رشا عمرانصفحات الناس

عن حياتنا المنتهكة/ رشا عمران

 

تقول لي صديقة سورية شابة تعيش في دولة عربية، قبل أيام، إنها تشعر إنها منتهكة، وإن كل ما في حياتها أصبح عرضة للتحرش أو الاغتصاب. صديقة سورية أخرى تعيش في دولة أوروبية، قالت لي الكلام نفسه، إنها باتت ترى حياتها كما لو كانت خارجةً من عملية إجهاض قسري، بعد حالة اغتصاب، بكل ما يحمله الفعلان من أذىً نفسي للمرأة.

الصديقتان امرأتان وحيدتان، وظرفهما العام أفضل من ظروف سوريين وسورياتٍ كثيرين، إذ لكل منهما عملها الشخصي الذي يحميها من الاحتياج المادي، واللجوء إلى المساعدات، ولكل منهما شخصية مبدعة وذات محققة أصلاً قبل الثورة، وكل منهما محاطةٌ بمجموعة من الأصدقاء السوريين وغير السوريين، وكل منهما تملك في داخلها طاقة إيجابية وقدرة على التجاوز، وقوة تمكّنها من المضي في حياتها، على الرغم من كل الصعاب.. من أين يأتيهما هذا الإحساس إذاً؟

فكّرت كثيراً بالأمر في الأيام الماضية. قبل أيامٍ كان عيد ميلادي الثاني والخمسين، احتفلت به مع مجموعةٍ كبيرة من الأصدقاء. شعرت، تلك الليلة، بسعادةٍ قلما أشعر بها، على الرغم من أنني أمرّ بظروفٍ شخصيةٍ سيئةٍ، عدا عن الظرف العام الذي يكاد يفقد صواب الجميع. قلت لنفسي لعلها بشارة خير، لعل عامي الجديد سيكون أكثر فرحاً، طالما استقبلته بهذه القدرة على الفرح.

في اليوم الثاني، صحوتُ، وروحي مكسورة، وقلبي يمتلئ بالدمع. رأيت كابوساً مرعباً في أثناء نومي. رأيت أنني في مكانٍ ما فيه غرفةٌ خاصةٌ لي، تنتشر فيها حاجياتي الشخصية، وكتب كثيرة موزّعة هنا وهناك، فجأةً سمعت أن أحدهم لملم كتبي من غرفتي وباعها، ذهبت إليه لأسأله  توضيح الأمر، وكيف يسمح لنفسه بدخول غرفتي، وسرقة كتبي وبيعها. لم أستطع الكلام، كنت كالمصابة بجلطةٍ دماغية، عاجزة عن النطق وعن الصراخ. حاولت الصراخ في وجهه، لم أستطع، سرق أحدهم أيضاً قدرتي على الصراخ، وقدرتي على التعبير عن غضبي. لم أستطع فعل شيء غير البكاء، صحوت من الكابوس، وأنا أبكي فعلاً. ناديت قطتي، لأختبر إن كنت قادرةً على الكلام والصراخ، أم إنه كان مجرد كابوس مزعج؟ طبعاً كان مجرد كابوس مزعج.

لكن، من قال إن الكوابيس ليست انعكاساً لما نشعر به في حياتنا اليومية؟ لم يكن ذلك الفرح الذي استبشرت به، ليلة عيد ميلادي، سوى لحظاتٍ مؤقتة، خارجة من متن حياتي، لحظات هامشية لا يعوّل عليها إلا لنسيان مؤقت، لم يكن غير وهم خلقته مع الأصدقاء، كي ننسى قليلاً ما نحن فيه. أنا مثل صديقتيّ، أشعر مثلهما أن حياتي منتهكة، ومشاعري منتهكة، ورغباتي منتهكة، وأحلامي منتهكة. أنا موسومة بوسم (سورية) الذي يجعلني أفقد قدرتي على التعبير عن غضبي واحتجاجي تجاه كل شيء، حتى في مشاعري الشخصية. ثمّة من سرق قدرتي على الغضب والاحتجاج، أتلقى الأذى وأصمت أو أهرب. يجرحني أحد ما فأضع ملحاً على الجرح، وأضغط وأتألم وأصمت وأختبئ، أو أدّعي قوةً لا أملكها في الحقيقة، هذا الادعاء الكاذب بحد ذاته انتهاك. أنا في وضعٍ لا يحق لي معه التعبير عن ضعفي، عليّ أن أجاهد لكي يراني الآخرون قويةً، عليّ أن أدعي ذلك، أن أكذب على نفسي، وعلى مشاعري. الضعفاء يهرب منهم الجميع، ويمارسون عليهم قمعاً، طالما تعرّضوا هم له. يأتي الشعور الحقيقي بالقوة من الأمان، أماننا تمت سرقته منذ زمن، لم يعد ينفع شيء لاستعادته، لا الكتابة ولا الإبداع ولا الحب ولا العمل، ولا شيء أبداً. الأمان يأتي من الاكتمال، وأعرف، من تجربتي وتجربة صديقاتٍ وأصدقاء كثر، أننا نشعر بالنقص، نقص يجعلنا نرضى بما لا يمكن لشخصٍ يعيش في ظرفٍ طبيعيٍّ أن يرضى به، حتى هذا الرضى المغلف بالمرارات، ثمّة من ينتهكه، وينكّل به وبنا. حياتنا تعرّضت منذ زمن للاغتصاب. وككل المغتصبات، علينا أن نخفي فضيحةً ما تعرّضنا له، وأن نُجهض نتائجه، ونحتمل كل أذاه النفسي، لكي نخفف من وطأة انتهاك العالم المستمر لنا.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى