صفحات سوريةعمر كوش

عن بعض المحظورات التي بناها النظام الأسدي

 

عمر كوش

أماطت الثورة السورية اللثام عن كثير من القضايا والأفكار والمسائل المسكوت عنها، أو المغيبة والمهمشة، وكانت تعتبر من الخطوط الحمراء، التي تضع من يتناولها في خانة الخارج عن القانون، وتستوجب ملاحقته وإسكاته. وما كان ممكنا تناول تنوع المجتمع السوري، ولا الحديث عن مكوناته الاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية، ولا الخوض في نقاش عام، يتناول مسائل المواطنة والدستور والحريات وسواها، لأن السلطة الحاكمة كانت تحتكر جميع ممكنات ووسائل النقاش العام، وتمنع مختلف تعينات الاختلاف في التوجهات والآراء والأفكار في سوريا، وتعتبر أي حديث خارج توجهاتها، ولا يخدم قبضتها على المجتمع، حديثاً محرماً، ويدخل في عداد المس بالمحظورات، مع أن المشكلة في سوريا النظام الأسدي لا تختصر في إشكاليات سياسية او اجتماعية أو دستورية، مهما كانت أهميتها، بل في إشكالية نظام فاشي بأكلمه، نهض على حالات مركبة من الاستثناء والاستبعاد والانكار، يدعمها نهج تسلطي، يستند إلى الاستعباد والقمع والهيمنة، وعلى مركبات توظيف مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، خدمة لتأبيد حكمها وسطوتها وسيطرتها على الدولة والمجتمع.

وفي ظل سيادة حالات الاستثناء والاستبعاد، التي ضربت حياة قطاعات واسعة من السوريين، ابتعدت الدولة السورية عن الدولة الجامعة، الساعية إلى بناء وطنية سورية، بل، فقدت الدولة صورتها المدنية، حيث لم يعرف السوريون فيها سوى سلطة، تتسلط عليهم من خلال سطوة قوانين الطوارئ والمحاكم العرفية، وتعطيل العمل بالدستور، والقفز فوق القانون من طرف الأجهزة الأمنية والمتنفذين والمسؤولين وأولادهم، مع سعي قوى السلطة الدائم إلى الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع وحراكه، فانتفى الرأي العام، وغابت تعددية أصوات قوى المجتمع الحيّة المتنوعة، مع اختفاء المؤسسات والمنظمات والهيئات، التي يمكنها الدفاع عن الصالح العام، وانتفاء مختلف أشكال الجسور والتوسطات ما بين الدولة وبين المجتمع.

وعمل النظام الأسدي طوال عقود عديدة على استغلال مختلف تكوينات المجتمع، وتجييرها قواها واختلافاتها لأهدافه السياسية، سواء من جهة ضرب القوى الحية، أم بالاستناد إلى فئة أو لنقل أقلية بعينها، وجعلها رهينة بين يديه، أو من جهة تخويف المكونات من بعضها البعض، وبخاصة عند استغلاله المكونات الأقلية لضرب المكون الأكثري وتهميش وحرمان غالبية ناسه من حقوقها الإنسانية المشروعة.

كل ذلك كان يجري لصالح نزع صفة المواطنة عن جملة الأفراد السوريين، وتحويلهم إلى رعايا، ينتظرون عطاء الحاكم، وتحويلهم إلى أبناء أقليات، وإلى أقلويين، والنظر إلى سوريا بوصفها تجمع أقليات تابعة أو خاضعة، وأقليات يجب ترويضها وإخضاعها، بغية إدامة نظام سلطوي مافيوي، يعتمد الزبونية والاستزلام، اختلفت تعيناته، ولم تختلف مركباته ودعائمه بين نظام الأسد الأب والأسد الابن.

وحين بدأت الثورة السورية حراكاً احتجاجياً سلمياً في الخامس عشر من شهر آذار/مارس 2011، لجأ النظام الحاكم منذ البداية إلى شن حرب شاملة على المحتجين وعلى البيئة الحاضنة له، الأمر الذي أعلن عن تغيرات في مسار الثورة، وتغاير مركبات ومكوناتها، بوصفها حدثاً تاريخياً، لم يشهد تاريخ سوريا مثيلاً له، ولن يتوقف عند حدود التغيير السياسي فقط، بل ستكون له تأثرات وامتدادات، تطاول إعادة بناء الدولة، وولادة شعب جديد وهوية وطنية سورية جديدة.

ونشأت أزمة وطنية عامة، عمقتها طريقة تعاطي النظام وممارساته مع الثورة وناسها، وهي أزمة تضرب جذورها في ممارسات عقود عديدة خلت، أفضت إلى تآكل قيم العيش المشترك والتعاقد الاجتماعي، وبدأت منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، بانقلاب عسكري في الثامن آذار / مارس عام 1963، الذي أعلن عن اعتلاء فئات، عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية، سدة الحكم، وإزاحة الفئات البرجوازية المدينية التقليدية، بعد أن تمكن الحزب من قطف ثمار الحراك السياسي في سوريا، إبان فترة خمسينيات القرن العشرين المنصرم.

وترجع جذور الأزمة المركبة، إلى النظام السياسي، الذي بنته النخبة العسكرية الانقلابية، التي حكمت سوريا منذ سبعينيات القرن العشرين المنصرم، وصادر وقمع جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة له، أو تلك التي لا تصب في مصلحة خدمة نظامه.

وقد عملت سلطة النظام الأسدي على تدمير القوى السياسية للنخب المدينية الغنية في دمشق وحلب وحمص وسواها، مقابل تنمية وتقوية نخب ريفية جديدة. وأسهم حزب البعث في بقاء سلطة النظام واستمرارها، من خلال توسيع قاعدتها اجتماعياً، حيث سعى إلى إدخال جموع كبيرة من الشغيلة والفلاحين في مؤسساته ومنظماته، لكنه اُستخدم في الوقت نفسه كأداة لقتل السياسة في المجتمع، واكتفى قادته بالتمتع بامتيازاتهم السلطوية، فسكنوا أبنية فخمة ومقرات شبيهة بالقلاع، في مراكز المدن والبلدات وحواشيها، بعد أن لجأت سلطة النظام إلى تقديم غنائم مادية لمحازبيه وأزلامه، وخصوصاً في مجال خدمات الدولة والعلاوات وتسهيل الرشوة والعمولات، أو على الأقل غض الطرف عنها، فضلاً عن الامتيازات السياسية.

وأنتجت السياسة السلطوية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، نمطاً من الإذعان، مورس على مختلف التكوينات الاجتماعية. نهض على قوة من الضبط والمراقبة، الرمزية والمادية، طاولت حتى حزب البعث نفسه، فلم يعد حزب البعث فاعلاً أو مؤثراً في قرارات السلطة الحاكمة وتوجهاتها، بل أن القيادة القطرية للحزب، فقدت دورها القيادي، ولم تعد تقوم، بدءاً من التسعينيات، بدور الهيئة أو المطبخ السياسي، الذي يصنع القرارات، بل مجرد مركز من مراكز السلطة.

وقد رفع منظّرو حزب البعث السوري رايات العروبة والقومية وفق رؤى وتوظيفات شعبوية، جعلتها أقرب إلى إيديولوجيا منها إلى هوية ثقافية ومواطنية وعيش مشترك، وبالتقابل والتضاد مع ما كانت تطرحه الأحزاب والحركات الشيوعية ومن لفّ في فلكها من شعارات وإيديولوجيات أممية وبروليتارية فجة. وراحت السلطة التي حكمت باسمه، تمارس الاجحاف والتفتيت والتخريب بحق مختلف تكوينات ومركبات المجتمع السوري، وبحق الوطنية السورية، نظراً لأن هذا الحزب فهم القومية العربية فهماً قسرياً، إلحاقياً، يعتمد اللغة كأساس جوهري لانتماء الجماعة القومية، تحولت وفقه الأمة إلى كائن أنثوي، حددها زكي الأرسوزي في مفهوم «الأمة الرحمانية»، الذي لم يكن الأرسوزي ذاته مدركاً لمعانيه ومركباته، نظراً إلى أن مؤسسي البعث «الأشاوس»، كانوا مشدودين إلى ميتافيزيقا اللغة، وكارهين للتاريخ، ولم يدركوا من معاني اللغة ومبانيها سوى ظاهرها، وراحوا يسحبون الرابط الأبوي بشكل خيالي ومصطنع حين يتعلق الأمر بالشخصنة، والرابط الأمومي حين يتعلق الأمر بالجماعة، التي باتت متخيلة في مخيلتهم، وبعيدة عن التربة والواقع. ووصل تأثيرهم إلى شاعر مثل أدونيس، القومي غير البعثي، الذي كان يستحضر صورة المرأة الجارية، كي يصور عبودية الأمة العربية، ومازال يستهجن أي حراك ثوري فيها لا يوافق انتماءاته الضيقة، وبخاصة حراك السوريين، الذي وقف ضده، منحازاً إلى طرف النظام الأسدي.

وأفضت العروبة، التي طرحتها السلطة الحاكمة باسم البعث، إلى إيديولوجيا استبعادية؛ وزّع ممثلوها تهم الخيانة والعمالة على كل مختلف بالرأي والتوجه، واستبعدوا كل ما هو غير عربي، سواء أكان كردياً أم آشورياً أم سريانياً أم غير ذلك. ثم فعلت المقايسة الميتافيزيقية فعلها الإيديولوجي الإقصائي ليتم استبعاد جميع من هم في حكم «غير العروبيين» من العرب أنفسهم، والمحصلة لمثل هذه الممارسات، كانت عروبة متعالية، معزولة منغلقة على نفسها، تبرر الاستبداد والقمع، وتقصي جميع المختلفين مع دعاتها بالرأي أو التفكير، فاقتصرت على ثلة من الشعبويين المعزولين عن الناس، وعن المجال المجتمعي السوري، وبالتالي، ابتعدت العروبة عن وصفها دالة انتماء وحاضنة هوية، بعد أن تحولت إلى إيديولوجيا طاردة للمواطنة والإجماع والتعايش، لذلك بقيت مختلف تكوينات الشعب السوري تنتظر المناخ الديموقراطي الذي يصحح ما جرى من ممارسات، ويوصل إلى حلّ سليم لتشييد وطنية سورية جديدة، تتسع للجميع ضمن فضاء العيش المشترك واحترام الخصوصيات اللغوية والدينية والثقافية.

والمفارق في الأمر هو أن معظم السوريين، وخصوصاً من جيل الشباب، عاشوا ازدواجية مقيمة، أو لنقل وضعوا ضمن ازدواجية عميقة ومزمنة، ما بين ما يسمعونه ويلقنون به من شعارات إيديولوجية ومقولات وأهداف قومية وعروبية، عابرة للوطنية السورية، ومتعالية عليها، وبين ما يرونه على أرض الواقع السوري، ويعيشونه في مختلف تفاصيل حياتهم اليومية، من انتماءات وعلاقات وممارسات مذهبية وطائفية واثنية ما دون وطنية، بل طاردة لأية إمكانية لتشكيل هوية وطنية سورية جامعة، وأفضت إلى انتفاء بناء دولة سورية لمجموع مواطنيها، لصالح تورم «قطر» سوري للمناضلين الأشاوس، الساعين إلى دولة عربية واحدة، وأمة عربية واحدة، يقصون في طريقهم إليها العرب من غير البعثيين، ويقصون الكرد على وجه الخصوص، ويقصون معهم السريان والآشوريين والتركمان والشراكسة وسواهم.

وتطرح، اليوم، مهام كثيرة على قوى التغيير الديموقراطي، من أجل بناء دولة وطنية سورية، تنهض على عقد اجتماعي جديد، يجسد قيم ومبادئ المواطنة والتعددية والديموقراطية، ويفتح صيرورة لاندماج اجتماعي، ولصيرورة خلق شعب سوري، يحمل هوية وطنية سورية جامعة. ويا لها من مهمة عظيمة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى