صفحات الرأي

عن توقف جريدة “السفير” ثلاثة مقالات

 

عن جريدة «السفير» وطلال سلمان/ حازم صاغيّة

في يوم صيفيّ من عام 1974، وكنت عائداً من لندن، أخبرني جوزيف سماحة بأنّ «جريدة تقدّميّة ستصدر في بيروت». قال إنّ تمويلها ليبيّ، وليبيا كانت يومذاك تناهض الشيوعيّة كما لم يناهضها جو مكارثي. غير أنّ صاحب المشروع، كما أضاف، «ناصريّ منفتح على اليسار». فطلال سلمان، وفقاً للرواية، سيفيد من فرصة أتاحها المال الليبيّ لإصدار جريدة «يحبّها قلبك».

«النهار» لم تكن جريدتنا. فهي لبنانويّة جدّاً ومسيحيّة جدّاً، فضلاً عن كونها بورجوازيّة ضالعةً في النظام بمعناه الأوسع. أمّا «المحرّر» التي عبّرت عن ناصريّة صارخة مشوبة بفلسطينيّة متوتّرة، فكنّا نحسّها جريدة آباء أنفقوا صوتهم المرتفع وتركوا لأبنائهم صمتاً لا يطلع منه كلام مفيد.

في مكتب طلال سلمان

ولم ينقض يومان حتّى وجدتُني في مكتب طلال سلمان، الرجل اللطيف والخجول الذي لم يتكيّف مع واقعه الجديد، صاحباً لجريدة ورئيساً لتحريرها، يقطّع عباراته القصيرة بضحكات مخنوقة وتنهّدات تُشركك سريعاً في همٍّ يعرضه باقتصاد يحيطه بالغموض. وهو، بسُمرته الحادّة، ذو طلّة وضحكة محبّبتين إنّما حمّالتا أوجه. فإذا ميّلناه يميناً، بدا ذا ملمح خليجيّ، وإذا ميّلناه يساراً، بدا شبيهاً بقادة «الجبهة القوميّة»، الموصوفين بالتطرّف اليساريّ، في اليمن الجنوبيّ.

وربّما بفعل ميل استفزازيّ لم يفارقني، أو لجلاء صورة ينبغي ألاّ تلتبس لاحقاً، أقحمتُ في الكلام اسم الشيوعيّ فرج الله الحلو الذي «قتله عبد الناصر». وإذ تشاغل جوزيف مُحرَجاً بي، كما تشاغل ياسر نعمة، عرّاب الجريدة، ابتسم طلال بسمة فيها من الودّ حيال شابّ متحمّس ما فيها من الخبث حيال يافع غافل، مستوعباً عبارتي النافرة كأنّها لم تكن. وانتهت الجلسة بمطالبتي أن أعدّ ملفّين طويلين اخترتُ موضوعيهما، واحداً عن الكتائب اللبنانيّة، نُشر لاحقاً، والآخر عن الحزب السوريّ القوميّ، لم يُنشر.

وما إن ضمّتني الأسرة، حتّى حُدّد لي معاش شهريّ من 550 ليرة لبنانيّة كانت المبلغ الأوّل الذي أتقاضاه عن عمل. يومها كانت لجوزيف «تأمّلاته» في المعاش، فقال لي إنّه كلّما التقى بطلال في ممرّات الجريدة ورآه عابساً، تخيّل ذاك المعاش أوراقاً تتطاير في سماء بعيدة.

لكنّ طلال، الذي كثيراً ما يُطرق، قليلاً ما يعبس. فمثلنا بدا متفائلاً برسالة نضاليّة تستحضر الفجر مرّتين، على الأقلّ، في كلّ ليل بهيم. وكان، إلى ذلك، مفتوناً بمهمّة مهنيّة، لم يصرّح عنها، لكنّها لا تقلّ عن انقلاب. ذاك أنّ ابن الدركيّ، كما كان يقول متباهياً، هيّأ نفسه لإعادة تأسيس الصحافة اللبنانيّة من صفرٍ لم يسبقه تأسيس ولا زمن. فمنذ ذاك اليوم، وعلى شاكلة البيانات التي يذيعها الضبّاط بعد احتلالهم الإذاعات، بات هناك «صوت» للّذين «لا صوت لهم»، ووُلدت جريدة «للوطن العربيّ في لبنان» ولـ «لبنان في الوطن العربيّ». وكان طلال يجدّ في سعيه هذا ويجتهد، فيكرّس له الوقت كلّه ويخدمه بحواسّه الخمس، قبل أن يستعير له حواسّ الآخرين وهممهم. غير أنّه، وهو سيّد الشعارات والعناوين الصارخة، كان يشارك العسكريّين الانقلابيّين تعثّرهم لدى شرح الانقلاب المهيب. فالبلاغة متروكة للشعارات، فيما يلهث الكلام المتعب للّحاق بها.

وفي «السفير»، نشأت تلك التسوية التي عملتُ بموجبها، وعمل كثيرون غيري، لسنوات طوال: نضع المموّل بين هلالين، فلا نأتي على ذكره سلباً أو إيجاباً، ونستفيد من الحيّز المتاح كي نقول ما نريد قوله. هكذا نكون نؤمن بكلّ ما نكتب، لكنّنا لا نكتب كلّ ما نؤمن به. وطلال، بدوره، لم يسأل أحداً أن يكون غير ذلك.

من «النهار» إلى… مصر

وراودنا يومذاك هاجس عبّرنا عنه بلغة غالباً ما أتت مداوِرة: كيف ننهي سطوة «النهار» التي رأيناها العائق الذي يراه الانقلابيّون في وزارة الدفاع؟ فإذا كان لبنان يتهاوى لصالح الثورة الفلسطينيّة، وإذا كانت البورجوازيّة تتهاوى، هي الأخرى، لصالح الطبقة العاملة، فلماذا إذاً لا تتهاوى «النهار» أمام «السفير»؟

وكان ما يشجّعنا أنّ واحدنا يأتي إلى الجريدة الوليدة من همٍّ عامّ تدلّ إليه حزبيّته وصلته ببضعة كتب وأفكار، همٍّ لا يُصرَّف إلاّ بالكتابة والنشاط السياسيّ، فيما مُجايلونا في «النهار» يسعهم أن يعملوا أساتذة في التعليم أو موظّفين في المصرف، كما يمكنهم أيضاً العمل في الصحافة حين يقودهم إليها الحظّ أو سوءه. وإذا كان الرأي الحاسم ما يميّز واحدنا، فتلطيف الرأي وتمويهه ما يميّز واحدهم. وهذا فضلاً عن حساسيّةٍ نفّرتنا دائماً من «المصادر العليمة» و «الأسرار» التي لا يُعرف من أسرّ بها. أمّا «فخامتك» و «معاليك» فلغةٌ لسوانا، بينما نحن نسمّي «الكبار» و «القامات» من غير أن نرفق أسماءهم بـ «البيك» و «الشيخ» و «العميد».

لكنّ المشكلة أنّ مساعينا المضمرة إلى منافسة «النهار» محكومة بالهوى المصريّ الذي يعصف بطلال. ذاك أنّه كان يستقي البدائل والمثالات من بلد عُطّلت فيه الصحافة طويلاً وكُمّمت الأفواه. وهذا ما ربط أقدامنا في السباق بأطنان من الحجارة، إذ كيف نركض ونحن لا تستهوينا إلاّ الأنظمة والتجارب المشهورة بلجم الصحافة وتقييدها؟

وعلى العموم، مال الهوى بنا إلى ما لا يستهوي الحرّيّة، ولا تستهويه، ولبنان كان أكثر بلدان العرب احتضاناً لها. وكم كان ياسين الحافظ يُدهشنا ويضعضعنا حين يقترح علينا، إذ نلتقيه في ردهات الجريدة، «النضال للبننة العرب» بدل «النضال لتعريب لبنان».

فبينما كانت شوارع بيروتيّة كالحمرا وبلسّ والروشة تتباهى بالأكشاك، كان لُعاب «السفير» يُسيله محمّد حسنين هيكل، الذي احتفظت له بلقب «الأستاذ» الحصريّ، وهو لم يستحقّ موقعه إلاّ بفضل علاقته الوثيقة والشهيرة بحاكم ديكتاتور. وفي النخاع الشوكيّ للجريدة أقام «أولاد الحارة الطيّبين» وشعبويّات أخرى جيء بها من الأفلام المصريّة لا تفعل غير تحويل أصحابها جاليةً في بلدهم.

لكنّنا كنّا عائلة بما تنطوي عليه العائلات من مودّة ورفاقة، لكنْ أيضاً بما تنسجه من نكد ومكائد. وسريعاً ما تحوّل زملاء نهارنا ندامى سهر، خصوصاً بعدما اضطرّني اندلاع حرب السنتين إلى مغادرة بيت الأهل في الأشرفيّة والانتقال إلى شقّة مفروشة في الحمرا.

امتصاص الأزمات

فجوزيف سماحة وشوقي رافع وناجي العلي وباسم السبع وحسين حلاّق ووليد شقير وحلمي التوني وراشد فايد وسعد محيو ووليد نويهض وجورج ناصيف ونجاة حرب وفادية الشرقاوي وزينب حسّون وفيصل سلمان ومحمّد شقير ومعتزّ مدني وعدنان الحاج وإيمان شمص وموفّق مدني وأمل حوّا وعصام الجردي ويوسف برجاوي وعمر الناطور، وآخرون يصعب إحصاء أسمائهم، كانوا نجوم النهار الذين ينقلب أكثرهم في الليل نجوم ليل. وكان ينضمّ إلينا في بعض تلك الأماسي معلّمنا الحِرَفيّ الدؤوب محمّد مشموشي، ومدير تحريرنا الذي يسير كأنّه ينزع لغماً من تحت قدميه بلال الحسن، والمسرحيّ الرقيق والمتحفّظ سعد الله ونّوس، وإبراهيم عامر الذي يقيم فصلاً حادّاً بين أخويّة المقهى ومراتبيّة المكتب، ومصطفى الحسيني الذي يحمي دماثته وخجله بحسم مشبع باليقين. أمّا ياسر نعمة، المدير الإداريّ اللبق، وباسم السبع، الذي استهواه منذ شبابه المبكر أن يكون «شيخ شباب»، فكانا من يمتصّان الأزمات التي تنشأ بين طلال وواحد من أهل البيت. وهما كانا يوحيان أنّهما منقذا طلال من ضلال ألمّ به فجأة، وهو الإنقاذ الذي يجوز الشكّ في أن يكون طلال قد أراده، وإن كان قد أوحى بأنّه يريده.

والزملاء الأصدقاء هؤلاء، ممّن تراوحت أعمار معظمهم بين العشرين والثلاثين، كانوا خليطاً من أبناء الطبقة الوسطى وشرائحها الدنيا، ريفيّين مقيمين في المدينة ومدينيّين، سنّة وشيعة مع أقلّية من المسيحيّين الذين سيموا «وطنيّين»، مثلهم مثل آخرين، كسمير فرنجيّة وغسّان الخازن اللذين كتبا افتتاحيّات للجريدة من دون أن يعملا فيها. وكان أغلب أولئك الشبّان والشابّات إمّا شيوعيّين في الحزب أو شيوعيّين في المنظّمة. أمّا العرب غير اللبنانيّين بيننا فكانوا أكبر سنّاً وأكثر تجربة في سياسات القسوة التي عادت عليهم بالقهر والمرارة.

لكنّها الحرب…

والمرارة وفدت إلينا من أبواب ونوافذ عدّة. ذاك أنّ الحرب التي ناضلنا بهمّة كي تقع، وقعت. وكم كنّا نتباهى بزميلنا المصوّر أكرم الذي يغطّي الأحداث بيد تحمل الكاميرا وأخرى تحمل الرشّاش.

والحال أنّ الحرب تبقى الحقيقة الأشدّ تأثيراً وفعلاً في «السفير». فهي ولدت قبل أشهر على اندلاعها، ما توأم الاثنتين جاعلاً واحدتهما، ولو على شيء من المضض أحياناً، ضرورة للأخرى. لكنّ الحروب من طبعها تحويل الجرائد نشرات تعبويّة، فيما من طبع الجرائد مكافحة الحروب والنشرات.

هكذا قضي مبكراً على «السفير» أن تكون صوتاً نضاليّاً يعرف الحقيقة أكثر ممّا يُخبرها، وأحياناً قبل أن تصير حقيقة، أو من دون أن تصير. أمّا الحجج التي طابت لألسنتنا فسهلة تكرّ كرّ الماء بمجرّد فتح الحنفيّة. ذاك أنّ ثمّة «مصائر» ندافع عنها، و «مؤامرات» نحبطها، واحتلالاً لا نفعل إلاّ الدفاع عمّن يستدعيه من أجل أن يقاومه. وكان سهلاً أن يقول واحدنا، حين يتظاهر بالبراغماتيّة، إنّ الجريدة تريد قرّاء والقرّاءُ معبّأون. أمّا أن نكون نحن قد عبّأناهم لكي يريدونا ونريدهم هكذا فأمر آخر. وفعلاً امتلكنا القدرة على إيقاع الوقيعة بين زوج وزوجة متحابّين بذريعة أنّنا أردنا لهما أن يتحابّا أكثر، وأن يكونا مثال العائلة المشتهاة.

والرغبات هذه، التي رعتها براءة البعض، وجدت دائماً مستعدّين لمدّها بالمال والسلاح اللذين كانا يتحرّكان في اتّجاهات شتّى. ومع اقتراب حرب السنتين من نهايتها وافتراق أهل «الخندق الواحد»، اختارت «السفير» الطرف الأقوى، وكان تلويث الحرب لمعظم الصحافة قد قطع شوطاً أبعد. فالجيش السوريّ دخل لبنان يومذاك من بوّابات كثيرة، منها مقتلة تلّ الزعتر، ومنها العدوان على الصحافة غير الموالية لدمشق وقتل صحافيّين وإسكات غيرهم. وتبدّى، حينذاك، كم كنّا أحراراً وأقوياء حيال «البيك» و «الفخامة» بالقياس إلى ما صرناه حيال «سيادة العقيد».

زيارة السادات

بيد أنّ الأمور تغيّرت مع زيارة أنور السادات القدس. فقبل أن يستعيد أهل «الخندق الواحد» وحدتهم، كتب طلال بلسانهم أجمعين مانشيته الشهير «الساقط عند المغتصب»، وكانت لي في هذا الجنون مساهمة تُخجلني هي افتتاحيّة بعنوان «اقتلوه»، داعياً إلى قتل الرئيس المصريّ قبل أن يصل إلى «الكيان الصهيونيّ».

يومذاك، وبغضّ النظر عن المضمون الرهيب لما كتبته، أتاح لي طلال سلمان أن أوقّع افتتاحيّة على الصفحة الأولى وأنا في السادسة والعشرين، وهو ما تكرّر مراراً بعد ذاك. وبهذا، وبمعاملة كهذه لكثيرين غيري، سجّل طلال لنفسه ميزة فريدة، هي أنّه يرعى ويشجّع من يلي من الأجيال بعين واسعة وقلب كبير.

وبقرار أو من دونه، يُحسب لـ «السفير» أنّها المكان الذي أُسّست فيه الكتابة التحليليّة في الإعلام اليوميّ اللبنانيّ بعدما طغت الكتابة الإنشائيّة طويلاً.

فعلى صفحاتها، ما بين النشأة والإغلاق، كتب من العرب ياسين الحافظ وميشال كامل وأدونيس وجميل مطر وفهمي هويدي وعزمي بشارة وميشيل كيلو وياسين الحاج صالح ولؤي حسين وثائر ديب وسنان أنطون وكثيرون آخرون. وفيها عمل من اللبنانيين فوّاز طرابلسي وجهاد الزين وزياد ماجد وحسام عيتاني ونهلة الشهّال وساطع نور الدين وإبراهيم الأمين وخالد صاغيّة ووسام سعادة ونصري الصايغ وربيع بركات وغيرهم. ولا أظنّ أنّ أحداً من أصحاب الأسماء المعروفة اليوم لم تستكتبه «السفير». وإلى هؤلاء وسواهم، حامت دائماً أطياف لطيفة فوق مكاتبها، كمنح الصلح والسيّد هاني فحص، ممّن حملوا إلى تلك المكاتب تجاربهم الغنيّة وعبارتهم الأنيقة.

وفي «السفير» أسّس إبراهيم العريس، مطالع 1977، صفحة ثقافيّة احتضنت أدباء سائر المناطق والطوائف وفنّانيها، كاسرةً تقليد التمحور حول الجبل المسيحيّ، كما احتفلت بالأدب العالميّ بما يغاير التعاطي السائد، اللبنانويّ وشبه السياحيّ مع الثقافة.

وأيضاً بين النشأة والإغلاق، ضمّت «السفير»، كتلة معتبرة من صانعي الثقافة اللبنانيّة المعاصرة. فإلى عرب شغلوا مواقع أساسيّة، كسعد الله ونّوس ويسري نصر الله ورؤوف مسعد، وطبعاً ناجي العلي، أو استُكتبوا فيها كهاشم شفيق ومحمّد بنّيس وسواهما، أضاء صفحات «السفير» شاعر كعبّاس بيضون وروائيّ كحسن داوود، كما اتّسعت لكثيرين حملوا إليها نجوميّتهم، أو اكتسبوها فيها، فكان منهم محمّد العبدالله والياس خوري وبول شاوول وشوقي بزيع ومحمّد سويد وعناية جابر ومحمّد علي فرحات ويوسف بزّي وسامر أبو هوّاش وحسّان الزين ويحيى جابر وجهاد بزّي ورشا الأطرش واسكندر حبش وعبيدو باشا وسحر مندور ونديم جرجورة وأحمد بزّون…

صالح بشير والخميني

وفي ما يعنيني خصوصاً، عرّفتني «السفير» إلى صالح بشير، التونسيّ الجوّال الذي جاء إلى بيروت مناضلاً وعمل مترجماً، ثمّ «تسلّل» إلى الكتابة ليغدو أحد أبرز الكتّاب العرب الذين عافوا المتون إلى الهوامش، وواحداً من أذكى الناس وأكرمهم. ومع صالح، حوّلنا الغرفة المخصّصة لصفحة «الرأي» امتداداً لساحة هائجة في تظاهرة بطهران تشتم الشاه بألسنة كثيرة وتهتف للخميني.

وواقع الحال أنّ «السفير» كثيراً ما شابهت التطاهرات: يأتي طلال متحمّساً، حين يبدو له ولنا الحدث جللا، فيوزّعنا على المحاور وتبدأ المسيرة. إلاّ أنّها شابهت الأحزاب النضاليّة آكثر ممّا شابهت المهن. ولاحقا، وفي المعنى هذا، «انشقّ» عنها «يساراً» جوزيف سماحة وابراهيم الأمين لينشآ «الأخبار»، و «انشق» ساطع نور الدين «يميناً» ليؤسّس «المدن»، وهذا بعدما كان باسم السبع وفيصل سلمان قد بلغا في «الانشقاق» ما يرقى إلى «ارتداد».

أمّا أنا، فتغيّرت مبكراً كما تغيّرت «السفير». فمنذ أوائل الثمانينات، وقد أفضت التجربة الإيرانيّة إلى الثيولوجيّة الحقود التي صارتها، لم يعد يعنيني أكثر من استقرار السلطة المركزيّة في بيروت، كائناً من كان رمزها. وحين حلّ الاجتياح الإسرائيليّ وتباهت جريدتنا في واحد من مانشيتات طلال الصارخة بأنّ «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء»، كان المانشيت الذي يستهويني، وهو هرطقة لا تُكتب، أنّ بيروت ترفع الأعلام البيضاء كي لا تحترق.

لكنّ طلال، والحقّ يقال، تحمّل اختلافي طويلاً، وكان يشير إليه مداعبةً بتسميتي «الابن الضالّ». وهو احتملني لسنوات راح فيها افتراقي يتزايد عن فهم «السفير» لكلّ ما يدبّ على الأرض.

ولن يقوى النسيان، الذي يلتهم أشياء كثيرة، على التهام حوادث صغرى مؤثّرة. فحين جرت محاولة آثمة لاغتيال طلال، كنت مصاباً بزكام أخّر عيادتي له ثلاثة أيّام أو أربعة. لكنْ حين زرته، عاتبني برقّة شديدة، تكاد تكون اعتذاريّة، ظانّاً أنّ الخلاف السياسيّ ما حال دون تفقّده. والحال أنّ الطرف الذي اتّهمه بمحاولة الاغتيال هو الطرف الذي كنت أدافع عنه في جريدته، لمجرّد أنّه رمز السلطة المركزيّة يومذاك. وكان الرأي الذي أميل إليه أنّ قيام السلطة شرط لمعارضتها، وإلاّ دخلنا في همجيّة المعارضة من دون سلطة.

أمّا إبّان علاجه، فتبرّع صديقه أسعد المقدّم بأن يسدّ الفراغ الذي سبّبه احتجابه. وما لبث أسعد، بنواياه الحسنة وأفكاره البسيطة عن «مأسسة السفير»، أن انضمّ إلى فرقة العاملين على إنقاذ طلال من طلال. لكنْ هيهات!

فـ «السفير» وطلال سلمان يستحيل فهمهما، هما أيضاً، من دون العائلة ونظام القرابة، ومن أيّام الجريدة الأولى، وُجد من يسمّيها «شمسطراليا» تدليلاً على عدد العاملين فيها من أبناء شمسطار، بلدة طلال. لكنْ أيضاً، وربّما أكثر من أيّ مكان آخر، كانت تنعقد زيجات في «السفير»، وتلد زميلات، وكثيراً ما تستعرض أدراج الجريدة أطفالاً يحملهم آباؤهم وأمّهاتهم. وإذا كانت المؤسّسات الصحافيّة اللبنانيّة كلّها ملكيّات عائليّة، فإنّ «السفير» مشاعة عائليّة تقف مشاعيّتها، بطبيعة الحال، عند عتبة المُلكيّة. فالزواج والطلاق، وكذلك التعيين والتوريث، أمور مفتوحة لنقاش الجميع وتداولهم. وطلال نفسه أكثر من يستضيفون الآخرين إلى همومه الشخصيّة والعائليّة، مستعيناً بالأصدقاء على حلّها، من دون أن يُتاح لهؤلاء الأصدقاء فهم دواخلها العميقة، ومن غير أن يكونوا هم أنفسهم مراجع تقليد في التربية والانتظام العائليّ.

وفي حدود التناقض بين «العائلة» و «المؤسّسة»، قضى طلال سنوات يؤسّس المؤسّسة لفظاً ويمتّن العائلة التي هي «عائلة الجميع» بالمعنى الذي كان يزهو به بيرون في الأرجنتين. وفي ذلك استعان بالنفوس الكثيرة والمتعارضة المقيمة في نفسه، هو الذي يحبّ أن يربح ويحبّ أن يخسر، وأن يبدو رابحاً وهو يخسر وخاسراً وهو يربح، والحامل الإيمان القديم والمكتشف أنّه بات لزوم ما لا يلزم، والأب الذي يستهويه أن يكون صديقاً للأبناء، وأحياناً ابناً لهم، وابن الدركيّ الذي يخشى العقداء ويقصر تجرّؤه على ساسة يشاركونه، مثلنا جميعاً، الخوف من القتل.

وفي الحالات كافّة، نجح طلال سلمان في تحويل السفيريّين جيشاً عاطفيّاً في علاقته بـ «السفير»، ينفعل ويتعصّب لها، وقد يبكي منها وقد يبكي عليها. وهي بالتأكيد علاقة عائليّة بحتة لا مثيل لها بين جريدة وعاملين فيها. وهذا ما عزّزته تلك العاطفيّة التخديريّة التي تزخر بها المخاطبات الشعبويّة، فـ «تُقنع» السامع بعكس ما يقوله العقل والمنطق والمصلحة. وهكذا كان من يدخل إلى مكتب طلال محتجّاً يخرج منه معزّياً، في انتظار أن يتراجع مفعول المخدّر بعد ساعتين.

المعنى الذي تصدّع

وفي هذه الغضون كانت الثمانينات تطرح على «السفير» همّاً أكبر يتّصل بالمعنى الذي رسمته لنفسها. فالعروبة الأخويّة البسيطة بدأت تنشقّ إلى سنّة وشيعة، وفلسطينيّين ولبنانيّين. وما بين خطف موسى الصدر في ليبيا وحرب المخيّمات الشيعيّة- الفلسطينيّة، راحت تتهاوى المعاني جميعاً، وراح يتّضح كم أنّ «جرح فلسطين» من طبيعة بلاستيكيّة.

وفي تلك المرحلة أنجزتُ في «السفير»، وهو كان آخر ما فعلته قبل الانتقال إلى «الحياة» وإلى لندن، عدداً من المقابلات والتحقيقات عن النخبة السياسيّة المارونيّة في لبنان، شاركني فيها حسن السبع الذي يجتمع فيه من المزايا ما يصعب اجتماعه في شخص واحد. لقد كان حسن سيّد الطابق الأعلى، طابق الأرشيف، محاطاً بأصدقائه، ليلى حمّود، التي صارت زوجته، وصقر أبو فخر ومحمد سويد وزينب سلمان وحسن يوسف.

وكان حسن كثيراً ما يقرأ المعلومة في أرشيفه ويقارنها بالتغطية في جريدته ثمّ يهزّ رأسه ويستعيذ بالعليّ العظيم.

من بعيد…

ومن لندن استمرّ التلصّص على «السفير» وهي تسعى بشقّ النفس لأن تؤلّف معنى لا يتألّف. فأمورها، لا سيّما في العقد الأخير، راحت تتدهور بسرعة فائقة، وسنة بعد سنة جعل يتنامى التضييق على كتّابها المغايرين، حتّى أنّ بعضهم لم يطيقوا البقاء فيها. وصار عليّ أن أبذل جهداً بالغاً لإقناع من أُخبرهم كم كان طلال رحباً طوال «انشقاقي» في الثمانينات. وفي ظنّي أنّ واحداً من الأسباب يعود إلى اختلاف السلطة الفلسطينيّة في بيروت ثمّ ما أعقب عهدها من فوضى واحتراب لترسيم الحصص عن توطّد السلطة السوريّة وزمنها، فكيف وقد التقى «سيادة العقيد» و «سماحة السيّد» على طلبات واحدة ينبغي أن تُلبّى؟ وشمسطار، في آخر المطاف، ومثلها الحمرا، واقعتان في نطاق لا يتسامح معه المسدّس ولا تتعفّف عنه العبوة. ويبدو، إلى ذلك، أنّ التمويل الليبيّ البعيد أقلّ تطلّباً من مصادر تمويل باتت أقرب وأكثر داخليّة.

لكنّ التردّي بلغ حدّاً أجاز التعامل مع بهجت سليمان بوصفه مفكّراً خطيراً، ومع إيلي حبيقة بوصفه قطباً سياسيّاً، ناهيك عن نعي ناعسة الأسد، والدة حافظ، بلغة تشبه لغة كيم إيل سونغ في حديثه عن أمّه. ولئن سبق لحرب المخيّمات أن بيّنت أن «جرح» فلسطين بلاستيكيّ، فإنّ إصبع «السفير» انضمّ إلى أصابع لبنانيّين آخرين في اللعب بـ «جرح» سوريّة وتوسيعه.

وأحدس أنّ أحد الطلالات التي فيه لا بدّ اشمأزّ من طلال الآخر، ذاك الذي يتواطأ مع أشرار يرسلون إلى سوريّة شبّاناً من شمسطار وجوارها، فيذهبون قاتلين ويرجعون مقتولين.

والتردّي هذا وازاه تهافت لم يمكن تجنّبه: ذاك أنّ استحالة رتق الفجوة بين الكلام والواقع، وبين بعض الوقائع وبعضها الآخر، وبين العروبة وإيران، أفقدت المبالغة الدراميّة التي اشتُهرت بها «السفير» آخر الجدّ الذي تبقّى لها. وكم بدا مضحكاً، ومحزناً أيضاً، أن تجتمع لسنوات افتتاحيّة هوائيّة لسعيد عقل على الصفحة الأولى وعبارة لجمال عبد الناصر لا يقرأها أحد على الصفحة الأخيرة. وكانت «السفير»، منذ يومها الأوّل، قد دأبت على أن تنشر يوميّاً عبارة للزعيم المصريّ، حتّى غدت أبا هريرته، هو الذي لم تطل به الحياة كي يقول كلّ العبارات المنسوبة إليه.

زمن مقفل

وتلك أيّام لا ينفصل عنها تاريخنا، أفراداً وجماعات، بما أحببناه منه وما كرهناه. أمّا الذين يبحثون عن عِبَر فلن يفوتهم أنّ لبنان الذي أمعنّا في تمزيقه لم يعد يعني الكثير لـ «الوطن العربيّ»، بينما الأخير انتهى نكتة لم تعد تُضحك أحداً في لبنان.

وإقفال «السفير»، في هذا المعنى، إشارة إلى زمن أكبر سعينا جميعاً إلى إقفاله. فهو قد يقول شيئاً عن اقتصادات العالم وصحافاته، لكنّه يقول أكثر كثيراً عن جفاف المال السياسيّ، أو بالأحرى العسكريّ. وهو بالطبع يتّصل بالمبيعات والإعلانات، لكنّه أوثق اتّصالاً بانهيار الرأي العامّ في لبنان، مع انهيار الدولة الذي تكتّم عليه الطائف، لصالح الآراء الخاصّة الطائفيّة التي لا تعوزها الصحف.

وإقفال «السفير»، كائناً ما كان الحال، يبقى حدثاً محزناً، وأيّ إقفال لأيّ صحيفة حدث محزن. أمّا الخلاف السياسيّ فسبب آخر كي يتمسّك واحدنا بالأصوات التي يخالفها وتخالفه، مقاوماً اكتمال التحوّل إلى صحراء لا تصدر عنها إلاّ مونولوغات متفرّقة. وإذا صحّ أنّ الصحافة اللبنانيّة، لا سيّما النضاليّ منها، فعلت كلّ ما في وسعها كي نصل إلى هذه النتيجة، التي تدفع هي نفسها ثمنها، فالدفاع عن لبنان المتعدّد يقتضي الدفاع عن صحافته ولو رغماً عنها. ذاك أنّ الإقفال ليس العقاب العادل لأيّ كان، لا سيّما وأنّه يطاول مئات الصحافيّين والمحرّرين الذين سيُلقَون على قارعة البطالة. وهذا فضلاً عن كونه انتصاراً لصورة البلد كما أرادتها صحافة تطحن الوطن بالقضيّة، ظانّةً أنّها ستنجو من غرق مجتمع دفعته، بحسن نيّة أو سوئها، إلى الغرق.

أمّا أنا، فالقليل الذي بتّ أعرفه وأُعرَف به إنّما ابتدأ في «السفير» ومعها وبفضلها. وأوّل إيفاء الدين المستحقّ المصارحة بالحقيقة.

الحياة

 

 

 

هَشاشاتُ الصحافة اللبنانية: هوامشُ أراها مُتوناً/ جهاد الزين

هذا وقت يتيح، نظرياً، مناقشة كل شيء في الصحافة اللبنانية. فحالتها كحالة رجل يتعرض لأزمة مالية فتنكشف كل جوانب حياته بسببها وتتحول إلى أزمات خاصة ومعلنة!

الهشاشة تستسقي الهشاشة.

هذه لحظة خطرة في الصحافة اللبنانية ليس فقط بسبب خسارة الوظائف المريعة في قطاع جدي وحقيقي تقليديا من الطبقة الوسطى اللبنانية ولكنْ أيضا بسبب الانحلال الأخلاقي الذي يمكن أن يرافق ويفاقم علاقات الصحف ببعضها بعضا بشرا وحجرا ومؤسساتٍ ومعايير.

لا أعتقد أن الطبقة، أو “الطبقات” السياسية اللبنانية، حزينة، عكس الادعاء، بفعل هذه اللحظة الكارثية في الصحافة… على الصحافة اللبنانية. فالصحافة لم تكن يوما خارج سيطرة سقف أو سقوف مراكز القوى السياسية بل هي تابعة على مستويين دفعة واحدة: تابعة للمال السياسي الخارجي وتابعة لعملاء مصادر المال السياسي وهم الطبقة السياسية اللبنانية. لكن ومن ضمن هذه البنية كانت في الصحافة اللبنانية، ولا تزال، جاذبية “استقلالية” ما، جاذبية لا تحصرها السياسة ولا تلفظها الثقافة والاجتماع والاقتصاد. كانت الصحافة “العميلة” قوة رقابة أيضا على السياسيين بالمعنَيَيْن: التوازني الديموقراطي والابتزازي اليومي.

لا تنوعٌ إلا وفيه بنيةٌ “استقلالية”، يسمونها هوامش وأسمّيها متوناً. وكان فيها ولا يزال جواذب الغنى الثقافي والتعددي لبلد “أنشأته” بالنتيجة جامعتان ولدتا قبله، أي ساهمت بإنشائه في لحظة استفادة من الصراع الدولي، النخبةُ المحلية التي خرجت من هاتين الجامعتين اليسوعية والأميركية. أعرف بلدانا كثيرة فيها صحافة قوية أو كانت قوية ولكني لا أعرف سوى بلد واحد جرى تأسيسه عبر المدارس والجامعات بين القرن السادس عشر حتى عام 1920. وحتى لمن يريد أن يحفظ لغته اليسارية يمكنه القول أن الغرب الاستعماري أنشأ لبنانَ أساسا عبر شبكةٍ ضخمة من المدارس والجامعتين. ولكن هذا موضوع آخر ولو كان، في العمق، متصلا.

دعونا لا ننسى الأساسيات أو أساسيات:

مع أني أكره، نعم أكره وليس فقط لا أستسيغ، هروب البعض في الصحافة اللبنانية السريع للحديث عن أزمة الصحافة العالمية، وهي بمعايير العالم المتقدم اليوم ليست فقط أزمة صحافة ورقية بل أيضا ومنذ البداية أزمة صحافة ديجيتالية، مع ذلك لا بد من أن هذه الأزمة تطال:

أولاً: الصحافة اللبنانيةَ سواء في جزئها النشِط أو في جزئها الكسول، الذكي أو المِِدْيوكْر.

وثانيا: تطال علاقة الصحافة اللبنانية بالطبقة أو “الطبقات” السياسية اللبنانية. هنا لدينا خصوصياتنا في الفساد (الأيديولوجي أيضا) والنظافة، فإلى جانب أساطير الفساد غير المفصول عن الفساد السياسي أريد أن أحيّي عشرات الصحافيين، الذين حافظوا على صلة مالية وانتاجية وابداعية (نعم ابداعية) بالمهنة دون أن تمسهم صورة الصحافي – الشحاذ وإنما صنعوا بأشكال مختلفة صورة الصحافي المحترَم (ولا أجد كالعادة، في فقر اللغة، تعبيرا آخر واقعيا).

اليوم، اليوم نعم، تطرح في العديد من البلدان أزمة علاقة الصحافة، سمِّه الإعلام، بالطبقة السياسية المحلية.

الأكثر ضجيجا حاليا هو السجال الأميركي الذي يثيره الحدث غير المسبوق بانتخاب ودلالات انتخاب شخصية خلافية وخطرة هي دونالد ترامب. لكن هذا الموضوع على خصوصيته الأميركية الهائلة، لأن الولايات المتحدة “دولة إعلام”، هو جزء من مناقشة تطورات أزمة النظام السياسي الانتخابي الأميركي. هناك رئيس منتَخَب في أميركا يكره الصحافة. أي علاقة ستولد بل أي رئيس سيدير أي حياة سياسية داخلية وخارجية؟ هذه مسألة ستحددها الأيام المقبلة وربما بل ربما سريعاً ستحدد مصير هذا الرئيس: هل يستطيع أن يُكْمِل؟

البلد الآخر هو إسرائيل عدوتنا و”قدوة” مسافاتنا. فاليوم وكل يوم حاليا تنطرح في الصحافة الإسرائيلية عبر التحقيق مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسألة علاقة السلطة بالإعلام. هناك وجه بل وجوه فساد يجري البحث فيها وإنما أيضا هناك وجوه تتعلق بمعايير الأداء الديموقراطي وقد تخدم الديموقراطيةُ الإسرائيليةُ أعداءها العرب والمسلمين فتُسقِط أحدَ أشرسِ وأخبثِ حكام إسرائيل وأكثرهم أذىً للفلسطينيين منذ تأسيسها عام 1948 وهو بنيامين نتنياهو.

من مفارقات المرحلة أن الدولة اللبنانية، والأدق القول النظام السياسي اللبناني، لا يملك أجوبة على أزمة الصحافة اللبنانية. دعكَ من بعض المبادرات المحكومة بالشكلية فإن النظام يتفرّج على مسار ومصير الصحافة اللبنانية كما لو أنهما غير مرتبطَين إلا ثانويا بمصيره. بل الأنكى أن السياسيين، حتى الذين يستثمرون أموالا ناجحة في بعض الصحف وأهدروا أموالا فاشلة في صحف أخرى يعتبرون “الوضع الإقليمي” هو الوضع الذي لا يمكن حل أزمة الصحافة الحالية من دونه.

أقترِح بسبب البعد الوطني (على كل هلامية كلمة “وطني” في لبنان) أن ينتقل التفكير – ولا أريد أن أقول المعالجة – إلى استنفار جامعي – في الجامعات المحترمة – يدرس ويواكب الوضع الصحافي المأزوم.

السؤال الجوهري كما أراه الآن:

كيف سيتمكّن الجيل الجديد اللبناني، من قطاعات مختلفة، أن يحوِّل هذه الأزمة من نكبة ديموقراطية ووظيفية واجتماعية إلى فرصة لصحافة جديدة؟

في مصر حافظت الحاجة الوجودية للدولة، كقوة منع انهيار الكيان والمجتمع، على “صحافة الدولة” رغم اختراق العولمة ورساميل القطاع الخاص لاحتكار القطاع العام التاريخي للصحافة منذ سقوط العهد الملكي. لكن هل “الصحافة القومية” هي قوة رجعية أم قوة تقدُّم في مصر وهل قوتها تأتي من نفسها أم من حاجة الدولة الأمنية والسياسية والتعبوية في التحديات الجديدة للبقاء؟

في تركيا هجمت السلطةُ بشكل غادرٍ على الصحافة – المتقدمة رأسماليا – إلى حد إلغاء قطاعات منها في المكتوب والمرئي. إذن في تركيا الأزمة مختلفة: بكل بساطة الاستبداد يدمِّر ليس فقط استقلالية الصحافة بل وجود معظمها نفسه. يدمِّر معها “المعنى” التركي الأعمق في الحداثة. ويعيدها دولة طغيان تقليدي في العالم المسلم الضعيف هنا والمنهار هناك.

أسوق هذا المثال لأطرح السؤال الخطير بل غير الانساني ربما:

هل صارت الصحافة اللبنانية قوة رجعية في المجتمع اللبناني أم يمكن بعد إعادة تحويلها إلى قوة تقدم تعكس غنى البنية اللبنانية؟

الجيل الجديد في الصحافة اللبنانية كيف سيتقدم على ركام إنجازات وخيباتٍ باتت عريقة وأكثر التباساً؟

أنا متفائل داخل الفاجعة.

النهار

 

 

 

تحديات الصحافة مهنية وادارية وأخلاقية: مسؤولية الدولة حماية العاملين قبل المؤسسات/ ابراهيم الأمين

كلام كثير نسمعه منذ أشهر عن أسباب الأزمة وخلفياتها، يفتقر غالباً إلى الدقّة والأمانة، ويدخل في سياق التضليل لإخفاء الحقيقة، والتهرّب من المسؤوليّة، أو حتّى في سياق الترويج. هل سمع أحد قبل اليوم بإعلان ترويجي عن مؤسسة تقفل؟ هل يمكن أن نخفف من الرثاء والضجيج والفولكلور، ونواجه الحقائق الجارحة؟ في الحقيقة لسنا أمام موت الصحافة، بل أمام موت نمط من أنماط انتاجها، في التحرير والادارة والتمويل. في هذا السياق، فإن مبادرة وزير الاعلام ملحم رياشي لإخراج الاعلام اللبناني من النفق، يجب أن ترتكز على العقلانية والشفافية، وعلى حماية حقوق العاملين في هذا القطاع، وضمان حريتهم وكرامتهم

 

ثمة ما يفوق القدرة على التحمّل. شيء يبعث على الأسى. ليس على الميت وأهله فحسب، بل على جمهور لا يراد له أن يرى نهاية لمراسم الدفن.

ثمة صمت تفرضه لياقات وعواطف وحفظ لأيام خوال، حتى لحظة الموت المعلن تفرض هذا الصمت أيضاً. لكنه صمت يكاد ينفجر بأصحابه، عندما لا يريد المعلن عن موته أن يقفل دار العزاء.

في حالة «السفير»، نجد أنفسنا أمام تجربة فريدة من نوعها في الترويج. هل سبق أن رأى أحد إعلاناً ترويجياً لمؤسسة تقفل؟ أم هي حيلة الصحافي الذي يكتب عنواناً من نوع: الرجل عضّ الكلب؟!

ثمة ما يجب قوله بصراحة أيضاً، وهو أن أزمة «السفير» لا تتصل بمشكلة مالية. ربما يكون هناك جانب مادي، لكن المشكلة الأساسية تكمن في عجز «السفير» عن مواكبة تحديات المهنة الجديدة، ورفضها كل مشاريع التغيير التي عرضت عليها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. وهناك أيضاً وجه ثالث وأساسي للأزمة، يتعلق بالورثة والعائلة وأشياء أخرى!

ربما لا يعرف الجمهور أن هناك محاولات جديّة بُذلت من قبل شخصيات وجهات لمنع إقفال «السفير»، ووصل الأمر بأحدهم إلى تقديم عرض يشمل تمويل صدورها من دون إلزام أصحابها أو إدارتها بأي قرش. لكن العرض رُفض.

يراد للجمهور ان يتصرف

على اساس أن موت «السفير» واحتضار «النهار» يعنيان موت الصحافة عموماً

ثم رُفضت عروض أخرى باستخدام اسم «السفير» ومعاودة الصدور بحلة جديدة، ما دفع عدداً من الزملاء العاملين فيها، مع أصدقاء للجريدة، يتقدمهم الزميل مصطفى ناصر، إلى بدء العمل على إصدار جريدة يومية، ترث «السفير»، وربما تطمح إلى ما هو أكثر. وهو مشروع مستحب، لا بل وجب دعمه، من كل من يقدر على دعمه، بما في ذلك الأفراد أو الجهات التي كانت تدعم «السفير»… مع حاجة أخيرة للفت الانتباه، إلى أن أصحاب «السفير» لم يقرروا الخروج نهائياً من هذا العالم، لكنهم قرروا التموضع بطريقة مختلفة. وهم في صدد الإعداد لمشاريع تشترط مجموعة خطوات، من بينها إقفال الجريدة الحاليّة.

المشكلة ليست في تعرض صحيفة مثل «السفير» لأزمة كبيرة، كما هي حال «النهار»، بل في أن يتحول الأمر إلى خطر داهم على الصحافة برمّتها… وأن يراد للجمهور في لبنان، وللمهتمين بالصحافة، أن يتصرفوا على أساس أن موت «السفير» واحتضار «النهار» يعنيان موت الصحافة عموماً. إنّه في الحقيقة موت لنوع من الصحافة فقد قدرته على مواكبة التحديات المهنية الجديدة، ولم يعد قادراً على صياغة خط تحريري واضح وحاسم. كيف يمكن أن نتصوّر أنّ من الممكن الاستمرار في إقناع الرأي العام بجريدة تقف إلى جانب أرباب العمل كما إلى جانب العمال، وإلى جانب الحاكم السياسي كما الى جانب معارضيه، والى جانب الأنظمة والثائرين ضدها…؟ وكيف ينبغي أن ننظر إلى صحيفة، تتولى مصارف لبنان نعيها والتحسّر على غيابها!؟

قد يعتقد كثيرون أن ما يعرف بالأزمة المالية للصحف قابلة للحل عبر تمويل سياسي. كل من يتبنّى هذا الرأي هو، حكماً، من أصحاب المدرسة المندثرة، لأنّه لم يدرك أن المال السياسي نفسه يحتاج إلى وسائل إعلام تملك تأثيراً على الرأي العام. فكيف يستقيم الأمر مع صحف يضيق حجم انتشارها ليقتصر على طبقة سياسية تقرر عناوين الصفحات والمقالات، وعلى طبقة اقتصادية ومالية وصناعية ومهنية تقرر جدول مواد المتابعة والتحقيقات، وعلى مرجعيات روحية ودينية وطائفية تملك حق الفيتو على ما ينشر وما لا ينشر؟ علماً بأن أزمة هذا النوع من الصحافة لا تتصل أبداً بالثورة الرقمية. تكفي مراجعة إحصائيات المواقع الإلكترونية التابعة لهذه الصحف، كي نعرف أن مشكلتها تكمن في أزمة المحتوى والمقاربة، قبل أي شيء آخر. أما في حال قررت «النهار» التفاخر بارتفاع نسبة الإقبال على موقعها، فليس عيباً الاعتراف بأن هؤلاء الزوار الإضافيين لا يقصدون الجريدة كما نعرفها، ولا أبوابها التقليدية، بل يقصدون مواد الفضائح الجنسية، وهي مواد ليست معدّة في مكاتب تحرير «النهار»، بل يجري نسخها نقلاً عن مواقع عربية أو عالمية!

تحديات وواجبات

في عالم المهنة، هناك من يرفض التصرف مع قطاع الصحافة على أنه صناعة في حدّ ذاتها. وهو صناعة لها خصوصية. لكنها خصوصية تتعلق بالمحتوى من جهة، وبمنتجي هذا المحتوى من جهة ثانية. وعدم تحول أصحاب هذه الصناعة إلى التفكير في الأمر بطريقة علمية، يمنع حماية هذه الصناعة ويحول دون التجديد فيها. وهذا هو التحدي المركزي أمام الصحافة اليوم، ويترافق مع التحديات المهنية المباشرة المتعلقة بالجديد في هذا العالم، والتنوع الهائل في الوسائل التي بات بمقدور الجمهور استخدامها للحصول على هذا المحتوى. وفي الحالتين، نواجه، هنا، أصحاب عمل أقرب إلى الرأسمالية المتخلفة التي تنظر إلى المنتجين فيها وكأنهم ماكينات طباعة. هذه الرأسمالية التي لا تعرف طريقاً عرفته رأسمالية دول شمالي أوروبا، عندما تحول العاملون في المؤسسات إلى شركاء فعليين، لأنه لا مجال لأي إنتاج من دونهم. وفي حالة الصحافة، لا تنفع التكنولوجيا ولا أدوات التواصل الجديدة في تأمين المحتوى الذي هو أصل هذا الانتاج. وكل القوالب أو الأطر المزينة لا تنفع في ترويج بضاعة تافهة أو فاسدة.

الأمر الآخر يتعلق بدور الناس. والناس، هنا، فئة موجودة في المنازل والشوارع، تتعامل مع الصحافة كمنتج، وفئة ممثلة بالدولة التي يفترض أن تعي أن بلاداً حرة، فيها اقتصاد حرّ، وحياة سياسية حرة، هي بلاد تحتاج حكماً إلى صحافة حرّة. وفي هذا الجانب، تكمن مسؤولية الدولة، ليس في مساعدة أصحاب المؤسسات على استمرارية مؤسساتهم بالطريقة التقليدية، بل في المساعدة المشروطة بتوفير كل الحماية للعنصر البشري المنتج لهذه الصحف، أي توفير الحماية والرعاية للصحافيين والفنيين والإداريين الذين من دونهم لا وجود لصحافة ولا من يحزنون.

في هذا السياق، بادر وزير الاعلام الجديد الرفيق ملحم رياشي الى تفعيل نقاش ظل خافتاً مع سلفه الوزير رمزي جريج. وهو نقاش يستهدف تقديم مقترحات الى الحكومة والمجلس النيابي لتوفير دعم يساعد الصحافة على العيش والبقاء. لكن هذا النقاش يخشى أن يظل أسير مفاهيم قديمة للإنتاج الاعلامي والصحافي. وما يجب أن تكون الخشية منه أكبر، هو أن يتركز النقاش على كيفية حماية الشركات من خلال تخصيص إدارات المؤسسات الصحافية وأصحابها بالدعم، وتجاهل البند الرئيسي المتعلق بتوفير كل أنواع الحوافز التي تبقي العاملين أحراراً، لا عرضة لمزاجية أو نزق أو تعسف. وهذا، للأسف، ما هو حاصل الآن، إذ يتم تحويل الموظفين إلى عمال سخرة. ويتم استغلال سنوات الخدمة الطويلة، وكل الجهود والنبل والتفاني التي بذلها هؤلاء الموظفون، ثم يجري شطبهم، بتعويضات مذلّة، لا تساوي لحظة أمضوها في الصقيع، أو عند خطوط التماس، أو في معاينة لمكان قصف، أو تحمّل اضطهاد الخصوم السياسيين والميليشيات المارقة، كما هي الحال في «السفير»، أو ما هو أنكى في «النهار»، حيث ابتدع المستشار القانوني لإدارة الصحيفة اللجوء الى أسلوب «التطفيش»، ودفع العاملين إلى التخلي طوعاً عن حقوقهم، مقابل أن يأخذوا بعض هذه الحقوق المحفوظة في حسابات من بأيديهم الأمر.

ماذا يمكن أن نفعل؟

قبل أي شيء، يجب أن تبادر الحكومة الى حل الإطار النقابي القائم اليوم، والممثل بنقابتي الصحافة والمحررين، إذ ليس هناك من ضرورة لإطار نقابي خاص بأصحاب وسائل الاعلام ما دامت مسجلة في الدولة كشركات.

بدل مساعدة أصحاب الصحف

من الأفضل للحكومة أن

تساعد العاملين فيها على توقيع عقد عمل جماعي

مكان أصحاب الصحف هو غرف التجارة والصناعة، على أن يصار الى إنشاء نقابة للعاملين في الصحف، تخصّ الاعلاميين والفنيين والاداريين، وأن يترك لهؤلاء اختيار قيادة نقابية تتابع أمورهم وحاجاتهم، لدى المؤسسات نفسها ولدى الدولة أيضاً.

أول مبلغ تفكر الدولة في صرفه لمساعدة الصحف يجب أن يكون عبر تمويل صندوق يوفر التأمين الصحي والطبي الشامل لكل عامل في هذه المهنة، وأن يظل مستفيداً من هذا الصندوق لمدى الحياة، من أخرج من عمله عنوة نتيجة تعسف صاحب المؤسسة، أو في حال تم خروجه لأسباب قهرية. وهناك أساس لهذه الصندوق، يتمثل في مليار ليرة لبنانية تمنحها الدولة لنقابتي الصحافة والمحررين، من دون معرفة السبب الموجب لذلك. وعلى الدولة إقرار قانون يتيح للعاملين في المؤسسات الاعلامية الحصول على أفضلية ودعم، للحصول على قروض لتعليم أولادهم، أو شراء منازل. وفي حال حصل ذلك، فإن العامل في مهنتنا سيشعر بحصانة تجعله أكثر حرية. ومن يخسر حريته لا مكان له في هذه المهنة.

كذلك، على الحكومة التقدم باقتراحات لتعديل قانون العقوبات الخاص بالمطبوعات، وتوسيع هامش الحريات التي تحتاج إليها المهنة اليوم، كما يحتاج إليها الرأي العام، خصوصاً أننا نعيش في بلاد يحكم غالبية المؤسسات فيها فاسدون، لا قدرة لقضاء ولا لأجهزة رقابة على محاسبتهم. وهؤلاء يريدون إكمال الطوق، من خلال قوانين عقوبات تمنع الرأي العام والصحافة من التشهير بهم. وهو تشهير يمكن لقانونيين إيجاد الفتاوى التي تحول دون تحوله الى أداة استنسابية بيد الصحافة أيضاً، خصوصاً أن بيننا من يحب لعبة الابتزاز من خلال الوسيلة الاعلامية التي يملكها، أو يمون على إدارة التحرير فيها!

وربما يكون من الأفضل للحكومة أن تساعد العاملين في الوسائل الاعلامية على توقيع عقد عمل جماعي، تقرّه نقابتهم الجديدة مع جميع أصحاب الوسائل الاعلامية، بما يحدّ من تعسف الإدارات وأصحاب الأموال المجباة أصلاً باسم الصحافة والحرية.

أما الدعم المفترض تقديمه إلى المؤسسات، ويمكن توفيره من خلال إعفاءات من بعض الرسوم أو الضرائب، أو حتى دعم أسعار الورق أو توفير قاعدة مشتركين أكبر، فإن ذلك يجب أن يكون مرهوناً بحق الدولة في مراقبة الأداء المالي لهذه المؤسسات. ويجب على كل وسيلة إعلامية تتلقى الدعم من الدولة، وتحصل بالتالي على مال عام، أن تخضع للقوانين التي تتيح لهيئات رقابة في الدولة، مثل ديوان المحاسبة، أن تكشف عن موازناتها، وعن أرقام مبيعاتها، وعن حصصها الإعلانية، وعن كل ما يردها من أموال. وهي معنية في هذا الإطار بجعل أي دعم تتلقاه، لأسباب شخصية أو سياسية أو ثقافية، خاضعاً بدوره للقوانين المرعية.

الصحافة تواجه اليوم تحديات كبرى، مهنية وإدارية، لكن الأهم يبقى التحديات الاخلاقية.

الرياض لدعم وسائل الاعلام «الملتزمة»

أكد وزير الثقافة والاعلام السعودي عادل الطريفي، أمس، أنه بحث مع نظيره اللبناني ملحم الرياشي في «دعم كل وسائل الاعلام ذات الالتزام المهني الكبير، وان يكون لها دور محوري وتعاود نشاطها الاعلامي». ولفت الى أن «لبنان كان تاريخياً البلد الاول في صناعة الاعلام في العالم العربي، ومنه صدرت الصحف وصدرت الى بلدان العالم العربي، وتعلم الكثير من أساتذة الاعلام في مدارسه وجامعاته». وقال إن ما سمعه من الرياشي الذي يزور السعودية ضمن الوفد الذي يرافق الرئيس ميشال عون «يضع آمالا كبيرة جدا على توسيع العلاقات في المجال الاعلامي وعلى التركيز على الصناعة الاعلامية».

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى