صفحات سوريةطارق عزيزةعلي العبداللهعمار ديوبميشيل كيلو

عن حوار “الجولاني” مع الجزيرة –مقالات لكتاب سوريين

الجولاني سلفي و”مكثر”/ علي العبدالله

في الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة القطرية مع أبي محمد الجولاني، وبث على حلقتين، كرر المذكور مواقف حركات السلفية الجهادية من أولوية “الجهاد” إلى قتل المرتد بعد استتابته مرورا بتطبيق شرع الله ورفض النظم الحديثة(الانتخابات، البرلمان، الدستور …الخ) دون التفكّر بمستدعيات الواقع المعاصر بعامة واللحظة السورية بخاصة.

صاغت حركات السلفية الجهادية(تنظيم الجهاد المصري، جماعة المسلمين، جماعة شباب محمد، تنظيم القاعدة… الخ) منطلقات فكرية في ضوء معايير نظرية مرتكزها الرئيس “البراء والولاء” و”الالتزام بمبدأ الحاكمية لله” و”تطبيق الشريعة”، شرع الله كما يقولون، وفق منطوق النص و”الاقتداء بالسلف الصالح”(الأجيال الثلاثة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام) و”إقامة دولة الخلافة”، وأعلنت الجهاد ضد الأنظمة الكافرة.

لم يخرج الجولاني عن هذه المسطرة، بل كررها بصيغ ركيكة وفجة، وكان لافتا أن الصحفي كان مستسلما لرثاثته ولم يواجهه بأسئلة تكشف ضعف أساسه الفكري وتعارضه مع منطلقات القرآن الكريم في قضيتي قتل المرتد وتطبيق شرع الله بخاصة.

واقع الحال إن قضية الردة، هذا إذا سلمنا أن أتباع المذاهب الإسلامية من غير السنة مرتدون، كما يزعمون، رغم إيمانهم بالله والرسالة والميعاد/يوم القيامة، وهي أصول العقيدة كما تواضع عليها الفقهاء، ليست بجديدة على الاجتماع الإسلامي فقد طرحت بتعارض فج مع النص المؤسس: القرآن الكريم الذي تعاطى مع ظواهر ارتداد عرفتها التجربة الإسلامية في مراحلها الأولى، وكان جازما وحاسما في الإقرار بحرية الاعتقاد وبحق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية وتحمل مسؤولية اختياره يوم القيامة، وآياته التي قرر بها هذا الحق واضحة وصريحة ولا تحتاج إلى شرح أو تفسير أو تأويل قال تعالى:”لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”( البقرة: 256) وقال:” وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”( الكهف:30) وخاطب النبي في آيات عديدة محددا مهمته ودوره: بشيرا ونذيرا ومذكرا …الخ، وحدد العلاقة مع غير المؤمن “لكم دينكم ولي دين”(الكافرون:6)

حاجج أصحاب موقف قتل المرتد إن هذا قبل أن يدخل الإنسان الإسلام أما بعد أن يدخل فيه فيختلف الموقف ويكون للارتداد تبعات وعقاب هو القتل بعد الاستتابة.

غير ان للقرآن الكريم موقفا واضحا وحاسما على الضد من هذا الرأي، فقد ذكر الردة والارتداد في آياته ولم يرتب على الموقف حدّا بل جعل أمر المرتدين لله يحاسبهم يوم القيامة قال تعالى:” ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون”(البقرة:217)، تقول الآية ارتد ومات كافرا ولم تقل ارتد وقتل، وقال أيضا:” يحلفون بالله ما قالوا كلمة الكفر ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا ان أغناهم الله ورسوله من فضله فان تابوا يك خيرا لهم وان تولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير”( التوبة:74). آيات واضحات حاسمات جازمات أن لا حد للردة في القرآن الكريم، وان الحكم في قضية الاعتقاد عائد إلى الله وحده، حق لله، وموعد الحكم فيها يوم القيامة “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد”(الحج:22).

وقد جاء فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مؤكدا لهذا التوجه تجلى في وقائع كثيرة لعل أوضحها ما دار بينه وبين عجوز طلب من النبي أن يقبل تراجعه عن البيعة فرفض النبي فراجعه ثلاث مرات ولما يائس ترك المدينة المنورة فلم يرسل الرسول (عليه الصلاة والسلام) من يرجعه ويقيم عليه الحد المزعوم بل علق قائلا:”المدينة مثل الكير تنفث الخبث”.

أما القضية الأخرى الهامة التي طرحها الجولاني فقضية “شرع الله”، والذي اعتبرها مقياسا للتعاطي مع مختلف القضايا. فهذه صيغة شديدة العمومية، إذ المتعارف عليه أن صفة “شرع الله” تطلق على كل ما انزله الله على نبيه، لكن هذا الشرع واسع وعام فيه العقائد والعبادات، فيه قيم سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، وأمور معيشية، فيه المحكم والمتشابه حتى شاع وصفه بحمال أوجه، وفق تعبير ينسب للخليفة الرابع علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه)، وكان فهم أجزاء منه مصدر خلاف بين المسلمين في مراحل التاريخ الإسلامي الطويل (خلاف فرقهم حول طبيعة الإله بين منزهة ومجسدة وحشوية، وحول حرية الإنسان ومسؤوليته بين قائل بالجبر وقائل بالاختيار، وحول طرق التشريع عند عدم وجود نص بين قائل بالإجماع وقائل بالقياس(اغلب المذاهب الإسلامية عدا الشيعة) وقائل بالاستحسان(الأحناف) وقائل بالمصالح المرسلة(المالكية). الشافعي رفض الاستحسان والمصالح المرسلة، ونجم الدين الطوفي قدّم المصلحة على النص عند تعارضهما… الخ)، لذا لا تشكل صيغة “شرع الله” إجابة كافية لتحديد طبيعة التصرف السياسي، كان لأستاذي الدكتور محجوب عمر(رحمه الله) رأي في مقولة الإخوان المسلمين “الإسلام هو الحل” طالب فيه بتحديد ماهية الحل الإسلامي حتى نحكم له أو عليه.

وأما قضية الخلافة/الدولة فليست جزءا من العقيدة الإسلامية، فمع تسليم الإسلام بضرورة الدولة لإدارة الاجتماع الإنساني، فانه لم يطرح، إن على مستوى العقيدة أو الشريعة، أسسا لبناء دولة ولا خططا لطرق تشكيلها وإدارتها، وتركها لاجتهاد الناس في إطاري الزمان والمكان ووضع الشورى قاعدة لإدارة شؤون السياسة، وكإطار عمل يضبط أداءها، كي تعبر عن رضا الكل الاجتماعي. وبالتالي لم تكن الدولة التي أقامها الرسول في المدينة المنورة فرضا عقائديا ملزما بل تعبيرا عن حاجة، عن ضرورة اجتماعية، وقد عكست الطرق المتباينة التي اختير فيها الخلفاء الراشدون دور المسلمين الأوائل في الاجتهاد والتأسيس لعملية متروكة للناس ومفتوحة على كل الخيارات، وهذا يفتح الباب أمام المسلمين لتبني الشكل المتناسب مع شروط المكان والزمان ويسمح، على الضد من موقف الإسلام السياسي بعامة والسلفية بخاصة، بتبني الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإجراء انتخابات ووضع دساتير وإقامة دولة حديثة. كما عكست أجوبة الفقه الإسلامي على أسئلة ضرورة الإمامة وشروطها والشروط الواجب توفرها في الإمام/الرئيس، أنها بنت بيئتها ولحظتها فقد قالوا إن من شروطه أن يكون قرشيا، وهذا دليل واضح أنها ليست بنت العقيدة بل بنت ظروفها وبيئتها، حيث سيادة القبلية ومكانة قريش في العرب والإسلام، إذ من غير المعقول أن تنطوي رسالة جاءت لهداية الناس أجمعين، دون قيد من مكان وزمان، أن يكون الإمام فيها قرشيا حصرا، ناهيك عن سيادة فهم غير دقيق في أوساط الإسلاميين لمسألة الدولة ناجم عن خلط في التعاطي مع المفاهيم القرآنية المتعلقة بالموضوع وتجاهل دلالة الألفاظ المستخدمة في هذا المجال مثل اعتبارهم مفهوم “الحكم بما انزل الله” متعلقا بالسياسة/الدولة في حين انه في واقع الأمر يتعلق بالقضاء والفصل بين الناس في قضايا الحقوق والمصالح، بينما في قضايا السياسة/الدولة استخدم الذكر الحكيم مفردة أمر، “وشاورهم في الأمر”،  و”أمرهم شورى بينهم”، ووصف رجال الدولة بـ “أولي الأمر”.

لقد ارتبط الموقف السلفي تاريخيا بالأزمة، فمن مؤسسه أحمد بن حنبل(780- 855) الذي رد على دخول الدولة العباسية في مرحلة غروب بطرح فكرة التمسك بظاهر النص والاقتداء بالسلف الصالح للخروج من المأزق، إلى ابن تيمية(1263- 1328) وتلميذه ابن القيم(1292- 1350) اللذين أعادا بعث التيار من مرقده في لحظة انحطاط عميقة اقترنت بغزو خارجي(المغول) دمر حواضر العالم الإسلامي الرئيسة مرورا بمحمد بن عبدالوهاب(1703- 1792) الذي واجه هيمنة البداوة وانحطاطها على مجتمعات الجزيرة العربية بتكفير المجتمع والعمل على بعث الالتزام بحرفية النص والاقتداء بالسلف الصالح إلى الباكستاني أبي الأعلى المودودي(1903- 1979) الذي رد على مأزق الدولة في باكستان بتعميق الحالة بابتداع مقولة الحاكمية والترويج لها وتلميذه سيد قطب(1906- 1966) الذي رد على عنف النظام الناصري ضد الإخوان المسلمين بتكفير الأنظمة في الدول الإسلامية، ومحمد عبدالسلام فرج(1952- 1982) وتكثيفه للموقف في كتيبه الفريضة الغائبة بـ”الجهاد” ردا على الصدام مع النظام المصري أيام السادات.

لقد عبر التيار السلفي عن نفسه في استجاباته على تحد قائم وقدّم إجاباته في مناخ فكري وأدوات معرفية متاحة في مراحل مختلفة، كانت للأسف، نكوصية تعود إلى الماضي لاجتراح حل للحاضر والمستقبل، وضعته في تضاد حاد مع الواقع والعصر.

المدن

 

 

 

 

لماذا الجولاني و… على حلقتين؟/ عمّار ديّوب

لم يخرج الجولاني من جلده. قال الأمير: «النصرة فرع لتنظيم القاعدة والدكتور أيمن الظواهري هو الزعيم، ونحن في القاعدة لا نعترف بكل مؤسسات الدولة الحديثة، من دستور مدني وانتخابات وديموقراطية وجيش بعقيدة وطنية وغيرها. ننطلق من الشريعة ومن آراء علمائنا ونسعى الى الخلافة، ولذلك نشكّل جيوشنا الجهادية في سورية وكل دول العالم، ولن نتوقف عن ذلك حتى يوم القيامة». ويضيف: «كل اللغو عن الانفصال عن القاعدة لا علاقة لنا به». الجولاني يقطع لجميع مستمعيه، سوريين وسواهم، بأن لا علاقة له بالثورة السورية، ويبتغي سلطة دينية في الأماكن التي تتحرّر. وبخصوص «الإخوان»، عليهم العودة إلى الجهاد وترك الانتخابات وكل مفاهيم العصر للحداثيين. أما الأقليات، فعلى المسيحيين دفع الجزية، والعلويين والدروز وسواهم العودة إلى الإسلام، والسنة أن يلتزموا بما تريده النصرة لها فيُنصرون ولا يذلون مجدداً.

الجولاني بخطابه هذا، يعمّم الأصولية، فيما إسقاط النظام ليس المهمة الأساسية! الأصولية هدف داعميه لتحقيق مصالحهم في سورية وغيرها. ولكنه يقدّم خدمة كبرى للنظام ولحلفه، فخطابه يتضمن رفضاً لكل حل سياسي وأي تفاوض مع الآخر كونه يجب أن يخضع للأمير، فهو الناطق باسم الدين وتُقدم له فروض الطاعة.

فتقديم الجولاني على حلقتين في «قناة الجزيرة»، بعد التقدّم الواسع في سورية ضد النظام، سيساعد الأخير في تقبّل مواليه لخطابه مجدداً، وأنّه هو المنقذ الوحيد، وقد ساعده في الإتيان بأكثر من سبعة آلاف عنصر من الحرس الثوري والميليشيات الشيعية العراقية إلى اللاذقية ودمشق، خصوصاً بداية حزيران (يونيو) الجاري! وهذا يعني أن هدف المقابلة ليس الضغط على النظام ليذهب نحو الحل، بل تحطيم التطورات المتتالية في كل سورية، والدفع نحو مستنقع الحرب الأهلية الطائفية أو الحل السياسي الطائفي.

الجولاني بخطابه الجهادي، يكرّر ما فعله الزرقاوي حينما شوّه الصراع ضد الأميركيين، ونقله من الوطني إلى الطائفي وضد الشيعة، وسمح لإيران باستلام الحكم عبر ميليشياتها، وكذلك كرّر دور «داعش» في تشويه الصراع ضد الحكم في 2011 في العراق، ونقله إلى صراعٍ طائفي لا يمكن الانتصار فيه. ولكن هذه المرة لصالح الأميركيين وبالتوافق مع إيران، بما يعيد سيطرتهم على العراق لكن وفق الشروط الأميركية. الجولاني وجبهته يقيّدان التقدّم نحو حسم المعركة ضد النظام، كما يدفعان «داعش» الى التحرّك بقوة ضد النصرة تحديداً، وضد جيش الفتح لمصادرة هذا التقدّم. فـ «داعش» يريد تدعيم سلطته أيضاً، وبالتالي يتقدّم في تدمر وحلب ونحو درعا. إذاً، الجولاني يتيح المجال لتقدّم الجهادية ودفع الصراع نحو حلّ سياسي ولكن طائفي. ولأن شروط الصراع حالياً لا تسمح بذلك، فإن إرباكاً جديداً يحول دون الحل السياسي، وثمة حروب متصاعدة جديدة.

النظام يتحالف مع «داعش» ضد «النصرة»، والنصرة تحشد بخطابها كثراً من الموالين خلف النظام بعدما فقد شعبيته في شكل كبير، ورفضت غالبية مواليه الحرب حيث مئات آلاف الشباب والمصنّفين موالين يرفضون الالتحاق بالخدمة العسكرية. النصرة بذلك، تدفع الصراع نحو الطائفي أكثر فأكثر، وبذلك، يُنقَذ النظام من إمكانية سقوطه، ويتحكّم الخارج بكل مجريات الصراع. ربما كان هذا هدف ظهور الجولاني. شكّل دعم «جيش الفتح» أملاً كبيراً بدفع الصراع نحو الحل السياسي، لكن داعش والنصرة والجهاديات والتحكّم الخارجي بها ساعية إلى حلٍّ طائفي، وفي هذا تحقيق لمصلحة الدول الداعمة لها وكذلك للنظام!

خطر الجولاني والجهاديات يتبدى يومياً، إنه تصفية الثورة وإعادة إنتاج النظام في شكل أصولي وبما يعزز الطائفية، وتحكّم الدول الإقليمية والعالمية بسورية. وهذا النظام الجديد سيحقّق بدوره مصلحة إسرائيلية أكيدة، ويمكن هنا ملاحظة التسريب الإخباري من إسرائيل بأن على الأسد أن يذهب إلى اللاذقية، أي أن إسرائيل تريد نظاماً طائفياً، وبالتالي إنهاء قيام دولة سورية قوية على حدودها، وتبرير وجودها كدولة على أساس ديني، كما تعرّف نفسها في العقد الأخير بخاصة. فكل دول المنطقة تقام عندها على أساس ديني!

إذاً، بعكس طوباوية الأماني، من أن النصرة ستصبح فصيلاً في الثورة، وهذا من أكبر الأخطاء لدى تيار كبير في المعارضة الليبرالية، تعرقل النصرة تقدّم الحرب ضد النظام وتدفع مواليه إلى أحضانه مجدداً، وتعمل لحلّ سياسي طائفي. هنا ربما كانت تلتقي مع الإخوان المسلمين وداعميهم. نقد الجولاني للإخوان لا يعني عدم استثمارهم في جبهة النصرة، فخطابه الجهادي يفيد بأن تعاد للإخوان «المعتدلين» الأهمية والاعتبار في المعارضة بعدما هُمّشوا كثيراً. لكن النظام على رغم خدمة الجهاديين له، ضعيف للغاية، ما اضطر حليفه الرئيس الإيراني لقيادة المعارك والإتيان بالحرس الثوري، وهو ما تستفيد منه إيران في تقوية موقفها في الملف الأمني والإقليمي، وفي أي حلّ سياسي مستقبلي. ووفق التعقيد الأخير، فأي حل سياسي سيكون طائفياً، كما لبنان وما يدفع إليه العراق.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

عن “إخوان القاعدة”/ طارق عزيزة

المقابلة التي بثتها «الجزيرة» مع أبي محمد الجولاني، مؤسس وزعيم «جبهة النصرة لأهل الشام»، فرع «القاعدة» في سورية، أثارت ردود فعل سلبية لدى سوريين كثر ومتابعين للشأن السوري. من التساؤل عن غايتها، إلى قانونية «الترويج» لتنظيم مُدرجٍ على لوائح الإرهاب. وطالت الانتقادات أحمد منصور، الصحافي الذي أجرى «الحوار». فمنصور، الشهير بأسلوبه الاستفزازي والسجالي مع ضيوفه، ظهر بأسلوب مختلف في حضرة الجولاني، لدرجة أن بعضهم رأى اللقاء نوعاً من «إعلان ترويجي» للجبهة وزعيمها، و «دردشة بين صديقين حميمين»، وليس حواراً صحافيّاً.

لن يكون هذا مستغرباً عند النظر إلى خلفية أحمد منصور وتوجّهاته الإخوانية، معطوفةً على سياسات «الجزيرة» الداعمة لـ «جماعة الإخوان المسلمين». والإخوان اليوم، عبر جناحهم السوري، يعملون على تلميع صورة «النصرة»، وترويجها سورياً وإقليمياً، خصوصاً في ضوء التقدّم الميداني لـ «جيش الفتح»، التحالف المكوّن من مجموعات جهادية، بعضها مرتبط بالإخوان، وتشكّل «النصرة» عموده الفقري. لذا يسعى الإخوان إلى إبعادها ما أمكن عن «الجهاد العالمي»، وقد دعوا الجولاني مراراً إلى فكّ ارتباطه مع «القاعدة»، حتى أن إحدى الدعوات أطلقها محمد حكمت وليد، المراقب العام للجماعة في سورية، غير أنّ الجولاني لم يلبّ دعوتهم بعد. بالتالي، ما قامت به «الجزيرة» يتناغم مع توجّهات الإخوان، وسياسة القناة الداعمة لهم.

على صعيد آخر، فالتقارب الحالي بين الإخوان السوريين و «القاعدة» ممثلة بفرعها السوري، رغم ما بينهما من «اختلافات» ظاهرة، يشكّل مناسبة للعودة قليلاً إلى الوراء للإضاءة على جوانب من تاريخ مشترك، أدّى فيه إخوان سورية أدواراً مهمّة، مباشرة وغير مباشرة، ساهمت في ظهور «القاعدة» وتطورها. الجولاني نفسه، في اللقاء الأول على «الجزيرة» (أجراه تيسير علوني قبل نحو عام ونصف العام)، قال إنه وجماعته «ثمرة من ثمرات الجهاد العالمي»، وأشاد بمقدّماته على يد الإخوان في مصر وسورية، ليصل إلى أفغانستان حيث تبلور هناك.

يروي تاريخ «القاعدة» أنّ أسامة بن لادن، مؤسس التنظيم، استلهم فكرته من مرشده الروحي عبدالله عزام، أحد «أعلام الجهاد في القرن العشرين»، الذي أنشأ «مكتب خدمات المجاهدين»، إحدى أهم الهيئات التي دعمت «الجهاد الأفغاني» وأمدّته بالمقاتلين العرب. والشيخ عزّام، الفلسطيني الأصل والعضو في «الإخوان المسلمين»، كان مطلع الستينات، أثناء دراسته في كلية الشريعة بدمشق على صلة بمروان حديد مؤسس «الجهاد السوري»، وقد تأثّر عزّام بأفكار حديد عن «الطليعة الجهاديّة»، التي تقوم في جوهرها على فكرة قلة مجاهدة تقود المعركة وتعمم الثورة، وهي الأساس ذاته الذي قامت عليه «قاعدة الجهاد» (تنظيم القاعدة) فيما بعد. ينكر الإخوان وجود «صلات تنظيمية» مع مروان حديد وجماعته، لكن مذكرات قادتهم تشي بغير ذلك، سواء خلال أحداث ربيع 1964 حين قام الإخوان بتمرّدهم المسلّح الأول في حماه ضدّ سلطة البعث، ولمع فيها اسم مروان حديد، أو لاحقاً في السبعينات حين استأنف حديد نشاطه «الجهادي»، وتابع أنصاره بعد وفاته تحت اسم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين». وفي ذروة صراعهم مع النظام، فتح الإخوان باب التطوّع للجهاد في سورية، لاستقطاب الشباب المقاتلين من جميع أنحاء العالم، فأعلنوا في تشرين الأول (أكتوبر) 1980 عن قيام «الجبهة الإسلامية لإنقاذ سورية»، وكان ذلك من التجليات العملية المبكرة لفكرة «الجهاد العالمي».

تجدر الإشارة إلى كتابات لقادة من الإخوان السوريين، نظّروا للجهاد العالمي قبل «الجهاد الأفغاني» بسنوات. فقد ظهرت كتب للشيخ سعيد حوّى منتصف السبعينات، منها كتابه «نحو خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك». وأيضاً سلسلة حملت اسم «جند الله»، توزّعت على عشرة أجزاء تناول فيها حوّى كافة تفاصيل تهيئة «المجاهد»، وإعداده بدنياً وروحياً وتنظيمياً… وقد صدّرها بإهداء: «إلى من تتوفر فيهم صفات حزب الله وخصائصه».

إلى ذلك، زار حوّى «معسكر خالد بن الوليد» في أفغانستان، حيث خطب بالمجاهدين، مثنياً عليهم واصفاً إيّاهم بـ «قدوة الأمة الإسلاميّة كلّها». وثمّة آثار مكتوبة لكوادر من الإخوان وثّقوا تجاربهم «الجهادية» في أفغانستان أدباً وشعراً، كالمحامي محمد علي صوّان من محافظة إدلب، الذي ترك المحاماة عام 1980، ليلتحق بالمجاهدين. أمام هذه المشاركة الفعّالة لإخوان سورية في أفغانستان، لا عجب أن تحتلّ سورية المرتبة السابعة، من بين خمسة عشر بلداً عربياً، ينتمي إليها معظم «الشهداء من المجاهدين العرب». ومعلوم أنّ «القاعدة» ظهرت من رحم «الجهاد الأفغاني» وشكّل «الأفغان العرب» نواتها الأولى.

ويعدّ مصطفى ست مريم نصار، المعروف بـ «أبو مصعب السوري» أو «عمر عبدالحكيم» أحد أهمّ الإخوان السوريين الذين انخرطوا في صفوف «القاعدة». فقد عمل مدرّباً في معسكرات أفغانستان، وانضمّ إلى «القاعدة» سنة 1992. انتقل إلى أوروبا حيث نشط من هناك، وساعد «قاري سعيد الجزائري» في تأسيس «الجماعة الإسلامية المسلحة». ثمّ عاد إلى أفغانستان وبايع الملا عمر، وأسس «معسكر الغرباء» بدعم من طالبان. وبعد سقوط حكم طالبان تفرّغ «أبو مصعب السوري» للبحث والتأليف. من كتبه، «ملاحظات حول التجربة الجهادية في سورية»، وكتابه الأشهر «دعوة المقاومة الإسلامية»، أكبر نتاجه، وبفضله يراه بعضهم «منظّر الجيل الثالث من السلفيين الجهاديين».

هكذا، يبدو من المنطقي أنّ يكون عرّابو «القاعدة» في سورية اليوم، هم من رفدوها فكريّاً وبشريّاً بالأمس. وإنّ النظر إلى تاريخ «إخوان القاعدة» الحافل، يتيح فهماً أعمق للعبتهم الجديدة مع «جبهة النصرة – القاعدة». لعبةٌ تنمّ عن براغماتيّة وزئبقية «بلا حدود»، ترعاها قناة «الرأي والرأي الآخر».

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

مفارقة النظام الإسلامي/ ميشيل كيلو

تذهب المسألة السورية ببطء نحو المعادلة التي انطلقت منها، أو ترتبت عليها، وتلخصت في ثنائية النظام من جهة، وبديله الديمقراطي من جهة مقابلة. في هذه المعادلة التي اعتبرت من مسلمات السياسة السورية، كان من المحتم أن يترتب على سقوط النظام صعود بديله الديمقراطي إلى الحكم. لكن هذه المسلمة تعرضت لنقض خطير، بلغ حدود التقويض مع ظهور التيار الأصولي، ورفضه البديل الديمقراطي ومبدأ الحرية ناظماً لعلاقات الدولة بالمواطنين، والمواطنين فيما بينهم. وزادت سيطرة التيار الجهادي المسلح على العمل المقاوم من تهميش الخيار الديمقراطي وتعبيراته التنظيمية، بينما تراجعت، في الوقت نفسه، قدرات حامله المجتمعي والشعبي، بتراجع حضوره تياراً كان مسيطراً عند بدء الثورة، ثم انحسر إلى أن تشتت، وفقد القدر القليل من التماسك الذي كان له عند أول الحراك، في حين تفرقت تعبيراته السياسية أيدي سبأ، وانقسمت مواقفها، ودخلت أطراف منها في خصومة وصراعات مع غيرها، أملتها، في أحيان كثيرة، ما يسمونه في لساننا الشعبي “عداوة الكار”، النابعة من التنافس بين قوى متماثلة، أو متشابهة، على كسب الجمهور عينه.

في عام الثورة الثاني، حلت معادلة جديدة محل معادلة الحراك السابقة، حدها الأول النظام الأسدي، وحدها الثاني بديله الإسلامي الذي قال بحقه في الاستيلاء على السلطة، لأن التنظيمات الجهادية تلعب الدور العسكري الأهم في إسقاط النظام الأسدي، ولا بد من أن ترثه وتتولى الحكم بعده. ومع أن أحدا لم يصف هوية هذا النظام، أو يحدد ملامحه، فإن صعود تنظيماته أثار ردود أفعال، تلخصت في الآتي:

خوف كثير من المؤمنات والمؤمنين السوريات والسوريين من مجهولٍ يمثله نظام ليس هناك ثمة اتفاق أو إجماع على هويته بين رجال الدين أنفسهم وبينهم وبين الرأي العام، وحتى بين التنظيمات التي تعد به، ويرجح أن تصحب إقامته صراعات شديدة، ستنشب بين الجهات المسلحة المتنازعة على هويته، عوض البديل الديمقراطي الذي خالت قطاعات شعبية واسعة أنها تعرف ماهيته، أو على الأقل ماهية النظم المماثلة له في الخارج، والمبادئ التي سيقوم عليها، أخذ يبرز نظام بديل، مذهبي وغير مجرب، ليست مواصفاته محددة أو معلنة، يذكّر بنظامي ملالي إيران وطالبان اللذين يثيران ذعر ورفض سوريين لم يروا من البرنامج الإسلامي غير ممارسات “الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي قدمها التنظيم لهم باعتبارها تطبيق النظام الإسلامي الموعود، من دون أن تواجه بردود أفعال جدية، نقدية وواضحة، من رجال الدين والعلماء.

خوف القطاعات العلمانية من أن تكون الثورة التي وعدتهم بالحرية واحترام حقوق الإنسان والمواطن قد تلاشت إلى حد يضعهم أمام الاختيار بين النظام الأسدي القائم، القاتل والظالم، ونظام إسلامي تقول ممارسات “دولته” إنه سيكون أكثر جبروتاً وتشدداً وظلماً، سيتطلب التخلص منه تضحيات أكبر من تلك التي تقدم للخلاص من الأسد وعصاباته، لا شك في أن الشعب المنهك والممزق سيلاقي مشقة عظيمة في تقديمها، إذا ما نجح في العودة إلى وطنه، وتعرّض لعسف البديل التكفيري المرعب. وزاد من خوف القطاعين، الإسلامي والعلماني، ما واجهه الجيش الحر من قتل وتصفيات على يد تنظيمات جهادية، علماً أنه تنظيم جهادي يقاتل النظام القائم، يؤمن معظم السوريين أنه جهة تحميهم وتعدهم بالحرية، ويتساءلون: هل سيوفر من يقاتلون هذا الجيش مؤيديه من أبناء الشعب، أم إن سكاكينهم ستجز أعناقهم أيضاً، باسم حق المنتصر، وليس باسم ثورة تم تغييبها كثورة حريةٍ، تعهد الجهاديون ألا يسمحوا بانتصارها، لكيلا تقيم نظام الكفر الديمقراطي الذي يرفضونه؟

“لحسن حظ السوريين، أخذت قطاعات مهمة من التنظيمات الجهادية تدرك ضرورة التخلص من الضرر الذي تسببت به، وتقوم بخطوات أولية لتصحيح موقفها عبر تخفيف التزامها بفرض النظام الإسلامي خياراً وحيداً للسوريين، عليهم قبوله في جميع الأحوال”

يخشى العالم تحول بلد مفتاحي كسورية إلى دولة فاشلة ومارقة، تنتج الإرهاب وتصدره إلى أربعة أقطار الأرض، سينضم نظامها المقبل إلى نظامي طالبان وملالي طهران، ليقوض بكل تأكيد أمن وسلام المنطقة العربية، من بابها إلى محرابها، ويدفع بها نحو عصر كامل من حروب أهلية لا نهاية لها، ستضع القاصي والداني أمام أحد خيارين: تجاهلها بما يضمره من احتمال وصولها شبه المؤكد إلى كل مكان من العالم، أو التدخل فيها، وبالتالي، انتقالها إليه أيضاً. هذا التطور باتجاه البديل الإسلامي أجبر العالم على تقليص دعمه الثورة، وجعله يفاضل بين الأسدية وبديلها، بما أن تبدل موقفه النسبي من النظام والثورة التقى مع مخاوف قطاعين شعبيين سوريين واسعين سبق ذكرهما، أرعبتهما فكرة وصول التنظيمات الإسلامية المسلحة إلى السلطة، فإن الضرر الذي ترتب على صعود الأصولية الجهادية كان شاملاً في الداخل والخارج: السوري والعربي والأجنبي، أما نتيجته المباشرة فكانت تفضيل بقاء النظام على سقوطه. قد يقول قائل: إن التنظيمات الجهادية لا ذنب لها في أي شيء من هذا، وأرد بأنها مسؤولة، كل المسؤولية عنه، وكان في وسعها قطع الطريق عليه، داخليا وعربيا ودوليا، لو أعلنت أنها لا تريد الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح، وتقبل بتقرير مصير البلد عبر انتخابات حرة وعامة، تحت رقابة عربية ودولية.

واليوم، ولحسن حظ السوريين، أخذت قطاعات مهمة من التنظيمات الجهادية تدرك ضرورة التخلص من الضرر الذي تسببت به، وتقوم بخطوات أولية لتصحيح موقفها عبر تخفيف التزامها بفرض النظام الإسلامي خياراً وحيداً للسوريين، عليهم قبوله في جميع الأحوال. هناك اليوم من يجري مراجعات جدية لموقفه، ويقترب من قبول التوافق على أرضية سياسية محايدة وحرة، تحسم أمر النظام المقبل ونمط حكومته، عبر انتخابات حرة وعامة، ويبدل هدفه من مشاركته في الثورة، التي شرع يقر بأنها “ثورة شعب”، وليست فعلاً إسلامياً أو طائفياً، ويتعهد بعدم فرض خياراته بالقوة على الشعب، وبالتخلي عن المغالبة والقوة سبيلاً إلى السلطة.

بقي أن يتواصل هذا التحول، ويتبلور في عقد وطني، تتوافق عليه مختلف تيارات الثورة السورية، يحدد طبيعة المصالحة الوطنية ومتطلباتها، وما ينجم عنها من التزامات متبادلة بين أطرافها، وما تقدمه من ضمانات لكل منهم، وما تحدده من أدوار ينجزونها بتكاملهم وتفاعلهم الإيجابي، لتنجو سورية من هلاك أكيد، وتستحق حريتها، ويكون نظامها في مستوى تضحياتها، وينعم مواطنوها بالعدالة والمساواة والحرية، وتخرج ثورتهم من أوهام مؤذية، أطالت عمر النظام الاستبدادي، وأرعبت معظم مؤيديها، ودفعت قسما منهم إلى تعديل موقفه من الأسد ونظامه، فلا عجب أن عززت وضع النظام، وأضعفت الثورة والشعب وعزلتهما.

تقف الثورة، اليوم، أمام انهيار مباغت ووشيك للنظام. هل قررنا أن نذهب إلى مرحلة جديدة من القتل والتهجير والتشريد والذبح فنهلك، أم أن قرارنا بلوغ الحرية والعدالة والمساواة لشعبنا السوري الواحد، كي ننجو؟

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى