صفحات الرأي

عن حديث النهايات/ حسن شامي

 

 

يبدو أن نهاية الحرب الباردة كانت أكثر بكثير من طي فصل بارز من التاريـــخ السياسي لعالمنا الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. هــــذا ما طــمح الدعاة الجدد إلى تسويقه كفاتحة أو تأسيس لزمن جديد ذي مواصفات ثابتة تتعالى على منطق التاريخ وقواعد اشتغاله وتأويله.

فهناك إصرار، في معسكر المنتصرين أو الذين يحسبون نهاية الحرب الباردة انتصاراً شاملاً يكاد يكون وجودياً، على توسيع الانتصار بحيث يتحول إلى أرضية مناسبة لضخ مقولات وأدبيات لا تتردد في الإعلان عن نهايات أخرى. وكما يحصل غالباً في المناسبات المرشحة للتأسيس عليها تضخم الانتشاء بالمناخ الاحتفالي والانتصاري فجرى استعراض دعوي لنهايات تطاول حقولاً كبيرة احتضنت تقريباً كل عناوين المناظرة الفكرية والسياسية طوال ثمانية عقود في أقل تقدير. هكذا جرى الإعلان عن «نهاية التاريخ» وإن كان صاحبها، أي فوكوياما، تراجع عن مقولته الدعوية هذه بعد أن صدمته وقائع صارخة كان من الصعب اعتبارها حوادث عابرة أشبه بحوادث السير.

نعلم أن مقولة نهاية التاريخ لم تعش طويلاً إذ سرعان ما ظهر طابعها الارتجالي واتصافها بالتسرّع المعهود في حلقات المنتصرين والمنتشين بسكرة الغلبة. مقولة «نهاية الإيديولوجيات»، وهي من أكثر المقولات أدلجةً، تعرّضت ولا تزال لاختبار قاس يكشف بالضبط مدى غلوِّها الإيديولوجي في المعنى السلبي والأولي للكلمة كتوصيف لتمثيلات كاذبة ومزيفة تسعى إلى تثبيت مصالح ومكانة أصحابها. والحق أن المقولتين المبشرتين بالنهايات السعيدة لا تعدمان الصلة بالمناظرة العريقة وما حفلت به من نزاعات وتشعبات حول تأويل «مقاصد» التاريخ والإيديولوجيا.

فمقولة نهاية التاريخ استفادت، لاعتبارات تخص أصحابها، من أزمة التاريخانية ونظرياتها الفلسفية التي بقيت تفترض أن للتاريخ معنىً ثابتاً وإن تفاوتت درجات مثوله والتعبير عنه، وله وجهة لا يحيد عنها مهما تنوعت التعرجات والانعطافات. وهذان المعنى والوجهة هما مداره الفعلي وهما ما يجدر بالباحث العثور عليهما وكشف غوامضهما. فالتاريخ في عرف الليبرالية هو حامل الحرية والعقل وأنوارهما وهو حاضن سردية تمددها وتقدمها وترسخها. أما في عرف الماركسيين على تنوع اتجاهاتهم فقد ظل التاريخ مساراً لحتمية التقدم والوعد الخلاصي ببناء الاشتراكية بناء مستنداً إلى المادية العلمية وصولاً إلى الشيوعية كفردوس أرضي تتحرّر فيه فكرة المساواة وفكرة العدالة الاجتماعية من أثقال الكذب البرجوازي وأقنعته البراقة وتزييف التناقضات العميقة التي تجعل محرك التاريخ الرئيس هو الصراع الطبقي.

هناك بالطبع مقاربات أخرى اعتبرت التاريخ، خصوصاً مع الفيلسوف الألماني نيتشه ومؤسس التحليل النفسي فرويد، مسرح رواية تراجيدية لصراع النوازع ما يجعل التاريخ حقلاً ينبغي الغوص في أعماقه.

لا مجال للتوسع هنا في مساهمات الرياديين الثلاثة الكبار، أي ماركس ونيتشه وفرويد الذين صاغوا أسئلة الحداثة النقدية واضعين موضع الشك الرواية السائدة. فهؤلاء الثلاثة اعتبرهم ورثة بارزون بمثابة مؤسسين لفلسفة الأعماق مقابل الرواية المتفائلة وعقلانيتها السطحية الموروثة عن عصر الأنوار. سنكتفي بالقول إن هؤلاء الثلاثة ساهموا بالتأكيد في إنشاء مقاربة معرفية ومفهومية للحداثة تختلف عن تلك المتناقَلة منذ النهضة الأوروبية وتحديد «الأنوار» كفضاء عقلاني بديل من ثقافة الخرافات وسطوة الكنيسة والأمراء المستبدين المستندين إلى «الحق الإلهي».

قد تـــكون الماركسيـــة وإصـــــرار دعاتها المتشددين على أفق خلاصي ورسولي للبشرية هو مآل التاريخ، تعرضت للسقوط في النزعة التاريخانية، فيما ظلّ مستلهمو نيتشه وفرويد أقرب إلى اعتبار التاريخ الفردي والجماعي مسرح صراع تراجيدي. في منظار هؤلاء الخائضين في حفريات المعرفة وآثارها يكمن المعنى في التراجيديا نفسها.

مقولة نهاية الإيديولوجيات جاءت كإعلان عن دفن ضروري وشبه استباقي لكل منظومات الدفاع عن المكتسبات الاجتماعية وأدبيات الاحتجاج والتظلم بدعوى انتسابها إلى زمن الحرب الباردة المنتهية صلاحية شرعيتها نهائياً وبصورة مطلقة. هذا الإعلان لا يخلو من التسرّع والارتجال. فسرعان ما اتضحت الخلفية التي صدرت عنها هذه المقولة التي اختلط فيها الغث والسمين. فقد كان المطلوب منها، ولا يزال، أن تزيل الحواجز والعوائق، الماثلة والمفترضة في آن، والتي من شأنها أن تعترض آليات تحرير السوق والربحية السريعة والمضاربات المالية وحركة وانتقال رؤوس الأموال. وظهر على نحو متزايد، خصوصاً مع الخضات التي مهدت للأزمة المالية العالمية واللجوء إلى سياسات التقشف، إن مقولة نهاية الإيديولوجيات هي من مستلزمات التسويق الدعوي والإيديولوجي لحرية السوق وتجويف الحركات الاجتماعية وحاضناتها النقابية وتقليص دور الدولة، تحديداً دولة الرعاية وتوزيع الثروة بطريقة عادلة نسبياً. في هذا السياق ينبغي النظر إلى تزايد الطلب، في معسكري اليمين واليسار التقليديين وعلى أطرافهما، على المقاربة الجذرية للمشكلات المتولدة.

حديث النهايات المعلنة يخفي نهايات أخرى. أبرز هذه النهايات المحجّبة هي نهاية الفقر والفقراء كشرط إنساني ووضعية اجتماعية قابلين للتغيير. وينطبق هذا على صورة الغنى والأغنياء، بطبيعة الحال وبمقتضى العلاقة الجدلية بين المكانتين والوضعيتين. بعبارة أخرى، ما يسعى حديث النهايات إلى تثبيته في المخيلة والوجدان البشريين هو أن تحرير السوق ومنطق الربحية من الضوابط وكل ما ينجم بالضرورة عنهما من ازدياد الفوارق الاجتماعية واتساع الهوة واللاتكافؤ، تبقى كلها من «طبيعة» الأشياء بحيث يصبح الاشتباه بسويتها، ناهيك عن الاحتجاج عليها، ضرباً من الضلالة. وإذا كانت نهايتا التاريخ والإيديولوجيات تحتملان قدراً من الوجاهة بدعوى صدورهما عن الحرب الباردة، فإن نهاية الصورة المعهودة عن الفقر والثراء في أدبيات وتمثيلات الحداثة الكلاسيكية، يحتاج تسويقها إلى قدرات إرشادية وتربوية هائلة كي لا يتبدى وجه الصلف المقيم فيها. في هذا المعنى لا ينبغي أن نتفاجأ بازدياد الطلب على الديني وما يناظره. فالأمر يتعلق بتثبيت حقائق اعتقادية وإيمانية مغلفة بلغة العقلانية الحديثة.

لم يعد هناك فقراء. هناك بشر معدمون بلا مال وبلا مكانة. منطق الأمور يدفع إلى التعامل معهم بوصفهم عبئاً ينبغي تحمله بأقل الخسائر. ولم يعد هناك أغنياء بالمعنى الطبقي، والبرجوازي الكلاسيكي، للكلمة. هناك بشر يملكون ثروات ورثوها بطريقة طبيعية عن أنفسهم. ومن طبيعة الأمور أيضاً أن يتمتع هؤلاء بنجومية استحقوها فيما يلتحف الفقراء بعتمة الهامشية والإقصاء. وكلما ازداد منسوب الريعية ازداد الصراع على المنظورية والظهورية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى