صفحات الثقافةعمر قدور

عن النخبة الثقافية للنظام السوري/ عمر قدور

بعدما كان يُنظر إلى أدونيس كشخصية ثقافية مؤثرة من قبل معجبيه والمختلفين معه في الرأي صار يُنظر إليه بوصفه مثقف النظام، جرّاء كتاباته وتصريحاته العديدة المسيئة للثورة وحتى للنسبة الغالبة من السوريين. في الواقع كان اصطفاف أدونيس فاقعاً، وربما صادماً للبعض، وعلى وجه خاص لا يراعي “الإتيكيت” الثقافي السوري المعتاد، لأنه تبنى أسوأ ما في عدة النظام الإعلامية. لكن التركيز على شخص أدونيس وأسماء قليلة معروفة لا يكشف الواقع الثقافي الذي كان سائداً قبل الثورة، ولا يكشف المساهمات الثقافية في ترسيخ دعائم النظام؛ باختصار لا يكشف عن علاقة المثقف السوري بالسلطة.

من المعلوم أن مرسوم إيقاف عشرات المطبوعات السورية كان من أول المراسيم الذي أصدرها البعث غداة انقلابه، كان ذلك آخر عهد بالإعلام السوري الحر. في المقابل أقامت السلطة الجديدة إعلامها الذي يهيمن عليه خطها الأيديولوجي، ورقابتها الصارمة، وكان لا بد من مثقفين جدد يواكبون هذا “التطور”. يرى البعض أن السلطة الجديدة أتت بمثقفيها معها، وعلى العموم تشكلت النخبة الثقافية الجديدة من أبناء الريف الطامحين إلى “اقتحام” المدينة، بما أن البعث نفسه كان تمثيلاً للريف السوري بالدرجة الأولى. لكن تعميماً تمييزياً عديم الرحمة من هذا القبيل ينبغي ألا يحجب مواهب أولئك المثقفين أو جدارتهم بالمساهمة الفاعلة في الحياة الثقافية آنذاك؛ المشكلة الحقيقية كانت في رضاهم وسكوتهم عن النموذج القمعي العام الذي تكرسه السلطة الجديدة، بما أن القمع يصدر عن أرضية أيديولوجية يتشاركون فيها مع النخبة العسكرية الحاكمة.

كتّاب معروفون قد يُفاجأ القارئ اليوم إن عرف أنهم اشتغلوا محررين أو رؤساء تحرير لمجلات مثل مجلة الشرطة أو صحيفة البعث، كتّاب معروفون آخرون لم يتورعوا عن القيام بأدوار رقابية على الإصدارات السورية من خلال اتحاد الكتّاب العرب المكلف رسمياً بهذه المهمة. لم يكن الأمر يقتصر على كتّاب الدرجة الثانية الذين شاهدناهم يتولون تلك المناصب في تسعينيات القرن الماضي، فحينها كان نظام الأسد يعاني حالة احتضار، وكان جزء كبير من “نخبته” الثقافية قد انزوى لأنه لم يعد يطيق الوجه الأمني الفظ للنظام؛ الوجه الذي لم يعد يحفظ ماء وجه تلك النخبة. لكن كما نعلم لم تُقدِم النخبة المعنية على مواجهة النظام لأن غالبيتها كانت مصطفة معه أيديولوجياً في صراعه مع الإخوان في الثمانينيات، وإن كان قسم منها على خلاف معه حول الأسلوب المخابراتي الذي راح يطال الحياة العامة برمتها. يُذكر هنا أن قسماً آخر من المثقفين غادر مركب النظام مبكراً بسبب انقلاب الأسد على رفاقه؛ هؤلاء يتبنون الأيديولوجيا البعثية نفسها، إلا أنهم رأوا في شخصية الأسد انحرافاً عن الخط الذي عُرف به صلاح جديد وجماعته؛ وفق هذا المنظور يبدو حافظ الأسد أقل بعثية مما يجب.

السردية البعثية، أو شبه البعثية، المعارِضة للأسد كانت حاضرة طوال السبعينيات والثمانينيات، وهي ترى فيما سُمي “الحركة التصحيحية” انحرافاً “يمينياً” عن مُثُل البعث نفسه؛ هذه أيضاً كانت الزاوية التي راهن من خلالها الحكم في عقده الأول على استقطاب البرجوازية المدنية إلى صفه، بينما واظب النص الثقافي السائد للنخبة الثقافية خلال العقدين الأولين من حكم البعث على هجاء المدينة باعتبارها مصدراً للآثام والشرور. لكن، على رغم التباينات التي ظهرت لاحقاً بين الطرفين، يمكن القول بأن النظام التزم بعدم ملاحقة النخبة الثقافية أسوة بما كان يفعل بمعارضيه السياسيين، في الوقت الذي اكتفت فيه النخبة الثقافية بمجازاتها العامة عن القمع والتي يُترك أمر تأويلها للقارئ.

في التسعينيات كان النظام يعيش ما سمّاه البعض “المرحلة البريجنيفية”، ومن عوارض تلك الفترة الشيخوخة والأمراض التي ألمت به من رأس الهرم حتى القاعدة، ويمكن وصفها بالمرحلة الذهبية لمثقفي الدرجة الثالثة والرابعة الذين هيمنوا على وسائل الإعلام تماماً، والذين لا يمكن وصفهم بالنخبة الثقافية حتى من قبل النظام نفسه. هؤلاء كانوا مجرد رقباء على حرية الرأي، ولهم من الضحالة ما يسيء إلى النظام أولاً، ولم تكن الظروف تسمح ببروز جيل ثقافي جديد بانتظار نهاية هذا العقد التي شهدت نضوج مشروع التوريث السياسي. كانت القاعدة المُتفق عليها ضمنياً حينئذ أن أي مثقف يمتلك الحد الأدنى من الحساسية الإبداعية لا بد أن يكون خارج المنظومة الرسمية، بل كان من المحرج لأي مثقف يحترم نفسه أن ينخرط في مؤسسات النظام التي بات عنوانها السيطرة المخابراتية المقرونة بالفساد، بما فيها اتحاد الكتاب ونقابة الصحافيين وغيرهما.

ما كان محرجاً جداً في عقد التسعينات صار مقبولاً من قبل الكثيرين في بداية الألفية مع تولي الرئيس الابن للحكم، وبروز الجيل الثاني من السلطة، فالرئيس الجديد قبل توليه الرئاسة عمل على التواصل شخصياً مع بعض الرموز الفنية والثقافية، ورعى بعض التظاهرات الثقافية المستقلة عن المؤسسات التقليدية، مع تمويل تلك المشاريع بمبالغ كانت تُعدّ كبيرة بالمقارنة مع الشح الحكومي. ليس بوسعنا أن نستبعد هنا التطلع المشروع لجيلين من المثقفين عاشا تحت وطأة التهميش التام، وقسم كبير من هذين الجيلين كان ينتظر بارقة أمل ليأخذ حقه من الانتشار والوصول إلى المتلقي في بلد تمسك فيه السلطة بكافة مفاتيح الإعلام؛ قلة من المثقفين آنذاك كانت قد وجدت لنفسها مكانة ما عبر قنوات الإعلام العربي، وضمن القلة القليلة تلك لم ينجُ البعض من الوقوع في وهم المراهنة على السلطة الجديدة.

بسرعة تكاثرت المنابر الإعلامية المستقلة التي أنشئت وفق قانون جديد بائس للإعلام، تلتها المواقع الكترونية، وهي مملوكة بغالبيتها لأولاد المسؤولين وأقربائهم الذين سبق لهم أن أثروا من الفساد. ومع علم الجميع بمصدر الاستثمارات الجديدة لم يتورع الكثير من المثقفين عن التعامل معها بوصفها أمراً واقعاً لا يمكن تغييره، بل لم تعد العلاقة المباشرة مع رموز أمنية للنظام مصدر حرج بما أنها تتم تحت شعارات التطوير التي أطلقها الحكم. لا بد من التنويه هنا بأن المرحلة الجديدة لم تعد تتطلب من المثقف أن يكون موظفاً لدى السلطة، ولم تعد المكاسب التي تقدمها له الأخيرة تأتي من الفساد الحكومي المباشر؛ الأمر الذي بات يتيح له التخلص من الإحراج المباشر.

صارت العلاقة بين المثقف والسلطة أكثر التواء وتشابكاً، وشمل جزء منها العلاقة بين مثقفين يُحسبون على المعارضة ووسطاء لشخصيات أمنية في السلطة؛ هؤلاء راحوا يتنعمون بمباركة المعارضة ومكاسب السلطة معاً ويحصلون على الترويج الإعلامي من قبل الطرفين. أيضاً كان عمل المراكز الثقافية الغربية قد بدأ ينشط في دمشق، ووجدت ضالتها في المثقفين أنفسهم الذين يلقون رضا السلطة والمعارضة معاً. في الواقع بدأت ملامح نخبة ثقافية جديدة بالتشكل، وهي تختلف عن النخبة التي شهدتها البلاد إبّان انقلاب البعث من حيث استقلالها الظاهر عن السلطة ومن حيث ابتعادها عن الأيديولوجيا عموماً مع الاكتفاء بالمقولات والمظاهر الحداثية.

تكاد تكون الأسماء هي ذاتها التي روجت لها جهات ثلاث؛ السلطة من خلال مهرجاناتها ومؤسساتها غير الرسمية، وحتى من خلال إعلامها الرسمي الذي شهد انفتاحاً لمدة وجيزة، ثم المعارضة السياسية آنذاك التي كانت منفصلة إلى حد كبير عن الواقع الثقافي وروّجت لتلك الأسماء لعدم درايتها بما يحصل، وأخيراً المؤسسات الغربية التي راهنت أصلاً على انفتاح الحكم الجديد. الأسماء ذاتها كانت تتكرر في المناسبات الثقافية الداخلية، وفي المهرجانات العربية والدولية؛ مع ضوابط أخلاقية أقل، بدا الطريق ممهداً لتحظى النخبة الجديدة بما لم تحظَ به النخبة الأولى للنظام.

هذه المرة، بدل الأيديولوجيا اليسارية البائدة تكفل التطلع إلى الأرستقراطية بحياكة الروابط الجديدة، وتكفل الثراء الفاحش لمحدثي النعمة وتطلعهم إلى “بريستيج” ثقافي يواكب ثراءهم بمدّ الجسور. بدأت السهرات الخاصة والحفلات تُقام في قصور فخمة في ضاحيتي “يعفور” و”الديماس”، وراحت النخبة الثقافية الجديدة تتطلع إلى امتلاك فيلات مجاورة لتلك التي تحلّ ضيفة عليها. هذه الضواحي صارت عنواناً للنخبة بأذرعها المتعددة، ومع أن أي طموح سيكون مشروعاً، بما في ذلك الطموح المادي للمثقف، إلا أن ما كان يحدث خلف أسوار تلك القصور لا يمت بصلة إلى الوسائل المشروعة في تحقيق الثروة أو السلطة أو الشهرة.

مع بدء الثورة انهارت سريعاً النخبة “الثقافية” الآخذة بالتشكل، ويُسجّل للبعض منها انحيازه سريعاً إلى صف الثوار، فقبول الفساد لا يعني تلقائياً القبول بالمجازر التي راح يرتكبها النظام، والتي بعيداً عن الاعتبارات الأخلاقية تخلّ بالتوازن السابق وتوقع العديد من المثقفين في حرج لا يطيقونه. هذا لا يعني إطلاقاً تجريد أولئك الذين كانوا ضالعين في العلاقة مع السلطة من حساسيتهم الأخلاقية، ولا الطعن بانحيازهم إلى الثورة، لكن النقلة التي حدثت لم تأخذ حقها من التمحيص، ولم يقدّم أحد منهم اعتذاراً عن الماضي القريب أو كشفاً للآليات التي كانت سائدة. من المستغرب على هذا الصعيد صمت من انحازوا إلى صف السلطة في أثناء الثورة، وعلى رغم استهدافهم بالتشهير للكثيرين في المقلب الآخر، إلا أنهم تحاشوا زملاءهم السابقين!

لعل أفضل عبرة قدّمتها نخبتان ثقافيتان واكبتا مرحلتين للنظام هي أن الأخير لا يتمتع بأدنى قابلية ليكون نظاماً بالمعنى المتكامل، فالبنية الأمنية له أثبتت مرتين أولويتها القائمة على البطش والتفريط مباشرة بأي واجهة ثقافية أو مدنية؛ بهذا المعنى كان النظام يسقط سريعاً، إذ من يجرؤ على الادعاء بأن النخبة الأمنية وحدها قادرة على أن تكون نظاماً؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى