صفحات الناس

عن خطوة “الجولاني” الأخيرة وفك أرتباط النصرة بالقاعدة –تحليلات ومقالات-

“القاعدة” و”النصرة”/ سلامة كيلة

باتت كل الأقاويل تدور حول “فك ارتباط” جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وكل الأحلام تدور حول وهم أن يؤدي ذلك إلى انتصار الثورة. وقبل الإشارة إلى الوهم، يمكن الإشارة إلى من يريد وقف قصف المدنيين، بحجة وجود جبهة النصرة التي هي فرع تنظيم القاعدة في سورية، المعتبر دولياً تنظيماً إرهابياً. على أمل أن يؤدي فك الارتباط هذا إلى إنهاء الحجة التي يتذرّع بها كل من النظام وروسيا، على الرغم من أن هذه الذريعة لم تؤدِ، لحظةً، الى قصف جبهة النصرة، بل جرى قصف المدنيين، والجيش الحر، بمعنى أن جبهة النصرة ذريعة ليس إلا، ومن ثم لن يعدم كلاهما إيجاد ذرائع أخرى، في حال قبلتا بفك الارتباط، وهو أمر خارج التوقع.

ليست الأمور بهذه السذاجة والسطحية. لكن، هناك من يعتقد جازماً أن هذه الخطوة سوف “تعزّز الثورة”، وتؤدي إلى الانتصار، حيث يتخيل جبهة النصرة في صورة المحرِّر، والجيش الزاحف نحو إسقاط النظام، لولا هذا الارتباط بتنظيم القاعدة الذي يجعله في مواجهة العالم، وليس النظام فقط، ومن ثم سيكون قادراً على النصر في حال تحرّر من “الحرب العالمية” ضده. وهذا وهمٌ ربما أسوأ من سابقه، لكنه أكثر سطحيةً وسذاجة، وربما أنه مسكون بحالة من العجز المفرط التي تفرض عليه تخيل “النصرة” جيشاً جراراً قادراً على النصر.

هذه أوهام عامة ومعمّمة، وتشي بعجزٍ عميق، بات يسكن قطاعاً كبيراً من المعارضة (وربما أقول كلها). فهل كانت مشكلة “النصرة” أنها فرع لتنظيم القاعدة؟ ولماذا هي فرعٌ إذا لم تكن تتلبّس كل أفكار هذا التنظيم؟ وبالتالي، ماذا يغيّر فك ارتباطها؟ هل ستصبح جبهةً ديمقراطيةً، أو “إسلامية معتدلة”؟ أو سوف تحمل روح جيفارا، وبطولات الجيش الأحمر السوفييتي؟ أو هل ستتخلص من عناصر المخابرات السورية والعالمية التي تعشّش فيها؟ أو حتى تطلق المعتقلين من الثوار لديها؟ أو تكفّ عن قضم الكتائب المسلحة التي توضع تحت يافطة الجيش الحر، بعد أن قضمت عشراتٍ منه؟ أو توقف تطبيق أحكامها الوهابية، وشريعتها المستمدة من أكثر لحظات التاريخ العربي تأخراً وانهياراً؟

هل مشكلة جبهة النصرة في أنها فرع لتنظيم القاعدة المرفوضة دولياً، أو في ذلك كله، بغض النظر عن تلك العلاقة، وعن الموقف الدولي؟ لا أظن أن مشكلة جبهة النصرة هي في علاقتها بتنظيم القاعدة، حيث قبل تناول موقف “القوى العظمى” منها يجب ملاحظة ممارساتها على الأرض، منذ وجدت، لأن هذه الممارسات تدلّ، بشكل واضح، على مسار تخريبي للثورة، نجحت، في جزءٍ كبيرٍ منه، ومن ثم في إعطاء تبريراتٍ للقوى الدولية، لكي تقف ضد الثورة، وحتى مع النظام. بالتالي، حتى وإن أزيلت مبرّرات الموقف الدولي لن تتغيّر ممارسات الجبهة التي هي الإسهام في تدمير الثورة.

هذه الممارسات التي دفعت قطاعات من الشعب السوري لكي يتظاهر ضدها، ويطالب بخروجها، وهو الأمر المستمر في معرّة النعمان، منذ اعتدت على الفرقة 13. وحدث، في مناطق أخرى عديدة. يظهر ذلك كله الرفض الشعبي لها، واعتبار أنها ضد الثورة، ويجب أن تخرج. في موقفٍ معاكسٍ لكل ما تقول به أطيافٌ من المعارضة، ومن قيادتها. وربما يؤكد ذلك مدى الانفصال الحاصل بين الثورة التي تقاتل على الأرض ومَنْ يدعي تمثيلها، ويؤكد أن هذه المعارضة لا تتلمس الظروف التي يعيشها الشعب، ولا الخطر الذي تشكله “النصرة” عليه، والذي يتلمسه هو. وبالتالي أنها تنطلق من تكتيكاتٍ ترتبط بمصالح خاصة، تفرضها “الدول الممولة”.

بمعنى أن هذه المعارضة ليست مع الشعب، بل مع الدول الممولة، وتخضع لسياساتها من جهة. ومن جهةٍ أخرى، تقبع في الخارج منتظرة من يُسقط النظام لكي تعود منتصرة. في هذه الأجواء، ينتج ما هو أسوأ ما ظهر منذ اندلاع الثورة.

“النصرة” هي “داعش” موضوعة في “حضن الثورة”.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

فك الارتباط وخيارات “النصرة” الصعبة/ عقيل حسين

تأجل إعلان قرار فك ارتباط “جبهة النصرة” بتنظيم “القاعدة”، وربما يتأخر، بل إن هناك من يتحدث عن استبعاده نهائياً، على الأقل في الوقت الحالي. وعلى الرغم من أنه بدا محسوماً ولا رجعة عنه، ظهر أن القرار، لم ينضج بعد، وأنه مازال بحاجة للمزيد من الوقت والمشاورات، بعد تسجيل العديد من الشخصيات ذات الثقل، في الداخل والخارج، اعتراضها عليه.

لوهلة، بدت “النصرة” خلال الاسبوع الماضي وكأنها باتت جاهزة تماماً لإتخاذ هذا القرار، أو أنها اتخذته بالفعل ولم يبق سوى الإعلان عنه، بعدما قامت قيادتها بكل الترتيبات والمشاورات اللازمة، بما في ذلك مع قيادة التنظيم الأم ومراجعياتها في الخارج. وذلك بالتزامن مع نشر الإعلام الغربي تفاصيل، قال إنها تشكل مسودة اتفاق روسي-أميركي جديد، بخصوص تنسيق الضربات الجوية في سوريا، والتي قيل إنها ستركز في المرحلة القادمة بشكل أساسي على استهداف “النصرة”.

وقد عزز التصور بحسم الأمر، حملة إعلامية مكثفة ركزت طيلة الأسبوع الماضي، على التمهيد لإعلان قرار الانفصال، وقادتها شخصيات من داخل الجبهة، كالعراقي أبي مارية القحطاني، العائد بقوة إلى الفضاء الإعلامي، بعد عودته إلى مجلس قيادة الجبهة، أو شخصيات مقربة من التنظيم، كالداعيتين، الكويتي محدل الحصم، واللبناني سراج الدين زريقات، وغيرهم.

الأهم على الإطلاق في هذا الصدد، كانت تغريدات المنظر الجهادي شديد التأثير على “النصرة” وجمهور “القاعدة” بشكل عام، أبو محمد المقدسي، الذي أكد مشروعية مثل هذا القرار “طالما أن فيها مصلحة الجهاد”، واعتبر أن “التخلي عن اسم القاعدة ليس جريمة أو ردة”. لكن المقدسي عاد وسحب تغريداته بعد يومين من نشرها، الأمر الذي تم تفسيره على أنه تراجعٌ منه، بعد ردود الفعل السلبية التي أثارتها تغريداته، والتي كان واضحاً، حتى بالنسبة لجمهور “النصرة” ومؤيديها، أن الهدف منها هو التمهيد للقرار من جهة، وأنه بالون اختبار من جهة أخرى.

تحليل لم يكن بحاجة لإمعان تفكير، وهذا ما أكده الكاتب المصري طارق عبدالحليم، الذي كان قد أعلن تحفظه الشديد على هذا التوجه، فاعتبر أن “تغريدات المقدسي، جاءت في توقيت مرصود محسوب، لتخدم غرضاً معيناً في الترويج للخطوة القادمة”، مضيفاً: “ليس هناك صدفة.. (ما جرى كان) مخططاً!”. عبدالحليم الذي يعتبر أحد أهم الأصوات السلفية المؤيدة لتنظيم “القاعدة”، لم يكن وحده من بين المعارضين لخطوة السماح لـ”جبهة النصرة” بأن تفك ارتباطها، بل كان معه في هذا التوجه أيضاً، عدد غير قليل من رموز التيار السلفي الجهادي، وبينهم مواطنه هاني السباعي، الذي حذر من انقسام جديد سيحدث في “جبهة النصرة”، في حال أُقر فك الارتباط.

تحذير لا يبدو أنه بلا أساس، فما لم يُعلن عنه من ردود الفعل سلبية على بالون اختبار “النصرة”، وتمهيدها لخطوة فك الارتباط، يبدو أكبر بكثير مما تم الإعلان عنه.

وبحسب بعض المصادر، فإن شخصيات وقوى في “النصرة”، وخاصة تلك التي تمثل الجماعات المنضمة حديثاً لها، هددت بالانفصال عن الجبهة في حال قررت فك ارتباطها بـ”القاعدة”. وهو موقف ينسجم مع التيار المحافظ داخل الجبهة، والذي يرفض بشكل قاطع هذا التوجه، قبل الوصول إلى شكل من أشكال الحكم يُغني عن حالة التنظيم بالفعل.

وتتركز أهم تحفظات هذا التيار، إلى جانب التخوف من الانقسامات، في النقاط التالية: أولاً، أن القرار سيشكل تنازلاً من جانب “جبهة النصرة” لصالح “أعدائها”، خاصة أميركا والغرب، الذين انتقلوا للعمل على تفكيك الجبهة خطوة بعد أخرى، وأن التخلي عن اسم “القاعدة” سيكون الخطوة الأولى على هذا الطريق، بعد فشل كل مشاريع القضاء عليها من قبل، كما يقولون.

وثانياً، فإنه وإلى جانب الانقسامات التي ظهرت على الفور، سيؤدي هذا القرار إلى فقدان “جبهة النصرة” أحد أهم حواملها الإيديولوجية في الوسط الجهادي؛ إذ أن الارتباط بـ”القاعدة” ضمن لـ”النصرة” مشروعية الاستمرار، بعد إعلان تنظيم “الدولة” الانفصال. ويرى البعض أنه لولا الغطاء الذي وفره اسم “القاعدة” للجبهة، لما استطاعت أن تصمد أمام المد الجارف لتنظيم “الدولة” خلال السنوات الثلاث الماضية.

ثالثاً، سيؤدي هذا التطور إلى الدفع أكثر باتجاه “سورنة النصرة”، ما سيُفقد الجبهة، حسب رأيهم، عامل الجذب الأكبر الذي يستقطب لها المقاتلين من غير السوريين. وينضم إلى “النصرة” الكثيرون من غير السوريين، فقط لأنها فرع لـ”القاعدة”. هذا عدا عن التساؤلات والقلق على مستقبل ومصير “المهاجرين” الموجودين في صفوف “النصرة” حالياً.

مصدر مقرب من “جبهة النصرة”، نفى لـ”المدن” الأنباء التي تتحدث عن تيارات وانقسامات في الجبهة، وإن لم يُخفِ وجود خلافات قوية في الأراء حول قضية فك الارتباط. وهو أمر اعتبره المصدر طبيعياً، بالنظر إلى حجم القرار الذي تتم مناقشته، مؤكداً أن القيادة لن تقدم على أية خطوة من دون دراستها بشكل واف. وأضاف: “منذ أكثر من خمسة أشهر يتم التمهيد لهذا القرار بين كوادر جبهة النصرة، من خلال دورات يقوم بها القسم الشرعي في الجبهة، وتركز على قضية المنهج وليس التنظيم، وعلى الهدف لا التكتيك، وهذه الدروس يقدمها شرعيون، بينهم من هو معارض لتوجه فك الارتباط بتنظيم القاعدة في الوقت الحالي، وهذا ينفي ما يقال عن انقسامات”.

وتبقى قضية المهاجرين، وتبعات فك الارتباط عليها، من القضايا التي لا يسهل على قيادة “جبهة النصرة” حتى الآن الامساك بخيوطها، رغم أن موقفها منها هو الأشد وضوحاً، والأكثر ثباتاً بين جميع القضايا الأخرى. فمن جهة، تُصر الجبهة على أن التنازل بالتراضي عن البيعة لـ”القاعدة” بل وحتى تغيير اسم الجبهة إن حصل، لن يمس بأي حال منهج التنظيم، القائم على رفض المشاريع الوطنية، والتمسك بالمشروع الإسلامي العابر للحدود. ومن جهة أخرى، تؤكد أن قضية العناصر غير السوريين فيها، يتم تصويرها بشكل مبالغ به، حيث لا تزيد نسبتهم على 10 في المئة من العناصر والقيادات، حسب تقديرات متطابقة، كما أن الجبهة ما زالت تعمل على استقطاب المزيد منهم في كل يوم.

بغض النظر عن التوصيف أو المستوى، فإن انقساماً واضحاً تعيشه “جبهة النصرة” اليوم حيال قضية فك الارتباط، التي بدت أكثر تعقيداً مما كان يتوقعه قادتها، الذين كانوا ينفون دائماً أن يكون سبب رفضهم فك الارتباط هو عدم الثقة بتماسك البيت الداخلي للجبهة، أو استعدادها للتعرض إلى هزات.

واقع يعززه التركيز الكبير لرموز التيار السلفي الجهادي، المؤيدين لفك الارتباط والمعارضين له على حد سواء، في مناقشتهم للقضية خلال الأيام الماضية، على التشديد في دعوة عناصر الجبهة وكوادرها لعدم الانشغال بهذه القضية، وترك النقاش والقرار فيها لقادتهم، وحثهم على الطاعة لهم أيّاً كان القرار.

لكن القرار الأفضل الذي يبدو أن قيادة “جبهة النصرة” ستتخذه في الوقت الحالي، كما يرى مراقبون، هو تجاهل المسألة تماماً، وتجنب التعليق عليها، فضلاً عن اتخاذ قرار حولها، حيث تدرك أن أي موقف واضح ستكون له تبعات ليست في صالحها.

وفي حال قررت قيادة الجبهة المغامرة وإعلان الانفصال عن تنظيم “القاعدة”، حتى وإن كان ذلك سيحدث بمباركة ورضى التنظيم الأم، الذي جرى التشاور معه وأبدى موافقته على هذا التوجه كما يقال، فإن ذلك سيُحدث هزة داخلية لا أحد يدرك بعد عواقبها.

وفي المقابل، فإنه لو صدر بيان رسمي من قيادة الجبهة، ينفي أي توجه لديها بفك الارتباط، بعد مؤشرات الرأي العام التي توفرت حتى الآن من داخل التيار السلفي الجهادي، فإن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الخسائر على صعيد الحاضنة الشعبية بين السوريين. إذ سيُحمّلها الكثيرون منهم (ولا بد) المسؤولية عن استمرار منح النظام وحلفائه، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، ذريعة مهاجمة مناطق سيطرة المعارضة، خاصة في الشمال.

ولأن كل ذلك لا يغيب عن قيادة “جبهة النصرة” بطبيعة الحال، فإن البحث في خيارات إضافية يبدو أنه حاضر وبقوة، وهو بحث لا يشغل بال “النصرة” فقط، بل تنشغل به، بحسب المعلومات المتوفرة، الكثير من فصائل المعارضة الأخرى، بل وكذلك بعض الحلفاء الإقليميين للثورة، الأمر الذي قد يؤدي إلى مخارج مقبولة في القريب العاجل ربما.

المدن

 

 

“جبهة فتح الشام”: النصرة في تجربتها الجديدة/ عقيل حسين

خطت “جبهة النصرة” أخيراً خطوتها المنتظرة، وسجلت بإعلانها الانفصال عن تنظيم “القاعدة”، سابقة تاريخية بالنسبة لفرع من فروع التنظيم في العالم، بل وقد يشكل الأمر، حسب البعض، بداية تحول يفتح لـ”القاعدة” نفسها، آفاقاً جديدة كان ينقصها شجاعة التحرك نحوها من قبل.

وعلى الرغم من أن ردود فعل لم تكن مشجعة على هذا التوجه بشكل كامل، خلال الأسبوع الماضي، إلا أن إعلان “جبهة النصرة” فك ارتباطها بتنظيم “القاعدة”، أكد أن هذا القرار كان محسوماً، وإن شوشت عليه بعض التفاصيل.

معطيات متعددة تؤكد أن الترتيب لهذا الإعلان لم تغير فيه آراء الرافضين شيئاً، ومعطيات أخرى حضرت في خلفية الإعلان عن فك الارتباط، وسرقت منه بعض الأضواء، أكدت أن هذه الآراء أُخِذَت في الحسبان، شكلياً على أقل تقدير.

فاتساق التسريبات مع ما حصل، الخميس، وفي مقدمتها اعتماد اسم “جبهة فتح الشام” الذي سربته “النصرة” خلال الأسبوع الماضي للإعلام وشكل اللوغو، أكد أن الترتيب للقرار، الذي استغرق وقتاً غير قصير، لم يتأثر كثيراً بالملاحظات والتساؤلات. ومُثل ذلك ظهور قائد الجبهة، أبو محمد الجولاني، كاشفاً وجهه للمرة الأولى، في تأكيد على ما سبق وتم تسريبه من الجبهة أيضاً.

وطبعاً، يصبح من نافل القول هنا، أن الكلمة المقتضبة التي أعلن فيها الجولاني قرار فك الارتباط بتنظيم “القاعدة”، كانت مسجلة قبل الخميس. لكن لا أحد لديه أي معلومات حول ما إذا كان قد تم تعديلها خلال الأسبوع الماضي، بحيث تأخذ في الاعتبار فعلاً، تقديم تطمينات للمعترضين والمتخوفين، داخل صفوف “النصرة”، ومن صقور التيار السلفي الجهادي.

إلا أن الإجابة على هذه الأسئلة القلقة، حضرت بشكل صريح مرة، ومبطن مرة، وفي السياق مرة ثالثة، بحيث أمكن معه القول معه، إن “جبهة النصرة” قالت كلمتها ومشت، بأقل وقت وعبارات، منهية جدل أشهر طويلة، بلغ ذروته في الأيام الماضية.

أما ما كان صريحاً، فقد جاء من خلال قيادة تنظيم “القاعدة”، التي كانت محور أهم التساؤلات، وخاصة لجهة مدى رضاها عما يتم التفكير فيه. وحملت كلمة نائب زعيم التنظيم، أحمد أبو الخير، القول الفصل الذي أكد أن هذا القرار، كان بالتشاور مع قيادة “القاعدة”، وبدعمها ومباركتها.

ورغم بديهية الحصول على هذه المباركة، إلا أن الأمر لم يكن ليحتاج كل هذا التركيز، لولا ردود الفعل السابقة، لأن الجميع يعرف أن العلاقة بين التنظيم الأم وفرعه في سوريا على أحسن ما يرام، إلا أن عدم قدرة البعض في التيار على تصور أي قوة أو جماعة سلفية جهادية، خارج عباءة “القاعدة”، فرضت مثل هذا التركيز.

أما الرد الضمني، فقد حمله مضمون كلمة الجولاني، التي بالكاد تجاوزت 3 دقائق، وأكد فيها التزام التشكيل الجديد بثوابت “النصرة” وسياساتها، والسعي لتحقيق الأهداف ذاتها، بغض النظر عن الارتباط بـ”القاعدة” رسمياً.

إيحاءات أخرى كان هدفها التطمين أيضاً، جاءت هذه المرة في سياق أو خلفية الحدث، وعلى رأسها كان ظهور الجولاني إلى جانب اثنين من أعضاء مجلس قيادة الجبهة، أثناء القائه كلمة الانفصال عن القاعدة. فعلى يمينه، جلس عضو اللجنة الشرعية في “النصرة” السوري أبو عبد الله الشامي “عبد الرحمن عطون” والذي يعرف بأنه من الصقور فيها، وعلى يساره، جلس عضو مجلس القيادة، المصري أحمد سلامة مبروك، في رسالة واضحة على أن الجبهة مستمرة في احتضان المقاتلين غير السوريين، وهي النقطة التي كانت من أكثر ما ركز عليه الرافضون للقرار.

فبينما عبّر الكثيرون من هؤلاء عن تخوفهم، من أن يكون هذا القرار بداية لإنهاء وجود المهاجرين في الجبهة، ومسعى لتعزيز محليتها، على حساب المشروع الجهادي المعولم، صرح البعض منهم بلا مواربة، أن هذا الأمر سيكون مقدمة لتكرار تجربة المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا إلى جانب المسلمين في البوسنة. فحذّر الداعية المصري المعروف هاني السباعي من “أن دايتون جديدة ستكون بانتظار العناصر المهاجرين”.

وعلى الرغم من الأثر الإيجابي الذي خلفه هذا الظهور الثلاثي، ومضمون خطاب “الجبهة الجديدة”، فإن القضية مع ذلك، تبقى واحدة من المسائل التي لا يمكن حسم الجدل حولها بسهولة. لكن يمكن اعتبار تصريح أحد أعضاء المكتب الإعلامي لـ”جبهة النصرة”، رداً على التساؤلات التي أثيرت حول الموضوع الأسبوع الماضي، والذي قال فيه “إن الكثير من المقاتلين غير السوريين يرغبون بالقتال مع الجبهة، لكنهم يريدون أن لا يرتبط اسمهم بالقاعدة”، يمكن اعتباره تفكيراً خارج الصندوق التقليدي.

وإذا كان من غير الممكن التأكد من وجود هذه الظاهرة بالفعل أو حجمها، فإن ما هو مؤكد، أن عدداً معتبراً من السوريين، سيتشجعون أكثر على الانضمام للتشكيل الجديد، لأنهم لا يريدون بالفعل أن يرتبط اسمهم بتنظيم “القاعدة”، بل من المرجح أن تندمج جماعات سورية متعددة بـ”جبهة فتح الشام” خلال وقت قصير، بما يعوض، من سيخرج منها بسبب هذه الخطوة.

لكن هل كان كل همّ الكلمة، كلمة الجولاني أولاً، وكلمة أبو الخير كذلك، توجيه رسائل إلى التيار السلفي الجهادي فقط وتطمينه؟ بالتأكيد لا، رغم أن مخاطبته احتلت المساحة الأبرز، وهذه إحدى أبرز مميزات خطاب التيار، الذي يعجز بشكل لا إرادي حتى، عن التخلص من قيود الجماعة والتحرر من حدودها، لصالح الإنطلاق في فضاءات أوسع. وهو الأمر الذي كان قد تنبهت إليه كلمة أبو الخير، التي سبقت كلمة الجولاني بساعات، حين أكد على ضرورة الانتقال من “جهاد النخبة إلى جهاد الأمة”، وهي الجزئية التي دُعمت بمقتطف من تسجيل سابق للظواهري، يؤكد فيه على النقطة ذاتها.

مخاطبة الأمة، وليس التيار فقط، كانت سمة واضحة في كلمة الجولاني أيضاً. بل إنه ذهب خطوة إضافية أبعد، يمكن القول إنها غير مسبوقة بالنسبة للخطاب السلفي الجهادي، حين وضع “نشر العدل بين الناس، كل الناس”، وليس بين المسلمين فقط، في عداد أهداف التشكيل الجديد، الذي تم السعي إليه، وفك الارتباط بتنظيم “القاعدة” من أجله أصلاً، للتخفيف على أهل الشام وسحب ذرائع استهدافهم بحجة وجود “القاعدة”.

لكن هل التخفيف عن أهل الشام، وهنا ينتقل الحديث بنا إلى أسئلة وشكوك ومخاوف من هم خارج التيار السلفي الجهادي، هل يكفي له فقط فك الارتباط بتنظيم “القاعدة”، وتغيير اسم الجبهة؟ بالتأكيد لا. إجابة لا تحتاج إلى كثير تفكير، بل كانت حاضرة في كل مرة يطرح فيها الموضوع، حيث يؤكد الكثيرون أن فك الارتباط التنظيمي على أهميته، لا يعني سوى خطوة أولى على طريق التغيير المنتظر، أو المطلوب من “جبهة النصرة”.

ويضع هؤلاء، كما هو معروف، قوائم من المطالب، تختلف تبعاً لاختلاف توجهات أصحابها، لكن القضايا المتعلقة بالعلاقة مع بقية الفصائل وقوى المعارضة، والمجتمع المحلي وتنوعاته، والحريات والحقوق الأساسية، بالإضافة إلى وقف استعداء المجتمع الدولي، تبقى هي الجامع لكل هذه المطالب.

وبالطبع، وقبل حتى أن ينتهي بث كلمة الجولاني، كانت أقلام جمهور “النصرة” والتيار السلفي الجهادي بشكل عام، تهاجم مخالفي الجبهة من بقية التيارات، وتؤكد أنها لن تنال رضاهم مهما فعلت، مصنفين كالعادة، المطالب المحلية، باعتبارها تنفيذاً “برسم العمالة” لرغبات المجتمع الدولي، وليست نتاج حاجات موضوعية.

وفي الوقت الذي يرد مخالفو التيار، بأن التغيير الوحيد الذي قامت به “جبهة النصرة” بالفعل، كان استجابة للمخاطر الخارجية، بينما أهملت مطالب السوريين. ويعتبر هؤلاء أن هذا يتسق وتصرفات أنظمة “الممانعة”، التي اعتادت ألا تقدم التنازلات إلا للغرب، الذي تشتمه وتقول إنها تحاربه، بينما تتجاهل احتياجات ومطالب شعوبها.

في حين يحاول تيار ثالث التخفيف من حدة التوتر، داعياً إلى الاستفادة مما يوفره هذا التطور من فرص. ويعتبر هذا التيار، أن “جبهة النصرة”، بل وحتى تنظيم “القاعدة” بشكل عام، خطا خطوة ليست بالقليلة، وأن على الآخرين الاعتراف بأهميتها، ومد اليد بالمقابل لأصحابها. وفي الوقت ذاته، يطالب هؤلاء التيار السلفي الجهادي، بالكف عن التعامل مع الآخرين باعتبارهم “أعداء” أو أعداء محتملين، مؤكدين بأنه من السذاجة فعلاً القول بإن مجرد تغيير الاسم، أو إعلان قطع العلاقة بـ”القاعدة”، يكفي لتغيير الحكم على الجبهة، داخلياً ومن قبل المجتمع الدولي.

وعليه، يرى أصحاب هذا التوجه، أنه من المثير للسخرية توقع أن يُغيّر الروس والأميركيون خططهم التي يقال إنها أُنجزت بهدف ضرب “جبهة النصرة”، فقط لأن الجبهة غيرت اسمها، أو أعلنت فك ارتباطها بتنظيم “القاعدة”، وإلا فسيكون من طالبها بذلك غبي أو عميل، بل إن الأمر يحتاج إلى عمل طويل، يبدأ بالتماهي الحقيقي مع القوى المحلية الأخرى، مع الاستعداد لتحمل تبعات التاريخ.

معادلة شائكة، قد لا تكون مشجعة في ظل إغراقها بكل هذه التفاصيل، لكن ليس إذا ما أبدينا اهتماماً، ولو على حذر، بالمعلومات التي تتحدث عن تطورات قادمة، ستكون مبنية على هذا التحول المهم. وفي مقدمة هذه التطورات، التي يقال إنه بدأ العمل عليها مسبقاً، سيكون دخول “جبهة فتح الشام” في تحالفات جديدة، مع فصائل أخرى شمالي البلاد، بتشجيع من تركيا ودول أخرى، بهدف تحقيق اندماج يكفي لمنع استهداف “جبهة النصرة” منفردة من جهة، ومن جهة أخرى، الدفع بعجلة القوة العسكرية للمعارضة نحو الأمام، بعد تراجعاتها الخطيرة مؤخراً، وهو ما يحتاج إلى نضوج هذا التحول داخل “جبهة فتح الشام” بشكل حقيقي.

المدن

 

 

 

بوتين “الإنساني” والجولاني “المعتدل”/ بسام مقداد

لم يترك الدم السوري الذي يُسفك منذ سنوات في غمار المجزرة المتواصلة، مجالاً لبقاء سُذجٍ يصدقون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبالي بالمدنيين في حلب الشرقية، ويقوم بعملية “إنسانية واسعة” لإنقاذ حياتهم وضمان أمنهم. بوتين، الذي لم يرَ طياروه في غروزني، قبل حلب والمدن السورية الأخرى، بشراً ومنازل ومستشفيات ومدارس، بل أهدافاً يجب تدميرها، ولم يتسلح رجال أجهزته في مدرسة بيسلان في أوسيتيا الشمالية وفي المسرح في موسكو وسواها.. لم يتسلحوا سوى بهيبة القيصر بوتين، التي ينبغي الدفاع عنها حتى آخر طفل وآخر مشاهد في روسيا، قبل أن يبتلي به الشعب السوري.

وكيف لذوي من جُزّت رقاب أبنائهم كالخراف أن يصدقوا أن الجولاني قد أصبح “معتدلاً” ويريد نشر العدل؟ ليس بين المسلمين فحسب، بل بين “الناس، كل الناس”!

هل فعلاً يصدق بوتين أنه لا يزال هناك مِن سُذجٍ يصدقون أنه يقوم بعملية “إنسانية واسعة” في حلب وليس تنفيذ بندٍ من خطة الإستيلاء على حلب و”تنظيفها” من سكانها؟ ، وهو ما أتاحه له التوافق مع أميركا، كما عنونت صحيفة ““vedomosti الروسية المستقلة، الجمعة.

وقبل ذلك، قالت صحيفة “gazeta.ru” في مقالة لها، الخميس، نقلاً عن الرئيس السابق لمديرية العمليات في الأركان العامة الروسية الجنرال نيكولاي مايسيف، إن العملية لا بد منها لتخفيف الخسائر البشرية بين المدنيين، لكن ذلك لن يحول دون ضرورة القيام “بعملية إقتحام كلاسيكية للسيطرة على المدينة. ويقول الجنرال إنه من أجل ذلك، سوف “يتحتم على قوات بشار الأسد أن تخلق تفوقاً عددياً في القوى الحية، والمدفعية، والآليات المصفحة، والطيران المقاتل، ومخزونات من الوسائل المادية المطلوبة للإستيلاء على المدينة، وتشكيل وحدات اقتحام واستعادة المدينة من المقاتلين حياً تلو حي”. ويحذر الجنرال مايسيف، من أنه لا يمكن، في هذه الحالة، تحاشي “الخسائر الكبيرة ودمار البنية التحتية في المدينة”.

وتمضي الصحيفة، نقلاً عن الجنرال، بالقول “لم يخترعوا وسيلة أخرى حتى الآن (لاقتحام المدينة). ومن الطبيعي، أنه سوف يكون هناك من جانب المنظمات الإنسانية المختلفة الكثير من الضجيج والجلبة والإتهامات بالإستخدام المفرط للقوة، لكن، وببساطة، ليس من وسيلة أخرى”.

وتنقل الصحيفة عينها عن قائد الأركان السابق لمنطقة لينيننغراد العسكرية الجنرال ـــــ كولونيل سيرجي كيزيون، أنه من أجل تنظيم مقاومة ناجحة من قبل مقاتلي المعارضة “تكفي الأسلحة الخفيفة والرشاشات الثقيلة والهاونات من عيار لا يتخطى 81 – 82 مليمتراً وعوائق ملغمة- متفجرة”.

ويقول الجنرال إن المقاتلين، ونظراً لطبيعة المدينة “سوف يتمكنون من المناورة بسهولة وخلق تفوق عددي في المواقع المهددة”. ويحذر الجنرال كيزيون من الأوهام بشأن استسلام المقاتلين المحتمل، ويقول إنه “لن يتخلى أحد من الإرهابيين عن سلاحه طوعاً”.

وقال نائب رئيس اللجنة الدولية في مجلس الإتحاد فلاديمير جاباروف، في مقابلة مع صحيفة “الازفستيا”، الجمعة الماضي، تحت عنوان “الولايات المتحدة خافت هيبة روسيا في سوريا”، إن جيش النظام يخطط “لتنظيف حلب، واتفق مع روسيا على تنظيم ممرات إنسانية لكي لا يتعرض السكان المدنيون، وأولئك الذين لا يرغبون بالمشاركة في المعارك، للأذى”.

ويتابع جاباروف “إثر خروج السكان والمقاتلين الراغبين في التخلي عن سلاحهم سوف يبدأ تنظيف المدينة. وسوف ترتفع هيبة روسيا إثر ذلك مرات عديدة. ويخشى الأميركيون، كما يبدو، من أن يتخلفوا ويحاولون الإعلان عن أنفسهم كإحدى القوى الرئيسية في الصراع السوري”. ويقول جاباروف بانه يبقى إسقاط الأسد هو الهدف الرئيس للأميركين، ولهذا “سوف يحاولون خلق مسرح عمليات عسكرية جديد (في المناطق الجنوبية من سوريا – الهلالين من الصحيفة)، حيث ستكون الغلبة لهم”.

من جهة ثانية، يقول نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، في مقابلة مع ريا نوفوستي، إن موسكو تدعو واشنطن “للتركيز على الحل العملي للتسوية السورية، وليس محاولة كسب نقاط سياسية عن طريق الحشو الإعلامي. ولا تخرج المقابلة في مجملها عن محتوى تصريح فلاديمير جابارروف في انتقاد الجانب الأميركي في الحوار مع روسيا. ويعرض ريابكوف خلالها بإسهاب الإجراءات والتدابير التي تتخذها وزارة الخارجية الروسية مع المنظمات العالمية المعنية لإنجاح العملية الإنسانية الواسعة في حلب”.

وتحت عنوان “الإسلاميون يخونون بعضهم بعضاً تحت ضغط الجيش السوري”  كتبت صحيفة “vzgliad”، الموالية للكرملين، أن “جبهة النصرة” التي “يحاصرها الجيش السوري في حلب أعلنت تخليها عن القاعدة وحتى تغيير اسمها”. وتقول الصحيفة، إن الخبراء يعتقدون أنه “ليس فقط الهزيمة في حلب تجبر المسلحين على تغيير الإتيكيت بل والمخاوف من تبدأ روسيا والولايات المتحدة من الآن وصاعداً بالعمل معاً ضدهم”.

وتنقل الصحيفة عن رئيس “معهد الأديان والسياسة” ألكسندر إيغناتنكو قوله، إن الجبهة استبدلت إسمها “ليس لأسباب عسكرية فقط، بل ولأسباب سياسية أيضاً”. فهي، ولكونها فرعاً من القاعدة، عرضة لعقوبات المجتمع الدولي مرتين: كفرع للقاعدة وكجبهة نصرة”. ويقول إيغناتنكو بأنه يجري في سوريا الآن “إعادة تشكيل الحركات الإرهابية”؛ حركة “أحرار الشام الإسلامية”، غير المذكورة في لائحة مجلس الأمن، هي أيضاً عازمة “حسب معلوماتي، على إعادة تشكيل نفسها والإنفصال عن القاعدة”، مؤكداً بذلك، أن “مثل هذه العلاقات كانت موجودة”.

وتقول الصحيفة، نقلاً عن إيغناتنكو، إن جبهة النصرة السابقة “سوف تشكل، مع فصال أخرى، فصيلاً جديداً يطلقون عليه إسم الجبهة الإسلامية السورية”، بهدف التخلص من عمليات الحصار، التي “تعدها لهم ولأمثالهم من الفصائل، روسيا والولايات المتحدة معاً”.

أما الهدف الثاني لعملية “تغيير الإتيكيت”، فيقول إيغناتنكو إنه يتمثل في تصوير الجبهة نفسها “معتدلة، وبأنها معارضة وطنية سورية صافية”، وهي بذلك تمني نفسها بالمشاركة في المفاوضات وفي رسم الحل النهائي للقضية السورية.

وتقول الصحيفة، إن إيغناتنكو ليس مستعداً بعد للتنبؤ، ما “إذا كان الزعماء الحاليون سوف يبقون على رأس الحركة، أم سوف يتقدم أشخاص آخرون”. وهو لا يستبعد كذلك، أن تنقسم الحركة خلال عملية “التغيير”. ويفترض، أنه “قد تبقى فصائل تحمل راية القاعدة نفسها”.

لن يمر “التذاكي السياسي” على الشعب السوري، ولن يصدق أن بوتين قد أصبح “إنسانياً”، وأن الجولاني قد أصبح “معتدلاً”. وهو يعرف، أن درب الآلام لا تزال طويلة، وأن من يستخدم مأساته منصة لتحقيق أوهام دينية، أو أوهام عظمة مفقودة لن تعود، سوف لن يجنون سوى الخيبة.

المدن

 

 

 

الجولاني.. التحول والصورة/ نذير رضا

الصورة لم تكسبه حضناً محلياً.. فأرادها رسالة للغرب

لا تمثل إماطة اللثام عن وجه زعيم “جبهة النصرة” سابقاً، وجبهة “فتح الشام” حالياً، أبومحمد الجولاني، أي تغيير على مستوى صورة تنظيمه في سوريا. فكشف الوجه، وضعه في صلب الحدث، بغرض تحويره، إذ انشغل الناس بـ”وسامته”، وبوصفه “شاب حلاوة” و”عيونو ملونين”، فيما أهمل مضمون ما جاء به، القائم على استمرارية العلاقة بتنظيم “القاعدة” فعلياً، ونقيضه شكلياً.

كشف الوجه في حالة الجولاني، هي الحدث بذاته. بالنسبة إلى كثيرين، فإن كشف مجهول لطالما بقي متوارياً، يستوفي غرض الدعاية الإلتفافية على مضمون الحدث. أثار الصدمة بوصفه رجلاً من لحم ودم، كاد يغسل عار القتل والذبح وإقصاء جميع مناوئيه من فصائل المعارضة المعتدلة، لولا أن زيّه، والـ”لوك” الذي ظهر به، يثبت انتماءه إلى جميع ممارسات تنظيمه السابقة. فالوسامة هنا، التي عبّر عنها كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، تمتلك قدرة الحثّ على إعادة التفكّر في زعيم تنظيم دموي وتكفيري، يستلهم السلطة من دموية من بايعهم.

بذلك، حاول التنظيم الذي يزعم تبديل جلده، تقريب الجولاني من الناس. أنسنه، وأهّله لدور مستقبلي مزعوم، رغم اليقين بأنه، على الأرجح، لن يختلف عن أدواره السابقة على الأرض. حاول إزاحة رداء “القاعدة” عنه، بإزاحة هلام المجهول عنه. غير أنه فشل، ذلك أن الصدمة البصرية بإشغال الناس به، ستنتهي حين يبدأ التمعّن في مضمون ما قاله، وهو أن تغيير الاسم، ليس نفاذاً من ارتباط عقائدي، بُني على “بيعة الدم” و”السمع والطاعة” لتنظيم “القاعدة”، ويصعب التنصل منه الآن، بحكم تأكيده الحصول على الإذن بالانشقاق عنه.

حاكى الجولاني بلباسه ومضمون إعلانه، تنظيم “القاعدة”، وكرسته هيئته كزعيم لفرع لا يجاهر بالارتباط بالتنظيم الأم، رغم مجاهرته بالولاء له. بمعنى آخر، كان المجاهر والمتستر، والمعلن والمضمر، وهي حرفة جديدة أكسبته إياها التغييرات الدولية.

في الواقع، بدا كشف وجه الجولاني، وسيلة لاحتواء هواجس العالم من الاسلام السياسي المتشدد، والاسلام الدموي. في التفاف التنظيم على اسمه، والتنصل من ولاءاته التي باتت عبئاً عليه، طرح نفسه، بالشكل، بديلاً من داعش، بعد تبني تنظيم أبوبكر البغدادي عشرات العمليات الارهابية في العالم. هنا، قدم الجولاني نفسه بعمّة بيضاء، بدلاً من عمّة البغدادي السوداء. وأعطى الجولاني انطباع الارتياح، في حين اختفت ملامح زعيم غريمه “داعش” وراء القلق الذي مثله في ظهوره اليتيم صيف 2014…

كذلك، أحاط الجولاني نفسه برجلين من شرعيي “النصرة”، في حين ظهر البغدادي وحيداً ومتفرداً ومسؤولاً حصرياً عن ارتكابات تنظيمه.. علماً أن الإحاطة بالجولاني برجُلين يمثلان الامتداد العقائدي لـ”القاعدة”، يأتي بهدف إعفائه من حصرية المسؤولية عن ارتكاباته منذ مطلع 2012، وفق قاعدة “الشورى” التي تعني التشارك في المسؤوليات.. فضلاً عن أن ظهورهما، حمل رسالة داخلية أيضاً للأتباع المحليين، بهدف حماية تنظيمه المجدد من انشقاقات، بالنظر الى ان الرجلين يمثلان “الأنصار” و”المهاجرين”.

تلك الصورة، أرادها التنظيم رسالة للغرب، فترجمها عملياً بترجمتها للانكليزية، قبل أن يسارع مؤيدوه الى موقع “ويكيبيديا” لكشف الطلاسم المحيطة بالتنظيم، أبرزها الاسم الأصلي لزعيمه (أحمد حسين الشرع)، وتبديل اسم التنظيم، وإضافة ما قاله فوراً الى المقالة التي تتحدث عنهما.

غير أن تلك الصورة، لم تكسب الجولاني حضناً محلياً، بقدر ما تحولت الى مادة دسمة للتندر على هيئته. كرّس نفسه في موقع التشدد لدى جمهور سوري يتطلع إلى تغيير عملي وحقيقي، يساهم في دفع العالم للوقوف الى جانبه في حربه ضد آلة القتل المستمرة. وهو ما لم يمنحه إياه الجولاني، بل أعطاه النقيض القاتل.

المدن

 

 

فك الارتباط: كبش “الدولة” ينقذ “القاعدة”؟/ مازن عزي

تنظيم “القاعدة”، بتبريره السماح لـ”جبهة النصرة” فك الارتباط معه، وما تبع ذلك من إعلان أمير “النصرة” أبو الفاتح الجولاني تشكيل تكوين جديد باسم “جبهة فتح الشام”، خطا خطوة علنية أولى، من تبني العدمية باتجاه السياسة. فلأول مرة منذ تأسيس “القاعدة”، يظهر أن التنظيم راغب في دخول منظومة العلاقات السياسية في العالم؛ انتقال من الخروج على النظام العالمي، إلى قبول باشتراطاته.

ورغم الرد الأميركي السريع، وعلى غير العادة، من قبل ثلاث جهات رسمية، حملت تشكيكاً بإعادة التموضع بين “النصرة” و”القاعدة”، إلا أن العلاقة الجديدة بين “القاعدة” و”النصرة” قد تُعيد إلى الأذهان، العلاقة بين “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله”. فـ”الحرس” تمكن من تحويل “حزب الله” من منظمة إرهابية إلى لاعب سياسي في لبنان، وجيش إقليمي يقاتل “الإرهاب السنّي” في المشرق. كما أن تهديد صواريخ “حزب الله” لإسرائيل، استخدمته إيران، كورقة تفاوض مع الغرب في إطار انجاز الاتفاق النووي، وإنهاء عزلة إيران الدولية.

فما الذي يمنع “القاعدة” من تحويل “النصرة” إلى شريك في مقاتلة “الإرهاب الداعشي”؟ فـ”النصرة” هي الأقدر على استقطاب المجتمعات السنّية لمواجهة “الدولة الإسلامية” وسط الـ”براغماتية” الجديدة التي تشهرها “القاعدة”. فإعلان “فك الارتباط” يُشير إلى أن “القاعدة” ترغب في الاستثمار بـ”جبهة فتح الشام” لانجاز تحولها من متخارجة مع المنظومة الدولية، إلى عضو فيها.

التحول الذي طرأ على تفكير قيادة “القاعدة”، وحرصها على استمرارية “الجهاد” في الشام، هو حصيلة مخاض طويل من النكسات التي عاشتها “القاعدة” بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. وتكشف مراسلات زعيم التنظيم السابق، أسامة بن لادن، مع فروع “القاعدة” في العالم، استياءه المتواصل من تعجيل تلك الفروع إعلان انتمائها لـ”القاعدة” وتأسيس إمارات في مناطق سيطرتها. فابن لادن كان دائماً في موقع المتخوف من تنفير المجتمعات المحلية، والغلو في تفسير وتطبيق حدود الشريعة الإسلامية. الأمر الذي اتضح في مراسلاته مع فروع “القاعدة” في اليمن والعراق بشكل رئيس. عصيان أبو مصعب الزرقاوي، لإرادة بن لادن في عدم استهداف شيعة العراق، ولاحقاً رفض أبو عمر البغدادي الرد على مراسلات زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري، كان مصدر احباط للشيخ المعزول في جبال أفغانستان، وفي الوقت ذاته بداية لتضعضع “القاعدة”، ونهاية مركزيتها.

مع بروز “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، بعدما بايع الزرقاوي، بن لادن، ثم تحولها بعد خلافهما إلى “مجلس شورى المُجاهدين” الذي اضمحلّ نفوذه في أواخر العام 2008، بدا أن رأي المركز كان أكثر صواباً من وكيله المحلي، بعد مشاركة الصحوات السنّية في القضاء على التنظيم في المدن العراقية الكبرى.

الثورة السورية وما أحدثته من إعادة خلط لأوراق السلفية الجهادية، كانت فرصة لا تعوض لأبي بكر البغدادي في استعادة الأنفاس. إلا أن إعلان “الدولة الإسلامية” شكّل فعلياً نهاية العلاقة الشكلية المتبقية مع تنظيم “القاعدة” التي ترى في إقامة “الدولة” تحدياً صريحاً من الفرع للمركز، واجتهاداً مغلوطاً ينتقص من شرعيتها. الخلاف تواصل وامتد بين الطرفين، وانقلب حرباً علنية، مع رفض الجولاني أمير “النصرة”، مبايعة البغدادي “خليفة المسلمين”، مطلع العام 2014، وطلبه التحكيم والفصل بين التنظيمين، من زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري.

الظواهري ورث تنظيماً مفككاً عن بن لادن، كما ورث خيباته من فرع “القاعدة” في العراق، وأظهر مقداراً من التردد والضعف في مواجهة القضايا الإشكالية. ومع كل ضعفه، طلب الظواهري من البغدادي الإلتزام بالعراق، معتبراً “جبهة النصرة” الابن البار لـ”القاعدة”، على عكس ابنها العاق “الدولة الإسلامية”.

إعلان “الدولة الإسلامية” وبعدها “الخلافة” كان بداية التحول في تفكير قيادة “القاعدة”؛ فما أُجبِرَت على ابتلاعه غصباً، بدا وإنها قادرة على تقيؤه. وهكذا بدأت الحرب بين “الدولة” والنصرة” في سوريا، على الأرض، وبغرض كسب الحاضنة السنّية.

كما أن خلافاً عقائدياً بدأ يتبلور بين “القاعدة” عموماً وبين “الدولة الإسلامية”. وشكّل ذلك مصدر تحدٍّ خطير لـ”القاعدة”، مع ازدياد وهج “الدولة” واستقطابها المهاجرين من أنحاء الأرض، ومبايعة فروع “القاعدة” في العالم لـ”الدولة” و”الخليفة”. صعود “الدولة” على يمين “القاعدة” مثّل نقطة الضعف الرئيسة لها، وسحب من تحت أقدامها صيتها بين أنصار “السلفية الجهادية”. وظلت “الدولة” مصدر التهديد لـ”النصرة”، نتيجة وجود صقور في “النصرة”، ظلوا مشدودين إلى “الدولة”. الإنشقاقات توالت في “النصرة”، وبايعت جماعات منها، “الدولة”، خلال العامين الماضيين، وانقلب إخوة المنهج أعداء، في الكثير من الحالات.

وتحمل “الدولة الإسلامية” تناقضاً تأسيسياً أولياً: ففي حين تعلن ذاتها “دولة” لها جغرافية وهيكيلة إدارات وأجهزة، إلا أنها تُعلي من لحظة خلاصية تتمثل في نهاية العالم: “القيامة”. تناقض بين السعي “الدنيوي” في الأرض، وبين النزوع إلى “الماورائي” عبر استعجال “يوم الحساب”. الإقامة في البرزخ بين الحياة والموت، هو الحلّ الذي تُقدّمه “الدولة الإسلامية” لمريديها؛ فالعالم على وشك النهاية، وعبور هذا الخط الواهي، هو انتقال من دار الفناء إلى دار البقاء. هنا تنتفي السياسة لصالح العقيدة، ويكاد يصعبُ العثور على مبررات سياسية للعمليات الإرهابية التي تتبناها “الدولة الإسلامية” في أصقاع الأرض. وإقامة “الخلافة” في هذا السياق كانت تحقيقاً لشرط “نبوئي” يربط نهاية الأزمان بعودتها، وهو أحد أهم الخلافات العقائدية مع قيادة “القاعدة” السابقة والحالية.

التناقض التأسيسي لدى “الدولة”، حمل للمنظمة الأم “القاعدة”، فرصة للتمايز، عبر “جبهة النصرة”. استدارة من العدمية إلى السياسة. من رفضها المنظومة العالمية، إلى إعلان الرغبة بالدخول فيها. فعرضت “النصرة”، على لسان ناطقها الرسمي أبو عمار الشامي، قبل أيام، عدم الرغبة في استهداف الغرب، والتركيز على “الجهاد الشامي” المحلي. بالنسبة إلى “جبهة النصرة”، العدو على الأرض، لا خلف البحار.

ونقطة الضعف لدى “النصرة” أمام “الدولة”، في احتكار “الدولة” مشروعية “السلفية الجهادية” لمجابهة العالم، كانت قد تحولت إلى فرصة لـ”القاعدة” في سوريا، اعتمدته في إعلان فك الارتباط، بالانتقال من “جهاد النخبة” إلى “جهاد الأمة”. وكانت “القاعدة” قد دعمت عبر “جبهة النصرة”، تمكين المجتمعات السنيّة السورية، والتدرج في فرض الشريعة، والدخول في تحالفات مع بقية الفصائل الإسلامية ولو أن بعضها غير منتمٍ لتيار “الجهادية السلفية”. تجربة ليست بالوردية، في ظل غلو قياديي “النصرة” وتطرفهم، ورفضهم في معظم الحالات الاستماع للمجتمعات السنية السورية، وحروب إلغائهم لفصائل الجيش الحر المدعومة غربياً.

الخلاف بين “الدولة” و”القاعدة” ساهم في إعادة تموضع الأخيرة، وبحثها عن فرصة للاستمرار من خلال “النصرة”. ومع إعلان التوافق الروسي-الأميركي، على استهداف “النصرة”، جاءت اللحظة الحاسمة، التضحية الكبيرة: فك الارتباط.

اللافت كان في الكلمة الصوتية لنائب الظواهري، أبو الخير، الذي اقتبس مقطعاً للظواهري يدعم فيه مجاهدي الشام “في مواجهة عدوكم العلماني الطائفي الذي تدعمه القوى العلمانية الرافضية الصفوية روسيا والصين وتتواطأ معه الحملة الصليبية المعاصرة”. إغفال صريح لذكر أميركا بالاسم، كمؤشر ترسله “القاعدة” عن رغبتها في التنازل.

ولكن، ألا يُمكن أن يكون فك الارتباط، نكوصاً عن التناقض التأسيسي لـ”الدولة”، وعودة من خط الموت إلى الحياة، كاعتذار ضمني عن تأخر ظهور “المهدي” وتأجيل “المعركة الختامية”.. أو ربما تقديم “القاعدة” ذاتها كأضحية مقابل نجاة “النصرة”، كأن يُضحي إبراهيم بذاته فداء ابنه، عسى كبش “الدولة” يظهر من الصحراء؟

المدن

 

 

الظواهري شريكاً في سوريا؟/ سميح صعب

منذ بداية الاتصالات الاميركية – الروسية حول سوريا، كانت واشنطن ترفض اعتبار “جبهة النصرة” مثل “داعش” على رغم ان التنظيمين موضوعان على اللائحة الاميركية للارهاب. كانت أميركا تريد تجاوز التصنيف لمصلحة انتهاج سياسة ذرائعية صرفة. وتقوم هذه السياسة على استخدام “النصرة” رأس حربة في مواجهة النظام السوري بعدما تبين للمسؤولين الاميركيين عن الملف السوري أن بقية الفصائل التي موّلتها وسلّحتها أميركا غير قادرة على القيام بهذه المهمة، في حين ان “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تعول عليها واشنطن في محاربة “داعش” لها خاصية مناطقية من الصعب تجاوزها.

وتفادياً لمزيد من الاحراج أمام الروس، لم تجد واشنطن مع حلفائها الخليجيين سوى اللجوء الى الضغط على “النصرة” لفك ارتباطها بـ”القاعدة” من أجل إضعاف المطالبة الروسية بأن يشمل التعاون العسكري الاميركي – الروسي في سوريا توجيه ضربات الى “داعش” و”النصرة” على حد سواء. اليوم تتخذ “النصرة” اسم “جبهة فتح الشام” أملاً في ان يجنبها تغيير الاسم وابقاء المضمون الاستهداف الروسي.

ولا يعدو ذلك حيلة أميركية لإنقاذ “النصرة” وإبقائها قوة أساسية في مواجهة النظام في مرحلة مفصلية من الحرب السورية. الولايات المتحدة ستقدم للروس اليوم ما تعتبره إنجازاً قائماً على ابتعاد زعيم “النصرة” أو ما بات الآن “جبهة فتح الشام” أبو محمد الجولاني تنظيمياً عن أيمن الظواهري، ولكن ماذا عن الرابط الفكري؟

ما يهم أميركا الآن أنه لم يعد ثمة شيء اسمه “جبهة النصرة” في سوريا وتالياً يعتقد وزير الخارجية الاميركي جون كيري أنه ليس من حق نظيره الروسي سيرغي لافروف ان يواصل إثارة مثل هذه المسألة عند البحث في الوضع السوري.

وأشد ما يستدعي الاستغراب هو فك الارتباط الذي حصل بسهولة من الطرفين. فالظواهري أعطى الضوء الاخضر للجولاني كي يعلن الانفصال بمرونة غير معهودة لدى التنظيمات الجهادية التي غالباً ما تكفر بعضها بعضاً وتعلن الخصومة والعداء عندما تحصل عملية انشقاق أو انفصال. فهل بات الظواهري شريكاً في حل الازمة السورية ومن أتى به الى الطاولة؟

كثيرة هي الاسئلة التي تطرحها عملية الانفصال وقت عادت التطورات الميدانية لتصب في مصلحة النظام السوري، وخصوصاً بعد إطباق الحصار على حلب وعودة روسيا الى تفعيل مشاركتها العسكرية، فيما لا يبدو ان حظوظ التقدم نحو حل سياسي متوافرة بالشكل المطلوب، وخصوصاً أنه لم يعد أمام ادارة الرئيس الاميركي باراك أوباما سوى أشهر معدودة في البيت الأبيض.

النهار

 

 

فك ارتباط/ د. محمد سليمان أبو رمان

قرار الانفصال وفك الارتباط بـ”القاعدة” الذي أعلنه، قبل أيام، أمير جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، ليس مجرّد قرار شكلي، أو تكتيكاً لتجنّب الضربات الروسية المتوقعة بعد التفاهمات الروسية- الأميركية الأخيرة في موسكو، وما نتج عنها من مطالب أميركية للفصائل المسلحة بالتمايز عن الأماكن التي يوجد فيها أعضاء “النصرة”، لكي لا يطاولها القصف المتوقع.

بالضرورة، ثمة ضغوط شديدة من الفصائل الحليفة لـ”النصرة” (خصوصاً حركة أحرار الشام التي تنضوي معها في جيش الفتح) عليها لاتخاذ القرار، بعدما ضاقت الخيارات أمامهم جميعاً، مع التحول في الموقف الدولي، إلا أنّ قرار جبهة النصرة لم يكن ليتحقّق ويُنجز، لولا وجود أسباب وعوامل أخرى، ساعدت على اتخاذه، في مقدمتها موقف “القاعدة” الأم نفسها، التي عبّدت الطريق لقيادات “النصرة” عبر البيان الذي قدمه نائب الظواهري، أحمد أبو الخير، متيحاً المجال للجولاني لإعلان الانفصال.

من زاوية أنّ القرار شكلي، وأنّ أيديولوجيا “النصرة” لن تتغير، قد يكون ذلك صحيحاً جزئياً، فالتنظيم، كما ذكر الجولاني نفسه، يسعى إلى تحكيم الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، ولن يتخلى، بكبسة زر، عن جزءٍ أساسي من بنيته الأيديولوجية الصلبة. لكنّ القرار، في المقابل، بمثابة خطوةٍ أولى في صيرورةٍ جديدةٍ تمرّ بها “النصرة” و”القاعدة” على السواء، في تحولاتهما المشتركة، ولولا التحولات التي حدثت لدى تنظيم القاعدة، لما نتجت “النصرة” ابتداءً بهذه الصورة الجديدة، الأقرب إلى الطابع الشعبوي والتحالف مع الفصائل الإسلامية الأخرى.

المراجعات التي تمت داخل “القاعدة” في مرحلة الربيع العربي، وكشفت لنا وثائق أيوت آباد جزءاً كبيراً منها، هي التي أنتجت “النصرة” السورية بصيغتها الجديدة، وهي التي فتحت الباب للأخيرة للانفكاك لاحقاً عن القاعدة، وهي التي ستقود “النصرة” إلى التحولات والتكيفات اللاحقة نحو السورنة، والتوطين في المجتمع والمشهد السوري، حتى وإن كان كل منهما (“القاعدة” أو “النصرة”) يريان أنّ “النصرة” ستبقى مواليةً لـ “القاعدة” ومنتميةً إلى فضائها الأيديولوجي، ومتناغمة معها استراتيجياً، لكن القرار فتح الباب لتحولاتٍ وتطوراتٍ أخرى في مسار “النصرة”.

تتمثل النتيجة الأولى المتوقعة لمثل هذا القرار بتحييد أو بانشقاق الجناح المتشدّد من “النصرة”، وانحياز أعضائه إلى تنظيم الدولة، وهو أمر يهدّد بالفعل تماسك “النصرة” وصلابتها التنظيمية الداخلية، لكنه، في الوقت نفسه، يريحها من أزمةٍ رافقتها، منذ البداية، أوقعتها في هويةٍ معقدةٍ ملتبسةٍ بين الانتماءين، المحلي السوري والخارجي، في العلاقة مع “القاعدة”، ما أحدثَ إشكالية كبيرة في تعريف الجبهة، وفي تعريف أعضائها أنفسهم ومهمتهم وأدوارهم، وأوجد صراعاً داخلياً بين الجناحين، السوري والخارجي في الحركة، خصوصاً الأردنيين الذين بدأت أعداد منهم تتسّرب إلى تنظيم الدولة، ولا سيما في محافظة درعا.

اليوم بعد قرار “النصرة”، أصبحت، نظرياً، قريبةً من الخط الأيديولوجي لفصائل سلفيةٍ أخرى، وإن كانت ما تزال (أي النصرة) على خط السلفية الجهادية، لكنّها ستبدأ تأخذ طابعاً محلياً أكثر فأكثر، وستعتمد درجة انتقالها وصيرورتها في هذا المجال، وتدحرجها نحو خطٍّ واقعيٍّ أكثر اعتدالاً على المواقف الدولية والإقليمية، وعلاقتها بالفصائل السورية الأخرى.

صحيح أنّ الولايات المتحدة أعلنت أن لا شيء تغير حتى الآن، وأن “النصرة” ما تزال تعد بالنسبة لهم إرهابية، وصحيح كذلك أن القرار تأخّر كثيراً، حتى فقد الروافع الإقليمية له (خصوصاً الأتراك)، لكن حتى الإدارة الأميركية أبقت الباب موارباً قليلاً ومرتبطاً بسلوك “النصرة” في المرحلة المقبلة، ما يوجِد ولو مساحةً محدودةً جداً، تتيح لجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) التكيّف مع التحولات الجديدة، والمضي أكثر فيها.

أما “القاعدة” فمثل هذه الخطوة تمثل نقطة تحولٍ كبيرةٍ في مسارها أيضاً، وضمن الصراع التراجيدي بينها وبين تنظيم الدولة، وربما ينظر التنظيم إلى أنّ شيخها (القاعدة) أيمن الظواهري خسر رهانه على “النصرة”، وأن ما يحدث يقوّي التنظيم عالمياً، بوصفه حامل مشروع الجهادية العالمية، ويضعف “القاعدة”، وذلك صحيح مبدئياً، لكن ما حدث، في الوقت نفسه، يعزّز ويجذّر من التحولات التي تمر بها “القاعدة” التي بدأت مع أسامة بن لادن، وتحمّل احتمالاتٍ كبيرة، من بينها استقلال المنظمات والفصائل المختلفة التابعة لها، وربما اختفاء “القاعدة” راعياً لهذه المنظمات لاحقاً.

* د. محمد سليمان أبورمان باحث بمركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية مهتم بقضايا الفكر الإسلامي والإصلاح والتحول الديمقراطي

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى