صفحات الرأي

عن خالد بكداش ومعاداة الامبريالية الأمريكية وترقّب «الانبعاث السوفياتي»/ وسام سعادة

 

 

لطالما ردّد الزعيم الراحل للشيوعيين السوريين خالد بكداش (1912 ـ 1995) أنّ الموقف من أي إنسان يتحدّد بناء على موقف الأخير تجاه الإتحاد السوفياتي، حتى إذا اختفى الأخير عن خارطة العالم عدّل في المقولة، فغدت شيئاً من قبيل تحديد الموقف من أي انسان بناء على درجة مناهضته للإمبريالية الأمريكية.

هذا مثال على مقولة كان بالمقدور إدخال تعديل فيها على هذا النحو. هي مقولة المراد منها تحديد الصداقة والخصومة في السياسة. لكن التحديد عندما يكون حسب درجة إيجابية الموقف من الإتحاد السوفياتي يكون تحديداً بالإيجاب، أو كما قال بكداش أثناء حواره المسهب مع عماد نداف والذي طبع كتاباً قبل وفاته بعامين، «ان أمميتنا تتجلى بسعينا لكسب تأييد الإتحاد السوفياتي». أمّا التحديد في مقولته المعدّلة فهو تحديد بالسلب. أي حسب درجة سلبية هذا الشخص أو هذا الكيان مع الولايات المتحدة الأمريكية.

في مقولته الأولى (تحديد الموقف حسب القرب أو البعد من الإتحاد السوفياتي)، حرص بكداش على ردّها إلى الزعيم الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي عندما قال «يجب أن نؤيد جميع جوانب السياسة الخارجية للإتحاد السوفياتي»، وهي جملة اعتبرها بكداش صالحة حتى آخر يوم من عمر هذا الإتحاد، رغم حرصه في نفس الوقت، خصوصاً في الكتاب الحواري مع عماد نداف، إلى تسجيل محطات إعتراضية له على سياسات سوفياتية، سواء «نظرية التطور اللارأسمالي» التي تستغني عملياً عن وجود أحزاب شيوعية في بلدان ذات توجه تقدمي اجتماعياً (أي في مصر الناصرية وسوريا البعثية)، أو بإزاء البيريسترويكا والغلاسنوست في الثمانينيات.

هذه النقلة من «التحديد بالإيجاب» إلى «التحديد بالسلب»، واعتبار العداء للإمبريالية الأمريكية «كافيا لوحده» لتحديد القرب والبعد في السياسة، كانت واضحة في موقف خالد بكداش أكثر من أي شخصية أخرى في المنطقة العربية. عملياً، الذي سقط مع انهيار الإتحاد السوفياتي هو «نظرية النظريات» في الماركسية السوفياتية، المسماة «نظرية وحدة العمليات الثورية الثلاث»، أي اعتبار بناء الإشتراكية فالشيوعية في الإتحاد السوفياتي والدول التابعة له في أوروبا الشرقية، والحركة العمالية في أوروبا الغربية والبلدان الصناعية، وحركات التحرر الوطني في المستعمرات السابقة وما أنبثق عنها من أنظمة حكم، تتبنى «الديمقراطية الشعبية» بدل «الديمقراطية التمثيلية» أو الليبرالية، هي عمليات ثلاث متحدة في الجوهر، وتدخل في نطاق حركة الإنتقال العالمي الكليّة من الرأسمالية إلى الاشتراكية. مناهضة الامبريالية الأمريكية كانت تحجز لها مكاناً ضمن هذا الإطار طالما كان الإتحاد السوفياتي مستمرّا في الوجود، ومعه الماركسية السوفياتية، التي من الخطأ وصفها «بالجامدة»، فهي كانت أكثر من متحرّكة، ونشيطة لطرح مقولات وسحب أخرى، لكن جلّ مقولاتها ظلّت مشابة بالسمة اللاهوتية، وهل هناك ما هو أشدّ لاهوتية من «الوحدة في الجوهر» بين هذه العمليات الثورية الكونية الثلاث؟!

إعادة تعريف التحيّز والتموقع وفقاً لدرجة العداء مع الإمبريالية الأمريكية، بسبب اختفاء عملية بناء الإشتراكية الفجائي والقسريّ هذا، حسب المنظار البكداشي، كان إقراراً في الوقت نفسه بأنّ «نظرية وحدة العمليات الثورية الثلاث» قد علّقت. المفارقة تبدأ من هنا، اذا كانت «وحدة العمليات الثورية» الثلاث باتت تنتمي إلى عصر منقرض، فلا يمكن استنباط مسوّغ لمعاداة الامبريالية، الأمريكية، تحديداً، انطلاقاً من هذه «الوحدة الجوهرية» لقوى التحرّر على الكوكب التي لم تعد موجودة، رغم «تقريب المسافات» أكثر من أي وقت مضى، بين أرجاء هذا الكوكب، سواء بفعل آليات العولمة الرأسمالية والتحولات التقنية المؤاتية لذلك، أو بفعل سقوط الإتحاد السوفياتي نفسه.

كثيراً ما يساق اسم خالد بكداش في أدبيات من مواقع أيديولوجية مختلفة، تبدأ من أخصامه داخل الحركة الشيوعية واليسار، ولا تنتهي بالليبراليين والإسلاميين والقوميين العرب، بشكل كاريكاتوري. صحيح أنّ الفترة الأخيرة من حياة الرجل، في ظل «الجبهة الوطنية التقدمية» بقيادة «بعث» حافظ الأسد كانت فترة تحوّل فيها هذا القيادي الكاريزماتي في الخمسينيات إلى كاريكاتور لنفسه، على الصعيد السياسي، لكن الإختزال الكاريكاتوري لـ«كلّ» بكداش في مرحلته الأخيرة ليس فيه لا انصاف ولا رغبة في استيعاب تجربة الحركة الشيوعية السورية والعربية. والأهم، لم يكن بكداش صاحب «فتوحات نظرية» في الماركسية، لكنه كان محنّكاً فيما يتعلّق بالتشديد على مقولات مفتاحية، من مثل تحديد أساس الصداقة والخصومة، بهذا الشكل الواضح، تبعاً للموقف من الإتحاد السوفياتي، إلى أن لفظ هذا الإتحاد الرمق الأخير، وتبعاً للموقف من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى يوم يُبعّثون.

لكن بكداش، كان في مكان ما، يدرك أنّ تحديد الصداقة والخصومة، تبعاً لدرجة مناهضة أمريكا وحدها، هو «أمر مؤقت» في مكان آخر، ذلك أنّه ذلك حتى أيامه الأخير يمنّي النفس، بعودة السوفيات. يقول في الحوار مع نداف «انبعاث الإتحاد السوفياتي ليس أمراً سهلاً، ولكنه ممكن، وسيتحقق دون شك! لن يعود الإتحاد السوفياتي رسمياً، شكلياً، مثلما كان تماماً. أنا أقصد ان اتحاد الدول التي كانت تؤلف الاتحاد السوفياتي يمكن أن يتحقق بشكل متطوّر أكثر». إذاً، مناهضة الامبريالية الأمريكية بقيت عنده مرتبطة، ليس بخلفية نظرية هذه المرة، وإنما بخلفية «إسكاتولوجية» (الإسكاتولوجيا مبحث نهاية الأزمان في الأديان خصوصاً)، ومات «أبو عمار» قبل أن ندخل في «عصر فلاديمير بوتين»، وقبل أن تنتشر الشرطة العسكرية الروسية في دمشق وضواحيها، وقبل أن يخبرنا إن كان هذا هو المقصود بنبوءته «الإنبعاثية» للإتحاد السوفياتي.

لا يلعب بكداش اليوم دوراً مرجعياً مهماً عند معظم الحريصين على اعتبار الموقف من الامبريالية الأمريكية هي المحدّد الأساسي الذي تبنى عليه درجة القرب أو البعد من الآخرين. النظرية الخمينية حول «الإستكبار العالمي» المكتفية بالتثبيت على الشيطان الأكبر (أمريكا) بعد زوال «الشيطان الأصغر» (السوفياتي)، والأدبيات الما بعد كولونيالية حول «مقاومة الهيمنة» تلعب دوراً أهم بما لا يقاس، بطبيعة الحال. وبالطبع، ستجد في الإنتاج البحثي والفكري حول الامبريالية، وتحديداً تلك الأمريكية، أشياء كثيرة ثمينة في كل ما كتب منذ نهاية الحرب الباردة، وبشكل يصبح من الكاريكاتوري مقارنته مع مقولات في خطب وتعميمات حزبية لخالد بكداش. مع هذا، يبقى لهذه الشخصية الستالينية العربية امتيازها: اتخاذ المعاداة لأمريكا معياراً لها كان كمعيار «بدل عن ضائع»، وإلى حين رجعة الأصيل، الإتحاد السوفياتي.

حصل للصين الماوية حين خلافها مع الإتحاد السوفياتي أن صنفته «إمبريالية إشتراكية» هو الآخر، في حين يصنّف كثيرون من أخصام موسكو في الغرب والشرق اليوم روسيا البوتينية بأنها «إمبريالية» أو ذات طموح لأن تكون كذلك. في كل هذا المجال تحتاج النظرية حول الامبريالية لإستصلاح متواصل، واليوم أكثر من أمس، ولا يتعدى الغرض هنا التذكير بذلك، ابتداء من نقطة تمهيدية، وهي أنّ «العداء للامبريالية الأمريكية» لم يكن «منتجاً للمعنى» بنفسه ولنفسه في القرن الماضي، كان مرتبطاً بـ«وحدة العمليات الثورية» على كوكب الأرض. اعتباره قائماً بذاته، جوهراً شاحناً للطاقات، هو اعتبار في غاية العدمية، إلا إذا كان من الممكن اعتبار أنّ «تنظيم القاعدة» هو النموذج لمعاداة الإمبريالية، أو أي وزير خارجية لبلد عالمثالثي صغير تخطر له في قمة أن يقول في الإمبريالية كلاماً لم يأت بمثله ارنستو تشي غيفارا أمام المحافل التي تكلم فيها كمبعوث للديبلوماسية الثورية. في النموذج الأوّل «الفعل العنيف» معاد للإمبريالية «زيادة عن اللزوم»، بحيث أنه فعل يخدم الإمبريالية، وفي النموذج الثاني هذه محض فتلة ديماغوجية.. بل محض طرفة للتندّر.

 

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى