براء موسى

عن بعض أحوال «الهاربين» إلى تركيا

براء موسى
السبت ١٤ أبريل ٢٠١٢
تقول حكاية متداولة في سورية: عندما قرّر الرجل المسنّ الشكاية على ربّ عمله الذي طرده من عمله عسفاً، بعدما أقنعه بعض معارفه بالحصول على تعويض عن خدمته الطويلة في ذلك العمل، ولكونه أمّيّاً فقد لجأ إلى كاتب وجده أمام باب المحكمة ليسطر له «معروضاً» يتشكّى فيه على من كان سبباً لقطع رزقه بحجّة أسباب تافهة.
بينه وبين ذلك الكاتب جرى اتّفاق مفاده: أن يروي الرجل قصّته كي يصيغها الكاتب كمعروض مستـوف لشروطه القانونيّة تقدّم للقاضي، وبعد أن تمّت العمليّة، بدأ الكاتـب في قراءة ما كتبه لمراجعة الصيغة النهائـيّة أمـام زبونـه قبل تقديمه للقاضي، وبينما كان مسهباً في القـراءة، فوجئ بالرجل المسنّ يجهش في البكاء بحرقة ومرارة، وعندما سأله عن السبب، أجاب الرجل المسنّ: «يا ويلي…! أكلّ هذا الظلم قد لحق بي…؟ ارتكبه ذاك الظالم بحقّي…! ولم أشعر بحجمه حتى الآن»؟
ربّما يكون ذلك حال اللاجئين (بالمعنى الدلالي للكلمة لا القانوني) إلى تركيا هرباً من مجازر النّظام السوريّ وجحيمه، لو عرفوا أنّ سنة من عمر «بعضهم» ضاعت بين الحمد والشكران على النّعمة التركيّة التي «أطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف»، وبين حرص أطراف عدّة على تجاوز الحقوقي لمصلحة السياسيّ، بالعضّ على شفاه الصّمت عملاً بالقول الشعبيّ «خلّيها بالقلب تجرح، أحسن ما تطلع لبرّا وتفضح»، وامتثالاً لواقع فرضه الأتراك حيث «طعمي التمّ بتستحي العين»، الطرف الذي ينطبق عليه هذا المثل تحديداً المعارضة السياسية السورية أساساً، وظناً منها أنّ احتضان اسطنبول لأنشطتها يغطّي على قصور الحكومة التركيّة في التعامل القانونيّ مع حقوق المنكوبين في الأرض، كما في ملفات عدّة عالقة أخرى. وبديهيّ أنّ النظام السوريّ والحكومة الأردوغانيّة هما الطّرفان الأكثر غبطة في عدم تسليط الضوء على قضايا هؤلاء المنكوبين إنسانيّاً في كل شيء، حتّى بتعاطف المنظّمات غير الحكوميّة التي تمنعها السّلطات التركيّة من حرّيّة تغطية هذه الكارثة الإنسانيّة.
وهكذا تمرّ الأيّام بثقلها على أولئك الذين لم يحصلوا على تسوية قانونيّة لوضعهم ولو «موقّتاً» تحت حجّة «الوضع الموقت» الذي يصادر كثيراً من حقوقهم الطبيعيّة في الشرعة الدولية والإنسانية، وربّما لا نجد في طيّات تلك الشرائع الدوليّة مصطلحاً يعرّف الحالة كما يحلو للأتراك وصفها (ضيوف أو زائرين)، وللصّدفة التراجيدية الطابع، توافقت مع رواية النظام الـسوريّ فـي بدايات الـحدث السوريّ عن زيارة هؤلاء لأقاربهم.
وراء ذلك الغياب والتغييب في الجانب الحقوقي ما وراءه من إرث ثقيل بالنسّبة الى منكوبين شاء قدرهم أنّهم ينتمون الى بلد تربّوا في جنباته على ثقافة الخنوع، فلقد كانت في مصطلح «حقوق الإنسان» تهمة تستوجب العقوبة والملاحقات الأمنيّة والاتّهامات بالعمالة والتخوين… إلخ، ووراء «هذه النّعم في جنان المخيّمات التركيّة» ما وراءه من بؤس السوريّين الذين اعتادوا حياة الضنك في معاشهم إلى الدرجة التي غدا فيها تأمين الحاجات الأوّلية لأسباب حفظ الحياة نعمة ممنوحة تستوجب الشكران والعرفان، وليس حقّاً لإنسانيّتهم المهدورة، كما ربّاهم نظام امتهن طويلاً حرفة «التربية» تلك، بما ضمن له واحداً من أسباب طول عهده.
بين مطرقة الأحداث وسندان الواقع التركيّ المتخبّط ما بين تصريحات عاطفية للتدخل في وقف المأساة السوريّة، وبين أزماته الداخليّة منها والإقليميّة والدوليّة، بين هذا السندان وتلك المطرقة، تقف المعارضة السوريّة بكلّ أطيافها موقف «غضّ النظر» في عمليّة تبادل غير معلن عن سياسة غضّ نظر تركيا عن بعض ممارسات المعارضين السوريّين على أرضها. من ذلك ما يتمثّل في التعتيم التركيّ على سياسة إدارة المخيّمات من تنقّلات وتغييرات في أشكال هذه المخيّمات وتموضعاتها الجغرافيّة، آخر تلك المستجدّات هو تجهيز مخيّم جديد يبتعد عما كنّا ألفناه قريباً من المناطق الساخنة في ريف ادلب وريف حلب، يتّجه شرقا هذه المرّة بالقرب من أورفة القريبة من رأس العين وكوباني في الداخل «السياسيّ» السوريّ.
لا أحد يعرف سبباً لتلك التموضعات الجديدة سوى تكهنات من هنا وهناك عن ربط المستجدات السياسيّة للأكراد بتلوّناتها السياسيّة في سورية وتركيا معا، بصرف النظر عن ملابسات كلّ منهما، وربما يجوز التكهّن هنا بقراءة تركيّة جديدة تفيد استشرافاً لتسارع وتيرة الأحداث في تصعيد العنف المتوقع من النظام السوري مع انحسار أيّام المهلة الأخيرة، وينعكس على توسّع رقعة المناطق الملتهبة بامتداد الى الشرق، ترافق مع تصريحات السيّد أوغلو – للمرة الأولى – عن طلب الحكومة التركيّة من الأمم المتّحدة رسميّاً التدخّل في جهود الإغاثة، بعيداً من المخيّمات هذه المرّة، وفي المدن التركيّة القريبة أو البعيدة على السواء، يتسلّل بعض السوريّين تارة من الداخل السوريّ وتارة من المخيّمات كنوع من هروب جديد دافعه غالباً التوق إلى حرّية أوسع من احتجاز المخيّمات وملابسات طرائق العيش الجديدة المفروضة عليهم فيها.
هؤلاء المتسلّلون – الجدد منهم، ومن سبقهم – يبحثون غالباً عن فرص جديدة ضمن مناخات لم يألفوها. فمن الناحية القانونيّة لا صفة شرعية تحمي ممارستهم حقوقهم الإنسانيّة، بالتالي ينعكس ذلك على طريقة معاشهم، ومن المؤسف الإشارة إلى استغلال بعضهم التعاطف الإنسانيّ مع مأساتهم، وشيئاً فشيئاً يعتادون هذه الطريقة في التربّح و «التسول» على حساب قضيتهم العادلة ما ينعكس على المأساة السوريّة بأبشع تصوير لألم الملح على الجراحات المثخنة.
أما من الجانب السياسيّ فلربّما الصورة أكثر تعقيداً إذ ينخرط بعض هؤلاء «السياسيّين الجدد» تبعاً للفراغ السياسيّ وانشغال الداخل بلملمة أشلائه في مهمّات لربّما تُعجِز مخضرمين في العمل السياسيّ، بدافع من أحلام متضخّمة لـ «الذات»، وكذلك عن العهد الجديد الآتي بلا ريب. قلّة فقط تدرك معنى الجهود المنهجيّة الهائلة التي تحتاجها سورية من أبنائها في ما لو أنعم الله عليها بالخلاص من الكارثة الأسديّة أولاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى