صفحات العالم

عن حوار أمير النصرة مع قناة الجزيرة -مجموعة مقالات-

 

 

 

“النصرة”.. نحو نظام إقليميّ جديد؟/ سمير العيطة

هناك أسئلة كثيرة تتزاحم اليوم حول أوراق الصراع الإقليميّ على سوريا وجوارها، وتخرج اليوم إلى العلن بشكلٍ لافت. فبعد احتلال «داعش» لمدينتي تدمر والرمادي، بات التساؤل إذا ما كان التوجّه سيكون نحو حمص أم دمشق أو القلمون في سوريا، أو نحو بغداد في العراق؟ وظهرت «جبهة النصرة» على قناة «الجزيرة» القطريّة، ممــثّلة بأميرها، محتفيةً بانتصاراتها في إدلب وجــسر الشغور والآن أريحا، لتوضح أنّها القوّة الأساسيّة في ما يُسمّى «جيش الفتح»، وأنّها تتحدّى «حزب الله» وإيران قبل السلطة السوريّة وقبل «داعــش»، التي لا خــلاف معــها سوى متى يأتي زمن الخلافة. لا تهــدّد «النصرة» فقط بـ «تحــرير حلب ودمشق»، بل تذهب إلى استنهاض قوى سياسيّة لمعركة تُريدها أيضاً في لبنان.

هكذا يتمّ تكريس ترابط العراق مع سوريا مع لبنان في هذه الفوضى العابرة للحدود التي يبرز أقوى لاعبيها كتنظيمات عسكريّة سياسيّة أمنيّة، تعتمد فكراً مؤطّراً متزّمتاً، ينبني على الشحن الديني المذهبيّ. فهل لم يعُد بالإمكان الخروج من إشكاليّة هذه القوى في أيّ بلدٍ على حدة؟

لا علاقة لكلّ هذا، لا بالحريّة ولا بالكرامة ولا بالمواطنة، لا «بثورة سوريا» ولا بـ «ثورة أرز»، ولا بحقوق الكرد أو ديموقراطيّة العراق. بل بالتجاذبات حول نهوض تركيا وإيران كقوّتين إقليميّتين وتخلّص إسرائيل من القضيّة الفلسطينيّة. وأيضاً، وربّما أساساً، بمسار التفاوض حول النوويّ الإيرانيّ، بين دولٍ تؤسّس لموقعها في لعبة عالميّة معقّدة لما بعد حزيران المقبل، إذا ما نجح هذا التفاوض أو تمّ إفشاله. يُمكن بالتالي للصراع العسكريّ أن يستمرّ طويلاً لأنّ الأطراف الإقليميّة الأساسيّة المنخرطة فيه تعيشه كصراعٍ وجوديّ حاسم. وخوف كلّ منها أن يكون مصيره كمصير العراق بعد غزوه في 2003، يدفعه نحو تغذية الفوضى خارج حدوده، في لعبة هي أبعد بكثير عن ثنائيّة صراع سنيّ – شيعيّ، لأنّها بطبيعتها متعدّدة الأطراف.

في هذا المناخ، تدفع الدول الإقليميّة القوى والشخصيّات السياسيّة في العراق وسوريا ولبنان للاصطفاف إلى طرفها، من دون نقاش. إمّا معي أو ضدّي، وفي الخطاب والممارسة، وليس عبر الانخراط في ثنائيّة صراع سنيّ – شيعيّ بحت، بل عبر التغاضي عن التنظيمات العسكريّة الأمنيّة المتطرّفة ومحاباتها. هكذا، يؤول الأمر إلى وضع مصير البلدان الثلاثة كاملاً بيد الدول الخارجيّة، لتبرز هذه التنظيمات على أنّها الفاعلة الوحيدة الحقيقيّة على الأرض، وأنّ السياسة المرتبطة بأيٍّ من البلدان الثلاثة كوطن، ليست سوى هامشٍ لخطابٍ من زمنٍ آخر.

مسؤوليّة الأمم المتحدة، وبشكلٍ خاصّ مجلس الأمن، أن يجدا أسساً لنظامٍ إقليميّ جديد يخلق سبيلاً للاستقرار ويُطمئِن جميع الأطراف. لكنّ الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن منقسمون حول منظور هذا النظام الجديد. ليس فقط بشكلٍ ثنائيّ بين روسيا والصين من ناحية والثلاثة الآخرين من ناحية أخرى، بل أيضاً بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

إلاّ أنّه ليس هناك أيّ إطار حاليّ لوضع أسس النظام الإقليميّ الجديد: اصطفافٌ مع الحكومة العراقيّة وحكومة إقليم كردستان ضدّ «داعش» في العراق وحده، من دون سوريا، ومن دون حلّ مستدام للمعضلة الطائفيّة القوميّة في العراق. وتوافقٌ على تجنيب لبنان أهوال الحرب السوريّة لكن بآليّات أبطأ من الجهود المبذولة لتفجيره. وتمسّك صوريّ ببيان «جنيف 1» لحلّ الأزمة في سوريا، في حين لا شيء يدلّ على إمكانيّة وضع «منظور مستقبليّ يمكن أن يتشاطره الجميع»، وعلى إقامة «هيئة حكم انتقاليّة باستطاعتها أن تؤسّس لبيئة محايدة تتحرّك في ظلّها العمليّة الانتقاليّة».

إنّ مسؤوليّة القوى والشخصيّات السياسيّة في العراق وسوريا ولبنان، والتي ما زالت تؤمن بأوطانها، هي اتخاذ مواقف واضحة وحاسمة من كلّ التنظيمات العسكريّة الأمنيّة المتطرّفة، كي تبقى هناك إمكانيّة للحياد، ليس تجاه التطرّف، بل تجاه الدول والأنظمة التي تقبع وراء التطرّف. مسؤوليّة كبرى ومهمّة دقيقة وعسيرة… ولكنّ الأوطان الحقيقيّة تحتاج إلى مَن يبنيها ويحافظ عليها.

السفير

 

 

“النصرة” حين تسوِّق نفسها/ نائل حريري

لم يكن الظهور الإعــلامي الأخــير لقائد «جبهة النصرة» أبي محمد الجــولاني جديداً أو مفــاجئاً، ولم يكن الحديث على لسانه أكثر مــن إعادة إنتاج لأدبيات «النصرة» التي أعلنتها منذ إطلاقــها في بدايات العام 2012. تمّ تخصيص جــزء معــتبر من هذا الحديث لتوجيه رسائل إلى الداخل وإعادة بناء جسور الثقة بين «النصرة» والجمهور «الإسلامي المشكّك»، الذي يتأرجح على أطراف فكر تنظيم «الدولة الإسلامية» من جهة وأفكار تنظيم «القاعدة» من جهة أخرى.

في الحديث الذي تناول الداخل السوري وشؤون تعامل الجبهة مع مناطقها، لا تبدو الآفاق رحبة أمام «النصرة»، فهي عاجزة تماماً عن تقديم أي تغيير رؤيوي يتجاوز شقيقتها «داعش» أو بنيوي فكري يتجاوز فكر «القاعدة» والتنظيمات المشابهة لها. أقصى ما استطاع الجولاني أن يقدمه في سياق الحريات الفكرية والاجتماعية هو أنه لن يقوم «الآن» باستهداف أي أصحاب فكر مخالف، وأنه «حتى الآن» لم يقُم بأي تصرف من شأنه أن يعتبر تهديداً بحق الأقليات الدينية وأصحاب المذاهب المخالفة. ركّز الجولاني على أن هذه المقاربة راهنة وطارئة، معللاً إياها بظروف الحرب الدائرة ومستخدماً بالحرف عبارة «حتى الآن» في نفيه لأي تصرفات تقوم بها الجبهة تجاه المخالفين فكرياً، مخصصاً بعض هذا الحديث لمخاطبة الدروز والعلويين بالاسم.

لا شكّ في أن «جبهة النصرة» هنا لا تقف على أرض صلبة، فهي من جهة تحاول التبرؤ من ارتباطها بـ «الدولة الإسلامية» ومكانها معها في السلة ذاتها من وجهة النظر الدولية. ذاك المكان الذي لا يعود إلى خروجهما من عباءة «القاعدة» فحسب، بل كذلك إلى تاريخ التعاون والتكاتف الذي أوصل «الدولة الإسلامية» إلى ما هي عليه الآن، والذي استمرّ حتى بعد خروج «داعش» عن إمرة ولي الأمر الظواهري طيلة أشهر، قبل الشقاق الأخير الذي يسوَّق – تدليساً – على أنه خلاف أيديولوجي بين التنظيمين الشقيقين. إنما من جهة أخرى، يفرض خطاب إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم شرع الله في الأرض مساحة ضيقة لاحتمال خلاف الآراء، حيث ينبغي على «النصرة» إقامة الشريعة أينما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وهي إذ «تسوّف» تطبيق أحكام الشريعة، خصوصاً في ما يتعلق منها بحكم الردة وحدّ الشرك، تتعرّض إلى انتقاد واسع من تنظيمات أخرى تتنوع بين من يخالفها شرعياً ويحاربها عسكرياً، ومن يخالفها شرعياً إنما يتعاون معها عسكرياً من باب أنها قوة ضاربة على الأرض السورية. لذلك، لا يبدو أن ثمّة خلافاً أيديولوجياً بحتاً بين «النصرة» وشقيقتها «داعش»، إنما هو خلاف تنظيمي تنادي فيه «داعش» بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كخطوة أساسية على طريق إقامة دولة الخلافة، وترى «النصرة» فيه أن تطبيق أحكام الشريعة لا يكون إلا بعد إرساء قواعد تلك الدولة، لذلك فهي تستنكف عن تطبيق ما تقوم به «الدولة الإسلامية»… «حتى الآن».

يتجاهل الجولاني – وهو يقصّ حكاياه – وجود حرب أو سيطرة مسلحة على هذه المنطقة أو تلك، فيصور المسألة على أنها لا تزيد عن حملة دعوية أو تبشيرية هنا أو هناك، ورسل دعاة لـ «جبهة النصرة» يعملون في مناطق أولئك «الخارجين عن الملّة». يتناسى سلاح الجبهة الذي يسيطر على المنطقة ويتجاهل القوة العسكرية التي تحدد الآمر والناهي فيها. كل ما في الأمر أنه يدعو الخارجين عن الإسلام للعودة إلى «حضن الإسلام»، وهذه العبارة في حرفيتها لا تحيلنا إلى ما يختلف عن «حضن الوطن» الذي تسوّق له الجهة المقابلة. لكن يبدو أن الجهة المقابلة تبدو أيسر في شروطها، إذ تكتفي بفرض الولاء السياسي على رعاياها، أما «جبهة النصرة»، فهي تطلب مقابل الأمان ولاء مزدوجاً سياسياً وعقائدياً في آن واحد، وفق حديث الجولاني نفسه. التبرؤ من نظام الأسد لا يكفي، وإنما ينبغي الولاء العقائدي والشعائري كذلك. ونبذ الأسد لا يكفي، إذ ينبغي نبذ الممارسات الدينية التي لا يعترف بها علماء السنة والتي تُخرجهم من حضن الإسلام.

هذا الخطاب الذي لا يستطيع أن يسوق سماحته من دون أن يضمّنها تهديداً، ولا يستطيع أن يتجاوز ممارساته القمعية إلا من باب الضرورة المرحلية، هو الخطاب الوحيد الذي يمكن لحركة إسلامية راديكالية مسلحة أن تتبناه. لذلك، فإن «النصرة» تستطيع أن تسوّق لنفسها على أي شاشة تشاؤها، لكن الخطاب لن يغيّر من نفسه: «أيها السوريون، هذه البلاد ليست لكم، إنها لنا».

السفير

 

 

 

 

نكسة الثورة السورية/ ساطع نور الدين

الاحتفالات في قصر المهاجرين في دمشق كانت صاخبة، ليلة امس، امتدت حتى ساعات الصباح الاولى، وتخللتها خطابات التهنئة والانخاب. فالمقابلة التي اجرتها قناة الجزيرة مع زعيم جبهة النصرة ابو محمد الجولاني لا يمكن ان تصنف إلا بإعتبارها انتكاسة كبرى للثورة السورية. والتعرف، مرة ثانية، على محارب اسلامي سوري، وبرغم انه ضرورة لا بد منها، الا انه ساهم في تعميق الشعور بالاحباط ، واليقين في ان عذاب سوريا مستمر الى الابد ايضاً.

لا تُواخذ الرسالة ولا يُلام الرسول، لكن المرسِل المتخفي بغطاء اسود، قال العكس تماما مما كان متوقعا ومما كان مفترضاً. هل كان هناك من داع لذلك التكرار لخطاب لم يعد دارجاً حتى في افغانستان التي يتخفى فيها زعيم تنظيم القاعدة الدكتور ايمن الظواهري، وليس مقبولاً في بقية انحاء العالمين العربي والاسلامي التي تجاهد بالمعنى الحرفي للكلمة من اجل تنقية الاسلام السياسي من الفضائح الدينية والانسانية وحتى الاخلاقية؟

كان المعروف والثابت بان دولاً ومنظمات وشخصيات ومراجع دينية كبرى تسعى بكل ما أوتيت من نفوذ، من أجل اقناع جبهة النصرة، ذات الغالبية السورية، وذات السلوك المتميز عن داعش، بنقض بيعتها الى تنظيم القاعدة، وفك روابطها معه والاندماج في تشكيلات اسلامية وغير اسلامية تقاتل النظام الان على مختلف الجبهات، وهي تمثل مستقبل سوريا ووعدها الجديد. لكن الجولاني خيب أمل هؤلاء بالذات، عندما جزم على شاشة الجزيرة في ان القاعدة منبته والظواهري شخصياً مرجعه، الذي كلفه بعدم استهداف اميركا واوروبا والتركيز على الداخل السوري.. وليته لم يفعل! سيما وان الاميركيين ما زالوا يدعمون النظام ويمنعون سقوطه. وهو الاستنتاج السياسي الوحيد الذي صدق به الجولاني، ولم يدرك مغزاه.

لا يمكن ان تحصر المقابلة بالصراع المفتوح بين داعش والنصرة، او ان تختزل الى محاولة من الظواهري لاسترداد زعامته المتهالكة للتيارات الجهادية الاسلامية التي تفرقت بعد مقتل المؤسس اسامة بن لادن. فالجولاني لم يجادل داعش طويلا في المقابلة، لا في الفقه ولا في السياسة ولا في السلوك. ولم يصدر اي حكم قاطع على الداعشيين الذين يعيثون في الارض فساداً. لعله مجرد اجتهاد بالنسبة اليه، او هو جهد لاختراق داعش؟ لكن النصر سيكون على الارجح حليف العائث.

في المكتب المذهب لمحافظ إدلب، كما تردد، جلس الجولاني ومحاوره، (الذي كاد يسأله مرة لماذا لا تجبي النصرة الضرائب والجزية من الناس في مناطق سيطرتها!)، وشرع في اطلاق أحكام تقود الشعب السوري المتنوع والمتعدد والمختلف عن الشعب الافغاني كثيراً، الى الفناء الحتمي. أعلن الثأر من كتل بشرية كاملة، وتبرع بتصحيح عقائد وتصويب مذاهب، وقرر ان يعيد الجميع الى الاسلام وشرعه الاول، الذي اجتهد به حتى المشرعون الاوائل ونقضوه.

لم يحاول حتى ان يكسب أحداً من الجمهور السوري، ولا طبعا العربي او الاسلامي. قال الامور كما يراها تماماً، بلا مواربة او مجاملة، وبلا سياسة. السيف هو الحد القاطع، والامان فقط هو لمن يتُب ويُسلِم، قبل ان تنتهي المعركة التي صارت حسب تقديره في نهايتها، ولم يبق منها سوى دمشق.. وهو تقدير تشكك به التنظيمات السورية الاكثر جدية وتأثيرا في مجرى القتال، لا سيما الجيش الحر بضباطه وجنوده المنشقين الذين يغيبون دوما عن الاعلام وشاشاته، لاسباب لا يفهمها أحد.

الاطلالة الاولى من نوعها للجولاني على لبنان، كانت هي الاخرى مخيبة. لم يقدم جديداً عندما قال ان حزب الله سيسقط مع النظام في سوريا. وهو ما يعرفه الجميع . ولعله كان رحوماً عطوفاً على اللبنانيين عندما قال ان قواهم الخاصة هي التي ستتولى في ما بعد القضاء على الحزب، متفاديا التلويح بملاحقته داخل الاراضي اللبنانية. الاولوية هي لدمشق. ومعركة القلمون ليست سوى محطة عبور الى العاصمة السورية، التي لا شك ان خوف أهلها تضاعف جراء ظهور زعيم النصرة، مثلما تفاقم قلق اللبنانيين من ان تكون النصرة في طليعة المنتصرين على النظام السوري..على حساب الملايين من المعارضين السوريين الموزعين بين جبهات القتال وبين المنافي.

المدن

 

 

 

 

مفاجآت سورية جديدة

رأي القدس

تسرّبت أنباء عن قرب قيام «جبهة النصرة» السورية إعلان انفكاكها عن تنظيم «القاعدة». يأتي ذلك بعد إشارات صريحة أرسلها التنظيم السنة الماضية حين طالب الأمم المتحدة بإخراجه من لائحته للمنظمات الإرهابية ورفعه علم الثورة السورية على معبر القنيطرة في هضبة الجولان السورية بعد الاستيلاء عليها من النظام في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، بدلاً من خاتم النبي محمد الذي يستخدمه تنظيم «الدولة الإسلامية» و»الجبهة» راية لهما، والذي أصبح نقطة علام تعلن تحدّي القوانين الأممية ودالة على انتهاكات لا تحصى قام بها تنظيم «الدولة الإسلامية» بينما حاولت «النصرة» ما استطاعت النأي بنفسها عنها.

ويتذكر السوريون طريقة تعامل «النصرة» مع راهبات دير مار تقلا في بلدة معلولا وامتداح رئيسة الدير الأم بيلاجيا سياف بعد عودتها إلى دمشق أمير الجبهة في منطقة القلمون علناً وبدون خوف من أجهزة أمن النظام السوري التي ما لبث موالوها أن شنّوا حرباً هوجاء عليها مطالبين بطردها من الكنيسة لـ»تعاطفها مع المجرمين».

يتعلّق التوجّه السياسي المذكور لـ»جبهة النصرة» بعوامل عديدة منها:

التنامي الكبير لنفوذ تنظيم «الدولة الإسلامية»، الأمر الذي أدّى إلى صراعات عسكرية بين الجهتين ومهّد الأسباب اللازمة لحصول افتراقات في القراءة السياسية و»الشرعيّة» للواقع السوري والعربي والعالمي.

– حاجة قوى عربية وغير عربية فاعلة في الساحة السورية للتعامل مع «جبهة النصرة» باعتبارها قوّة فاعلة على الأرض يصعب تجاهلها ولا يفيد استعداؤها إلا في توسيع جبهة الخصوم الكثر، وهو أمر قد يدفع أفرادها وقياداتها في لحظة ما إلى أحضان «الدولة الإسلامية».

– التراجع في نفوذ تنظيم «القاعدة» وتضارب الأنباء عن صراعات داخله وعن إمكانية إعلان قائده المصري أيمن الظواهري «حل بيعة» فروع التنظيم حول العالم، وهي أنباء تسرّبت بدورها من «جبهة النصرة» نفسها، وهو ما مهّد لتحالفها مع جماعات أخرى كجماعة «أحرار الشام».

– يتعلّق الأمر أيضاً بالطبيعة «الشاميّة» للتنظيم، وهي طبيعة معروف ابتعادها عن الغلوّ والتطرّف وعلاقتها بالواقع العينيّ وتفاصيله أكثر من ارتباطها بالأيديولوجيا، ومثال عليه ما حصل بعد تحرير مدينة إدلب حين نفى أبو محمد الجولاني، زعيم «النصرة»، النيّة في إقامة إمارة فيها، مشدداً على ضرورة التحالف مع جماعات جهادية أخرى، وهي ممارسة بعيدة جدّا عن ممارسات «الدولة الإسلامية» القائمة على إقصاء أي طرف آخر والنزعة الجامحة إلى ممارسة السلطات، بدءاً من اسمها، ووصولاً إلى صكّها النقود والجوازات وتدخّلها المباشر في كافة شؤون «مواطنيها».

رغم رايتهما الواحدة، وأصولهما الأيديولوجية المتقاربة («تنظيم القاعدة»)، يعبّر التنظيــــمان عن مزاجين جغرافيين وســــياسيين متباعـــدين جذريّا، فكثير من أطــــر وكوادر «الدولة الإسلامية» في العراق جاء من الضباط البعثيين في الجيش العراقي وكوادر الدولة الـــذين أقصوا بعد الاحتلال الأمريكي (ومن هنا ربما يأتي هاجس «الدولة» الملحّ)، فيما جاء مقاتلو «النصرة» من الأرياف والأحشاء المهملة للمدن السورية وهم يستبطنون كرهاً شديداً للدولة السورية و»بعثييها» وضباطها.

إعلان «جبهة النصرة» ابتعادها عن تنظيم «القاعدة»، إذا حصل، هو إعلان أولي لافتراق الوعي الإسلامي الجهادي السوري عن شقيقه العراقي، وهو أيضاً محاولة للتصالح مع الواقع العربي والعالمي، الأمر الذي يشير إلى إمكان وجود مخرج من المأزق الهائل الذي شكّله تنظيم «الدولة الإسلامية» للإسلام، وللعرب والعالم.

القدس العربي

 

 

 

 

 

 

فصول من استيعاب و”سَورَنَة النصرة” في سورية/ أرنست خوري

في صميم كل نقاش أميركي ــ سوري ــ أوروبي ــ خليجي ــ تركي حول أفضل السبل وأقلها خطراً لإسقاط نظام بشار الأسد من دون أن يكون البديل كارثياً على شاكلة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) مثلاً، يُطرَح الجهد الذي يُبذَل منذ فترة على وضع آليات لتكوين كتلة بشرية عسكرية “مُطمئِنة” للخارج، أي لا تكون على صورة “داعش” و”القاعدة”. كتلة يمكن دعمها فعلاً وتسليحها وتمويلها وتدريبها “مثلما يجب ومن دون تردُّد”، بما أنّ المئات المعدودين الذين يفترض تدريبهم أميركياً في تركيا، لن يكونوا سوى مجموعات خاصة ليس بإمكانها بأي حال إسقاط النظام ولا هزيمة “داعش”، هذا إن فرضنا أن الخلاف الأميركي ــ التركي قد يتم حله يوماً حول هوية العدوّ المفترض لهذه المجموعات، أكان “داعش” حصراً أو “داعش” والنظام معاً، مثلما تريد أنقرة بعكس واشنطن. كذلك، فإنّ تعميم تجربة عين العرب لناحية اعتبار أن المقاتلين الأكراد يصلحون ليُعتبروا “شريكاً على الأرض”، مستحيل لأسباب تعود لقلة عدد أكراد سورية وضيق المناطق التي يشكلون الغالبية فيها، إلا أن كان الكلام يدور حول إعطاء دويلة خاصة بأكراد سورية، وهو ما لا يزال يبدو أقرب إلى الثرثرة غير الجدية.

ونظراً إلى الفشل الذريع لتجارب من نوع “حزم”، والانهيار المنطقي لصفوف “الجيش الحر” ما خلا في بعض مناطق الجبهة الجنوبية، تصبح الخلاصة بالنسبة للعقل الأجنبي في إطار البحث عن الحلّ السحري للمعضلة السورية، قائمة على عنوان عريض يبدو شبه وحيد: يجب تكييف وتعديل ما هو موجود على الأرض بالفعل من فصائل عسكرية وازنة، يدرك الأميركي والأوروبي والخليجي والتركي أنها إسلامية جهادية سلفية عموماً بغالبيتها الساحقة. لكن هذا العقل الأجنبي نفسه يدرك أن طريقة إعلام النظامين الإيراني والسوري في تصوير كافة الفصائل الإسلامية في لفّة واحدة اسمها القاعدة أو داعش، ليس صحيحاً، فهناك الفصائل الإسلامية “سورية الهوية” التي “يمكن الكلام معها”، من جهة، وهناك الفصائل التي يشكل فيها المهاجرون الأجانب العصب الأساسي والقيادة، والتي لا يمكن التفاوض على جدول أعمالها وأجندتها نظراً إلى “أمميتها القاعدية” التي لا تقيم وزناً، لا لمناقشة مصير “سورية الجديدة” ولا للمكونات العرقية والمذهبية لهذه “السورية الجديدة” ولا للعشائر وضرورة إيجاد صيغة تعايش في ما بينها تؤمن الحد الأدنى من شروط الحريات والحقوق.

من هنا، كادت جميع النقاشات الأميركية ــ الخليجية ــ التركية تعود إلى نقطة مركزية في النقاش السوري: مَن من الفصائل الموجودة يمكن ضبط خطابها وسلوكها لإبعادها عن صورة “داعش” و”القاعدة”؟ ومَن منها لا يجدي الكلام معها؟ وبالتالي أفضل أن تُشمل في لائحة أهداف التحالف الجوي الدولي ــ فرع سورية، إلى جانب “داعش”، مثلما حصل مع ما يُسمى أميركياً “مجموعة خراسان” التي يصرّ الإعلام الأميركي على اعتبارها الجناح الأكثر تشدداً في صفوف “جبهة النصرة” رغم نفي “النصرة” وجود شيئ اسمه مجموعة خراسان أصلاً. وهنا بيت القصيد، “جبهة النصرة”.

منذ اليوم الأول لظهور فرع القاعدة في سورية في 2012، أي “النصرة”، كان العقل الأميركي محرجاً بين فرضيتين: عدم تكرار تجربة المجاهدين في أفغانستان الذين خرج من رحمهم أسامة بن لادن وطالبان والقاعدة بعدما نالوا التدريب والتسليح والتمويل الأميركي ضد الغول الشيوعي، ومن ناحية ثانية واقع أن “الجبهة” هي أقوى فصيل عسكري معارض في سورية عدةً وعديداً. من هنا، بدأت رحلة البحث في خبايا فروع جبهة النصرة، انطلاقاً من أن التنظيم ليس كتلة واحدة فولاذية، ففيه تيارات و”حرس قديم” وآخر “جديد”، والأهم أن فيه سوريين ومهاجرين وآراء متضاربة حول الأولويات وطريقة التعاطي مع باقي الفصائل الاسلامية ومع إرث آل الأسد انتقاماً أو مصالحةً وإزاء “سورية الجديدة” وماذا يعني شعار “الدولة الاسلامية” الذي يكاد يكون مشتركاً بين معظم الفصائل الإسلامية السورية المسلحة. وفي السياق، تعهدت دول عربية راعية لفصائل عسكرية أن تستخدم نفوذها لتشكيل جبهة موحدة تضم جميع المعارضين المسلحين (باستثناء داعش طبعاً)، في إطار واحد يتمّ نقله من منطقة إلى أخرى، تستوعب فيه “النصرة” إلى جانب آخرين ربما يطغى عددهم على عدد مقاتلي “النصرة”. اصطُلح على تسمية المولود الجديد “جيش الفتح”، بدأ في إدلب وانتقل إلى القلمون ويستعد ليحطّ رحاله في حلب المحافظة. وظهر التغير في الخطاب واللهجة في المواقف الأخيرة لقائد جيش الإسلام، أكبر الفصائل في غوطة دمشق، زهران علوش في مقابلات مع وسائل إعلام أميركية، انتقلت فيها تصريحات شهيرة للرجل عن أن “الديمقراطية تحت حذائنا”، إلى أن “سورية ستكون تعددية ديمقراطية” و”لا نريد قتل الأقليات”، وهو ما لا يمكن فصله عن الإطار العام للبحث الأجنبي عن حلول يمكنها أن توفّر قوةً سقف خطابها مقبول يمكن “الاستثمار” فيها لإسقاط نظام الأسد من دون تركه فريسة بيد “داعش” و”القاعدة”.

ولدى العقل الأميركي في هذا السياق، مثال حي لا يزال يتراوح بين الفشل والنجاح، اسمه تجربة حركة “طالبان”. فبعدما كانت نسخة عما هو اليوم تنظيم “داعش”، باتت حالياً، أو جزء منها على الأقل، منخرطة في مفاوضات مع الحكومة الأفغانية ومباحثات غير مباشرة مع الإدارة الأميركية، وصار لها مكتب تمثيلي في قطر “يعمل في السياسة”. درس أفغاني يعتقد كثيرون أنه بالإمكان ان يكون أكثر نجاحاً حتى بالنسبة لـ”النصرة” نظراً إلى وجود مصلحة مشتركة بين الرعاة الخارجيين المفترضين من جهة، والتنظيم نفسه، في وجه العدوين المشتركين: النظام السوري وتنظيم “داعش”.

بموازاة هذا البحث الخارجي في صفوف “النصرة”، كان هناك حراك من شخصيات أساسية وقيادية في الجبهة، بات أشهرها أبو ماريا القحطاني. أساساً، منذ ولادة النصرة، بدا الانقسام واضحاً حول الارتباط بـ”القاعدة” وموجباته، وهو ما ظهر في تسمية “جبهة النصرة”، وليس مثلاً “قاعدة الجهاد في الشام”. كذلك ظهر كأن “النصرة” كانت تتوقع أن تكون مرشحة لتلقي الدعم شرط أن تكون “لا قاعدة ولا داعش”، وهو ما ظهر في سلوكياتها في مناطق عديدة خاضعة لسيطرتها، تحاشت فيها الإعدامات والذبح على الطريقة الداعشية، وذلك على الرغم مما قيل إنه “غيرة” دبّت لفترة عند زعيمها أبو محمد الجولاني حيال إقامة “إمارة” شبيهة بـ “دولة داعش”. هنا بالتحديد انفجر الوضع في صفوف النصرة التي يصرّ رموزها على اعتبار أن الكلام عن انقساماتها حيال فك الارتباط بـ “القاعدة” وبأيمن الظواهري “يشوبه تضخيم إعلامي كبير”. ومن الأحداث المركزية التي تؤكد برأي بعضهم انفتاح “النصرة” على الحديث مع أطراف داخلية وخارجية على صيغة تعاون أو تنسيق، هو عندما احتجزت الجنود الفيجيين في قوات سلام الأمم المتحدة في الجولان المحتل العام الماضي، فعرضت، علناً، الإفراج عنهم مقابل أن تتم إزالة اسمها من لائحة المنظمات الإرهابية، وفي هذه الحادثة ما يكفي من دلالات على موافقة ضمنية من “النصرة” على التعريف المتداول لـ “الارهاب”.

وتفيد تسريبات من مصادر مطلعة جداً على أجواء “النصرة”، بأن الجولاني لا يزال أسير طرحين يختصران جناحي فك الارتباط بالقاعدة، أو “سورنة” النصرة وأجندتها، بقيادة القيادي البارز المفصول رسمياً أبو ماريا القحطاني (عراقي الجنسية)، في مقابل “قاعدية” و”أممية” القيادي القوي الآخر أبو قتادة الفلسطيني المصرّ على أن “النصرة” ليست ولا يجب أن تكون إلا عبارة عن فرع سوري لـ”القاعدة” لا أجندة وطنية له تتيح التكتيك والتفاوض والمساومة والتنازل. ولم تبقَ آراء القحطاني سرية إذ ترجمها بمواقف هي أشبه بـ”الفتاوي الشرعية” قال في أشهرها ما حرفيته: “إذا تعارضت مصلحة أهل الشام مع مصلحة بقائنا بالتنظيمات اخترت الأولى، والشرع لا يحرم أن يأخذ المجاهدون الدعم من حكومة ما إذا توافقت المصالح وليس فيه إملاءات من قبل تلك الحكومات على المجاهدين، كما أننا لا ننكر على من يصله الدعم والمساعدة دون أن تفرض عليه الجهة الداعمة أمورا مخالفة للشرع الحنيف، بل إن هناك بعض الفصائل تتلقى دعما خارجيا، ولكن لن نتكلم ما دام ذلك الدعم لا يؤثر على دينهم وجهادهم؛ فهي أمور شرعا تعتبر من باب المعاملات”.

وبدا أن النصرة استشعرت حجم المشروع الخارجي الساعي إلى استيعابها شرط تكييفها وتعديلها تحت شعار “القاعدة الجديدة” ذات البرنامج الوطني والقائم على إسلام سياسي متشدد، لكن لا بدّ أن تزول أسباب كثيرة من تشدده فور سقوط النظام السوري والحجة التي لا يزال هذا النظام يؤمنها لتنظيمات تكفيرية ستظلّ تنمو طالما بقي نظام الأسد ومليشيات إيران وحلفائها هي المتحكمة بمصائر أهل الشام. في هذا الاستشعار بالخطر، يضع كثيرون موافقة النصرة على الاندماج في “جيش الفتح” وشنّ معارك كبيرة مع “داعش” في عدد من المناطق. وكان المشروع الغربي ــ العربي ــ التركي الساعي إلى “سورنة النصرة” وفك ارتباطها بـ”القاعدة”، قد استجدّت عليه فكرة تركية المصدر تقوم على السماح ربما لمجموعة من “القاعدة” بالدخول إلى سورية وطلب البيعة من “جبهة النصرة”، ليكون بالتالي ممثلاً لـ”قاعدة الجهاد في سورية”. ومن المتوقع أن يلقى الأمر رفضاً من “النصرة”، ويدفعها باتجاه رفض البيعة وفك الارتباط بـ”القاعدة”، أو على الأقلّ يؤدي إلى شقّ صفوفها، ويدفع مكوّناً كبيراً من التنظيم، خصوصاً العناصر السورية، إلى فك الارتباط، فيما يبايع العناصر التي جاءت أصلاً من التنظيم، الفصيل الجديد.

لكن على ذمة الاسم السوري الجهادي الأبرز على مواقع التواصل الاجتماعي، “مزمجر الشام” (نسخة سورية من المغرد السعودي الافتراضي، مجتهد)، فإنّ الجولاني حسم خياراته لمصلحة تيار القحطاني وقرر فعلاً الانفصال عن “القاعدة” والتقرب من التيارات الإسلامية السورية والجماعات المسلحة الأخرى ضمن المعارضة السورية، بعدما تخلّص من تأثير أبو قتادة الفلسطيني عليه، وهو الذي له “تأثير سلبي على النصرة” على حد تعبير “مزمجر الشام”، خصوصاً لناحية “إبعادها عن محيطها الثوري وعزلها في شرنقة القاعدة وإعادتها لسكة المنهج الذي أثبت فشله”. لكن هذا الكلام لم يظهر له أي ترجمة فعلية بعد بدليل المقابلة التلفزيونية الأخيرة للجولاني مع فضائية الجزيرة، حيث بدا الولاء واضحاً لأيمن الظواهري.

العربي الجديد

 

 

 

 

تانغو الجولاني – منصور/ حسام كنفاني

على الرغم مما يفترض أنه سبق صحافي لقناة “الجزيرة” في اللقاء مع زعيم جبهة “النصرة”، أبو محمد الجولاني، إلا أن ما شاهدناه لم يكن مقابلة صحافية بأي شكل، وحتى إنه لم يأخذ أي معاني السبق الإعلامي، طالما أن كلام الجولاني تقريباً هو نفسه، خصوصاً في ما سبقها من ترويج عن إمكان إعلان الرجل الانفصال عن تنظيم “القاعدة”، وهو ما لم يحصل، إذ أكد أنه لا يزال ملتزماً بأوامر زعيمها، أيمن الظواهري.

يمكن وصف اللقاء بأنه كان دردشة بين “صديقين” لم يلتقيا منذ زمن طويل، وكانت شاشة “الجزيرة” ساحة لهذا التلاقي، ليسرد الأول (الجولاني) تفاصيل تطورات حياته خلال فترة الانقطاع، أي قبل سنتين، حين كان اللقاء مع “الصديق الآخر” تيسير علوني، بينما يكتفي الثاني (منصور) بالإنصات طرباً. ولم يكن ينقصه إلا أن يردد “ما شاء الله” عند حديث الجولاني عن “إنجازات” النصرة في الأراضي السورية، والطريقة المتبعة في إدارة الأراضي المحررة من قبضة النظام.

لم يحاول منصور التدخل في أي لحظة في اللقاء ليساجل ويناقش في مواقف كثيرة خطيرة أطلقها الجولاني في كلامه. لم يقف عند مسألة الوفود المرسلة من “النصرة” إلى الدروز لاستتابتهم، أو دعواتهم للدخول في الإسلام، أو دعوته العلويين إلى التخلي عن بشار الأسد، والعودة إلى الإسلام أيضاً. ألم يكن من المفترض أن يقف “الإعلامي المخضرم” عند هذه النقطة، والسؤال على الأقل: “ألا يكفي أن يتخلى الطرفان عن بشار الأسد ونظامه؟”. هذا أضعف إيمان الأسئلة التي من المفترض أن يتم خلالها تذكير الجولاني أن الثورة، والتي من المفترض أن “النصرة” تقاتل تحت لوائها، لم تقم من أجل نشر الإسلام في سورية، وقيام دولة الخلافة التي يؤمن بها الجولاني، وربما منصور أيضاً. إذا كان لا يصدق، فليسأل من خرج في اللحظات الأولى للثورة، ومن استشهد لأهداف لم تكن “الدولة الإسلامية” مدرجة ضمنها. ليسأل حمزة الخطيب وغياث مطر وباسل شحادة، وغيرهم كثيرون، عن أسباب استشهادهم، وهل كان في بالهم أن ما ماتوا من أجله سيأتي يوم ليتم تحويره إلى ما يريد الجولاني والبغدادي وغيرهما. ماذا عن غير المسلمين أو المسلمين من طوائف أخرى الذين شاركوا، ولا يزال كثير منهم مشاركاً، في الثورة، هل كانت غايتهم “العودة إلى الإسلام”؟

مثل هذه الأسئلة لم يخطر على بال منصور أن يوجهها إلى الجولاني، بل كان مشغولاً بتبييض صورته من هذه الناحية، عندما تطوّع ليتحدّث عن مشاهدته الشخصية حماية “النصرة” قرى درزية وعلوية ومسيحية. وحتى عندما تكلم الجولاني عن فرض الجزية على المسيحيين لاحقاً بعد إقامة “الدولة الإسلامية”، مر الأمر طبيعياً على منصور الذي اكتفى بالابتسام موافقة.

وإذا تم استثناء كل ما سبق في ما يخص التعاطي مع الداخل السوري، بكل أطيافه، لم يسع منصور إلى التدخل لمناقشة الجولاني في تعاطيه المرتقب مع الغرب، وعدم معاداته حالياً، وهي القضية التي من المفترض أن تكون لبّ اللقاء والغاية الأساسية لإجرائه، أي تَشذيب صورة النصرة وتقديمها على اعتبارها من مكونات حراك الشعب السوري. لكن الأمر لم يسر على هذا النحو، فالجولاني الآن ملتزم بأوامر الظواهري عدم مهاجمة الغرب، لكن، ماذا لو غيّر الظواهري أوامره؟ لم يتم توجيه مثل هذا السؤال إلى زعيم هذا التنظيم، وتم الاكتفاء بهذا القدر على قاعدة عند تغيير الأوامر “لكل حادث حديث”.

هذه التساؤلات وعشرات غيرها، منها مثلاً عمليات الإعدام التي تم تنفيذها بحق كثيرين في أراضي النصرة وفي قضايا مختلفة، وهي عمليات موثقة بالصوت والصورة، لم تكن حاضرة في أوراق منصور قبل المقابلة التي من الواضح أن المساجلة لم تكن أحد أهدافها.

هي بالتأكيد لم تكن مقابلة، كانت رقصة تانغو على نغمة “الدولة الإسلامية”. نغمة طرب لها النظام وأعوانه وحلفاؤه، وأدوا رقصتهم المضادة.

العربي الجديد

 

 

 

 

كيف ترى واشنطن “جبهة النصرة”؟/ حسين عبد الحسين

في العام 2003 وقفت في حي المنصور في بغداد أمام المنزل الذي كانت تسكن فيه سميرة الشابندر، الزوجة الثانية للرئيس العراقي الراحل صدام حسين. البعثيون وأقرباؤهم كانوا فروا من بيوتهم التي احتلتها إما قوات أميركية أو مسؤولين في العراق الجديد. منزل الشابندر سكنت فيه وحدة من المارينز، وقف أحدهم حارساً أمام بوابة الحديقة، فألقيت عليه التحية ودار بيننا حوار. قال لي انه من ولاية الاباما الجنوبية، وأنها المرة الأولى التي يخرج فيها من اميركا. ثم أخبرني ان مهمته في الحراسة تتضمن “الوقوف وترقب الإرهابيين”، وعندما بادرت الى سؤاله: “كيف تعرف من هم الإرهابيين حتى تتحسب منهم؟” تفاجأ ابن الاثنين والعشرين ربيعاً ولم يجد إجابة، وشعر أن عليه إجابة نفسه أولاً قبل أن يجيبني.

التخبط الأميركي في تعريف “الإرهاب” و”الإرهابيين” قصة قديمة مستمرة حتى اليوم. الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان إرهابياً في يوم، وفي يوم آخر وقف في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض يصافح رئيس حكومة إسرائيل اسحق رابين والرئيس الأميركي بيل كلينتون.

وعندما اندلعت الثورة السورية في العام 2011، احتارت واشنطن في أمر الثوار. صنفت في بادئ الأمر “جبهة النصرة” على انها إرهابية نسبة لاقتران النصرة بـ “تنظيم القاعدة”، عدو أميركا الأول. في وقت لاحق، اعتبرت واشنطن ان تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) هو سليل “قاعدة العراق”، التي وصلت الى اللائحة في العام 2004، فاعتبرته التنظيم الإرهابي الوحيد بين الفصائل المسلحة في سوريا، ورفعت اسم النصرة من لائحة التنظيمات الإرهابية، التي تحدثّها وزارة الخارجية بشكل مستمر. بعد مرور وقت، اعادت واشنطن، في أيار/مايو الماضي، “جبهة النصرة” الى اللائحة الإرهابية، هذه المرة كتنظيم مستقل.

هكذا يستمر التخبط الأميركي في تصنيف المقاتلين المعارضين، فواشنطن اعتقدت لفترة أن عليها وضع كل من يرتبط بالقاعدة، او أي تنظيم يعلن ان غايته انشاء دولة إسلامية، على لائحة الارهاب. هكذا، أبقت “الجبهة الإسلامية” خارج هذه اللائحة.

ويبدو ان اللائحة لا تساعد في تخفيف الارتباك الأميركي، فواشنطن تعارض تسليح المعارضين السوريين، حتى غير المصنفين إرهابياً. والعام الماضي، راحت وزارة الخزانة الأميركية – بتحريض من دولة خليجية – تمارس ضغطاً على دول خليجية أخرى بتهمة السماح لمتمولين من غير الحكومة بتقديم الأموال لتنظيمات سورية إسلامية، على الرغم من ان القانون الأميركي لا يحظر تمويل التنظيمات المسلحة ما لم تكن مصنفة إرهابية.

وفي وسط ارتباكها، ترقبت واشنطن اطلالة زعيم “جبهة النصرة” أبو محمد الجولاني عبر فضائية “الجزيرة” القطرية، بعد أيام من قيام مقاتلات أميركية بشن هجمات غير معلنة ضد اهداف تعود لـ “جيش الفتح” بتهمة ان فيه مجموعات “إرهابية” من النصرة.

إطلالة الجولاني لم تساهم بعد في تخفيف الارتباك الأميركي. فعلى الرغم من ان الرجل أعلن صراحة ان تنظيمه لا ينوي استخدام سوريا لشن هجمات ضد اهداف غربية، على الرغم من علاقته بقاعدة أيمن الظواهري، الا ان ردة الفعل الأولية للمسؤولين الاميركيين ظلت مضطربة.

وبينما حاول بعض المسؤولين ان يلفتوا الى نقاط إيجابية، من قبيل أن لهجة الجولاني سورية، ما يعني انه من أبناء البلد ولا تنطبق عليه صفة المقاتلين الأجانب الذين يثيرون قلق الاميركيين، الا ان مسؤولين آخرين اعتبروا ان نظرة الجولاني تجاه الطوائف السورية غير السنية هي نظرة غير مقبولة، وربطوها بمعارضته لحل سياسي يقضي بقيام حكومة وحدة وطنية “جامعة”، على حسب ما تطلب اميركا والأمم المتحدة.

الولايات المتحدة ما زالت متحيرة في موقفها من “جبهة النصرة”، وبشكل أوسع “جيش الفتح”، فتصنيف إرهابي وحده لا يقلق واشنطن كفاية، وغالباً ما أيدت واشنطن في الماضي اجراء حوارات مع منظمات تصنفها إرهابية. في أفغانستان مثلاً، لم تمانع أميركا الحوار مع “طالبان” بهدف “فصل من يمكن الحوار معهم” عن “المتطرفين”.

قد تؤدي مقابلة الجولاني على الجزيرة الى تحسين وجهة النظر الأميركية تجاه “جبهة النصرة”، لكن واقع الحال يشي بأن فهم اميركا للتنظيمات المسلحة حول العالم، الإرهابية منها وغير الإرهابية، هو فهم منقوص ومضطرب، وغالباً ما يدفع واشنطن إلى تبني سياسات متضاربة ومتناقضة، تعود عن بعضها أحياناً وتخطىء بتمسكها ببعضها الآخر أحياناً أخرى.

المدن

 

 

 

نصرالله للجولاني: شكراً/ ربيع حداد

خفيفاً نام الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله ليلة الأربعاء. أتاه من أرخى عنه أثقاله. أربع سنوات من الإنخراط في الحرب السورية، والحزب عاجز عن صوغ التبريرات لإقناع بيئته وجمهوره وأهل قتلاه بجدواها. بالأمس حصل نصرالله على صك أحقية القتال إلى جانب نظام الأسد، من “العدو اللدود”. ربما هي مصادفات التشابه بين الفرق والأحزاب الإسلامية، وربما أيضاً هو تقاطع المصالح، وفقاً لمفاهيم مؤدلجة على اختلافها. كانت ليلة الأمس، ليلة الدخلة، وإن أتت متأخرة لعرس بدأه الحزب قبل سنوات.

ظاهرياً، بدت المواقف التي أطلقها أمير جبهة “النصرة” في سوريا أبو محمد الجولاني، وكأنها مواقف مباعة للنظام السوري ومن خلفه إيران و”حزب الله”. حديث الأقليات كان طاغياً، وإن بمفهوم مختلف، ونظرية تكفير الثورة وأسلمتها أيضاً كانت تاجاً رفعه الجولاني وضرب به رأس الشعب السوري في محاولة لهدم طموحاته. فحصل “حزب الله” على هدايا ثمينة لم يكن ليحلم بها، واحتاجت عشرات الخطابات والتسويقات من قبل قادة الحزب لمحاولة تبرير الإنتحار في سوريا، فيما لم يحتج التبرير سوى لبضع دقائق من وقت الجولاني.

قدّم قائد “النصرة” الطبق الأفضل لنظيره على الضفة المقابلة، لطالما خجل السيد نصرالله من الإعتراف بأن القتال في سوريا هو دفاع عن النفس، لأنه بسقوط نظام الأسد سيسقط الحزب، فجهد على إيجاد المبررات للدفاع عن النظام والتفاني موتاً، من نظرية الدفاع عن اللبنانيين الشيعة في المناطق الحدودية، إلى الدفاع عن المراقد المقدسة، وحماية ظهر المقاومة والدفاع عن المحور المتصدي للمؤامرة، وكل هذه الحجج لم تسكت المعترضين على سلوك الحزب، إن كان سراً أو علانية، من جمهور الحزب او من خصومه.

أكثر من مرّة كرر الجولاني أن مصير “حزب الله” مرتبط بمصير الأسد: “حين يسقط الأسد سيسقط الحزب”، وإن لم يعلن الملقّب بالفاتح عزمه عن دخول لبنان، لكنه شدد على أن معركته مع “حزب الله” في كل الأمكنة، معتبراً أنه بعد سقوط النظام سيتراجع نفوذه لينحصر في الجنوب فقط، داعياً القوى اللبنانية إلى القيام بسحب نفوذ الحزب في ما بعد.

ليست المرة الأولى التي يقدم فيها الجولاني نظرة غير مفهومة للداخل اللبناني، وعلى الرغم من إعلانه أنه ليس في طور الدخول في معركة لبنانية، إلّا أنه تناسى اختطاف عناصر الجيش اللبناني، واجتياحه قبل أشهر بلدة عرسال التي احتضنت عشرات آلاف اللاجئين السوريين، وما نجم عن ذلك الإعتداء من سلبيات على المدنيين السوريين قبل اللبنانيين، في خطوة لم تخدم وقتها وإلى اليوم سوى نظرة “حزب الله” للحراك السوري.

تقدم جبهة “النصرة” ومن يشبهها في سوريا خدمات مجانية إلى “حزب الله”. مجرّد أن يعلن الجولاني وبخطاب مباشر للحزب أن مصيره سينتهي بإنتهاء الأسد، يرفع عن كاهل الحزب أثقالاً وأعباء، متناسياً أن للحزب بيئة شعبية حاضنة، هي التي ستطلب من قيادتها الذهاب للقتال بشراسة أكثر في سوريا لأن الجولاني هددها وهدد مصيرها بالزوال. كم أسرّ “حزب الله” بهذا الموقف؟ لم يعد يحتاج إلى عناء التبرير.

الأبرز، أن الجولاني لاقى نصرالله بأن معركة الحزب أو “الشيعة” في سوريا هي معركة وجودية، خصوصاً أن “جيش الفتح” الذي اعتبره نصرالله اسماً تجميلياً لـ”النصرة”، عززه الجولاني بقوله إنه القوة الأبرز فيه لأنه الأقرب إلى قلوب الناس وغير مرتهن لقوى خارجية. أما في موضوع الأقليات من علويين ودروز ومسيحيين، لم يتحدث أمير النصرة بلسانه فقط، بل بلسان النظام وإيران أيضاً.

كل محاولات شيطنة الثورة على مدى السنوات الماضية، كانت فاشلة. كان هناك أمل ما، ولم يزل، لكن الأكثر فتكاً بمسيرة الثورة السورية، كان الجولاني نفسه، وطبعاً قبله البغدادي. لاقى الجولاني في إطلالته نصر الله في منتصف الطريق، كما لاقت “داعش” النظام السوري و”حزب الله” في أكثر من منطقة، ليقضيا معاً على ما تبقّى من حراك مدني.

أوجه التشابه بين “النصرة” و”حزب الله” كثيرة، من البدايات إلى اليوم، فالمواقف التي عززّت ذرائع الحزب لا تنفصل عن الخطاب الأول الذي ظهر به الحزب وأمينه العام قبل أكثر من عشرين سنة. كلام الجولاني عن “النصيريين، والنصارى، والدروز” هو الوجه الآخر لكلام الحزب في مرحلة إنطلاقه.

لذلك كله، كان من الإستعجال ربما إنتظار موقف من الجولاني للإنفصال عن “القاعدة” وخطابها، قد يحتاج ذلك إلى سنوات، ليعاود الأمير الظهور بمظهر حداثي، يكفل فيه حماية المسيحيين والعلويين والدروز وجودياً وعقائدياً، فهي دوامة واحدة تدور فيها التنظيمات الشبيهة، وجود هذا يبرّر وجود ذاك، يطيل أمد حرب مذهبية عقائدية، تكون فيها حقوق الشعب المدنية هي الضحية.

المدن

 

 

 

أحمد منصور في “مضافته” / نذير رضا

خلع مقدم برنامج “بلا حدود” في قناة “الجزيرة” نعلَيه، ومدّ رجليه في حضرة زعيم “النصرة” أبو محمد الجولاني. فالمضافة تتسع لكل المتقاربين. كشف الجولاني عن وجهه أمام مضيفه، مسقطاً حرمة الظهور أمام الغرباء، فيما احتجب عن الآخرين. وجهه متاح “لأهل البيت”، حيث لا حاجز شرعياً يمكن أن يفصل الوجه أو الجسد. تمدّد منصور في المضافة، مسقطاً بروتوكولاً مفترضاً يلزمه بمحاورة ضيف مُقلّ في الظهور، الندّ للندّ… فتح ذراعي أسئلته لاحتضان رجل مرتبك أمام مُحاور، عرفه الآخرون بأنه يتقن تحضير ملفاته جيداً.

لكن، هذه المرة، الملفات التي حضرها، لا تدين ولا تُسائل ولا تحاجج. بل تؤكد أنه “مرّر” للجولاني ما يفترض أن رهبة الكاميرا أنسته إياه، وهو الذي لم يعتَد الكاميرات. الإعلامي ذكّر ضيفه الجولاني بما يجب عليه قوله، وبما يجب أن يستدل به. صور ومشاهد تُروى بين الأسئلة، لتؤكد هوية المحدّث، وايديولوجيته. تكامل في الأدوار. وزايَدَ منصور على ضيفه في “مكان مجهول في الشمال السوري”، ببراءة “جبهة النصرة” من التهم المنسوبة اليها، بدليل “انكم لم تستولوا على ممتلكات الدروز حتى الان ولم تدخلوا بيوتهم”.

تهم واقعية، أقر بها الجولاني بقوله ان تنظيمه هدم “قبور الشرك”، ولا يحتاج دليلاً أكبر على “براءته”. اتخذ الدليل، شكل “المفاجأة” لدى منصور. إذن، هو يدرك خلفيات تنظيم متشدد، وفاجَأه عدم ارتكاب جرم من هذا النوع، رغم تصريحات خطيرة أدلى بها ضيفه تجاه العلويين. وبالتالي، لم يحاججه في العقيدة الدافعة، أو في المسار الذي أعلنه الجولاني لتنظيمه، القائم على هدم أركان الثورة السورية، بأسلَمَتها. قال منصور بخفر، إن الغرب يركز على ان سوريا فيها تنوع ديني وعرقي، وكأن ذلك محلّ إدانة، مستعجلاً إعلان الجولاني المبيّت، والمتردد، بأن النصرة ستعلن “دولة اسلامية في ما بعد”.

التعقيب الذي أبداه منصور على الأسئلة، ينقله من صف المحاورين الى صفوف المؤيدين. جمهور يؤيد، ويتمنى. بدا أن بعض الأسئلة متفق عليها، كأن المحاوِر اتخذ دور المستشار أيضاً. يسأل الجولاني: “كيف تنظرون الى عموم المسلمين؟”. سؤال مرفق بإشارة من العينين يساراً، الى مكان الاجابة المتفق عليها مع رجل لم يبدُ ضليعاً بالعقائد، ولم تسمح له تجربته بالإعلان عن قدراته البلاغية والفكرية المتشددة، ويستتر في محاولة لخلق هالة حوله، أسقطها الحديث وضعف الإلمام بالعقائد. على ان هذه الحركة، فاقت كل الأداء نفوراً، بدءاً من الاسئلة التي بدت أقرب إلى إجابات تؤكد دور التنظيم، وصكوك براءة في محل إثبات الجرم، وتخلو من إستطرادات محرجة. المُحاور هنا، لا يتعاطى مع ضيفه على قاعدة “الند”، بل وفق قناعات تحيل المشهد السوري بأكمله الى سؤال الوجود.

ماذا ينتظر السوريون في مواقع سيطرة “النصرة”؟ سؤال بدأ يُطرح في هيئة هواجس، بعد “تحريض” من أحمد منصور على جمع الضرائب من السكان، مع مِنّة منحهم الكهرباء والمياه بلا بدل مادي! إضافة إلى تحريض آخر على فصائل “يضغط عليها الغرب للخروج على النصرة او التخارج عليها”! وهنا، تأكيد للمؤكد السابق، حول مسار الإقصاء الذي اتخذه التنظيم في حق معارضيه، بدءاً من “حركة حزم” المدعومة أميركياً، و”جبهة ثوار سوريا” التي كان يتزعمها جمال معروف. ربما ورّطه منصور بإجابات، اتخذت شكل الأسئلة ولا تحتمل أكثر من الموافقة، لكنه في الوقت نفسه، كشف عن همّ جديد، بالاعلان عن أن “النصرة تحارب في حرب مزدوجة مع اطراف اخرى”.

المحاججة المفقودة، انسحبت على ادعاءات غير واقعية، كشفت أن “الإعلامي” أحمد منصور تجرد من حسه التعقيبي. قال الجولاني مثلاً، إن النظام قتل مليوناً من أهل السنّة! لم يسأله منصور عن الرقم المبالغ فيه، في حين لم توثق أي منظمات حقوقية مقتل أكثر من ربع مليون من الطرفين. وتقود تلك المبالغة الى تشكيك آخر في كل المعلومات التي أدلى بها الجولاني، والنيات التي كشف عنها (أو خبأها)، علماً أن الجولاني لم يظهر قائداً في المعركة، بل بدا تابعاً، يتبنى ما يعينه عليه محاورُه الذي لم يكن سوى جزء من حملة دعائية لتنظيم متشدد، لا يأبه للسوريين وثورتهم وتطلعاتهم.

المدن

 

 

 

مقابلة الجولاني.. خطاب للخارج عن جيل جديد من الجهاديين/ فادي الداهوك

ظهر أمير “جبهة النصرة” أبو محمد الجولاني، في مقابلة على قناة “الجزيرة” متحدثاً عن ملفات عديدة في سوريا. وبما أنه لم يقدم أي جديد للداخل، يمكن حصر كلامه وقراءته على أنه خطاب للخارج، يأتي في سياق التحولات الكبيرة التي تشهدها الأوضاع الميدانية في سوريا، وضرورة أن يعاد طرح اسم “جبهة النصرة” كفصيل مقاتل ضد النظام، لاسيما مع السباق المحموم حالياً الذي يتقدّم الجميع فيه على الأرض ويتراجع النظام وحيداً.

ليست “جبهة النصرة” هذا العام هي ذاتها عند تأسيسها مطلع العام 2012، إذ حين انفردت في السنة الأولى من الثورة السورية باستقطاب جيل من الجهاديين السوريين إلى جانب بعض المهاجرين، ظهرت منذ بداية العام الماضي في موقف أضعف عندما فضّلت تنظيم القاعدة على تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومن هنا بدأت الانشقاقات في صفوف الطرفين بطبيعة الحال، فمعظم المهاجرين الذين كانوا في صفوف “النصرة” أعلنوا البيعة للبغدادي وهجروا الجولاني، سوى أن ثلّة منهم بقيت في صفّ النصرة أمثال العراقي أبو مارية القحطاني، الرجل الأبرز في تنظيم الجبهة والأكثر إثارة للجدل من الجولاني نفسه، والداعية السعودي عبدالله المحيسني والشرعي العام الأردني سامي العريدي.

آثار تراجع أهمية النصرة كثيرة، وقد تكون المنطقة الجنوبية من أبرز الأماكن التي تشهد على ذلك، لاسيما في درعا والقنيطرة، وهذا جعل الجولاني يتجنّب في مقابلته على “الجزيرة” الحديث عن النصرة في هاتين المنطقتين بشكل مباشر، لكنّه ألمح إلى “عمالة” الفصائل هناك للقوى الإقليمية والدولية من خلال قوله إن “أي دعم خارجي هو دعم مشروط” ويصبح الطرف الذي يتلقاه أداة بيد الممول، وهذا الموقف نابع من حالة القطيعة المعلنة بين فصائل الجبهة الجنوبية في درعا والقنيطرة مع “النصرة”.

قبل سنتين تقريباً، كانت درعا أحد معاقل النصرة، لدرجة أن الجولاني أقام لفترة وجيزة في منطقة اللجاة برفقة القحطاني والعريدي، قبل أن تسوء العلاقة مع القحطاني ويستقرّ الجولاني في الشمال، ما سبب في إنهاء ثقل النصرة في الجنوب، ليضطر بعدها للانضمام إلى تحالف “جيش الفتح”، حين أصبحت حركة “أحرار الشام الإسلامية” التي تشكّل زخمه الأقوى، مستوعباً ضخماً ابتلع العمل العسكري في الشمال، كما أن النصرة في الجنوب كانت في مواجهة قاسية مع الأردن، الذي يعرف النصرة جيداً لأن نسبة القادة العسكريين من الجنسية الأردنية هي الطاغية في صفوفها، وخزّان أولئك داخل الحدود الأردنية كان في معان والزرقاء والسلط، ما سهّل على السلطات إغلاق الثغرات التي كان يستغلها الجولاني في الحصول على الدعم.

يمكن القول إن الجولاني الآن زعيم لجيل جديد من الجهاديين، معظمه من السوريين بعدما تخلّص من سلطة الغرباء التي كانت مفروضة عليه في الجنوب كزعيم لـ”جبهة النصرة” واصطفى منهم من يمثّلون خطّه، وحالياً يبحث عن طور جديد له ضمن الوضع العسكري القائم الذي يشكّل “جيش الفتح” الرافعة الأساسية له. وهو إن لم يعلن عن فكّ الارتباط مع تنظيم القاعدة كما تكهّن البعض، إلا أن المقابلة برمّتها لا تخلو من الرسائل الموجهة في هذا السياق إلى أطراف إقليمية أصبحت “النصرة” بحاجة إليها لتكون في قائمة شركائها، كما أن إلقاء اسم أيمن الظواهري لم يكن عابراً، لاسيما حين أكد الجولاني أنه المسؤول عن قرارات الجبهة وأنها تعمل بتوجيهاته، وفي هذا إلقاء للمسؤولية عن ظهر الجولاني، إضافة إلى أن الحديث عن الأقليات في سوريا يمكن قراءته على أنه أيضاً رسائل لتلك الأطراف في حال قررت ضمّ “النصرة” إلى الشركاء السوريين على الأرض، وهنا يمكن أن تكون البذرة التي ستمهّد لفك الارتباط مع القاعدة.

قبل حوالى شهر تقريباً، عندما سيطر “جيش الفتح” على مدينة إدلب، أجرى الإعلامي أحمد منصور انفراداً لايقل أهمية عن انفراد شبكة “الجزيرة” بمقابلة الجولاني، مع عضو المكتب السياسي لحركة “أحرار الشام الإسلامية” أبو عزام الأنصاري، والقائد العسكري في “جيش الفتح” أبو يوسف المهاجر، وخصص جزءاً كبيراً في تلك المقابلة للحديث عن موقع “جبهة النصرة” في تحالف “جيش الفتح” وقضية تصنيفها في لائحة المنظمات الإرهابية والتلويح الأميركي بإدراج المتعاونين معها في القائمة ذاتها.

مقابلة الجولاني تبدو أنها تكملة لتلك الحلقة من البرنامج، على الرغم من أن حماسة المُحاور للجولاني أوقعت الأخير في بعض الهفوات، لاسيّما في الشق المتعلق بالدعم الخارجي وتبعية من يتلقونه، حين غاب عن بال الجولاني أن حركة “أحرار الشام الإسلامية” تتلقى دعمها من تركيا وقطر كما جاء في حلقة “بلا حدود” في الثامن من أبريل/نيسان الماضي.

الجولاني لم يقدم خطاباً جديداً للداخل سوى أنه ظهر، بحسب أنصار تنظيم “الدولة الإسلامية” الذين سخروا منه على تويتر، بالزي الشامي الشعبي كما صوّره مسلسل “باب الحارة”، لكن استعداد الجولاني لارتداء هذا الزي يمكن أن يفهم منه أنه مستعد لخلع ثوب القاعدة عنه.

المدن

 

 

 

 

أحمد منصور والسقوط في امتحان المهنية/ ليال حداد

مرة أخرى لم نشاهد وجه أبو محمد الجولاني. استمعنا إلى كلامه ونحن نشاهد ظهره ووجه الإعلامي في قناة “الجزيرة” أحمد منصور. قبل أكثر من عام، في ديسمبر/كانون الأول من عام 2013، وعلى الشاشة نفسها، أطل زعيم “جبهة النصرة” لكن مع الإعلامي تيسير علوني. يومها أيضاً لم يظهر وجهه، علماً أن قيادات كبرى من تنظيم “القاعدة” سبق أن أجرت مقابلات مع علوني، وغيره بوجوه مكشوفة.

وبعيداً عن غموض شخصية الجولاني، كيف كانت المقابلة؟ من المنصف إعلامياً القول إن الحوار لم يكن موضوعياً. ومن المنصف القول أيضاً إن أحمد منصور لم يلعب دوره المطلوب، بتفنيد أخطاء الجبهة، أو بطرح الأسئلة والهواجس التي يتناقلها معارضو الجبهة. بدا موافقاً على كل ما قاله الجولاني. لم يعلّق على أي جزء من الكلام الطائفي، عن الدروز تحديداً. ليدخل الحديث في أوقات كثيرة الحيّز الدقيق الفاصل بين الحوار الإعلامي والبروبغندا. فبينما كان الجولاني يتحدّث عن “اعتراف الدروز بأخطائهم العقائدية… وإشراكهم بالله من خلال بعض القبور التي يزورونها” كان منصور، يتحدّث عن حماية جبهة النصرة للدروز والمسيحيين “تفاجأت وانا أمشي في بعض المناطق المحررة عن وجود قرى درزية ومسيحية أنتم من يحميها”.

المنطق نفسه اتبعه منصور عندما تحدّث الجولاني عن الطائفة العلوية “تلقي السلاح، وتتبرأ من الأسد، وتترك عقيدتها، وتعود إلى الإٍسلام”. بدا همّ منصور ردّ التهم التي تلقى على الجبهة، حتى قبل أن يتكلم الجولاني. “لم تفرضوا شيئاً على النصارى، ولم تأخذوا النساء سبايا كما يروّج الإعلام الغربي” يقول منصور للجولاني، متجاهلاً ما قاله زعيم “النصرة” عن إجبار النصارى المقتدرين على دفع الجزية عند إقامة حكم إسلامي في المنطقة.

“الغرب يركز في إعلامه على اضطهادكم للأقليات؟”، جواب الجولاني جاء سريعاً: “لسنا بحاجة للغرب ليحدثنا عن حقوق الإنسان وحقوق الحيوان”، وتابع كلامه ليؤكد مرة أخرى ارتباط الجبهة بتنظيم “القاعدة”، وهو ما بدا واضحاً من خلال العلم الموجود في المقابلة.

هل سقطت قناة “الجزيرة”؟ بسرعة خرج علينا مناصرو النظام السوري في سورية ولبنان… لشتم القناة. الشتم الذي يتكرر بمناسبة ومن دون مناسبة. لكن بعيداً عن ردود الفعل السريعة وتلك التي تشتم قناة “الجزيرة” منذ انطلاق الثورة السورية وحتى اليوم، لا شكّ في أن المقابلة “ضربة إعلامية” تحسب لمصلحة الفضائية القطرية. لكن ملاحظات كثيرة تؤخذ على المقابلة، ومن خلفها على “الجزيرة”. ومجدداً لعلّ الانتقاد الأكبر هو تعاطف أحمد منصور التام مع الجولاني، مع خطابه، ومع مختلف ردوده، الطائفية منها، وغير الطائفية. بدا أحمد منصور بنبرته الهادئة، ببساطة مروّجاً لخطاب جبهة النصرة، أكثر منه محاوراً زعيمها. يطرح عليه الأسئلة التي يريدها، يستفيض ويجمّل أفكار الجولاني. هذه المرة لم يكن أحمد منصور محاوراً، كان هو نفسه مجرد “شاهد على العصر”.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

رسائل الجولاني: لا مراجعة استراتيجية ولا تطمين لـ”سورية الجديدة”/ أرنست خوري

يختلف تقييم المضمون الذي أتت به المقابلة التلفزيونية الأخيرة لزعيم جبهة النصرة ومؤسسها، أبو محمد الجولاني، بحسب زاوية التناول والمعيار الذي يتم وضعه للتقييم. لكن إن وجب إطلاق حكم عام لجوهر ما صدر عن الحوار، وفق الآمال التي كان يعقدها البعض على ما يمكن أن يصدر من مقابلة فضائية “الجزيرة”، أمكن اعتبار أنه لا نقلة نوعية في أدبيات التنظيم العسكري الأقوى حالياً في سورية لناحية تقديم خطاب جديد يستوعب جميع الأطراف في جبهة واحدة لإسقاط النظام ووضع ملامح مشروع ولو أولي لما قد تكون عليه “سورية الجديدة”، ديمقراطياً وتعددياً وتنوعاً، تتسع لجميع المكونات المذهبية والعرقية. ذلك أن ما صدر عن الرجل من تمسك بسرديّة دينية مذهبية “قاعدية” تجاه العلويين والدروز “الخارجين عن الإسلام”، بحسب ادعاء الجولاني، والمسيحيين وفرض الجزية عليهم “إذا أنشأنا الدولة الإسلامية”، لا يؤدي إلا لزيادة مخاوف، محقة في جزء كبير منها، داخلياً وخارجياً.

لكن في الـ”إذا” التي تخللت مرات ثلاث عبارة “إذا أقمنا دولة إسلامية”، يكمن الوجه الآخر من الميدالية، أو الصفحة الثانية من الخطاب الذي أتى على شاكلة مقابلة تلفزيونية غير نقديّة بتاتاً.

يمكن انطلاق التقييم تحديداً من النقطة المركزية التي دار حولها سجال سبق بثّ المقابلة، تتعلّق بعلاقة جبهة النصرة بتنظيم القاعدة وما قيل عن احتمال إعلان الرجل الانفصال عن التنظيم الأم ليتحرر من موجبات تشدُّد ديني، ما من شأنه، لو حصل، أن يسهّل التعاطي الداخلي السوري والخارجي مع “جبهة نصرة جديدة معتدلة” في إطار أوسع من المعارضة السورية المسلحة. لكن ما حصل هو أن الجولاني أحبط التوقعات التي كانت تفيد باحتمال إعلان فك الارتباط وبالتالي انتصار تيار أبو ماريا القحطاني، الداعي إلى حصول هذه الخطوة على حساب تيار أبو قتادة الفلسطيني “الأرثوذكسي”، لناحية بقاء “النصرة” مجرد فرع سوري لتنظيم “قاعدة الجهاد”. وكأن الجولاني أصرّ على إحباط رواية الانفصال، فكرّر لمرات عدة ذكر “الدكتور أيمن حفظه الله”، في إشارة إلى زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري، والتشديد على أن “التعليمات التي تصلنا” (من قيادة القاعدة)، تنص على ألا نحوّل بلاد الشام “حتى الآن” إلى منطلق لمهاجمة المصالح الغربية، تاركاً باب التهديد مفتوحاً.

بتثبيت الجولاني لعضوية جبهة النصرة في “نادي تنظيمات القاعدة”، يصبح أسهل فهم، لا تبرير، المواقف التي أطلقها الجولاني في مقابلته ـ خطابه. وإن كان منطقياً أن الكلام الوارد على لسان الجولاني نال رضى فئة سورية باتت تفضّل أي بديل عن نظام الأسد، فإنّه لم يؤدِّ، بالنسبة لكثيرين، من الحريصين على الثورة وإسقاط نظام الأسد، إلا لتعزيز رواية النظام وحلفائه، بما أن “النُصَيريين العلويين والدروز، خارجين عن الإسلام”، وبما أن الرجل وجبهته يريدان “إعادتهما” إلى الإسلام، ولأن المسيحيين “حتى الآن لم نفرض عليهم الجزية”، وهي جميعها أدبيات من شأنها لدى كثيرين أن تعزّز رواية النظام عن ادّعاء “حماية للأقليات” في وجه مَن يريد إما استئصالهم أو التعاطي معهم كأهل ذمّة…

حتى ما يرى فيه البعض مؤشرات “تهدئة” إزاء “الأقليات”، فإنها جاءت في سياق الوعيد، من خلال تشديد الرجل على أن جبهة النصرة “لا تقاتل سوى من يقاتلها حتى الآن”. ولا تتضمن “حتى الآن” سوى إبقاء لورقة الانتقال إلى المرحلة الثانية المحتملة، حيث تتغيّر المسلكيات “إذا أقمنا الدولة الإسلامية”، وعندها يبقى تخمين شكل التصرف مع مكونات دينية أصيلة في المجتمع السوري لها ما لجماعة الجولاني من حقوق وواجبات.

في المقابل، يرى آخرون أن الجولاني ظهر كرجل سياسي هادئ في مقابلته على عكس رموز تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وهنا يبدو كل تفصيل مهمّاً، حتى انتقاء المصطلحات. فما يسميه تنظيم “داعش” “حزب اللات”، يقول عنه الجولاني “حزب الله” أي اسمه الأصلي. هو حزب، أوضح الجولاني، أنه لن يقاتله في الداخل اللبناني بل في سورية، كونه “سيسقط في لبنان فور سقوط نظام الأسد”، في هذه الإشارة إبطال لجزء من سرديّة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله تخويفاً من “وحش النصرة” و”داعش” في إطار الحرب الإعلامية التبريرية لمشاركة الحزب كطرف أصيل في حرب النظام السوري. وظلّ الموقف من “تنظيم الدولة” (لا تزال النصرة ترفض استخدام مصطلح داعش)، “ناعماً”، وإن كان الجولاني تحدث بصريح العبارة عن أن “جماعة الدولة” مثلما دأب على تسميتهم، “طعنتنا من الخلف في القلمون بينما نحارب حزب الله”، من دون أن يخرج عن الرجل كلام أوضح ضد “داعش”، حتى حين قرر محاوره أحمد منصور أن يطرح سؤالاً “تحليلياً” عن رأي الجولاني بسبب هذا السلوك لـ”داعش”، فاكتفى الجولاني بالردّ أن “هذه هي سياستهم” من دون إضافة.

في الرسائل الخارجية، ظلّ كلام الجولاني سلبياً تجاه جميع الدول تقريباً، على الرغم من تشديده على أن “جبهة النصرة لا تكفّر المسلمين”. سمّى حصراً الولايات المتحدة و”التحالف الدولي” و”أوروبا” عموماً على اعتبار أن “كل الغرب يسعى للإبقاء على نظام الأسد”. وفي الإصرار المثالي للجولاني على أن جبهته لا تتلقى دعماً من أحد على الإطلاق، إقفال نظري على الأقل للباب أمام الحديث مع أي طرف، وهو ما يستحيل في حسابات إسقاط النظام، المدعوم من كتلة إقليمية ودولية وازنة. كما أن السلبية التي لمّح فيها إلى الائتلاف السوري مثلاً، بحديثه السلبي عن “المعارضين في الخارج”، فهي بدورها إشارة غير مطمئنة بالنسبة للساعين وراء جعل الجهود السياسية والعسكرية المعارِضة تصبّ في خانة واحدة، هي الانتقال إلى مرحلة ما بعد الأسد.

على صعيد آخر، يتوقف أحد أبرز المتخصصين السوريين بشؤون الفصائل الجهادية، أحمد أبا زيد، في تعليق نشره على صفحته في “فايسبوك”، مليّاً عند تناول الجولاني علاقات “النصرة” مع الفصائل الأخرى في “جيش الفتح” بشيء تراوح ما بين التسييس والعمالة والتوجيه، “وهذه تهم ومزايدات خطيرة في ظل تحالف النصرة مع هذه الفصائل بالذات وحاجتها إليها”، على حد تعبير أبا زيد. أصلاً، فإنّ كلام الجولاني عن جيش الفتح، على الرغم من مساحته القصيرة في المقابلة التي دامت قرابة الساعة، كان كافياً للتقليل من أهمية وحجم التحالف الذي يجمع حالياً النصرة مع فصائل سورية معارضة أخرى في إدلب والقلمون، وذلك في توصيف الرجل للتحالف على أنه مرحلي جزئي تحكمه الشورى ولا ينطبق عليه لقب التحالف حتى.

العربي الجديد

 

 

 

 

الجولاني وأوهام الهويات الآنية/ نوّار جابر

انتظرَ سوريون كثيرون أميرَ جبهةِ النصرة، أبو محمد الجولاني، على قناة الجزيرة في مقابلةٍ حصريّةٍ، وحتى إنَّ النظامَ كسرَ الموعدَ الدوري لقطع الكهرباء عن الساحل السوري كاملاً، وهو مجدٌ لا يحصلُ عليه السوريّون، إلا إنْ خرجَ الأسدُ في مقابلةٍ تلفزيونيّة، أو صعد إلى منبرٍ ما لإلقاءِ خطابٍ أو ما شابهَ. ويُكرِّس النظامُ بهذه الحركة قرينَه الآخر. وكأنهُ يراد من السوريين أن يرْوا في الجولاني الرئيسَ الآخرَ للبلاد، وأن يجروا المقارنات.

يحقُّ للجولاني ساعةَ كهرباء كاملةً مثل الأسد، ويحقُّ له طرحُ ما يُريدُ، وعلى شاشةٍ أكبرَ وأكثرَ اتساعاً، هي “الجزيرة”. بالمعنى، يبدو أن اتفاق النظام السوري مع الجولاني واضح، في تثبيت معنى متخيَّل، يفترضُه النظامُ السوريُّ والجولاني، في آنٍ واحد، على أن خيارات الشعبِ السوري محدَّدة، فشعارُ النظام “الأسد أو لا أحد”. وبالتالي، كُل من يسكنُ ويعتاشُ تحت حكمِه سيكونُ أسدياًّ وتابعاً للأسد بالمطلق. والجولاني يُتحِفنا بما يُتحِفنا به النظام كتقانةِ للعيش، ويقول: “السوريّون يرحِّبون بنا، ويحبّون جبهة النصرة وتنظيم القاعدة”، ويُضيف “الناس يُريدون حُكم الشريعة، ويؤيّدون الأحكام الشرعية كافة، ولا يُريدون غيرها”.

.يُساغ لحمَلة السلاحَ في سورية تبنّي هويّة السوريين، والحديثَ باسمها، ويُصبح المُسلِّح بشكل سريع نافياً لآخريَّة الآخر، فلا يعتبِر حامِلُ السلاحِ غيرَهُ موجوداً، ولا يظنُّ حتى بوجودِه. فيطغى الكلامُ الرغبَوي والمفتَرض، ويتشكّل معنى للهويّة السوريّة الجمعية برأي الجماعة المُسلَّحة، ويُمنَع منذ تشكُّلِه في ذهنِهم وتشكيلِهم الإيديولوجي التفكيرُ بسواه. تتشابَه محاولاتُ تكريس الهويّةِ ما بين التفكيرِ السلطوي الأسدي وتفكير الجولاني، وبتقنيّة مُتشابهة في طرحِها على المجتَمعِ السوري.

فُيختزل الزمن، والبُعد التاريخي الثقافي لتشكّلَ الهويةُ السوريّةُ المديدةُ بمعنى إسلامي متشدِّد مع تنظيمِ القاعدة، وضدَّ العالم بأسرهِ، أو بهويةٍ أسديّةٍ شيعيّة العمقِ إباديّة المظهر. في هذا الانغلاق اللاهوتي، يتمُّ إظهارُ السوريّين بأقسى مظهر، وبمظهرٍ أحاديٍّ يُحوِّل الزمنَ الانتصاريَّ للمسلَّح إلى هويّةٍ رائجةٍ، يتبنّاها السوريّون بكلّ يُسْرٍ وسهولةٍ، من دون انتخابِهم أو مساءلتِهم عن آرائهم. الهويّةُ الانتصارية التي تسود آنية، ولا تُشكِّلُ هويّةً ثابتة، لها بُعد مستقبليٌّ إلا في ذهنِ المنتصرِ.

“المجتمعُ السوري يُخبئ خياراً جوهرياً لزمنٍ أفضل، وكُل ما يجري تحتَ حكمِ السلاحِ والحربِ ليس سوى رجاء في الخلاص”

حينما يقولُ الجولاني إن السوريّين يحبّون تنظيم القاعدة، فهو يحاولُ الخلط بين صفة المُحرِّر من النظام وصفاتِ الهويّة السوريّة المستقبليّة والحتميّة. فمن يؤيّدُ القاعدة اليوم في سورية يؤيِّد انتصارَها الداخلي، البُعد الزمني حاضرٌ بالمطلق. ففي أجواءٍ أخرى، لن يتورَّط السوري بالبداهَة في تأييد مشروع القاعدة. فبعيداً عن الصفة المذهبيّة مثلاً، أو الطائفيّة بالمعنى الأدقِّ، والتي تجعلُ السوري حالياً يؤيِّد بُعداً مذهبياً مقاتلاً، فهناك خيوطٌ أكثر عمقاً وغرابةً عن هويةِ هذا المجتمعِ، المُكرَّسة والمديدة، تجعله منفصِلاً عن أي مشروع للقاعدة مثل موقفِه المعتدل من الدين. يُمكنُ اعتبارُ صفةَ الاعتدال تشملُ المقاربةَ الواقعية للحياة، وتقبُّل مفهومِ الدولةِ الحديثة بإيجابية عالية، لا بل الإحساسِ بها، وبمدى أهميَّتِها احتياجاً أساسياً لدولة حديثة. في النزعة الآنيَّة الشغفةِ الانتصاريّة، يبدو السوري مؤيِّداً لأي انتصارٍ تُحرزُه القاعدة، وسيكونُ شاكراً لأي لقمةٍ خبز تأتيه بها، لكنَّ هذا لا يحسِمُ هويتَه، لا في الماضي ولا الحاضر والمستقبل.

الهويةُ واختيارُها فعل صراعي، فيه الكامن والمرغوب بهِ وفيه الحُلم، الرغبة والثمن. والسُرعة في حسمِ الهويةِ فخٌّ، ومحاولةُ الدفعِ الدائمةِ لشكلِ الهويةِ السوريةِ ورطةٌ، فأي تكريسٍ لهويَّة الشعب حالياً سيُثبتُ العكس، لأسبابٍ عدة، منها عدمُ ارتياحِ السوري خلال مقتنياتِه البسيطة، ابتداءً من البيت، وصولاً إلى المدرسة والمَعمل والمستشفى، والأهمّ وجودِه الحياتي. ما يجعل مُركبُ هويته حالياً بسيطٌاً واتِّباعياً لا إرادةَ فيه، فيتبعُ النصرةَ وأخواتها، وأيَّ فصيلٍ مهما كانت هندستُه الشكلانيّة فقط ليتخلص من النظام. ولا يُمانعُ حينَها من أن يكونَ الشعارُ قاعدياً أو جولانياً.

يتسرَّع الجولاني، أو غيرُه، في حسمِ هويةِ السوريّين واختياراتهم. الجوهرُ في الهوية والانتماء بطيءُ التشكِّل، لكنَّ ملامحَه الأساسيَّة لن تكونَ كما يُريدُ صاحب السلاح، ولا حتى المُقاول الخارجي. المجتمعُ السوري يُخبئ خياراً جوهرياً لزمنٍ أفضل، وكُل ما يجري تحتَ حكمِ السلاحِ والحربِ ليس سوى رجاء في الخلاص. الهويةُ والاختيار يفترضان توقُّفَ الحرب، سقوطَ الأسد، عودةَ دورةِ الحياةِ وتنظيمِ المجتمع بما يخدمُ يومياتِه العاديّة. حينَها، قد يتمُ، وعلى نارٍ هادئةٍ، تحديدُ خيارِ السوريّين.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى