صفحات الناس

عن تلك “القاف” التي تضحكنا وتبكينا../ بشار جابر

 

 

ليس الاقتصاد والطبقات الاقتصادية هي التي تقمع فقط، المجتمع يقمع نفسه بنفسه أيضاً، ويخلق أدوات سحرية بمساندة النظام المُستبد لتكون وحشيته مُنتجة لوحش سلطوي أقوى. الاستبداد يُعطي المفاتيح الطغيانية التي تتكاثر نسخها في أيدي الجميع، وأدواته قد تتنوع لتجعل جماعة واحدة مثلاً طغيانية بالبديهة كمصادرة مسبقة عن أدوات القمع التي يُمكن للسلطات خلقها وإتاحتها.

في سوريا، تتماهى الدولة كسلطة، بمجتمع قمعي عام، ككل المجتمعات المحكومة من أنظمة استبدادية، حيث المجتمع والدولة يقمعان الأفراد وبعضهما بعضاً، ورغم تفوق السلطة السورية في القمع، إلا أنها تتجاور كسلطة مع مجتمع خاص لها، يملك لسانها وسطوتها وصفات رعبها. نمت الجماعة منذ بداية حكم الأسد الأب ووصول البعث العسكري بشكل أدق، بدت السلطة بلسان اجتماعي، وتلفظ صوتي، ومصطلحات قروية خاصة لدى فئة سورية واحدة هي العلويين. ورغم انتاج البعث لسلطته من الأرياف السورية عامة، إلا أن شكل السلطة الظاهري يظهر بلهجة العلويين المنتشرين في مناطق متقاربة من الساحل. شكل السلطة بأقسى درجات عنفها سواء على الأفراد أو الدول كلبنان مثلاً.

كان على السوريين في بداية الألفية أن يكونوا جيران لبنان الذي تحرر من جنود نظام الأسد، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005، راحت التلفزيونات اللبنانية الخاصة تُلمح لنا عن أثر الحرية والبقايا التي تركها نظام الأسد في لبنان. إنهُ الفن في لبنان الذي أصبح حديثاً جداً يُصور لنا جمالياً وكوميدياً قُبح نظام المخابرات السوري الذي خرج ذليلاً من أرضهم. قناة “المستقبل” وغيرها أسمعتنا “القاف” المُرعبة للأمنيين السوريين، ولهجة القرى العلوية الفطرية، وهي تُرعب اللبنانيين وتشوه وجوههم وحيواتهم. هذه الحداثة العصرية في جعل القبح مضحكاً كان إنقاذاً للبيوت السورية من كبتها، وتحريراً للفن السوري آنذاك من رتابة الطرح السياسي والاجتماعي المعروض. تصوير القبح كان بدأ، وكانت تلك أولى درجات الحداثة التي عايناها. إنه أثر الحريري الأبدي في السوريين، إذ جعل جيراننا الذين يعرفوننا، يتحدثون عنّا كما نود. لبنان دوماً حلمنا، إنه رغبتنا التي تصل اليه.

هذا الذُل الذي أضحك السوريين، حول الفن إلى إشهار يومي للسوريين، فأصبحنا معتادين على استخدام “القاف” المُشددة لتهديد أصدقائنا، ورحنا ننعت من نُحبه بألفاظٍ لهجويتها من لسان النطق الأمني ذي الخلفية العلوية، (قرد تعا يا حيوان/ قرد بحبيك وليه….إلخ).. وهي لهجات الأمنيين السوريين، وحرفُ “القاف” المرُعب بات يخرج كاستهزاء في التلفزيونات السورية أيضاً. وكان العقاب سريعاً لمنتجي مسلسلات مثل “أيام الولدنة” وغيره، وهم ممن حولوا الخفاء إلى منطقٍ وقح وفج، وسرعان ما انتهى ذاك الكشف الفني والاستخدام الاجتماعي العام لحرف “القاف”.

الفن أراح المجتمع قليلاً بعد السنوات الأولى للألفية، حينما كان حامل حرف القاف في فمه مُهاباً من السوريين. أيّ صاحب سيارة أجرة من الداخل، قد يرتعد، ما إن يصعد معهُ راكب يتحدث بلهجة أبناء الساحل الجاهرة بـ”القاف”. ودرجت عادة لدى الشبان بالتغني باللهجة لإخافة الآخرين، المدارس السورية كلها تكون زعامتها لأي طالب يتحدث هذه اللهجة المُشددة ولو لم يكن المتحدث بها علوياً. المسيحيون والسُنّة من أبناء الساحل، يحاولون استخدام اللهجة و”القاف” في الداخل السوري لإظهار التفوق، بوصفها لهجة متماهية مع السلطة، ومع أدواتها العُنفية الأكثر وحشية.

وما درج قبل الثورة السورية، كان عليه أن يتوقف. هذه السماجة والبلاهة التي تعامل بها السوريون مع لهجة أبناء السلطة وأدواتها العنفية تم إيقافها، ليس بإلقاء الغطاء عليها، بل بكشفها عنوة، وفصل مُريديها وطبائع استخدامها. سارع النظام الأمني السوري إلى كشف اللهجة، مُرفقة بأعنف الصور الممُكنة رؤيتها. فيديو مدينة البيضا البانياسية (2011) الشهير، يُظهر شباناً ورجالاً من الأمن والشبيحة يدهسون الناس بأقدامهم، مُظهرين بأصواتهم للعالم، وللسوريين خاصة، أكثر ما في “اللهجة العلوية” من عُنف لفظي، واختصاص اسلوبي في الاستخدام. وحرف “القاف” الذي كان قد تحول مزحة عنفوانية، بات مُهاباً مرة أخرى. كانت الهيبة تقتضي استعادة الحرف واللهجة من سخريتنا الرائجة. الإتاحة الإشهارية انتهت. لقد باتت حرباً وابتلاء. وبعدها راجت مئات المقاطع التي حولت الطائفة المتماهية مع السلطة إلى مهووسين في إظهار تفوقهم في “قافِهم”. لقد سمح النظام للهجة و”القاف” بأن تُصبح قيمة. بسطاء العلويين باتوا مكروهين. لقد أرغمتهم السلطة على الابتلاء، قدر ما تستطيع، ليكونوا مصدر تهكمٍ مفضوح ورديء، يخلط بين الطائفة والسلطة بشكل عنصري طائفي. والخلط يأتي من إعلام الثورة، ومن الاصطياد الخفي للاجتماعيين السوريين الذين باتوا أعداء. فما أن يفتح العلوي فمه، حتى يظهر كوحش بحروفه المُشددة الواضحة، والآخر يكبتُ الوحش الذي في داخله أو يُخرجه، حسب ما يقضيه المكان والزمان.

إن التوحش الذي في دواخلنا، قاده النظام عبر مؤسسته الأمنية، ليكون طائفياً دموياً، بعدم كان محدداً في أنماط الإزاحة والتجنب والتجريب. وهذا سريعاً ما تحول للطائفة كلها، فاعتمدت في انكشافها ودفاعها عن نفسها على فطرتها، فطرة تكونها داخل المؤسسة الأمنية عبر آلية الأسد الأب في تنميط الطائفة. وأصبحت البلاد بمراكزها المرعبة، العسكرية والأمنية والإدارية، محمية بفخر أسلوبي متزايد. الحرب أهلية جعلت القيمة المضاعفة للهجة والحرف، مطلوبة. فطائفية المعارضة وإسلاميتها المتشددة، جعلت إبراز الهويات والسلوكيات هوساً للجميع، لإيجاد الذات. المسلسلات السورية الحديثة تتحدى الحدث الأسلوبي الذي درج للتهكم ما قبل الثورة. تضع الجندي السوري بكل فخر الآن، وهو يتحدث بلهجة الرعب العلوية، ويقوم بعملٍ “شريف”، ليس على الطريقة اللبنانية التي صورت لهجة السلطة في سوريا بوصفها سرقة وطغياناً وفساداً.

العلويون ليسوا طغاة، ولا لهجتهم لهجة طاغية. إنهما المكان والزمان اللذا يُحولان خوف الطوائف إلى اختصاص وحشي، ويحولان الجماعات الأخرى إلى جماعات حالمة في أن تملك قليلاً من اللهجة للتماهي مع الوحوش. إنه حلم المقموع بأن يكون قامعاً. لكن في سوريا، اللهجة والقاف بلادٌ كاملة، نحلم بالخروج منها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى