حسّان القالشصفحات سورية

عن انتفاضة المزّة


حسّان القالش *

قصّة حيّ المزّة الكبـــير تكاد تختصر حكاية سوريـــة بأكملها، فعــــلى إحدى تلاله كـــان سجن المــزّة الرهيــــب، وفي وسطه يقع الحيّ القديم، أو المزّة القديمة، أو مزّة شيخ سعد كما تسمى اليوم، والتي نمـــا فيهــــا سوق شعبي ازدهر بمرور الأيام. وفي أقصى الجنوب، كان طريق مطار المزّة مطلع السبعينات، يقسّم الضّاحية الزراعية الشهيرة ببساتين الصبّار إلى قسمين، غربي وشرقي، شهدا صعوداً عمرانيّاً سريعاً انعكس على تسميتهما المتفائلة بمستقبلهما: فيلاّت غربية وشرقية، ذاك أن طــرفيّة المنطقتين وبُعدهمـــا من زحـــام المدينة، إضافة إلــى طقسهما المنعش، اجتذبا أبناء الطبقة الوسطى والوسطى العليا من سكان دمشق، إضافة إلى بعض السفارات الغربية والعربية، وبعض مرافق الدولة الحكومية والأمنية، وبعض كبار شخصياتها لاحقاً.

وبالتــــــزامن مع صعود المزّة فيلات، كان رفعت الأسد قد اتخذ لنفسه قصراً على قمــــة أعلــــى تلــــة تطلّ على المنطقة بأكملها، وشـــرع ببنـــاء ضاحية سكنيــــة لضباطه مقابل المطار، الذي أمسى عسكرياً فقط، وسمـــيت تلك المساكن «السومـــريّة»، تيمّنــاً بأحــد أبنائه، وبالقرب منها أقيم حديثاً موقف السيارات العمومية الجديد (الكاراج)، الذي لا تبعد عنه بلدة المعضّمية المنتفضة سوى بضع مئات من الأمتار.

ومن هناك يمنع الأمن أحياناً وصول ساكني ريف دمشق الجنوبي إلى المدينة، خوفاً من تكرار ظاهرة ميدان التحرير المصرية وتجمّع كتل بشرية متظاهرة في الساحات الرئيسية.

وازدادت المزّة توسعاً مع بناء المدينة الجامعية (في 1962) إلى الشمال من مركز الحيّ القديم، والتي تقابل مباني كليّات جامعة دمشق على الطرف الآخر من الأوتوستراد، التي تبدأ بالمزة وتنتهي بالبرامكة. والمدينة الجامعية شهدت بدورها عمليات قمع للطلاب المتعاطفين مع انتفاضة السوريين الأكراد في 2004. على أن اكتمال خريطة المزّة كان مع ظهور منطقة مخالفات وعشوائيّات أسميت بـ «مزّة 86»، استقطبت شريحة المهمّشين من عائلات الجنود وصغار الموظفين والمتكسّبين وطلاب الجامعات من خارج دمشق، وراحت تتمدّد وتتّصل بكامل المنطقة عبر حيّ «المزّة جبل»، وتعدّ هذه العشوائية معقلاً لمؤيدي النظام.

ولئن احتوت المزّة هذا الخليط المتباين فــــي ثقافاتــــه ووعيـــه السياسي، انضمت إليهم شريــــحة مـــن الفقـــراء والبسطاء، ما جعلها مؤشراً شديد الحساسية على الخراب المحدق والأكيد بالمجتمع والدولـــة. ولما أمست بعض شوارعها شوارع راقية وارتفعــــت أسعار منازلها ونافست مثيلاتهـــا في المالكي وأبـو رمانة، وزاد الإقبال حتى على عشوائياتها، لم تتمكن من الحفاظ على طابعها المديني، أو على هوية اجتماعية ومكانية تميّزها، ذاك أن طبقة المسؤولين تمكنــت من كسر مدَنية المكان، فاقتحمته بمظاهرها وسلوكياتها السلطوية غير القابلة للمساءلة.

وشهدت المزّة صعود ظاهرة «أبناء المسؤولين» وانتشار المرويّات التي تحكي تجاوزاتهم وتشبيحهم واستفزازهم للمجال العام وللناس، فتشوّهت سمعة المكان، ونشأ مزاج عام مستنفَر ومحتقِن تجاه السلطة.

ومـــع العهد الجديد، حدث تحوّل في أشكال الإرهـــاب البصري والنفسي: ذاك أن مؤسسة الفساد استوعبـــت أبنــاء المسؤولين، الذين شاركوا في أنشطـــة البلاد الاقتصادية، الحصرية بهم وبطبقة الأثــرياء الجـــدد والأتبــاع، فتحولت بعض مناطقها إلى محميّات تسكنهـــا هذه الطبقة المتسلطة، التي خلقـــت إحساســاً عامـــاً عند الناس لا بالتفاوت الطبقي فحسب، بل بمزيد من التسلط والوقوف فوق القانون.

هكذا تشكَّلَ الغضب العام وتراكم ووَحّد الشعب، وما انتفاضة المزّة التي هزّت سكون العاصمة، إلا علامة من علاماته.

* كاتب وصحافي سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى