صفحات الناس

عن تراكم الاستهزاء ودِين الفطرة في سوريا الأسد/ بشار جابر

 

 

لا يملك السوريون ثقافة شفوية بذيئة رائجة عن آل الأسد، ويبدو أن الكُنية الآتية من عالم الحيوان جعلت الاسم اشكالياً. ففي المشافهة اليومية لعموم البشر، تكون البذاءة والشتيمة في حدود المملكة الحيوانية الأليفة مع الانسان، كالكلب والحمار والخروف، أما نعت الآخرين بالأسد كنوع من الشتيمة فهو غير جائز، ذلك لأن تلك الاستعارة – الأسد – لا تكون سوى لتمجيد بطل أو شخصية كدليل على قوتها وعنفوانها وجبروتها.

كان الأسدُ الأب مقدساً بالفطرة، والتقديس لا ينبع من زرع اللافتات والصور والتماثيل في وجه العامة فسب، بل إن ثقافة شعبية اعتنت بقولبة الاسم وتعميمه، وتقمص صفاته. هناك ثقافة عُني بها في سوريا، لمواءمة الاسم (الأسد) مع السلوك الديكتاتوري، وكانت هناك حاجة ماسة لتقريب شخصية حافظ الأسد وابنه من طبائع الأسد كحيوان. هذا ليس ارتداداً غائياً للاسم، بل اقرب الى الانعكاس لخوف من العصبة الحاكمة شارك فيه الجميع. فالثقافة الشفوية اليومية تتردد في وصف الأسد كمثالٍ للقوة، وتلجأ إلى حيوانات أكثر استكانة رغم قوتها، كالثور، والحصان، وأحياناً النمر، رغم الخوف من الاقتراب من النمر بوصفه يقارب قوة الأسد، فلا يتجرأ أي سوري على وصف قوة ابنه مثلاً في نادٍ للكاراتيه أو كرة القدم بأنه يركض ويلعب كالأسد، وقد يقبل بالثور لأنه آمِن شفوياً اجتماعياً ولا يُشكل مسّاً بأحد.

خلال ثلاثين سنة من حكم حافظ الأسد، تحول حيوان الأسد إلى كائنٍ اسطوري وخالد، حيوان كثيرٌ منه انساني والقليل منه حيواني. وكان على مصوري الأسد أن يجابهوا تحدياً قاسياً في جعله أسداً رغم انسانيته، وبجعله انساناً رغم حيونة الصفات الممجدة فيه. هناك صراع هوسي داخل أركان السلطة الأمنية، والتي تسيطر على المناخ الإشهاري الإعلامي في سوريا، في تجنب تراحمية الأسد الأب. فكيف يُمكن إيجاد انحدار نوعي في صفات الأسد بجعله رحوماً ومعطاء في عيد الأم مثلاً؟ وكان الجواب معقداً جداً في العقلية الترميزية للسلطة الأمنية، بجعل الحيوان الشرس المقاتل القاسي، ملك الغابة، في صورة ينحني فيها أمام أمه، لكن مع استثناء بسيط في الصورة، إذ تحيط هالة صفراء برأس أمه. الهالة المذهبة للقديسة مريم، حلت على رأس ناعسة الأسد، فباتت من مراتب الهالات الصفر. اقتناص الثروة المسيحية الرمزية في المنطقة، سهلٌ في لاوعي السكان، وجعلها قديسة، وصارت المهمة سهلة من باب الاعتياد. لقد توقف الكائن الأسطوري للحظات، للانحناء لأمه التي ليست من مراتب المحكومين البشر، وليست من مراتب الحيوانات القاسية الجلفة، بل القديسة. ولذلك توقفت ماديات العالم، وبات الكائن –الأسد- أمام تجربته الروحية التراحمية العاطفية الجليلة، والجلالة هنا من منطلق كانطي بحت: النزاع بين الجمال والخوف، بين مرتبتي الظن في البشاعة والجمال في آن واحد. هناك لحظات قليلة جداً في حياة الكائن الأسطوري تحول فيها إلى كائن يملك مشاعر وأحاسيس ورمزية عاطفية.

هناك قيمة هائلة اكتسبها الأسد كشخص من اسمه إذاً. درجات عماء معينة عممتها الصفات المجردة الحيوانية، فجُعلت ديناً أو ما يُشبه فطرة الدين تُعمّم على شعبٍ كامل. فالرمزية العميقة كانت مليئة بالرموز اللامتناهية، والأمثلة الشفوية والسرد القصصي عن ضباط الأسد المرعبين، جعلت الفطرة في تقديس الأسد ديناً رائجاً ومستحباً. فضرب حماة في الثمانينيات، والكذبة الرائجة عن حرب تشرين، واجتياح بيروت، كانت كافية لجعل الكائن الأسطوري رمزاً للقوة والتوحش. والإبقاء على هذا المستوى من الرمزية العنفية التصويرية الصنمية، كان مكلفاً، إلا أنه نجح. وذلك، ما لم نتحدث عن مئات آلاف المعتقلين، والذين درج وصفهم بأنهم في بطن الأسد. سجون تدمر وعدرا وصيدنايا، إنها بطون الأسد الكُبرى، المَعِدة الخشنة المؤلمة للأسد، ودرجت العادة أن يقول أهالي المعتقلين: بلع الأسد ولادنا…

هناك دين في سوريا غير مكتشف، يُشبه العقلية الدينية للجماعات في المشرق، في ألا يُفكر في الاعتقادات والإيمانيات إلا من منطلق تسليمي، كفطرة مكتشفة مع التربية، لا كتفكير منطقي في الصفات والسمات والسلوكيات. على التفكير أن يكون في تجنب الكفر في الرمز أو الحديث فيه.

الشقاق مع رمزية الكائن الأب، كان مع الأسد الابن، الذي عاش على خلفية الأب الدينية في عقل الجماهير، لكن، وكشرط فلسفي لروح العصر، حافظ الأسد الابن على الصفات، من دون أن ينتعل مقوماتها كما الأب. وما إن انفجرت الثورة، حتى انتقم السكان من الأسد الأب وتماثيله، فكُسرت ونُهشت بطونها. كثيرٌ من محطمي التماثيل استخدموا الأسياخ الناعمة للنهش كمحاولة جادة، لإيجاد تلاحم انتقامي سادي ضد القاهر آكل البشر. لا يسعفنا إلا “يوتيوب” لترقب آلاف الناس ممن بحثوا في بطون التماثيل عن حيوات ناسٍ آخرين. يبدو أن أمتع لحظات البشر هي في نهش اللحم أو محاولة تخييل اللحم. وينطبق هذا على الشهوة في أي شيء، من الهوس الجنسي إلى الهوس بالقتل.

كان الأسد الابن، بعيداً من الاب، والمشافهة اليومية لعُصبته الأقرب كانت تقول: “وينو حافظ يحلها بأسبوع”. وتدريجياً، انهالت ألاف الأغاني والدعابات على الأسدَين، إلا أن القسوة التي سلكها الأسد ظهّرت الحيرة: هل هذا كائن أسطوري مثل أبيه؟ سريعاً، كُسرت الصنمية، ولم يستطع الأسد غسل يديه، فالبشرية غير مطلوبة. واستعان بالأخ. هدد الشعب السوري كله ببيجامة الأخ. هنا، لم يخف النظام حرجاً من صفات الاسم الحيوانية، ودفعت آلاف الكتابات من موالي بشار وأخيه، إلى المراتب الحيوانية القاسية، وأسعفتهم دلالة الاسم. ومع توالي الأيام وانتصارات الأسد، عادت الحيرة: أيعيدون خلق الأسد الابن ككائن هجين وأسطوري مثل أبيه؟ لا شك أن آلاف القصائد الشعرية في جرائد حكومية، رخيصة المعرفة، ساعدت في ذلك، وانتصارات جيشه أيضاً. وللأمانة، فإن عشرات الأغاني التي كُتبت وأنتِجت من قبل إعلام الثورة لم تكن كافية لجعل دين الفطرة الأسدي متراجعاً، وذلك لرداءة النوع وقلة التجريب والإصرار. إلا أن حدثاً دولياً مهماً، كسر تلك الحيرة الفطرية. فما إن نطق الرئيس الأميركي دونالد ترامب جملته الأشهر: “الأسد حيوان”، حتى استكان الموالون على دلالة الصفة، وعلى دلالة قائدهم. لقد أفشى ترامب سراً معلناً، لكنه سرّ في مرتبة الشك، الحقيقة في تجسّدها الواقعي مُكلف، وبعض الحقائق تبقى سراً رغم انفتاحها على الجميع.

من منطلق آخر، تبدو صفات الأبناء واحدة. فالأسد الابن، قليل النقاء رمزياً، ولو استحال بشكله الرمزي الحيواني أو الهجين. هناك منطلق إزاحوي في عقلية السوريين الموالين والمعارضين. فالموالون ميالون، بعد إهانة ترامب، إلى إنتاج رمزيتهم الخاصة. أبناؤهم أكثر أسدية من الأسد. رغم موتهم واستشهادهم، هم رموز حية ولا متناهية. وهنا قرينة إلهية قد تصلح للتشبه بالأسد الأب الذي بات الشهيد اليومي، فخسارته لا تعوض بثمن. لقد أزاح الموالون الرمز، لأنهم ملتصقون بأبنائهم الذين ماتوا من دون أن يحميهم المخلوق الأسطوري، والذي بات حيواناً نقياً فقط. أما صفاته فباتت لهم، ولا يحتاجون لاستماع طويل لإشهار إعلامي مخابراتي. أما المعارضون، فباتوا كسالى أمام الرمز. وما إن أطلقه ترامب، حتى أصبح اليقين الرمزي واضحاً. الآن، الكل مصاب بالكسل. إنها فطرة أنتجها ترامب لليقين.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى