتقاد بأن واشنطن ستمد المقاومة في لحظةٍ لا بد آتية بصواريخ مضادة للطائرات، أو ستسمح لحلفائها بتقديمها لها، لقلب علاقات وموازين القوى لصالح الثورة، وتحقيق هدفين: انفراد البيت الأبيض بتحديد مآل الصراع في سورية، واستخدام نتائجه لاختراق المجالين العربي والإقليمي والفوز بالشرق الأوسط، وبالتحديد منه إيران، بما أن العرب ليسوا خارج القبضة الأميركية.

لم تتحقق هذه النظرية، بل وقع عكسها، وبدل أن تسقط روسيا في “الفخ” وتغرق في “المستنقع”، أحجمت أميركا عن خوض الصراع ضدها في المجال العسكري، واستغلت التعقيدات التي سببها غزوها لتدير ظهرها للحل السياسي، وتتلاعب بالجميع عبر تلاعبها بالموقف من الأسد، وتسارع، في الوقت نفسه، إلى بناء وجود عسكري أميركي ثابت شمال سورية، وإدخال مكوناتٍ سياسية وعسكرية جديدة إلى الصراع، ألقى بعضها ظلالاً كثيفة من الشك حول التزامها بوحدة سورية ودولتها المستقلة والسيدة، وقوّض بعضها الآخر جوانب من سياساتها المعلنة ونظرتها إلى حلٍّ يستبدل النظام الأسدي بآخر ديمقراطي، تطبيقاً لوثيقة جنيف وقرارات دولية عديدة، بدا أنها لم تعد مرجعية ملزمة بالنسبة لها.

لم يصدّق من آمنوا بنظرية “الفخ والمستنقع” ما كان يؤكده جميع دبلوماسيي أميركا، وهو أن إدارتها لا ولن تمتلك “خطة ب”، ولن تطور بديلا لسياساتها السورية الراهنة، ولن تجعل الحل من أولوياتها، بينما كانت التجربة تؤكد أنها تدير الصراع ولا تعمل لحله، وإلا لما خالفت مواقفها قرارات دولية شاركت في إقرارها حول سورية، ولما أسست وجوداً عسكرياً مؤثراً على أرضها، ولما أقامت بنى وتشابكات تتيح لها الإمساك بالمجال السوري، ومدّ نشاطها إلى ما ورائه، حيث تسود علاقات شد وجذب محلية وإقليمية ودولية شديدة التعقيد مع موسكو وإيران، لا تبدو واشنطن متلهفة على حسمها.

لا تتبنى واشنطن سياسات مواجهة عسكرية، مباشرة أو بالواسطة، حيال الوجود العسكري الروسي في سورية، بل تستغله كي تقيم بموازاته وجوداً عسكرياً خاصاً بها، في مناطق مفتوحة على تركيا والعراق وإيران، يمكّنها الإمساك بها من وضع مفاتيح سورية والمنطقة في يدها، ومن رسم حدود لدور روسيا في سورية، بعد أن حالت دون امتداده إلى خارجها، ووطدت حضورها العسكري في العراق والأردن، ووسّعت نفوذها ليشمل الجيش الحر وخصمه “قوات سورية الديمقراطية” الكردية، وعزّزت أوراقها السورية، وقدرتها على التدخل العميق في عموم المنطقة، وأسهمت في احتجاز الحل السياسي، لأنها ربطته دوماً بخدمة مصالحها وليس بتلبية مطالب السوريين، ونجحت في إرساء بنية علائقية وتحتية لن تسمح لأحد أو لحل بالتعرض لها، تستطيع استخدامها حتى ضد روسيا، في سورية وخارجها.

ونظرية “الفخ والمستنقع”؟ إذا لم تخرج المعارضة من “فخ” سذاجة توهمها أن خصومها أصدقاء، وتؤمن أن مصير شعبها يرتبط بتنظيم قواها الذاتية، قضت غرقاً في “المستنقع” الدولي الذي لم تحسن يوما السباحة فيه.

العربي الجديد

 

 

 

سحر بوتين الخفيّ/ حازم صاغية

في انتخابات أميركا الرئاسيّة في 2000، حين تأخّر إعلان نتائج المنافسة بين جورج دبليو بوش وآل غور بسبب فرز الأصوات في فلوريدا، ظهرت دعابة عربيّة يصلح أن تُروى عن أيّ بلد يُجري انتخابات شكليّة. فقد تباهى العربيّ المفترض بقوله: إنّ الفارق بيننا وبينهم أنّ الأميركيّين لا يعرفون نتائج الانتخابات إلاّ بعد وقت طويل على حدوثها، فيما نحن نعرف النتائج قبل وقت طويل على إجرائها.

وإذا رمزت النكتة هذه إلى فوارق كبرى بين الثقافتين السياسيّتين السائدتين في العالم العربيّ والولايات المتّحدة، فإنّ العلاقة بروسيا بوتين تُعفي من مزاح كهذا. ذاك أنّ الصلة ببوتين تنطوي على جدّيّة العلاقة بين المسحور بالساحر، حيث يعبّر الرئيس الروسيّ عمّا نفعل وعمّا نشتهي أن نفعل ولا نستطيع. فهو، في آن واحد، قدراتنا ومستحيلاتنا، وهو شبيهنا ومثالنا معاً.

فسيّد الكرملين ابتدع صيغة في التناوب مع ديمتري ميدفيديف مدهشة يسيل لها لُعاب الحكّام. لكنّه حين يحكم، مباشرة أو مداورة، يمارس نوعاً من تجاوز التفويض الديموقراطيّ، تعزّزه الكفاءات غير الديموقراطيّة التي ينمّيها العمل في مخابرات سبق أن درّبت أقوى أجهزة مخابراتنا. فهو يخاطب فينا المتشاطر والمراوغ الذي لم تشذّبه تقاليد سياسيّة ولا إملاءات مؤسّسيّة، خصوصاً أنّ سيرة انتقاله من «الكي جي بي» التي غادرها في 1991، ووصوله من بطرسبورغ إلى موسكو في 1996، سيرة راسبوتينيّة جعلته يحيط بالمريض والسكّير بوريس يلتسن إحاطة الراهب غريغوري راسبوتين بآخر بيت رومانوفيّ حاكم. ومن شطارته، التي تستهوي الفهلويّ فينا، أنّه «أنقذ» بلده المتداعي بدواء الارتفاع الذي أصاب أسعار النفط والغاز الطبيعيّ، بموجب اقتصاد ريعيّ يعفي من الإنتاج ومن الجهد والتفكير، كما يجنّب مغبّة الحرّيّة بوصفها مصدر الخيال والإبداع في اقتصاد ما بعد صناعيّ، لكنْ بوصفها أيضاً محكّ المسؤوليّة. أمّا أن تُلغى بورجوازيّة مستقلّة تطالب بالسلطة، أو بحصّة منها، فهذه نعمة تفوق ما نستحقّ.

أبعد من ذلك أنّ بوتين حاكم «قويّ»، لا بالمعنى الذي يجعل مؤسّسة الحكم قويّة، وطبعاً ليس بما يجعل المجتمع قويّاً. إنّه قويّ بالمعنى الذي يستمدّ القوّة من الجيش أو الأمن، ودائماً من هيبته على المحكومين وخوفهم منه. فإذا ما ذهب بعيداً في دوس كراماتهم، أنعش تلك الكرامات المُداسة إنعاشاً زائفاً بمواجهته للخارج. وأميركا، بالطبع، حاضرة ناضرة لأن تكون ذاك الخارج الذي يُسنّ سيف الكرامة التافهة على حديده.

وبوتين، بوصفه رمزاً لدولة «قويّة» وكبرى، أتاح له التراخي الأميركيّ والغربيّ أن يضمّ القرم ويتدخّل في الشرق الأوكرانيّ، يخدمنا وينوب عنّا، نحن الذين نريد أيضاً إلحاق الهزيمة بأميركا. وهذا، كما نعلم، أرّق ويؤرّق قوميّين وشعبويّين وإسلاميّين ويساريّين باتوا يردّدون، بعد سيّدهم، فيما مجتمعاتهم وبلدانهم تتفسّخ وتنهار، أنّ «زمن الهزائم ولّى».

ولئن رتّبت ملاحم بوتين أكلافاً، كتعريض روسيا للعقوبات، فإنّ صدّام حسين، أحد أبرز «أبطال الأمّة العربيّة»، كابد تلك العقوبات من دون أن يتسنّى له النجاح الذي تسنّى لبوتين. لا بل يستطيع الحاكم الروسيّ، على رغم كلّ شيء، أن يفرض نفسه «حليفاً» للغرب في غير موقع ومسألة.

ولحكّام طغاة كبشّار الأسد، يبدو الرئيس الروسيّ نصيراً للأمر الواقع الذي جعله يرث أباه قبل أن يباشر القتل الجماعيّ، فكأنّ بوتين العمّ الأكبر الحريص على تنفيذ الوصيّة التي كتبها الأب الراحل والقادر على ذلك. ثمّ إنّه يقيم حكمه من وراء واجهة ديموقراطيّة، هي بالأحرى انتخابيّة، تلطّف صورة الطاغية الصغير وتنعّمها، وهذا من دون توريطه أيديولوجيّاً على ما كان الأمر إبّان الاتّحاد السوفياتيّ وفي زمنه الحزبيّ والعقائديّ. فاليوم، وبفضل بوتين، يمكن الأسد وأمثاله أن يمارسوا الحنين إلى الزمن السوفياتيّ من دون أيّة كلفة إيديولوجيّة أو مبدئيّة. فهذه الأخيرة إنّما استُبدلت بالشطارة المحضة التي تحمل أصحابها على الغطس في الفساد النيوليبراليّ مصحوباً بغضّ النظر عن صداقة بوتين ونتانياهو.

وفي بوتين خليط من العلمانيّة والدين، ومن قوميّة الدولة وإمبراطوريّتها، وهي كلّها امتُحنت في غروزني إحراقاً للأرض ومثالاً مرغوباً في التعاطي مع المحكومين.

واليوم، إذ تتعثّر الديموقراطيّة الليبراليّة، ويجزم دونالد ترامب بأنّ بوتين قائد أفضل من أوباما، يلوح كأنّ ذاك السحر بات يمتلك قوّة العدوى، وأنّ الرئيس الروسيّ ارتقى إلى مخاطبة المنحطّ في طبيعة البشر أيّاً كانوا.

الحياة

 

 

 

 

 

لا ثقة بروسيا لضبط الأسد ولا بأميركا لإنصاف الشعب/ عبدالوهاب بدرخان

انتهى عهد باراك أوباما عملياً، وبدأ انتظار هيلاري كلينتون والرهان عليها. وبالنسبة إلى سورية، لم يعد يؤمل من الرئيس المغادر سوى أمر واحد: أن لا يرتكب هفوات يمكن أن تكبّل سياسات الرئيسة المقبلة وخياراتها. وليس مضموناً تماماً أن لا يرتكب أوباما (مع وزيره جون كيري) تنازلات مكلفة مستقبلياً لسورية وشعبها، بذريعة الحفاظ على التشاور والتعاون مع فلاديمير بوتين الذي لم يقدّم أي تنازل منذ صارت لديه قوات وطائرات على الأرض السورية وفي سمائها. فـ «الاتفاق» الذي اشتهر قبل إبرامه بأنه ثلاثي الأهداف (تنسيق مباشر في محاربة الإرهاب، هدنة شاملة، إعادة إطلاق المفاوضات السياسية) تحتاجه إدارة أوباما لضبط الوضع السوري الى حين تنصيب الإدارة الجديدة، فيما تحتاجه موسكو للتحكّم مسبقاً بإدارة كلينتون من دون أن تلتزم فعلاً عدم الاستمرار في تغيير الوقائع على الأرض أو ضمان مقوّمات الحد الأدنى للحل السياسي.

تبقى للطرفين مصلحة في «اتفاقٍ» ما حتى لو أبقيا على النقاط الخلافية من دون حلّ، وإذ سعى كل طرف الى حدٍّ أقصى من «المكاسب» فإن اختلاف منطلقاتهما يفرض دائماً منطقه طالما أن روسيا متحالفة مع النظام السوري وإيران، أما أميركا فلا تلتزم أي حليف أو صديق أو قضية، باستثناء العلاقة المريبة مع الفرع السوري لـ «بي كي كي» الذي مارس عداءً كاملاً للمعارضة السورية. ومع افتراض أن لدى واشنطن «مبادئ»، فإن تنازلاتها قوّت حجّة روسيا «البلامبادئ»، وبالتالي أضعفت شروطها للمرحلة المقبلة وما بعدها، وحتى ورقتها «القوية» (ضرب «داعش») انكشفت بفعل التدخل التركي في سورية بموافقة روسية وإيرانية. فالأتراك، وهم مشتبهون بدعم «داعش» في البدايات، اعتمدوا على قوات من «الجيش السوري الحرّ» لقتال هذا التنظيم، أما الأميركيون فرفضوا سابقاً دعم «الجيش الحرّ» لإسقاط نظام بشار الأسد مشرعين الأبواب لدخول «داعش» وانتشاره، وعندما فضّلوا لاحقاً دعم الأكراد بدلاً من «الجيش الحرّ» لقتال «داعش» كانوا يفتحون صراعاً آخر لا يقود الى تقسيم سورية فحسب بل تهدّد امتداداته بتشظّي جغرافية كل دول المنطقة.

وفق التعريف، يُعتبر أي اتفاق بين دولتين كبريين لمصلحتهما أولاً وأخيراً، مع احتمال أن تراعيا مصالح حلفاء آخرين يتكالبون مثلهما على تقاسم تلك الدولة المعنيّة المأزومة والمهدّدة بوجودها ومصير شعبها. وفي حال سورية، تبرز فوارق بين الدولتين: فروسيا (البلامبادئ) مثلاً تريد حماية تدخلها وعدم تعقيده ولذلك فهي لا تبدي استعداداً متهالكاً للتخلّي عن حلفائها الإيرانيين والأسديين بل تحاول زيادة عدد الحلفاء وهو ما يظهر في تقاربها مع تركيا ومنحها امتيازات لقاء تنازلات. أما أميركا (ذات «المبادئ»!) فلا تتوانى عن إشعار حلفائها بأنها غير معنية بهم أو بمصالحهم، وتريدهم جميعاً أدوات لديها بل إنها مضت بسياساتها الى حدّ استعداء تركيا والمجازفة بأمن السعودية وسائر دول الخليج. أكثر من ذلك، ذهبت أميركا في مساوماتها مع روسيا الى القبول اللاأخلاقي ببقاء الأسد ونظامه، كما جيّرت بعض مغازلتها ايران لمغازلة ميليشيات طائفية كالحوثيين في اليمن و «الحشد الشعبي» في العراق.

تبقى «الهدنة الشاملة» المحك الرئيسي للاتفاق الأميركي – الروسي المرتقب، وهذا رهان طموح جدّاً يعرف الجميع قياساً الى السوابق أن تصديقه صعبٌ مثل تطبيقه. ومن الواضح أنه يركّز على ترتيبات لوقف القتال في جبهة حلب التي غدت أخيراً عنوان الحسم العسكري بالنسبة الى النظام والإيرانيين، لكن الترتيبات لا تشمل جبهات الغوطة التي ستعتمد على الوقف الشامل للنار وبالتالي فهي ستكون تحت رحمة «الخروقات» التي يجيدها النظام وحلفاؤه. صحيح أن الصعوبة لا تعني الاستحالة، لكن احترام الهدنة سيعتمد الى حد كبير على روسيا، سواء بالتزامها الصارم أو بإلزام حليفيها التخلّي عن خططهما في شأن حلب خصوصاً بعدما استعادا وضعية محاصرتها، أو التوقف عن التهجير القسري في الغوطة وهو الأهم بالنسبة اليهما لمتابعة خطة التغيير الديموغرافي. إذا استطاع الروس ضبط الحليفين فهذا سيكون إنجازاً في حد ذاته لأن النظام، فضلاً عن إيران، يعتبران التوقف عن القتل نكسة تجنّباها طوال الأزمة.

مع افتراض أن روسيا مصممة هذه المرّة على احترام وقف النار، فلا شك أن التساؤل سيُطرح عما تحصل عليه في المقابل، ولا بدّ أن يكون ملموساً ليستحق تولّيها حراسة الهدنة. ولا يمكن الاعتقاد بأن روسيا ستقنع فقط بالتنازلات التي قدّمت في الجانب السياسي، أو بالتعاون الأميركي في محاربة «جبهة النصرة/ فتح الشام» التي لا تزال آلية تنفيذها نقطة غامضة نظراً الى صعوبة الفصل أو التمييز بين المعتدلين والمتطرّفين في المعارضة وإلى ازدياد التداخل بينهما أخيراً خلال القتال في حلب. ومهما بلغت دقّة الضربات الموجّهة الى «النصرة»، فإنها ستشوّش على أجواء الهدنة وربما تزعزع التزامها من جانب فصائل المعارضة التي لا تثق بأيٍّ من القوى الخارجية، ولا سيما الروس والإيرانيين. والمؤكّد أن الفصائل تنظر بارتياب الى المتغيّرات الإقليمية وتداعياتها الميدانية في الشمال، ولا تستبعد احتمالات السعي الى تصفيتها أو دفعها الى التقاتل في ما بينها تحت غطاء محاربة «النصرة».

ثمة حلقة أو أكثر مفقودة إذاً لضمان صلابة «الاتفاق» وكفاءة تنفيذه، رغم أن الأميركيين والروس يظهرون اقتناعاً ناجزاً بأن الهدنة ممر إلزامي الى الشق السياسي، بل يعزون تأخّره الى حرصهم على أن يكون جدّياً وقادراً على التمهيد لإطلاق «عملية سياسية»، علماً بأن التسريبات الأميركية ظلّت قليلة في ما يخص توافقات الحل السياسي. صحيح أن التجربة أثبتت أن لا مفاوضات ممكنة تحت القصف الوحشي وحصارات التجويع، لكنها دلّت أيضاً على أن روسيا كانت تلعب لعبة التصعيد متوقعة الحصول على استسلام المعارضة. فهل تغيّرت طباعها بعد عام على تدخّلها، وهل باتت تتمايز عن عقلية النظام والإيرانيين وميليشياتهم، أم أن بوتين اقتنع بأنه أخذ أقصى ما يستطيعه من أوباما وأصبح عليه الآن أن يتهيّأ للإدارة التالية في واشنطن بمقدار من المهادنة الآنية؟ كل ذلك يبقى قيد الاختبار، وما لا يُنسى أن موسكو لم تغيّر سياستها ولم تراجعها طوال الأعوام الخمسة، بل على العكس استطاعت أن تغيّر سياسات واشنطن وأنقرة والعديد من العواصم الأوروبية.

لعل المعارضة السورية مدركة ومتحسّبة لأن ثمن أي هدنة جدّية قد يكون حلّاً سياسياً مجحفاً وضغوطاً عليها وعلى الدول التي تدعمها كي لا تعرقله. فعلى رغم الدعاية الواسعة للاتفاق الأميركي – الروسي حتى قبل التوصّل اليه، والتطمينات في رسائل المبعوث الأميركي الخاص، يبقى أن روسيا تواظب على تجاهل المعارضة ولا تخاطبها إلا بالاشتراطات، ولا تزال تتبنّى صيغة حل هي نسخة طبق الأصل عما رسمه النظام. لكن تغيّر بعض المواقف من النظام ليس سبباً كافياً أو موجباً لأن تتخلّى المعارضة عن مطلبها الأساسي بأن تكون المرحلة الانتقالية من دون الأسد، فرحيله أساس لنجاح أي حل، وبقاؤه وصفة لفشل أي حل. وفي ورقة العمل التي أقرّتها المعارضة استعداداً للمفاوضات، كما في المداولات بين الأميركيين والروس، بات «المجلس العسكري» يحتل موقعاً مفتاحياً في أي مرحلة انتقالية. فالمعارضة تريد أن تشكله «هيئة الحكم الانتقالي» من «قوى الثورة وجيش النظام (ممن لم تتلطّخ أيديهم بدماء السوريين)»، وقد تطلب الأطراف الدولية أن يضمّ أيضاً ممثلين عن الأكراد. والأرجح أن يصار الى إرضاء المعارضة في تركيبة هذا المجلس إذا بقيت «الحكومة» بديلاً من «هيئة الحكم»… لكن المهم أن تكون الهدنة والمفاوضات بداية النهاية للأزمة والحرب، وهذا ما لا تؤكده مؤشرات ولا ضمانات حتى إشعار آخر.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

عن المفاوضات الأميركية ـ الروسية حول سوريا: لماذا تصرّ موسكو على الاستمرار بالتفاوض؟/ محمد صالح الفتيح

منذ أشهر والعالم يترقب خروج الدخان الأبيض إيذاناً بإنجاز الروس والأميركيين اتفاقهم حول سوريا، وهو الاتفاق الذي نعلم الآن بعض خطوطه العامة، بفضل التسريبات الأميركية، أولاً العرض الأميركي لموسكو كما سرّبته «واشنطن بوست» في 13 تموز الماضي، ثم رسالة المبعوث الأميركي مايكل راتني للمعارضة السورية في 3 أيلول الحالي. محاولة إيجاد صيغة للتعاون في محاربة الإرهاب، «داعش» و «جبهة النصرة»، هي الواجهة التي يعمل الطرفان خلفها لإنجاز تفاهمهما حول مستقبل سوريا والحل السياسي فيها. بات من الواضح أيضاً أن المفاوضات شاقة للغاية والشروط الأميركية مرتفعة للغاية، ولكن الروس مصرّون على رفض إعلان فشل المفاوضات.

تظهرُ المقارنةُ بين التسريبين، اللذين يفصل بينهما شهران، أن الخطوط العامة للاتفاق لم تتحسن، بل يمكن القول، وبكثير من الموضوعية، أنها أصبحت أكثر سوءاً، سواء لناحية ما يقدمه الأميركيون أو لناحية صرامة التعهدات التي يلزمون أنفسهم بها. في العرض الأول تحدث الأميركيون عن إنشاء مجموعة تنسيق أميركية روسية تُنجز خلال «ما لا يزيد عن خمسة أيام على إنشائها» خريطةً مشتركةً تحدد مواقع التجمعات الكثيفة لـ «جبهة النصرة»، تمييزاً لها عن الفصائل الأخرى. يبدأ بعد ذلك وقفٌ لإطلاق النار، يلتزم فيه الجيش السوري بإبقاء طائراته على الأرض، فيما يتولى الروس والأميركيون استهداف الإرهابيين. وسيقومان بمراقبة أنشطة سلاح الجو السوري، بما في ذلك أدق التفاصيل الفنية؛ ولن يُسمح للجيش السوري بالتحرك، حتى دفاعاً عن النفس، إلا بعد إبلاغ غرفة العمليات الأميركية – الروسية المشتركة. والهدف النهائي لهذا الاتفاق هو التوصل إلى تفاهم روسي ـ أميركي على مسائل عدة، أهمها إطارٌ للانتقال السياسي في سوريا وفقاً للقرار 2254. وبرغم كل مساوئ هذا العرض، جاءت رسالة مايكل راتني لتكشف أن هناك ما هو أسوأ.

فيما لم يتضمن العرض الأميركي في تموز أي مطالبة بانسحاب الجيش السوري من أي نقطة، تكشف رسالة راتني أن المطلوب الآن هو تحويل منطقة طريق «الكاستيلو» إلى منطقة منزوعة السلاح، ورفع الحصار عن حلب الشرقية. تفاصيل الانسحاب من «الكاستيلو»، المفصلة للغاية، وصولاً إلى عدد الجنود المسموح ببقائهم، لا تقابلها سوى إشارة إلى أن مقاتلي المعارضة سينسحبون من مناطق سيتم تحديدها لاحقاً. وهناك إشارة إلى أن المفاوضات لاتزال مستمرة لتحديد الجهة التي ستدير حاجزي تفتيش، سيتم إنشاؤهما على طريق الكاستيلو، وهذه إشارة إلى نية شرعنة التدخل بحجة المراقبة. وفي رسالة راتني، حل هدف «إضعاف القاعدة» محل هدف «هزيمة داعش والنصرة»، في عرض تموز. أما الأكثر أهمية فهو غياب جدول زمني واضح لبدء العملية السياسية. باختصار، ستحصل واشنطن على اتفاق وقف إطلاق للنار، وزيادة وجودها على الأراضي السورية، وقد يؤجَّل حل الملف السوري إلى ما بعد وصول الإدارة الأميركية المقبلة. ولكن لماذا تستمر موسكو بالتفاوض وفق هذه الشروط السيئة؟ الغالب أن موسكو تدرك أن الاتفاق، على مساوئه، يبقى أفضل من اللااتفاق. فما هو منبع هذه الرؤية الروسية؟

بدايةً، كان هدف موسكو المعلن منذ بداية تدخلها العسكري في سوريا، قبل عام تقريباً، هو تسريع التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وقد ظهر هذا واضحاً من خلال حرص بوتين على لقاء أوباما قبيل انطلاق العملية العسكرية، ومن خلال اللقاءات الرباعية، الأميركية الروسية التركية السعودية، في فيينا، في تشرين الأول الماضي، وأيضاً من خلال تمرير روسيا للقرار 2254 الذي وضع جدولاً زمنياً للحل السياسي في سوريا. إذاً، أولوية موسكو، منذ البداية، هي انتزاع اتفاق سياسي صعب وليس انتزاع انتصار عسكري شبه مستحيل، ومكلف للغاية.

ثانياً، تراقب موسكو بعض التطورات الخطيرة في الميدان السوري. الدخول التركي إلى الشمال السوري هو واحد فقط من هذه التطورات. في السابق، كانت تركيا تُدخل السلاح والمسلحين إلى سوريا عبر معبرين حدوديين رئيسيين اثنين، باب السلامة في حلب وباب الهوى في إدلب، ولم يكن من السهل دائماً رصد هذين المعبرين واستهداف الأرتال الآتية. أما اليوم، ومع زوال جزء مهم من الحدود السورية التركية، سيكون من المستحيل استهداف أرتال المسلحين التي ستتجاوز خط الحدود السابق وتتحرك ضمن أراضي يسيطر عليها الجيش التركي، وهو جيش «أطلسي»، قبل أن تشق طريقها إلى إحدى الجبهات مع الجيش السوري. لن يكون من السهل رصد هذه الأرتال أو استهدافها ضمن الأراضي التي يحتلها الجيش التركي من دون المخاطرة بالتصعيد مع تركيا، وهذا ما لا تريده موسكو، وتتمناه واشنطن ضمنياً. ومن المتغيرات الأخرى أيضاً تزايد الوجود العسكري الأميركي في الأراضي السورية. «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، الذي طالما اعتبرته دمشق ورقةً مهمةً وزوّدته بكل ما يحتاجه، أدار لها ظهر المجن وقدم للأميركيين قاعدةً جويةً أولى في رميلان وأرضاً في عين العرب بنوا عليها قاعدةً جويةً ثانية. وهناك أنباءٌ اليوم عن أن الأميركيين يتطلّعون إلى «مطار الجراح»، غرب الفرات، الواقع تحت سيطرة تنظيم «داعش»، ليكون قاعدتهم الجوية الثالثة. هذا الوجود الأميركي المتصاعد، والذي يتمدّد أيضاً في الجنوب عبر «جيش سوريا الجديد»، لا يحمل ملامح وجودٍ مؤقت، وموسكو تدرك ذلك وتراقب هذا الوجود وهو يتمدّد باتجاه مناطق نفوذها.

ثالثاً، تدرك موسكو أن الخطر الإرهابي في سوريا قد فتح الباب لكل راغب بالتدخل بحجة مواجهة الإرهاب، ولم يعد من السهل منع هذه الدول من التدخل. منذ فترةٍ غير بعيدة كان هناك مَن يراهن على أن تفاقم الإرهاب في سوريا سيدفع الغرب، ما إن يكتوي بنار الإرهاب، لتغيير مواقفه من دمشق والتعاون معها ضد الإرهاب. سقط هذا الرهان. الغرب الذي برع باستخدام ورقة الإرهاب للتدخل في شؤون الدول الأخرى يستخدمها اليوم كذريعة للتدخل في سوريا. قوات خاصة أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية تتواجد الآن على الأراضي السورية، وقوات نرويجية وصلت إلى الأردن لتدريب مقاتلين سوريين للتصدي للإرهاب، وقد تدخل القوات النرويجية بدورها الأراضي السورية. وخطوط العرض الأميركي، سواء في صيغته الأولى أو الثانية، تنص صراحةً على أن تنتحي القوات السورية جانباً، فيما تتولى الولايات المتحدة وروسيا مهمة محاربة الإرهاب.

رابعاً، بعد ثلاثة أسابيع من الآن، يُكمل التدخل العسكري الروسي عامه الأول؛ لا مجال هنا لتقديم تقييم موضوعي شامل للتدخل الروسي، ولكن يمكن القول إن العامل الرئيسي الذي جعل لائحة الإنجازات الميدانية الروسية قصيرةً نوعاً ما هو تصاعد الدعم الخارجي للمسلحين. فعلى سبيل المثال، في الشهر الأول للتدخل العسكري الروسي، استخدم المسلحون حوالي 150 صاروخاً مضاداً للدبابات، منها نحو 120 صاروخ «تاو»، وهذه حصيلةٌ مرتفعةٌ للغاية إذا ما علمنا أن حصيلة أكثر من خمسين شهراً، سابقة للتدخل، كانت حوالي 860 صاروخاً فقط. وخلال الأشهر الماضية نقلت واشنطن ما مجموعه 4700 طن من الأسلحة، من رومانيا وبلغاريا، لتكون وجهتها النهائية هي الأراضي السورية. وصلت الدفعة الأولى منها في نهاية العام الماضي، ولعل أهم ما احتوته، بحسب مجلة Jane’s للشؤون الدفاعية، هو حوالي 800 صاروخ مضاد للدبابات من طراز «فاغوت» السوفياتي الصنع. لم يظهر أثر هذا الصاروخ إلا في شهر آب الماضي. فللمرة الأولى، منذ نيسان 2014، تخلى صاروخ «تاو» عن تصدر قائمة ما يتم استخدامه من صواريخ لصالح صاروخ آخر، هو صاروخ «فاغوت» الوافد حديثاً. تُراقب موسكو شحنات الأسلحة الأميركية وهي تعلم جيداً أن تأثير هذه الأسلحة في ميزان القوى، يحتاج لأشهر عديدة هي الفترة اللازمة لتدريب المقاتلين وتوزيع الحصص وتأمين نقلها وتخزينها، وبالتالي فإن تأثير الشحنات التالية لمَّا يظهر بعد. تنقل موسكو بدورها كمياتٍ كبيرةً من السلاح إلى الميدان السوري، ولكنها تدرك أن الاكتفاء بالرهان على «سباق تسليح» في سوريا يعني نجاح واشنطن في تحويل سوريا إلى مستنقع أفغاني جديد.

أخيراً، تدرك موسكو أنها في سباق مع الوقت وأن النافذة تضيق لإنجاز حل قبل نهاية ولاية أوباما التي باتت الطرف الوحيد في واشنطن الراغب بالتوصل إلى صفقة مع موسكو، بعدما باتت وزارة الدفاع الأميركية ومجمع المخابرات الأميركي، وحتى دوائر كثيرة في الخارجية الأميركية معاديةً تماماً لموسكو وتطالب بمواجهتها واستنزافها في سوريا. وإذا ما وصلت هيلاري كلينتون إلى المكتب البيضاوي فستكون تلك ثالثة الأثافي. أوباما من جانبه، وإن كان يسعى بجد لإنجاز حل للأزمة السورية، إلا أنه لن يفوّت على نفسه فرصة انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب، وهو يحتاج هذه المكاسب لتمرير الاتفاق في واشنطن.

لكل هذه الأسباب، وغيرها، تصر موسكو على استمرار المفاوضات وعدم الاعتراف بفشلها، برغم السقف الأميركي المرتفع. ولكن هذا لا يعني أيضاً أن موسكو تستعد للتنازل لإنجاز الاتفاق بأي ثمن، أو أن الاتفاق بات أمراً واقعاً. ففي الحقيقة، ومع مضي المزيد من الوقت، تَرجح كفة فشل المفاوضات. وإذا ما فشلت المفاوضات فعلاً، ربما يمكن العودة إلى الفقرات السابقة في محاولة لتكوين صورة عن المسار المقبل للحرب الأهلية السورية.

السفير

 

 

 

روسيا بين أيلولين/ سميح صعب

في ايلول 2015 كانت المهمة العاجلة لروسيا في سوريا هي إنقاذ النظام من السقوط يوم كان “جيش الفتح” المدعوم من تركيا ودول الخليج العربية والذي يمتلك سلاحاً أميركياً نوعياً، يتوغل في اللاذقية بعدما سيطر على كامل ادلب باستثناء بلدتي الفوعة وكفريا. وقد وفر التدخل الروسي العسكري للجيش السوري الانتقال من الدفاع الى الهجوم.

اليوم الجيش السوري يحاصر حلب بما يعنيه ذلك من معادلات ميدانية باتت صعبة على المعارضة بكل صنوفها من جهادية و”معتدلة” إذ يمكن ان تحدث فيها خرقاً نوعياً. وها هي الولايات المتحدة تستدعي تركيا الى سوريا براً للوقوف في وجه المعادلة التي فرضها محور موسكو – طهران، علما ان استدعاء تركيا فيه تضحية من الولايات المتحدة بأكراد سوريا الذين كانوا يقتربون من اعلان الكيان السياسي الخاص بهم على امتداد الشريط الحدودي للشمال السوري. اليوم بات هذا المشروع موضع شك بعد توغل الدبابات التركية؛ التي يستحيل في الحسابات الكبرى للدول ان تكون موجهة ضد “داعش” وحده.

في المفهوم الاستراتيجي تركيا في سوريا هي للحد من النفوذ الروسي على رغم كل الدفء الذي دب في أوصال العلاقات التركية – الروسية أخيراً.

وعندما تجري أميركا جردة حساب للمكاسب التي حققتها روسيا في سوريا خلال سنة من تدخلها العسكري، فهي تجد ان موسكو باتت القوة الأكثر تأثيراً في الساحة السورية. وأقر الرئيس الاميركي باراك اوباما على نحو غير مباشر بهذه الحقيقة على هامش مشاركته في قمة مجموعة الدول العشرين في مدينة هانغتشو الصينية في وقت سابق من الاسبوع الجاري، إذ قال في معرض انتقاد دور روسيا في سوريا، إنه لا يمكن ايجاد حل في سوريا من دون التعاون مع موسكو. طبعاً هذا الكلام موجه الى الرؤوس الحامية في الداخل الاميركي التي تدعو الى اعتماد أميركا خيارات في سوريا بعيداً من موسكو.

بعد سنة من التدخل العسكري في سوريا، بات الدور الروسي في المنطقة أكبر بكثير الى درجة تثير قلقاً في واشنطن. فروسيا موجودة اليوم حيث فشلت أميركا. والدعوة الروسية الى قمة فلسطينية – اسرائيلية في موسكو لإعادة اطلاق المفاوضات على المسار الفلسطيني، لا تسعد صانعي القرار في الولايات المتحدة. وعندما تتمكن موسكو من الاتفاق مع السعودية على خطوات لمعالجة تدهور أسعار النفط، فإن ذلك لا يشكل نبأ ساراً للبيت الابيض. فالروسي يلعب الآن في الملعب الاميركي عندما يتولى ملف الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، وعندما يتمكن من اقناع السعودية بضرورة وضع آلية لكبح تدهور اسعار النفط.

لا شك في ان روسيا بعد سوريا، هي غير روسيا قبل 30 أيلول 2015.

النهار

 

حقائق الجغرافيا إذ تكشف أوهام التحالفات: روسيا وإيران وتركيا نموذجاً/ مصطفى اللباد

تسارعت وتيرة التطورات في المنطقة بعد دخول القوات التركية الشمال السوري، لتفرض وضعاً جديداً هناك. ومع زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى روسيا، والتحسن الكبير الطارئ على العلاقات الثنائية بينهما، فقد راجت تحليلات مفادها أن تحولاً جدياً يجري في العلاقات الدولية باتجاه قيام مثلث روسي ـ إيراني – تركي. وتعززت تلك التحليلات بانطلاق المقاتلات الروسية من قاعدة همدان الإيرانية لضرب أهداف لها في سوريا، لأول مرة منذ عقود تسمح فيها إيران لدولة أجنبية باستخدام أراضيها للقيام بعمليات كهذه. وتواكب مع تلك التحليلات الغارقة في التفكير بالأمنيات، أوهام أخرى ملخصها تبني الرئيس التركي أردوغان لمنطق روسيا في الصراع على سوريا، لجهة تأجيل الحديث عن موقع الرئيس السوري في الصراع السوري وقيام «حكومة وحدة وطنية» في سوريا وفقاً لمصالح دول المثلث المزعوم.

نظرياً يضم المثلث المذكور قوة كبرى واثنتين من القوى الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط، وبالتالي تملك الدول الثلاث فائضاً نظرياً من القوة اللازمة لفرض إراداتها على الجميع في المنطقة وحتى على الولايات المتحدة الأميركية أيضاً. لكن الأمور لا تجري في السياسة وفقاً لهذا الشكل الحسابي المجرد، ومردّ ذلك أن التناقضات العميقة القائمة بين أضلاع المثلث المفترض أكبر بكثير من المصالح الوقتية الآنية بين أطرافه. لا ننسى هنا «نظرية البحار الخمسة» الرائجة في الفترة القصيرة التي سبقت «الربيع العربي»، ومفادها أن سوريا ستكون محور ارتكاز التوازنات بين القوى المختلفة في دائرة جغرافية واسعة من المنطقة تضم بحاراً ومضايق ومحيطات، في إنكار مدهش لحقائق القوة في المنطقة ولحقيقة التناقضات العميقة التي تجمع بين أطراف الدائرة الجغرافية المذكورة. والتناقضات البنيوية بين الأطراف هي سبب عدم واقعية «نظرية البحار الخمسة» و «المثلث الروسي ـ التركي – الإيراني»، حيث تلعب الجغرافيا والتاريخ أدواراً مركزية في رسم معالم التناقضات.

فالقرب الجغرافي الروسي من إيران وتركيا يجعل من موسكو مصدر التهديد الأول لكل من طهران وأنقره، في حين يلعب البعد الجغرافي الأميركي ـ للمفارقة – دوراً إيجابياً في تحسين العلاقات بين واشنطن وأنقره وطهران. ببساطة لأن ذلك البعد الجغرافي يستبعد إمكانية التهديد العسكري الأميركي، وليس لأي اعتبار أيديولوجي كما قد يتبادر إلى الذهن. وأظهر التاريخ غير مرة ارتطام البلدان الثلاثة المشكّلة للمثلث المفترض بحروب دامية على امتداد القرون الخالية، ما يجعل السابقة التاريخية أيضاً لا تصبّ في مصلحة قيام مثلث كهذا.

إيران في مواجهة روسيا

تاريخياً تحاربت إيران مع خصمين لدودين: روسيا القيصرية والدولة العثمانية، أي مع ضلعي المثلث الآخرين المفترضين للمثلث الوهمي الروسي ـ الإيراني – التركي. وبعد قرون من الحروب بين الأطراف الثلاثة وبالتحديد في نهاية الحرب العالمية الثانية تلكأ الاتحاد السوفياتي في سحب قواته من شمال إيران، فكان الضغط الأميركي عليه للانسحاب من هناك لأسباب ومصالح أميركية قطعاً. ساعتها تلاقت مصلحة طهران وواشنطن، فتحسنت العلاقات وتطورت إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية لثلاثة عقود كاملة حتى قيام الثورة الإيرانية.

عندها انهارت العلاقات الأميركية ـ الإيرانية وبلغت مستويات غير مسبوقة من التردي، لتصبح أميركا «الشيطان الأكبر»، بحسب شعارات الثورة الإيرانية. لكن واشنطن لم تكن الخصم الوحيد، بل روسيا أيضاً فظهر شعار «لا شرقية ولا غربية.. إسلامية إسلامية». ولعل الاتفاق النووي الأخير بين إيران والغرب يُعَدّ – في أحد وجوهه – سعياً عقلانياً من أحد الأجنحة الإيرانية أي إدارة روحاني بأن استمرار العداء لأميركا يضرب مصالح إيران الاقتصادية والسياسية في الصميم، خصوصاً أن الانسحاب الأميركي المعلن من المنطقة يهدد نظرية اللعب على القطبين الدوليين وموازنة أحدهما بالآخر، برغم ما يتيحه ذلك الانسحاب من فراغات أمام القوى الإقليمية للتمدّد والانتشار. ولا يعني ذلك بأي حال أن إدارة روحاني عميلة لأميركا أو واقعة في هواها، وإنما أنها ترى في قرب روسيا الجغرافي وفي التجربة التاريخية المريرة السابقة بين روسيا وإيران مشكلة جغرافية – وجودية، ربما تتفاقم مع رغبة أميركا المعلنة في الانسحاب من المنطقة.

تركيا في مواجهة روسيا

في المقابل لم تسمح تركيا لروسيا باستعمال «قاعدة إنجيرليك»، كما طالبت موسكو بعد لقاء الرئيسين بوتين وأردوغان، لأن أردوغان وأنقره يعرفان حدود إمكاناتهما على المناورة. «قاعدة إنجيرليك» تخصّ حلف «الناتو» والأسلحة المتطوّرة المخزَّنة فيها كذلك، وبالتالي فلا مجال للمساومة في هذا الصدد. كما أن القوات التركية التي اندفعت إلى داخل الأراضي السورية لمنع الأكراد من تكوين منطقة حكم ذاتي متصلة على الحدود مع تركيا، تحرّكت إلى هناك بعد ساعات قليلة من لقاء نائب الرئيس الأميركي بايدن والتركي أردوغان. وبالطبع لم يمنع تحسن العلاقات التركية – الروسية أردوغان من الاستمرار في مواقفه المناوئة للنظام السوري، على الضد من رغبة موسكو.

يختلف النظامان الإيراني والتركي في جوانب شتى، إلا أنهما يشتركان في قاسم مشترك مفاده الخوف من التهديد الجغرافي الروسي. هدّدت روسيا تاريخياً السلطنة العثمانية في البحر الأسود، ولم تخف روسيا القيصرية يوما اهتمامها بالسيطرة على البوسفور، باعتباره المضيق البحري اللازم لخروج السفن الروسية إلى المياه الدولية من البحر الأسود إلى البحر الأبيض. كما أن التنافس على النفوذ في القوقاز والبلقان هيأ أرضية تاريخية للنفور بين روسيا وتركيا.

الخلاصة

لن تختفي روسيا عن الخريطة ولن تذهب إلى مكان آخر بالطبع، وهذا يفرض على تركيا وإيران البحث عن ثقل موازن لروسيا، من دون أن تنزلقا إلى عداوات جديدة معها. وبرغم التراجع النسبي لإمكانيات الولايات المتحدة الأميركية في النظام الدولي الراهن، إلا أنها مازالت الثقل الموازن المفضل نظرياً لكل من إيران وتركيا في مواجهة روسيا لأسباب جغرافية وتاريخية وجيو – سياسية. ستجبر التطورات المتلاحقة في المنطقة كلاً من موسكو وطهران وأنقره على تحسين العلاقات بينها وعلى التنسيق أكثر في القضايا الملتهبة، لكن كل ذلــــك لن ينفي وجود تناقضات بنيوية عميقة بين الدول الثلاث، تلك التي لا تحلّها زيارات ناجحة لرؤساء جمهورية أو حتى رغبات أيديولوجية عارمة!

السفير

 

 

 

«فاينانشيال تايمز»: كشف حساب لنشاط «بوتين» في الشرق الأوسط

ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد

لقد مر عام على إرسال «فلاديمير بوتين» للقوات الجوية الروسية لاقتحام سوريا لإنقاذ ما تبقى من دويلة «بشار الأسد»، في مخاطرة مميتة لإخضاع المعارضين السنة. وقد مرت ثلاث سنوات منذ الانقلاب الدبلوماسي للرئيس الروسي في المنطقة على حساب الولايات المتحدة، حين توسط في إزالة الأسلحة الكيميائية من سوريا، بعد أن رفض الرئيس «باراك أوباما» تنفيذ تهديده بمهاجمة «نظام الأسد» بسبب استخدامه لغاز السارين ضد جيب للمتمردين بالقرب من دمشق.

والسيد «بوتين»، الذي غير من ميزان القوى مع أوروبا من بعد الحرب الباردة بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم، واختراق شرق أوكرانيا، يُرى كانتهازي من قبل منتقديه وكلاعب سياسي مخضرم من قبل محبيه. ولكن كيف يبدو حصاده الجيوسياسي في الشرق الأوسط؟

يبقى التدخل الروسي في الفوضى السورية مخاطرة كبيرة، وهو أحد الأسباب التي دعت السيد «أوباما» أن يبتعد قدر الإمكان عن التورط في الصراع.

وربما تعددت أهداف السيد «بوتين»، فهو يريد إعادة إحياء مكانة روسيا كقوة عظمى؛ ليتجنب الغضب الأوروبي بعد تدخله في أوكرانيا، ولكي يرسل رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أنه من غير المحتمل تغيير النظام. وبالنسبة للنقطة الأخيرة، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، وجه الرجل الروسي القوي انتقادات عديدة للحماقات التي ارتكبها الغرب في العراق وليبيا، حيث أدت الإطاحة بـ«صدام حسين» و«معمر القذافي» إلى فتح المجال للمذابح وحكم أمراء الحرب، وهو ما خلق البيئة الملائمة لنمو الجهاد المتطرف.

وفي الشام، يمكن أن تدّعي موسكو ثباتها في دعم الحكومتين في دمشق وبغداد. أما واشنطن، فبينما تدعم رئيس الوزراء العراقي «حيدر العبادي»، فإنها في نفس الوقت، تصر منذ منتصف 2011، على رحيل «الأسد» الذي شن حربًا ضد شعبه.

وفي سوريا، تتحالف روسيا مع إيران، القوة الثورية التي زلزلت النظام العربي السني بتشكيل محور شيعي من بغداد إلى بيروت ويتفرع داخل الخليج. وعلى العكس في العراق، نجد أن واشنطن تضطر أن تجد نفسها في معسكر واحد مع إيران في دعم «العبادي» ضد الجهاديين السنة في تنظيم الدولة الإسلامية. وكل ذلك من تبعات غزو الولايات المتحدة للعراق في 2003، ووضع حكومة شيعية في قمة السلطة في دولة تقع في قلب الوطن العربي لأول مرة منذ قرون. يبدو أن لدى السيد «بوتين» استراتيجية بسيطة وهو ماضٍ فيها قدمًا.

ومع ذلك، يعد هذا مقامرة. فقد وضعت روسيا نفسها على رأس محور يقوده الشيعة في أكثر المناطق القابلة للاحتراق في العالم. وربما يؤدي هذا العداء مع السنة، وهم الأغلبية الساحقة من المسلمين حول العالم، إلى تهديد حدود روسيا، حيث يملك تنظيم الدولة والجهاديون الأصليون جسورًا في شمال القوقاز. وعلاوة على ذلك في سوريا، تحمل روسيا قنبلة موقوتة. فالجماعات السنية المدعومة من السعودية وتركيا أقوى مما تعتقد. ويبقى «الأسد» حتى الآن في مكانه، لكنها ترى الآن أنه يترأس فقط كومة من الفوضى. وحتى الأراضي التي يدّعي السيطرة عليها، يحكمها خليط من أمراء الحرب الجامحين المبتزين وميليشيات قطاع الطرق. وتوصلت روسيا إلى أنه من غير الممكن فصل عائلة «الأسد» عن مؤسسات الدولة الأمنية، والتي ينخرطون فيها تمامًا، دون كشف ما تبقى من النظام.

وتستمر مقامرة «بوتين» في محاولة للحصول على أكبر استفادة من الفهم الذي سيطر على منطقة الشرق الأوسط منذ 2013، وهو أن فشل السيد «أوباما» في فرض خطوطه الحمراء ضد استخدام «نظام الأسد» للأسلحة الكيميائية، يثبت أن الولايات المتحدة في حالة تراجع. ولا يوجد أحد الآن في الشرق الأوسط يرى أن الولايات المتحدة مستعدة أو قادرة على تشكيل النتائج في المنطقة. بينما عمل السيد «بوتين» على التقارب مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إسرائيل والسعودية وتركيا ومصر.

وقد طور الرئيس الروسي من علاقاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، و«محمد بن سلمان» ولي ولي العهد السعودي والمرشح الأقوى للعرش. كما أظهر إعجابه بالعقلية القوية للرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، وويسعى للتقارب مع الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، كما يحاول أن يمهد الأمر بين الرجلين لإزالة خلافاتهما. وحتى أنه قد تعدى على الدور التاريخي للولايات المتحدة، بعرض المساعدة في التوسط لعقد اتفاقية بين (إسرائيل) والفلسطينيين.

وتبدو سجلات السيد «بوتين» جيدة في مجملها، مع قدرته عل حفظ بعض التوازن مع الولايات المتحدة. والسؤال هنا، إلى أي مدى يمكن المضي قدمًا في تلك الخطوات التكتيكية على حساب الولايات المتحدة، والتي بدأت تظهر كاستراتيجية. ويعتقد القليل أنه يمكن لروسيا عقد تحالف قوي ومتماسك في منطقة مشتعلة، بينما تحاول عقد شراكات مع أطراف متناقضة مثل الشيعة والسنة، أو (إسرائيل) وإيران. ولكن كما قال مسؤول تركي رفيع المستوى يتعامل مع روسيا والشرق الأوسط: «إذا قدم لك أحدهم خدمة جيدة، فمن الغباء أن ترفضها».

فاينانشيال تايمز

 

 

 

 

نداء من موسكو للإنسحاب من سوريا قبل نهاية العام/ بسام مقداد

في 6 أيلول/سبتمبر، كتب المحلل العسكري ميخائيل خادرنوك، في موقع “GAZETA.RU” الروسي، الذي يصفه الإعلام الغربي بأنه من وسائل بوتين الإعلامية، مقالاً استثنائياً، يهاجم فيه قوات النظام السوري، ويطلب من موسكو أن تسحب قواتها مع نهاية العام 2016، والحفاظ على القواعد العسكرية فقط. فقوات النظام تعاني من انعدام الروح القتالية، ومن نقص الإعداد والتأهيل، ولا يمكن كسب حرب عسكرية معها.

وميخائيل خادرنوك، خريج المعهد الهندسي العالي للصواريخ والدفاعات الجوية في مينسك في العام 1976، ثم الأكاديمية العسكرية للدفاعات الجوية في العام 1986، وتخرج لاحقاً من الأكاديمية العسكرية للأركان العامة الروسية في العام 1998 .وتنقّل بين مواقع عسكرية متعددة، وكان بين العامين 1992 و2000 ضابطاً في الإدارة العملاتية الرئيسية للأركان العامة الروسية .وبين العامين 2010 و2015 تولى رئاسة تحرير Military” Industrial Courier” الأسبوعية الناطقة باسم المجمع الصناعي الحربي الروسي، قدس أقداس روسيا، قبل أن ينتقل لاحقاً للعمل في “GAZETA.RU”.

ويقول خادرنوك إنه حتى الآن وبدلاً من الجيش السوري تقاتل المليشيات من المتطوعين الإيرانيين و”حزب الله” والشركات العسكرية الخاصة، أما جنود بشار الأسد فيقومون بجمع الجزية على الطرقات. تلك هي التقييمات التي أخذت تسود وسط الإختصاصيين العسكريين المطلعين على الوضع الفعلي في سوريا. فطيران النظام منهك ويقاتل بقنابل من صنع يدوي، والجنود يختبئون في الحفر لحماية أنفسهم من أنفاق الإرهابيين: الغلبة التكتيكية والمعنوية هي لصالح المقاتلين.

من الممكن أن تسيطر قريباً القوات الموالية للأسد على مدينة حلب، لكن إلى أي مدى يُقرّبُ هذا الأمر نهاية الحرب في سوريا، فذلك يبقى سؤالاً مطروحاً للنقاش. في الحروب على النمط الشرق أوسطي، ليس من شبيه للرايخستاغ، حيث أن رفع الراية الحمراء عليه يعني استسلام العدو من دون قيد أو شرط.

من الصعوبة بمكان القول مَن مِن طرفي الصراع المسلح يحرز الغلبة اليوم. الرئيس السوري بشار الأسد لا يسيطر، كما في السابق، على نصف أراضي البلاد وغالبية المراكز السكنية. شنيعة هي الحصيلة الإجمالية للعمليات الحربية في سوريا. فالعدد الإجمالي للسوريين ، الذين قتلوا ارتفع إلى 250 – 300 ألفاً. أما الجرحى فقد بلغ عددهم مليون إنسان تقريباً. وبغض النظر عن الإنتماء الطائفي والإثني، إلا أنه يمكن ملاحظة حالة من الإرهاق الشامل على السكان من الحرب الأهلية المستمرة منذ خمسة أعوام.

تخوض المعارضة الصراع المسلح مع تشكيلات المتطوعين السوريين وفصائل الحركة الشيعية اللبنانية “حزب الله” والمتطوعين الإيرانيين والعراقيين والشركات العسكرية الخاصة. أما النشاط الرئيسي للقوات الرسمية فهو تحصيل الجزية من السكان المحليين. خلال السنة الماضية لم تقم القوات المسلحة السورية بعملية هجومية ناجحة واحدة.

يبدو أنه لا توجد في الأركان العامة للقوات المسلحة السورية أي خطط استراتيجية واضحة في استخدام القوات المسلحة على المديين القريب والمتوسط. جنرالات الأسد لا يثقون في قدرة قواتهم المسلحة على القيام بشكل مستقل بفرض النظام في البلاد من دون دعم عسكري من جانب دول أخرى. لا يسعي القادة العسكريون السوريون للقيام بعليات واسعة النطاق، مبررين تقاعسهم بالإمكانيات القتالية المبالغ فيها للتشكيلات المسلحة غير الشرعية، وانعدام الذخيرة والتقنيات، والخوف من الخسائر الكبيرة وفشل العمليات العسكرية.

صغار الضباط والرتباء والجنود في جيش الأسد لا يتحرقون شوقاً للهجوم والقتال في سبيل وطنهم. ومما يساعد في التدني الشامل للروح المعنوية للقوات المسلحة لهذا البلد الشرق أوسطي، هو أن الجيش السوري المعاصر لا يعرف، في المبدأ، إنتصارات عسكرية خلال تاريخه كله. فمنذ الحروب العربية الإسرائيلية الأولى، في الإعوام 1947 و1948 التصقت بالجيش دمغة العار بأنه الجيش المهزوم والمنكسر أبداً.

لا يرى رجال الجيش السوري أفق حل سريع للأزمة. وليس من فترة محددة لإنتهاء الخدمة العسكرية في القوات المسلحة. والنتائج، التي يحرزها الأفراد والقادة لا يتم تحفيزها بأي شكل من الأشكال. وليست مُرضية إمدادات الأفراد المادية والغذائية. وتنعدم، عملياً، الضمانات الإجتماعية للعسكريين وأفراد أسرهم.

وأهم ما في الأمر أن القيادة السورية لا تتوفر لديها الموارد لمعالجة هذه المشاكل، حتى لو توفرت لديها الرغبة في ذلك. فحكومة الأسد لا تمتلك راهناً مصادر ثابتة للدخل. واقتصاد البلاد تقوض جذرياً خلال العمليات الحربية المتواصلة. فقد انخفض حجم الإنتاج الصناعي بنسبة 70 في المئة، والإنتاج الزراعي بنسبة 60 في المئة، وتقلص مستوى استخراج النفط 95 في المئة والغاز 70 في المئة. وليس من أموال في الخزينة السورية حتى للحاجات الدفاعية الملحة.

وما يزيد الوضع سوءاً انخفاض القدرة على مد القوات المسلحة بالعدة والعديد والتقنيات القتالية اللازمة، فهي تشكل حالياً أكثر من 50 في المئة بقليل. فالتجنيد السنوي لا يلبي الحد الأدنى من إحتياجات الجيش، ونتيجة لذلك لم يتم منذ العام 2011 تسريح الرتباء والجنود، الذين أنهوا مدة خدمتهم.

ثمة أسباب عديدة لفشل التجنيد في الجيش السوري. البعض ممن بلغوا سن التجنيد يدعم القوى المعادية للحكومة، وهم يلجؤون علناً إلى تخريب عملية التجنيد. الآخرون ينتمون إلى تشكيلات العصابات. الفريق الثالث يقف موقف الإنتظار، ولا يرغب في المشاركة في العمليات القتالية إلى هذا الجانب أو ذاك. كثيرون، ممن بلغوا سن التجنيد، هاجروا إلى خارج سوريا، بما في ذلك إلى أوروبا. قسم كبير من السكان يقطن المناطق التي لا تسيطر عليها القوات الرسمية. وأخيراً، يخشى المجندون وذووهم الإضطهاد من جانب المقاتلين.

القسم الأعظم من وحدات الجيش السوري موجودة في مواقع محصنة يبلغ عددها حوالي ألفي موقع، موزعة في أنحاء البلاد. وهكذا، فإن أكثر من نصف عديد الجيش يعمل منفصلاً عن وحداته العسكرية.

الوحدات النظامية السورية المتحصنة في هذه المواقع تخوض عمليات دفاعية، بشكل أساسي، وتقوم بابتزاز السكان المحليين. وهي لا تخوض عمليات ذات أهداف حاسمة لتحرير القرى والبلدات والمراكز الإدارية والمحافظات.

إن أسس وجود أي تنظيم عسكري، مثل “أمر القائد” وهو قانون للمرؤوس، و”الأمر يجب أن يًنفذ في موعده بأي ثمن، وعلى نحو دقيق وبلا اعتراض”، لا تعمل دائماً في الجيش السوري، أو أنها تعمل مع قيود كثيرة.

“البراميل” القنابل

يصعب إبراز ما هو جدير بالدراسة ويستحق التعميم والتمثل به في عمل مختلف أسلحة القوات المسلحة وفروع الجيش السوري. جميع الأمثولات هي، في الحقيقة، من حقل واحد؛ فتنفذ القوات الجوية السورية يومياً عدداً كبيراً من الطلعات القتالية (بلغ المئة في بعض الأيام في العام 2015) 85 في المئة منها يستهدف السكان بالقنابل والصواريخ. وتبلغ نسبة تحقيق الإصابات في الطيران السوري أكثر من 70 في المئة. وتشارك في تنفيذ الضربات الجوية عشرات من الطائرات المقاتلة القاذفة وحوالي 40 مروحية عسكرية.

ويتحدث الكاتب لاحقاً عن التدابير المتخذة بغية الإقتصاد في الموارد الضئيلة أصلاً، وكيف ما زالت تُستخدم حتى الفترة الأخيرة الطوربيدات البحرية والألغام وقنابل الأعماق، كما تًستخدم على نحو نَشِط ما يسمى بـ”البراميل القنابل”. وقد بلغ عدد ما أسقط منها “على العدو أكثر من 10 آلاف برميل”. (ألقت حوامات النظام على بلدة داريا في غوطة دمشق الغربية، لوحدها، أكثر من 10 آلاف برميل).

ويتوسع الكاتب في ذكر مواصفات هذه البراميل وطريقة صنعها “البدائية” ووزنها ويقول إنها “تمتلك قوة تفجيرية كبيرة، وتُستخدم من أجل تدمير الأبنية وقصف التجمعات الكبيرة للمقاتلين”.

ويقول الكاتب، إنه لا يجري إعداد الطيارين لتعويض الخسائر البشرية “وتوقف إعداد الطيارين في روسيا”. كما لا يجري أيضاً إصلاح الطائرات “ومصنع ترميم الطائرات الوحيد موجود في منطقة العمليات القتالية في حلب”. ويذكر الكاتب أن الخسائر في الطائرات منذ نيسان/أبريل العام 2011 بلغ حوالي 200 طائرة، أما الخسائر في عدد الطيارين، فقد تجاوزت 150 طياراً.

ويتحدث الكاتب بالتفصيل عن مقاتلي المعارضة وأساليبهم في خوض القتال ضد قوات النظام، ويقول إن مستوى المعنويات القتالية لديهم “يتخطى كثيراً مستوى عسكريي القوات المسلحة السورية”.

آن الأوان للعودة إلى البيت

يقول الكاتب، إنه من أجل الخروج منتصراً من الصراع المسلح، يتطلب الأمر الشجاعة والإرادة الصلبة والثقة بالنفس وبالقوات المسلحة، وغيرها الكثير من المواصفات، التي “لا تملك قوات الأسد منها سوى المشاكل”.

ويقول، إن ليس من الواضح ما الذي يمكن عمله مع الجيش السوري “شبه المتحلل”. فالتدابير القمعية، مثل الإعدام رمياً بالرصاص وتشكيل كتائب العقاب ووحدات الإعتراض، لن تجبر هذا الجيش على القتال. وليس من “حالات مشابهة في التاريخ العسكري العالمي”.

ويمكن عن طريق استخدام السلاح القضاء على ناشري الذعر والفارين من المواقع القتالية والخ، لكن “لم يحدث بعد أن ربح أحد الحروب بالمحاكم الميدانية وأحكامها”.

فإذا لم يكن لدى أفراد القوات المسلحة أهداف سامية في الدفاع عن الوطن، والإستعداد للتضحية بالذات فإن مثل هذا الجيش “لن تفيد معه أية كتائب عقاب أو وحدات اعتراض”.

وأسهل ما يمكن القيام به هو تسريح الجيش السوري وتشكيل جيش جديد. ومن جانب آخر، فإن المشكلة الرئيسية هي، بكل بساطة، ليس في سوريا المعاصرة من مصدر للإتيان بأشخاص جدد نوعياً. وحتى في الجيش، الذي سينشأ من جديد، ستنتقل إليه، على نحو عضوي جداً، جميع عيوب الجيش السوري السابق. كما أنه ليس من جواب واضح على أحد الأسئلة المهمة جداً: “من سيدفع مقابل كل ذلك؟”.

ويؤكد الكاتب، أنه “يستحيل كسب الحرب مع حليف مثل جيش الأسد”. ومن المؤكد أيضاً، أنه “لا يمكن الإستناد كلياً إلى تشكيلات ميليشاوية. فحزب الله اللبناني والمتطوعون الإيرانيون لديهم مصالحهم الخاصة”.

وينتهي الكاتب من كل ذلك إلى التأكيد، أن “على القيادة العسكرية السياسية الروسية، كما يبدو، اتخاذ قرار ذي طابع أساسي: إنهاء الحملة العسكرية في سوريا قبل نهاية العام 2016، وسحب قواتها من هناك، والإبقاء في هذه البلاد على القواعد العسكرية فقط”.

كما يقول، إنه “يستحيل إقامة نظام دستوري في سوريا بالوسائل العسكرية فقط، وبدون إجراءات ديبلوماسية سياسية إقتصادية ودعائية جدية، وكذلك من دون دعم هام من جانب دول ثالثة لهذا البلد المدمر”.

المدن

 

 

بوتين إشترى بقاء الأسد وسلبه نصف البلاد/حسين عبد الحسين

بعد سنوات على مطالباته المتكررة للمجتمع الدولي، وخصوصاً للولايات المتحدة، نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إشراك نظيره السوري بشار الأسد في التحالف الدولي لمكافحة الارهاب، وهو ما يبدو أنه اعتراف أميركي بشرعية الأسد، واستعداد للتواصل معه، وقبول بقائه في الحكم. لكن هذا هو ظاهر الأمر فحسب.

الرئيس الراحل حافظ الأسد كان أول من استنبط لسوريا دور الخدمات الأمنية التي تقدمها للدول، وفي طليعتها اسرائيل: هضبة الجولان السوري المحتل منضبطة طالما أن الأسد في الحكم. بعض الفصائل الفلسطينية منضبطة طالما أن العالم يقف على خاطر الأسد، ويلبي مطالبه في سوريا ولبنان. كارلوس (ايليتش راميريز سانشيز) وقع بأيدي الفرنسيين بعد خدمة جليلة قدمها الأسد الأب لهم، وهكذا..

وفي الايام التي كان الغربيون يتأخرون في تلبية مطالب الأسد، كانت “المجموعات الثورية” تستأنف نشاطاتها.

الولد بشار لا يظهر أنه سر أبيه، لا في موازنة العرب في وجه العجم، ولا في فهمه لكيفية تقديم سوريا كمتعهد خدمات امنية لعواصم القرار.

يوم اندلعت الثورة السورية في العام ٢٠١١، سارع الأسد الى شبك عملياته العنفية ضد السوريين مع الحرب الأممية ضد الارهاب. أسبغ بشار الأسد وصف ارهابيين على كل المطالبين برحيله عن الحكم، حتى ان التلفزيون السوري راح يهندس، مباشرة على الهواء،  مسرح الجريمة الذي كان يفترض انه تعرض لتفجير إرهابي.

لم يبتلع العالم دموية الأسد أو وصفه للسوريين، بمن فيهم الاطفال والمسنون، بالارهابيين، وطالب الأسد بوقف مجازره وتسليم الحكم. بوتين، الذي سبق أن قضى على معارضيه، بما في ذلك أقاليم بأكملها مثلما حصل في الشيشان، تحت عنوان الحرب العالمية على الارهاب، كان وحده الذي أعلن قبول رواية الأسد حول حربه على الارهاب داخل سوريا.

وبينما يبدو أن بوتين مازال متمسكاً بموقفه، بل إنه سيشرك الأسد في غرفة العمليات الاميركية – الروسية المشتركة المزمع اقامتها لادارة الحرب ضد المجموعات الارهابية داخل سوريا، إلا أن انقلاباً رئيسياً جرى في موقف الرئيس الروسي؛ ففي سنوات حرب الأسد الأولى على السوريين، كرر بوتين دعوة العالم لاحترام سيادة الحكومة السورية في حربها ضد الارهاب على اراضيها، واستخدم بوتين “احترام السيادة” ذريعة لإقفال روسيا لمجلس الأمن الدولي أمام أي تحرك ضد الأسد.

لكن مع دخول الاتفاقية الاميركية – الروسية حيز التنفيذ، الاثنين المقبل، يخسر الأسد سيادته، ويصبح شريكاً للتحالف الدولي، الذي يحدد من هم الارهابيين، وكيفية الحرب عليهم، وأهداف هذه الحرب، أي إن الأسد يخسر المقدرة على تحديد من هم الارهابيين داخل سوريا وكيفية التعامل معهم، ما يعني انه يخسر المقدرة على اخفاء المعارضة لبقائه في الحكم خلف ستار الارهاب، ويخسر المقدرة على ضرب معارضيه بحجة الحرب على الارهاب.

مع دخول الاتفاقية  الاميركية-الروسية حيز التنفيذ، يخسر الأسد آخر الأدوار التي استنبطها حافظ لنظامه، والتي كانت تتضمن اللعب على الحبلين بين العرب وايران، وضبط الحدود السورية واللبنانية مع اسرائيل، وتقديم خدمات أمنية لدول العالم، ويتحول من رئيس سوريا الى مجرد قائد لواحدة من المجموعات السورية المحلية المتعددة، المشاركة في التحالف الدولي ضد المجموعات التي تعتبرها أميركا وروسيا إرهابية، ويصبح الأسد مثله مثل “قوات سوريا الديموقراطية”، أو الجيش السوري الحر، أو الفصائل الاخرى التي ستؤازر المقاتلات الدولية في حربها ضد الارهاب.

كما ستجبر الاتفاقية الأسد على التوقف عن ضرب معارضيه، أو محاولة استعادة الاراضي التي يسيطرون عليها، بل إن أميركا وروسيا ستحددان المناطق المسموح للقوة الجوية التابعة للأسد التحليق فوقها، وهي في الغالب ستنحصر في المناطق التي تسيطر قواته عليها.

بوتين انتزع اعتراف العالم بالأسد كشريك في الحرب ضد الارهاب، ولكنه انتزع من الأسد في الوقت نفسه حصريته في السيادة على سوريا، ما يعني أن الأسد اشترى بقاءه بتخليه عن نصف البلاد، وما يعني أن أي تسوية تعيد لم الشمل السوري ستتطلب استبداله بمن يلقى قبولاً في كل سوريا، لا في نصفها الموالي لآل الأسد فحسب.

المدن

 

 

 

 

هل نتفاءل بطبخة كيري – لافروف؟/ الياس حرفوش

يغري الميل الى التفاؤل بالجهد الذي يبذله جون كيري و»زميله» سيرغي لافروف (وهو الوصف المحبب الذي يطلقه الوزير الأميركي على نظيره الروسي) للتوصل الى حل للأزمة السورية. الحاجة الى التفاؤل تعود الى حجم الكارثة التي ضربت سورية نتيجة هذا النزاع. وصعوبة بقاء سورية دولة واحدة متماسكة، بعد كل معركة من المعارك التي تخوضها قوات النظام ضد فصائل المعارضة، وما تؤدي إليه من تهجير سكاني بلون طائفي ومذهبي. تهجير لا يمكن أن ينجم عنه سوى إعادة رسم الخريطة السورية، بحيث تصبح أكثر تجانساً من الناحية الطائفية، وأقل تعايشاً من الناحية الوطنية.

لكن التفاؤل بجهود كيري ولافروف لا يكون واقعياً إلا إذا استند الى الحقائق التي باتت ثابتة في الأزمة السورية. أولى هذه الحقائق، أن كل المحاولات السابقة لوقف القتال فشلت، وآخرها محاولة الوزيرين نفسيهما في شباط (فبراير) الماضي، لأنها لم ترتبط بخطة واضحة لتغيير النظام. إذ يجب أن نتذكر ويتذكر الطامحون الى حل هذا النزاع، أن مطلب التغيير هو الذي أشعل شرارة الثورة السورية منذ شهورها الأولى. وإذا كانت الخطة الأخيرة لكيري ولافروف تبدأ من وقف العمليات القتالية، في هدنة يفترض إذا نجحت أن توفر شيئاً من دماء السوريين لمناسبة عيد الأضحى، فإنها لا تنطلق بعد ذلك إلا للحديث عن «انتقال سياسي» في سورية. وهي العبارة الغامضة التي صار كل طرف في النزاع السوري يفسّرها على هواه. النظام يفهم الانتقال حكومة موسّعة تضم من يختارهم بشار الأسد ويضمن ولاءهم من المعارضة. والمعارضة من جانبها، تفهم الانتقال انتقالاً من مرحلة الى مرحلة، أي من حكم بشار الأسد الى ما بعد هذا الحكم، بنتيجة عملية ديموقراطية يختار فيها السوريون من يحكمهم في المرحلة المقبلة.

الواقعية تقضي الاعتراف أيضاً بأن هذا الاتفاق الثنائي الأميركي – الروسي لا يأخذ في الاعتبار أن هناك أطرافاً أخرى في الأزمة السورية، لم تكن موجودة على طاولة جنيف. طبعاً ليس الحديث هنا عن الأطراف الداخلية، سواء النظام أو المعارضة، التي أسلمت رقابها منذ زمن للمصالح الخارجية، بل عن أطراف إقليمية، في المنطقة وخارجها، من بينها تركيا وإيران اللتان أصبح دورهما مباشراً في النزاع، وقد تجدان أن الثمن الذي يريده كلّ منهما للسير في الحل، ليس مضموناً بنتيجة صفقة جنيف، سواء بالنسبة الى بقاء الأسد على رأس النظام، كما تريد إيران، أو الى هوية الأطراف المعارضة التي يستهدفها الاتفاق، وهل تشمل الطرف الكردي الذي يقلق تركيا.

ولأن كلاً من كيري ولافروف يدرك على الأرجح حجم العقبات التي تواجههما، فقد اختارا صيغة غامضة في شأن ما ستنتهي إليه عملية الانتقال السياسي، سمحت بالحد الأدنى من التفاهم الأميركي – الروسي في هذه المرحلة. تفاهم يقتصر على إطفاء النار في المواقع التي تشتعل فيها حالياً، بحيث يحافظ النظام على مواقعه المتقدمة في الجبهات التي اختار التقدم فيها لتكريس حدود «سورية المفيدة»، وتنسيق فاعل مشترك بين الولايات المتحدة وروسيا في مواجهة «التنظيمات الإرهابية»، بعد تحديد مناطق وجودها، وعزل هذه المناطق عن مناطق «المعارضة المعتدلة». وهذا سبب لنزاع من نوع آخر حول تصنيف الفئتين.

تؤكد الخطة الأخيرة للتسوية في سورية، حجم التراجع الذي وصل إليه الدور الأميركي في مقابل نفوذ الدور الروسي. موسكو هي التي يتوسل إليها جون كيري الآن للضغط على النظام لاحترام بنود الاتفاق، فيما لا يملك الأميركيون أي قدرة للضغط على أطراف المعارضة، التي فقد بعضها الثقة بدور واشنطن، بينما البعض الآخر يعاديها علناً.

غير أن جون كيري يواجه مشكلة داخلية أيضاً في قلب إدارته. فعلى رغم «الزمالة» التي يفاخر بها مع سيرغي لافروف، هناك أطراف نافذة مثل وزير الدفاع آشتون كارتر ووكالة الاستخبارات المركزية، لا تنظر الى الدور الروسي في سورية ولا الى لعبة فلاديمير بوتين في تلك الأزمة بالنظرة المتفائلة والساذجة نفسها، التي ينظر بها وزير الخارجية. وهذا سبب لانعدام التفاؤل، لأن القوى التي ستنفذ اتفاق جنيف على الأرض وفي الجو هي القوى التي يأمرها البنتاغون، وليس جون كيري.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى