صفحات سوريةمنير الخطيب

عن انزياح جرح الوطنية السورية/ منير الخطيب

 

 

في نظر غالبية السوريين، ظل الكيان السوري الحالي، منذ تشكله بعد اتفاقات سايكس – بيكو، كياناً عابراً ومرذولاً. وأيضاً، ظلت «الوطنية» السورية المعبرة عنه وطنية جريحة وهشة، لم تستطع التعافي من جرحها النرجسي، الذي صحت عليه لحظة تحول الشام التاريخية التي كانت ترتبط بها مدن وموانئ الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط قاطبة، إلى دمشق العاصمة شبه الصحراوية التي تقف على حدود بادية الشام، وقد فقدت فلسطين ولبنان ولواء اسكندرون.

لم تتخلص دمشق، يوماً، من عقدة الحنين، الوهمي بالطبع، للعودة إلى لعب الدور المتخيل عن الشام التاريخية. كما لم تتخلص غالبية السوريين من عقدة الكيان العابر والدولة العابرة، فظلت تلك العقدة تزن بقوة على وعيهم وعلى ضمائرهم، وكانت أحد أسباب نكوص الوطنية السورية الوليدة.

استغل نظام حافظ الأسد هذا الحنين العاطفي عند السوريين لدور الشام التاريخي، فوظّفه في بناء منظومة دور سورية الإقليمي، حيث استبيح الداخل السوري خمسين عاماً تحت لافتات دور سورية الإقليمي المشؤوم.

حملت الثورة السورية الشبابية في بداياتها السلمية ملامح التخلص من عقدة سورية التاريخية، فلم نشهد شعارات لفلسطين، ولا شعارات لإسقاط الإمبريالية الأميركية، ولم يعد السوريون واللبنانيون «شعباً واحداً في دولتين». سقط كل هذا اللغو الذي لاكه السوريون طيلة خمسين عاماً. لقد كان مضمون الشعارات التي رفعها شباب الثورة تعيد الاعتبار إلى الكيان العابر، الذي كان ترسيخ صورته العابرة في أذهان السوريين من شروط استباحته المطلقة من قبل «الدولة – الطغمة».

بعد تراجع الحراك الشبابي والدخول في مرحلة التسلح تحت ضغط الخيار الأمني المتوحش للسلطة من جهة، وانفجار قيعان «المجتمع» المتأخرة من جهة ثانية، تبين للسوريين أن جرح وطنيتهم الداخلي أكثر عمقاً واتساعاً من جرحها النرجسي الذي مضى ولن يعود، إذ وجدوا أنفسهم جماعات ما قبل وطنية وليسوا شعباً واحداً بالمعنى المعروف، وأن كيانهم العابر الذي عبرت عنه «دولتهم» الوطنية التي تشكلت تحت سلطة الانتداب الفرنسي، ثم استقلت عنها، أرقى سياسياً وأخلاقياً وثقافياً واجتماعياً من تاريخيه السلطاني – العثماني والسلطاني – البعثي.

وفتحت همجية السلطة والتنظيمات الطائفية المتطرفة جراحاً وطنية داخلية، بنقلها وضعية التساكن الطائفي والإثني من حالة الاحتقان المسكوت عنه بفعل الاستبداد في الحقبة البعثية، إلى حالة التفجر العلني، مع انفجار الثورة، بهدف منع تشكل حالة وطنية، تتيح الانتقال إلى وضع ديموقراطي، وتضع مداميك لبناء الدولة الوطنية. وتوارى جرح السوريين النرجسي خلف جراحاتهم الداخلية، عندما فجعوا بحجم القتل والتدمير والتهجير الذي سبّبه لهم «جيشهم العقائدي»، وعندما تبينوا بالواقع الملموس مقدار الكذب والنفاق والحقد المحشوّة في شعارات «اللحمة الوطنية» وبلد «التقدم والاشتراكية» وغيرهما الكثير، وعندما تيقنوا من أنه طيلة عقود، لم يكن لهذه السلطة سوى «الشعب» السوري عدو، وأنها كانت في حالة حرب دائمة معه منذ انقلاب البعث عام 1963، وإن ارتدت هذه الحرب أشكالاً مختلفة.

إن إعادة الاعتبار إلى «الكيان العابر» في وعي السوريين وضمائرهم ككيان نهائي يجمعهم، هو البداية اللازمة لمسار طويل ومعقد، يمكّنهم من تجاوز جراحهم النرجسية والداخلية، ويفضي إلى اندماج وطني واجب وممكن.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى