صفحات العالم

عن “داعش” –مقالات مختارة-

داعش” يغنم السلاح والمدن… وطهران تنتصر/ حازم الامين

أصبح المشهد مملاً بالفعل. لم يعد مذهلاً ومُروعاً، على نحو ما جرى قبل نحو سنة في الموصل. اليوم صار بإمكاننا أن نقول إن الحكومة العراقية المدعومة من إيران ومن الولايات المتحدة الأميركية تتولى تسليح «داعش». جيشها ومنذ أكثر من سنة ينسحب من مدينة تلو الأخرى مخلفاً وراءه كميات هائلة من الأسلحة الحديثة، بحيث أصبح لدى التنظيم المُتمدد في مدن العراق ترسانة أسلحة حديثة لا يملكها الكثير من جيوش المنطقة.

واللافت أيضاً أن الحكومة العراقية نفسها، أي المدعومة من طهران ومن واشنطن، ترفض تسليح العشائر السنية في العراق، مدعية أن السلاح إذا مدتهم به لقتال «داعش» سينتقل إلى يد التنظيم، علماً أن جيشها من يمد «داعش» بالسلاح، وهذا فيما كشفت الوقائع أن السلاح بيد ذلك التنظيم موجه بالدرجة الأولى إلى صدور أبناء العشائر في الأنبار وقبلها الموصل.

تريد الحكومة أن ترسل الحشد الشعبي الشيعي ليقاتل في مدن السنة في الأنبار.

والحال أن «داعش باق ويتمدد». هذا الأسبوع قُدمت له مدينة الرمادي على طبق من ذخائر وأسلحة. الفضيحة مدوية من بغداد إلى واشنطن. آلاف من جنود الجيش العراقي المدعومين بغطاء جوي أميركي، هُزموا أمام مئات من مقاتلي «داعش». والأهم من هذا كله أن التنظيم استولى على مخازن سلاح الجيش المنهزم.

«داعش باق ويتمدد» أيضاً في سورية، فها هو النظام ينسحب برشاقة من مدينة تدمر. هزيمته أمام «داعش» كانت أنيقة ومريحة، بينما حملت هزائمه في إدلب طعم المعارك الحقيقية. وعلى غير عادتهم، تولى إعلاميو النظام في سورية وفي لبنان زف خبر استيلاء «داعش» على تدمر بسرعة احتفالية، بينما تأخروا في إعلان هزائمهم في إدلب، واصفين ما جرى هناك بـ«إعادة الانتشار».

الهزيمة في الموصل لم تكن درساً، بل كانت نموذجاً تولى الجيش العراقي تعميمه على باقي المدن. كما لا يمكن لعاقل أن يُصدق أن جيش النظام في سورية وجيش الحكومة في العراق، وكلاهما مدعوم من طهران، بالإضافة إلى الغطاء الجوي لأقوى سلاح جو في العالم، كل هؤلاء عاجزون عن إلحاق هزيمة بـ»داعش»، لا بل عاجزون عن وقف تمدده. إذاً ثمة رغبة في أن يتفشى «داعش» في تلك الصحراء التي تخترق العراق وسورية، وأن يُلامس نفوذه حدود دول مثل السعودية والأردن. خريطة تمدد التنظيم تشير إلى ذلك، وكذلك حسابات طهران، وفتح الصحراء أمام طموحات «الخلافة» سيخدم وجهتها في المواجهة المفتوحة اليوم.

لا يُمكن تفسير هذا التمدد السهل للتنظيم الإرهابي من دون شكوك من هذا النوع. وإذا كانت الولايات المتحدة غير معنية بالحد من هذا الجموح فإن إيران لطالما اعتمدت في تعاملها الإقليمي على سيناريوات مشابهة.

انتصارات «داعش» المريبة، وكميات الأسلحة في الرمادي والموصل وقبلهما الفلوجة، خطة تعويم مبرمجة ومنهجية. الموارد التي ستؤمنها له تدمر أيضاً ستكون علاجاً لما عاناه التنظيم في السنة الأخيرة من شح في الموارد المالية. يجري هذا في ظل ابتسامة عميقة مرتسمة على وجه قاسم سليماني.

لا يُمكن لـ«داعش» أن يتمدد من دون رغبة طهران في تمدده. الهزيمة في الرمادي في حال عدم صحة هذا الافتراض، هي هزيمة لطهران، في وقت بدت هزيمة الجيش العراقي هناك هزيمة لخصوم طهران السنة، سواء كانوا عراقيين أم دول جوار.

الأمر نفسه في تدمر، فقد حملت هزيمة جيش النظام في تدمر ما لم تحمله هزيمته في إدلب. ثمة بعد احتفالي في إعلان الهزيمة في تدمر، بينما بدت المرارة واليأس حاضرين في مشهد سقوط معسكر المسطومة بيد فصائل ليست «داعش» بينها. ويكاد المرء يشعر أن النظام في سورية رد على هزائمه في إدلب بإلحاق هزيمة بنفسه أمام «داعش» في تدمر.

أن تكون «داعش» خصمك فهذا ما سيعطيك المزيد من الفرص لأن تمد نفوذك، وأن تجد غطاء دولياً لهذا النفوذ. وطهران نجحت في تثبيت هذه المعادلة في العراق وفي سورية. فلا حرب حقيقية تُخاض ضد التنظيم منذ بدء تمدده. ما جرى في تكريت كان عراضة، وكانت أكلافه أكبر بكثير من نتائجه. في تلك المدينة وقع نصر على «داعش» حمل أيضاً طعم الهزيمة. طهران قالت في تكريت إن أي نصر على «داعش» هو انتصار للشيعة على السنة. على هذا النحو خيضت الحرب هناك، وهذا ما فهمته عشائر الأنبار التي كان من المفترض أن تُباشر القتال في مدنها وفي صحرائها فور إنجاز المهمة في تكريت.

لا تريد طهران أن تسلح العشائر السنية في العراق لكي تقاتل «داعش»، وهي إذ تتهم هذه العشائر بالوقوف وراء انتصارات «داعش» تعاين حقيقة أن ضحايا «داعش» بالوجوه والأرقام هم أبناء هذه العشائر دون غيرهم. لا بل إن فتك التنظيم المتوحش بالبنى العشائرية وصل إلى مستويات غير مسبوقة. فقد استمال التنظيم أفخاذاً ضعيفة فيها وقدمها على الزعامات التقليدية، وها هي عشائر تكريت بعد هزيمة «داعش»، غارقة بنزاعاتها الداخلية الناجمة عن فتك «داعش» بها.

لقد قالت طهران لخصومها منذ اليوم الأول من الثورة في سورية ومنذ اليوم الأول من ولادة «داعش» في العراق: «أريد داعش خصماً وأريدكم أن تكونوا هناك تحت عباءة الخليفة».

هذا ما دأبت هي وحلفاؤها في سورية وفي العراق على تقميشه، وهو أيضاً ما لم تُواجه بمقاومة في تنفيذه. وهي تمكنت من أن تستثمر بحربها غير الفعالة على «داعش» كما لم تتمكن من استثمار أي إنجاز آخر لها. النظام في سورية ما كان له أن يصمد من دون أن تُصور الثورة عليه بصفتها زحفاً تكفيرياً.

وحده هذا ما يُفسر الاستيلاء السهل على أسلحة الجيش العراقي وذخائره، ووحده ما يُفسر سقوط المدن واحدة تلو الأخرى.

الحياة

 

 

 

تمدد «داعش» السوري وانحساره/ فايز سارة

ثمة تطورات متناقضة تتعلق بـ«داعش» في سوريا، وتندرج هذه التطورات في سياقين مختلفين؛ أولهما تمدد وجود ونفوذ التنظيم في المناطق الشرقية وصولاً إلى تدمر وسط البلاد، والثاني انحسار وجوده ونفوذه في جنوب البلاد من درعا والقنيطرة إلى دمشق وريفها، وصولاً إلى القلمون.

ومما لا شك فيه أن تناقض امتداد «داعش» وانحساره، يثير أسئلة كثيرة، تتعلق بالتنظيم من جهة، وبالظروف المحيطة به، سواء في مستواها السوري أو بالمستوى الإقليمي والدولي، وكلها عوامل لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في ظاهرة متناقضة، تحيط بقوة عسكرية وآيديولوجية ووظيفية مهمة.

والتوقف عند «داعش» نفسه، لا بد من ملاحظة أن التنظيم استطاع توفير قوة تنظيمية – بشرية، إضافة إلى قوتين تسليحية ومالية كبيرتين، مما جعله قوة مهمة في سوريا، أهلته للانتشار والتمدد في أنحاء مختلفة، ولا سيما في المناطق الشرقية الموصولة بالعمق الاستراتيجي للتنظيم في العراق، حيث يشكل هناك قوة كبيرة، تخوض حربًا واسعة ضد قوات الحكومة المركزية في العراق، كما ضد حكومة الإقليم في كردستان، إضافة إلى تماسات صراعية مع أوساط سنية، وخصوصًا مع عشائر غرب العراق، وكان في نتائج الحرب استيلاء «داعش» على الرمادي، بعد أن كان، في وقت سابق، استولى على الموصل، أكبر مدن العراق في الشمال الغربي.

وكما في الحالة العراقية، ارتبط تمدد التنظيم في سوريا بشعارات متطرفة، جذبت إليه أوساطا من متطرفين، وبممارسات دموية، خضعت له فئات من الخائفين، وشكلت المجموعتان لحمة حول نواة التنظيم من المتطرفين القادمين من الخارج.

ورغم أهمية الوضع الداخلي للتنظيم وقوته الظاهرة، فلا يمكن رؤية تمدده معزولاً عن روابط سرية وعلنية مباشرة وغير مباشرة مع نظامي الحكم في العراق وسوريا اللذين تجمعهما إليه روابط التطرف والإرهاب الهادف إلى السيطرة، التي هي مهمة وظيفية مشتركة لهم جميعًا، وعبرت الروابط عن نفسها في تواطؤ النظامين مع التنظيم وتقوية قدراته التنظيمية وإمكاناته، بإطلاق سراح قيادات وكوادر له من سجون سورية، وتهريب آخرين من السجون العراقية، وتمرير بعضهم عبر حدود البلدين، وتسهيل استيلائهم على مناطق استراتيجية وأموال وأسلحة، وكله معزز بمعلومات أشارت إلى روابط «داعش» القائمة مع أجهزة أمنية للنظامين السوري والعراقي، دون استبعاد ما تردد عن علاقات استخبارية تربط «داعش» مع أجهزة إيرانية.

وإذا كانت العوامل الإقليمية أسهمت في تمدد التنظيم وانتشاره، فإن سياسة التحالف الدولي في الحرب عليه عبر العمليات الجوية، لم تقضِ عليه حتى الآن، وقد حشدت إلى جانبه غاضبين وخائفين باحثين عن حماية من أي نوع، حتى لو كانت من جماعة متطرفة مثل «داعش».

ورغم العوامل المساعدة، فإن تمدد التنظيم وانتشاره في المناطق الشرقية والشمالية وصولا إلى وسط سوريا، لم يكن سهلاً خاصة لجهة رفض سكان تلك المناطق وتشكيلات مسلحة معارضة فيها لوجود التنظيم في فكره وممارساته، وهذا ما ظهر جليًا في دير الزور في مواجهات عشائر شعيطات مع التنظيم الذي قتل نحو ألف منهم للسيطرة على المنطقة، وما زال التنظيم يواجه مقاومة قوية في مناطق واسعة من الحسكة، تشكل وحدات الحماية الكردية قلبها القوي، كما أن تشكيلات الجيش الحر ووحدات الحماية الكردية، دفعت في العام الماضي ميليشيات «داعش» للخروج من مناطق عديدة في ريف حلب وإدلب، ومن رأس العين – كوباني، وكلها عمليات أكدت رفض السكان والتشكيلات المسلحة وجود «داعش» وتمدده في هذه المناطق.

ومن المؤكد أن رفض السكان والتشكيلات المسلحة المعارضة، لعب دورًا في تحجيم التنظيم والقضاء عليه، بما في ذلك بعض خلاياه النائمة في مناطق وسط وجنوب سوريا، حيث تمت تصفية ميليشيات التنظيم في الأشهر الأخيرة في الغوطة الشرقية بصورة تقريبية، وبصورة كلية في برزة والقابون شمال دمشق، وفي القنيطرة وبعض أنحاء درعا، وقد جرت صدامات، أصابت التنظيم بخسارات كبيرة في القلمون، في الأسابيع الأخيرة.

غير أن رفض السكان لوجود «داعش» في الوسط والجنوب، لم يكن السبب الوحيد في تصفيته والحد من وجوده. بل إن عزله عن التواصل مع عمقه العراقي، وغياب دور للنظام وأجهزته العسكرية والأمنية في مؤازرة «داعش» ودعمه مباشرة أو في الباطن، كانا بين الأسباب، التي حجمت التنظيم ومنعت تمدده في هذه المناطق.

خلاصة القول إنه لولا الدعم المباشر وغير المباشر الذي تلقاه التنظيم من أجهزة استخبارية متعددة تتقاطع أهدافها في إشاعة الفوضى والقتل والدمار مع أهدافه، ولولا تواطؤ مباشر وغير مباشر يقوم به نظام الأسد في تمكين «داعش» من الإمساك بمناطق، كان آخرها تدمر وما تحتويه ومحيطها من أسلحة وعتاد، ولولا الهجمات الجوية للتحالف الدولي، التي كان أغلبها بلا فائدة حقيقية، ما كان للتنظيم أن يتمدد، وينتشر على نحو ما صار إليه، خصوصا في ضوء المقاومة المسلحة والشعبية له، التي تجلت واضحة في معظم المناطق التي دخلها أو خرج منها.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

كيف السبيل لوقف تمدد «داعش»؟/ الياس حرفوش

أصبح تنظيم «داعش» على بعد مئة كيلومتر من العاصمة العراقية بغداد ويسيطر على قلب البادية السورية وعلى إحدى درر حضارتها العريقة، مدينة تدمر. ولا يخفي نواياه في التقدم، إذا استطاع، نحو حمص وصولاً بعدها إلى العاصمة دمشق.

عاصمتان في قلب العالم العربي مهددتان اليوم من خطر اجتياحهما من جحافل تنظيم إرهابي لا ينتمي إلى هذا العصر ولا إلى أي عصر، يضرب من غير رحمة ولا وازع، في المساجد والكنائس، في مواقع الحضارة والتراث، في قلب الأحياء والأسواق. لا اعتبار عنده لأي قيمة إنسانية أو رادع ديني أو أخلاقي.

كنا نقرأ في كتب التاريخ عن جرائم مغول هولاكو بحق بغداد بعد حصارها وإحراق مكتبتها على أثر هزيمة جيش الخليفة العباسي المستعصم وقتله في أوساط القرن الثالث عشر الميلادي (أواسط القرن السابع الهجري). كنا ندهش لتجرؤ أولئك الوحوش على إحراق الكنوز التي كانت تملأ «بيت الحكمة» في بغداد وإلقائها في مياه نهر دجلة التي اصطبغت باللون الأسود.

ولم نكن نتصور أننا سنعيش إلى يوم نخشى فيه على مصير هذه الآثار التي تقف أمامنا اليوم شاهدة على عصور من الحضارات تعاقبت على هذه المنطقة ولم تمسّها يد بسوء، منذ أيام الفتح الإسلامي إلى أزمنة الخلفاء الذين تعاقبوا على حكم هذه المناطق المترامية الأطراف. وإذا بنا الآن نقف جميعاً خائفين، مذهولين وعاجزين أمام معاول عناصر «داعش» ومطارقه تمعن تدميراً في هذه الآثار، من الموصل إلى مملكة الحضر إلى نمرود الأشورية، وصولاً اليوم إلى تدمر التي يُقلق مصير آثارها العالم المتحضر.

السؤال الذي نطرحه جميعاً على أنفسنا: من أين ولد هذا التنظيم؟ أية أرحام حملت هذه العناصر المجرمة التي تنضوي بين صفوفه؟ وما هو السبيل لمواجهة هذه الموجة التكفيرية التي تشكل اليوم تهديداً خطيراً لتراثنا وحاضرنا ومستقبل أجيالنا؟

لا بد من الاعتراف أولاً بحالة الفشل والانهيار التي تعاني منها الدولتان اللتان تشكلان اليوم المسرح الأساسي لتقدم جحافل «داعش» واتساع نفوذه، أي سورية والعراق. هل هي مجرد صدفة أن هذا التنظيم نشأ وأخذ يتمدد على مساحة كبيرة من البلدين في ظل نظامين يعتمدان الهوية المذهبية الواضحة كقاعدة للحكم والتعامل مع مواطنيهما؟ فلولا التفكك الداخلي ومناخ التطرف المذهبي، وسقوط القوة الأمنية التي تحافظ على وحدة الدولة وسيطرتها على أرضها، لما كان هناك مكان لـ «داعش» أو لأي تنظيم آخر، على حساب المؤسسات الأمنية التي يفترض أن تحمي حياة المواطنين وتحافظ على حقوقهم.

لذلك، ومن هنا، يجب أن يبدأ أي حديث جدي عن مواجهة «داعش» وهزيمته وتخليص منطقتنا من هذا «الفكر» التكفيري. لا بد من إعادة تكوين دولنا على أسس المواطنة الصحيحة، حيث يتحمل الجيش الوطني وحده المسؤولية عن حماية كل مواطنيه، وليس كما فعل الجيش العراقي الذي كان موجوداً في الرمادي وقبلها في الموصل، وهرب من المواجهة ليترك عاصمة محافظة الأنبار في يد «داعش». أو كما يفعل ما تبقى من جيش النظام السوري الذي يتصرف في المناطق ذات الأكثرية السنّية باعتبارها مناطق عدوة، ثم يطلق العناصر الإرهابية من سجونه للتكفل بـ «حمايتها».

سوف يكون مستحيلاً نجاح الحملة على «داعش» من دون كسب ثقة أبناء المناطق التي يسيطر عليها التنظيم وإشراكهم بصورة أساسية في هذه الحملة، وخصوصاً أبناء العشائر العراقية في الأنبار، ذلك أن أي مشروع فئوي مذهبي ضد «داعش»، كما يجري التخطيط له حالياً من قبل الحكومة العراقية، هو ورقة سوف يستخدمها التنظيم في حربه الإعلامية، خصوصاً في ظل مناخ الصراع المذهبي الدائر في المنطقة.

أما في سورية، وكما كررنا مراراً، فلا بد من استمرار الرهان على ما بقي من عناصر معتدلة في المعارضة، بعدما دفعت جرائم نظام الأسد أكثرهم إلى حضن المتطرفين والتكفيريين، على قاعدة «لا يفل الحديد إلا الحديد». ومن البديهي القول إن استمرار النظام في جرائمه سوف يدفع معظم المناطق السورية إلى حضن «داعش».

أما الاتكال على الدعم الأميركي في هذه المواجهة، فقد أثبت فشله مرة بعد أخرى، في ظل إدارة أوباما التي تنظر إلى مشاكل المنطقة، ومن بينها الصراع مع «داعش»، على أنها مسؤولية أبناء المنطقة أنفسهم، وأن عليهم بالتالي أن يقلعوا شوكهم بأيديهم. اهتمامات أوباما بالنسبة إلى منطقتنا هي في اتجاه آخر، تحتل إيران الأولوية فيه، ولا يشغله كثيراً التهديد الذي يشكله تنظيم «داعش» على حضارتنا ومستقبلنا.

الحياة

 

 

 

سقوط في هاوية “داعش”…/ حسن شامي

ما إن جرى الإعلان عن تقدم تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) نحو مدينة تدمر الأثرية، حتى أخذت الأنفاس تحتبس بطريقة مختلفة عن احتباس الأنفاس، إلى حدّ الاختناق أمام الفظاعة السورية المفتوحة على مزيد من الفظائع.

والحق أن مجرد اقتراب التنظيم الإسلامي ذي السمعة الشمشونية الجهادية، من لؤلؤة البادية السورية، كان كافياً لحبس أنفاس من نوع خاص. إنها أنفاس القيّمين على التراث العالمي للبشرية. فمن المعلوم أن منظمة اليونسكو الدولية أدرجت تدمر الأثرية، إلى جانب ستة مواقع سورية أخرى، في عداد المواقع التراثية العالمية الجديرة بالحماية والرعاية. يمكن أن نضيف إلى القيمين بصفة مؤسساتية كل المعنيين بآثار الأزمنة والحضارات القديمة ولغير اعتبار. من الصعب أن نفصل اضطلاع الهيئات، الدولية وغير الدولية، بحماية المعالم الأثرية والشواهد التاريخية عن صورة مطلوبة للعلاقة بين أزمنة الماضي الكثيرة والحاضر.

أصبحنا اليوم في حال أصعب. فاستيلاء «داعش» على كامل تدمر بعد انسحاب القوات النظامية منها، وإخلاء المدنيين ونقل مئات التماثيل والتحف الأثرية إلى دمشق، يعد بإثارة وتشويق مشهديين قد يفوقان ما صنعه التنظيم الإسلامي بالمعالم الأثرية في الموصل ومواقع أخرى. أصبحنا أمام مشهد سريالي. بات «داعش» يحتجز مواقع أثرية حظيت طوال عقود بصيانة ورعاية شبه طبية، ولاعتبارات لا تقتصر على مردودها الاقتصادي السياحي. فحراسة المعالم العمرانية ورعايتها تمنحان أي نظام أمني قيمة مضافة يحتاج إليها لتثبيت سلطته أمام الخارج بطريقة لائقة.

في يد «داعش» الآن رهينة ثمينة جداً اسمها تدمر. لقد دخل الفيل إلى قاعة مليئة بالأوعية الزجاجية النادرة. ولا يعلم أحد حتى الآن ماذا سيفعل الفيل الهائج باللآلئ الحجرية الشاهدة على حضارات بشرية تعود إلى ثلاثة أو أربعة آلاف سنة. هامش الابتزاز والمقايضة كبير، بحيث يكاد يتحوّل ههنا إلى متن استراتيجي. وقد انهالت التصريحات الدولية تعبيراً عن قلق وخشية كبيرين من وقوع كارثة «حضارية» مرتقبة. فالخارجية البريطانية اعتبرت سقوط تدمر «مأساة». والمديرة العامة لمنظمة اليونسكو، إيرينا بوكوفا، حذرت من أن تدمير الآثار في تدمر لا يعدّ جريمة حرب فحسب، بل سيكون خسارة هائلة للبشرية. ودعا الرئيس الفرنسي إلى التحرك لمواجهة الخطر الإرهابي بعد استيلاء «داعش» على تدمر. أما الإدارة الأميركية، فاعترفت بحصول انتكاسة في استراتيجية الحرب ضد «داعش»، خصوصاً بعد سقوط مدينة الرمادي العراقية في قبضته. لكنها لا تشك في استرداد المدينة ولا في الانتصار على التنظيم الإرهابي.

ثمة بالطبع سوريون كثر يرون في قلق المنظـــمات الدولية على مصير تدمر الأثرية، ترفاً أرستقراطياً فيما الواقع السوري يغـــوص أكثر فأكثر في الوحل. لا نستبعد أن يرى البعض في هذا القلق ضرباً من اللهفة الجمالية الزائدة، ما يجعله أشبه بحرص المرأة العجوز على الاحتفاظ بدميتها في زمن الكوليرا أو في قلب الزلزال. غير أن تسويق القلق أو تظهيره لا ينفصل، في ما يبــدو، عن حسابات ومناورات دعوية باتـــت مـــدار السياسة في الجحيم السوري. فقبيل استيلاء «داعش» على تدمر، ناشد ائتلاف قوى المعارضة السورية منظمة اليونسكو التدخل لحماية الآثار، معتبراً أن النظام الأسدي سيتهاون في الدفاع عنها. وهو كلام إعلـــامي يهدف استباقياً إلى تسجيل موقف لائق بصورة المعارضة الخارجية. ألم يكن من الأنسب مناشدة التحالف الدولي الــذي تقوده الولايات المتحدة رسمياً وعلناً ضد «داعش»، كي يتدخل لمنع التنظيم من اجتياح تدمر؟. ذلك أن قيادة الائتلاف ذات الصلات بقوى دولية وإقليمية نافذة، تعلم أن قوات اليونسكو تعادل قوات بابا الفاتيكان، وفق تصريح شهير لستالين.

هناك رمزية أخرى لتدمر غير رمزيتها الأثرية. وهي رمزية حاضرة في ذاكرة العديد من السجناء السوريين. ففي تدمر سجن سيئ الذكر والسمعة. فقد جرى فيه إعدام مئات الإسلاميين في مطلع الثمانينات، إثر محاولة اغتيال فاشلة استهدفت الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. ومع أن سجن تدمر أُغلق في بداية عهد بشار الأسد، فقد أعيد فتحه قبل أربع سنوات مع حملات الاعتقال التي شنّها النظام ضد المحتجّين. وليس معلوماً بدقة ما حلّ بهؤلاء السجناء، وإن كان مدير المرصد السوري يؤكد أن السجناء الجدد هم من العسكريين الذين رفضوا الأوامر أو حاولوا الانشقاق. وليس معلوماً كذلك، ماذا سيفعل «داعش» بهذه الرمزية، وهل سيوظفها في مناوراته الإعلامية وحربه النفسية. ما نعلمه هو أن «داعش» دشّن سيطرته على تدمر بإعدام 17 شخصاً من عناصر النظام وقوات الدفاع الشعبي التابعة له، ومن المدنيين المتهمين بالتعاون والتعامل معه. وكان قد سقط في المعارك التي بدأت قبل عشرة أيام بين قوات النظام و «داعش»، حوالى 500 قتيل. لا يمنع هذا من بقاء الأسئلة مفتوحة حول مبررات انسحاب القوات النظامية من تدمر.

هناك بالتأكيد اعتبارات استراتيجية دفعت بـ «داعش» إلى الاستيلاء على تدمر. فقد جرى الربط بين الداخل السوري ومنطقة الأنبار العراقية التي يسيطر عليها التنظيم، خصوصاً بعد سقوط الرمادي في يده. بات «الدولة الإسلامية» يسيطر جغرافياً على ما يقارب نصف مساحة سورية، وفق المرصد السوري الذي يمكن الوثوق به. هذه السيطرة تسمح له بالتحرك في إقليم جغرافي متّصل، يربط العراق بسورية ويجعل من حدود سايكس ـ بيكو أثراً بعد عين. وهذا بيت القصيد. فالجغرافيا، في عرف «داعش»، لا تنفصل عن تثبيت الزمن. ما يهدف إليه هذا التنظيم وأمثاله ليس إحياء ماض يمكن وصفه بالعصر الذهبي أو بالنقاء الأصلي، كما هي الحال في السلفيات الكلاسيكية. بل هو الاستيلاء العاري على الحاضر، بحيث يتطابق مع شحنات الشطط والعنف والثأر. ولا يستقيم هذا إلا تحت شعار تطبيق الشريعة وإعلان دولة الخلافة. المشروع الداعشي هو العيش خارج كل الأزمنة التاريخية، بما في ذلك الزمن الإسلامي نفسه. ما ينبغي أن يعيش هو تطابق القبيلة الجهادية المعولمة مع نفسها، أي مع رضوضها الكثيرة والبعيدة الغور. وهذا بالذات ما يعزز الخوف من تدمير تدمر الأثرية. قد يتشاطر التنظيم في التلاعب بالمخاوف، وقد يستفيد منها على غير صعيد.

الحياة

 

 

 

 

“داعش” يجتاح الانتخابات الأميركية!/ راجح الخوري

“على رغم محاولات المسؤولين الأميركيين تقليل أهمية سقوط الرمادي، فأن سقوطها يفتح مرحلة جديدة وخطيرة من الحرب في العراق، إذ يبدو ان “داعش” مستعد للسيطرة على مناطق جديدة لهذا تبدو مقولة انه يخسر سخيفة جداً “.

هذا ما توصلت إليه مجلة “فورين بوليسي” الأميركية وهو ينطوي على سخرية واضحة من باراك أوباما، الذي كان قد أعلن حرفياً في ١٣ أيار الجاري “ان حملتنا العسكرية مع شركائنا أوقفت زحف “داعش” وفي بعض المناطق أجبرته على التراجع، لقد هُزم في تكريت كما فقد ربع المساحة المأهولة التي يسيطر عليها في العراق”!

بعد أقل من عشرة أيام إجتاح الإرهابيون الرمادي في العراق وتدمر في سوريا، ثم أُعلن امس ان التنظيم اقتحم دفاعات الجيش العراقي غرب الرمادي، التي كان قد انسحب منها بطريقة فاضحة، بما يعني ان “داعش” يخطط للوصول الى بغداد!

“فورين بوليسي” تقول إن استراتيجية الإدارة الاميركية ضد”داعش” تتخبط في الفشل، خصوصاً ان مكاسب”داعش” في العراق لا تقتصر على الرمادي وحدها، إذ سيطر الإرهابيون على بيجي مصفاة النفط الكبرى في العراق ثم هاجموا بلدة الخالدية وان الرمادي ليست بالنسبة إليهم أكثر من محطة في الطريق الى بغداد!

مكاسب “داعش” في العراق سيكون لها انعكاس سلبي على مسار المعارك في سوريا وسقوط تدمر ليس أكثر من محطة ايضاً لاندفاع الدواعش غرباً وجنوباً، خصوصاً ان كثيرين من المقاتلين العراقيين الشيعة الذين نقلتهم ايران لمساندة نظام الأسد الذي مني أخيراً بسلسلة من الخسائر المتصاعدة، سينسحبون للدفاع عن مدنهم في العراق!

ليس سراً ان سقوط الرمادي سيزيد التوتر بين واشنطن والحكومة العراقية التي تقاعست عن دعم العشائر السنّية في الأنبار، تلك التي يئست من المطالبة بالتسليح والدعم دون جدوى والتي تتجه واشنطن الآن الى تسليحها مباشرة. ثم ان الاعتماد على ميليشيا “الحشد الشعبي” الشيعية فجر حساسيات مذهبية خطيرة نتيجة التعديات وحرق منازل السنّة في تكريت التي لم يكن في وسعها استعادتها لولا الدعم الجوي الأميركي.

في أي حال، لندع مهزلة استراتيجيا أوباما جانباً، لأن ما هو أكثر إثارة الآن من اكتساح الرمادي وتدمر أن “داعش” بدأ يجتاح الإنتخابات الرئاسية الاميركية فقد أنطلقت حملة من التراشق بالإتهامات بين الجمهوريين والديموقراطيين على خلفية السؤال:

من المسؤول عن ظهور “داعش” والإرهابيين، جورج بوش الأبن الجمهوري الذي احتلّ العراق، ام باراك اوباما الديموقراطي الذي انسحب منه، مخلياً الساحة للإرهابيين كما قالت وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون المرشحة الديموقراطية للرئاسة… بما يعني ضمناً انه سيكون لأبي بكر البغدادي صوت مرجّح في الإنتخابات الرئاسية الاميركية!

النهار

 

 

المذهبية غلبت السياسة/ سميح صعب

يؤشر تمدد “داعش” غرباً ووسطاً في العراق وشرقاً في البادية السورية حتى تدمر، لكون الغارات الجوية التي يشنها الائتلاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على مواقع التنظيم، لم تحقق الغرض منها. واذا ما اضيف تمدد “داعش” الى تمدد “جبهة النصرة” التي تمثل فرع “القاعدة” في بلاد الشام في محافظة ادلب وسهل الغاب، تتضح معالم خريطة جهادية واسعة في العراق وسوريا، بحيث بات من الصعب التجرؤ على التفاؤل بامكان عودة عقارب الساعة الى الوراء وبقاء الكيانين السوري والعراقي كما كانا قبل الغزو الاميركي للعراق في 2003 او بالنسبة الى سوريا كما كانت قبل 2011.

لا شك في أن حروب العراق وسوريا واليمن حيث يحتدم الصراع المذهبي، ستتمخض في النهاية عن حدود جديدة على أساس مذهبي. وفي ظل هذا الواقع تزداد صعوبة التغلب على التنظيمات الجهادية التي تتغذى من الصراع المذهبي في المنطقة وخارجها. وعلى رغم كل محاولات ايران لتصوير الصراع بأنه سياسي وليس مذهبياً من خلال تمسكها بشعار محاربة اسرائيل ونصرة فلسطين السنية مذهباً، فإن الوقائع على ارض العراق وسوريا واليمن، تتحدث عن صراع مذهبي بحت.

والحرب التي تقودها السعودية في اليمن زادت في تأجيج هذا الصراع الى مستويات جديدة. والدعم الذي تحظى به التنظيمات الجهادية في سوريا في الاونة الاخيرة ولا سيما منها “جبهة النصرة” لا يمكن تبريره الا في اطار حلقة اخرى من حلقات الصراع السني – الشيعي، مهما حاول بعض الاطراف وخصوصا ايران وضع الاحداث في سياق غير سياقها المذهبي او اعطاءها بعداً غير البعد المذهبي. وحتى لوكانت خلفية الصراع غير مذهبية ، فإن اطرافاً آخرين نجحوا في مذهبته وأخذه في الاتجاه الذي يؤذي ايران ولا يجعلها في موقع مريح وهي تخوض هذه المواجهة. وحتى اطراف مثل حركة “حماس” تدعمهم ايران انخرطوا تحت حدة تأثرهم بالموجة المذهبية في الصراع السوري وبات فلسطينيون من قطاع غزة والضفة الغربية واراضي عام 1948 يقاتلون ضد النظام في سوريا بعدما زين لهم ان القتال في ارض الشام اولى من قتال اسرائيل.

الشرق الاوسط يعيش اليوم مرحلة الصعود الجهادي الذي يرسم خرائط جديدة في المنطقة من غير ان تكون ثمة قوة قادرة على ايقاف هذا الصعود من اليمن الى العراق وسوريا ومصر وليبيا. وبات السؤال هل يمكن ان يزحف الجهاديون بعد ان يستتب الامر لهم في الدول التي يقاتلون فيها الآن، على الدول التي تغذيهم اليوم بالمال والسلاح والرجال؟ وما المانع من ان يتطلع الجهاديون الى ما هو أبعد من الحدود المذهبية التي رسمت لهم؟

النهار

 

 

 

واشنطن: «داعش» تنظيم لم نرَ مثله!/ عبد الرحمن الراشد

في لقاء مع الصحافة، وصف مسؤول أميركي كبير كيف سقطت مدينة الرمادي العراقية، وقال إن «داعش» تنظيم لم نرَ مِثْله من قبل، شيء مفزع، وتقييمنا الآن أنها ستكون حربًا طويلة لسنوات، فهذا تنظيم أكثر تطورًا وخطورة من سابقه، تنظيم القاعدة. ووصف كيف أن مقاتلي التنظيم فاجأوا القوات العراقية المتحصنة بهجوم كاسح من ثلاثين سيارة مفخخة على المنطقة المركزية في المدينة، بينها عشر سيارات محملة بكمية هائلة من المتفجرات، تعادل كل واحدة منها التفجير الذي أصاب أوكلاهوما! قال: لديهم آلاف المقاتلين الأجانب يتطوعون لتنفيذ العمليات الانتحارية.

وتزامن اعترافه بتضخم الخطر مع ما طالب به عضو في الكونغرس بإرسال عشرة آلاف جندي أميركي من جديد إلى العراق لمقاتلة التنظيم، محذرًا من أن الولايات المتحدة ستشهد هجومًا مماثلاً لما أصابها في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001.

ولا يفترض أن يخص القلق الغرب، بل إن «داعش» أكثر خطرًا علينا منه عليهم. هناك جيش جرار يقدر بعشرين ألفًا من الإرهابيين يزحف ولم يستطع أحد إيقافه منذ عام ونصف العام رغم ضخامة الموارد العراقية، ورغم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي الأميركي، والمساندة الإيرانية أيضًا.

ما نخشاه أن نسيء فهم هذا التنظيم، كما أساء كثيرون التقدير، في أعقاب هجمات «القاعدة» على نيويورك وواشنطن قبل نحو أربعة عشر عامًا. فقد ظنوا أن الجماعة الإرهابية لا تستهدف إلا الغرب، ليكتشفوا أن هدفها الحقيقي المجال العربي، وشنت عمليات عسكرية إرهابية في عدد من المدن السعودية لنحو ست سنوات، ووصل شرها إلى المغرب.

النقطة الثانية، بعد إضاءة إشارة الخطر الجديد، هي ضرورة التعرف على الاحتمالات المرتبطة للتنظيم بالصراع الإقليمي. فـ«القاعدة» و«داعش»، كلاهما مقاتلوه تجمعوا وعبروا من سوريا إلى العراق. وفي سنوات الاحتلال، كان المسؤولون الأميركيون يصرون على أن «القاعدة» جماعة إرهابية سنية وتعان من قبل دول خليجية، وكان يرددها شخصيات كبيرة مثل وزير الدفاع حينها رامسفيلد، وظل الأميركيون يرفضون لسنين تصديق احتمال أن «النظام السوري»، وربما الإيراني، لهما ضلع في دعم «القاعدة» وإدارتها! وفي آخر سنواتهم في العراق اكتشفوا الحقيقة، عرفوا أن كل المقاتلين الأجانب يأتون إلى سوريا بمعرفة وترتيب المخابرات السورية حينها ومنها ينطلقون إلى العراق، وبعدها نفذت القوات الأميركية بضع عمليات عسكرية ضد سوريا عبر الحدود، وكانت تلك كافية لإيقاف حركة «القاعدة» من هناك. على أية حال كان الوقت قد تأخر؛ حيث فقد الأميركيون أكثر من ثلاثة آلاف قتيل في العراق، وقرروا الخروج تاركين الدولة في رعاية جماعات أقرب إلى إيران!

اليوم، كل المؤشرات تدلنا على أن «داعش» تنظيم يخدم، بطريقة غير مباشرة، النظامين السوري والإيراني. ولولا «داعش» لما انقلبت دول العالم ضد الثورة السورية، ولا أصبح نظام الأسد خيارًا مطلوبًا لمواجهة الجماعات الإرهابية. ولولا «داعش» اليوم في العراق لما رأينا تزايد نفوذ إيران عسكريًا فيه. و«داعش» ينفذ هجمات في السعودية في نفس الوقت مع قتال ميليشيات الحوثي للسعوديين. وَلا يفترض أن يضللنا طوفان الرسائل الطائفية التحريضية في وسائل التواصل الاجتماعي السنية والشيعية، فكثير منها يرد من جماعات إيرانية وأخرى محسوبة عليها في المنطقة، تريد خلق فتنة في السعودية وبقية دول الخليج. «داعش» يقاتل في العراق وسوريا لكن أدبياته وتهديدات قادته على «يوتيوب» موجهة ضد دول مثل الكويت والسعودية. هذا ليس صراعًا طائفيًا تلقائيًا، بل صراع سياسي إقليمي يستخدم سلاح الفتنة الطائفية. وعندما تنفذ جماعة إرهابية تفجيرًا في مسجد شيعي في السعودية، علينا أن نفهمه في إطار الصراع الإقليمي، لا التنازع التاريخي بين الطائفتين!

طلائع جيش «داعش» تقترب من حدود السعودية والأردن، ولم نرَ لها نشاطًا من قبل ضد إيران، على الإطلاق. فآلاف المقاتلين الأجانب تجمعوا في سوريا، وهاجموا المناطق السنية الجنوبية، ثم عبروا الحدود إلى محافظات سنية عراقية، واستولوا على الموصل، والفلوجة والآن الرمادي، وهم يقومون بقتل وتشريد آلاف السكان هناك وحرق منازلهم، يزحفون وفق خط بري مستقيم منذ عام ونصف العام، جنوبًا وليس شرقًا.

الشرق الأوسط

 

 

 

“داعش” وإعادة تقسيم الخرائط/ توفيق المديني

كانت الأزمة السياسية التي عاشها العراق طيلة سنتي 2013 و2014، كفيلة بأن تقدم لـ«الدولة الإسلامية» -«داعش» الفرصة الذهبية، لكي تحشد وراءها القسم الأساسي من العرب السنة الذين كانوا يشعرون بالحيف والظلم من النظام السياسي العراقي الجديد، وخلف أهدافها في إقامة دولة الخلافة الإسلامية في قلب الشرق الأوسط. وهكذا تحولت «مظلومية الشيعة» في عهد النظام الديكتاتوري السابق، إلى «مظلومية السنة» في زمن الاحتلال الأمريكي، والنظام الطائفي العراقي الجديد المدعوم من إيران، بحيث أصبح العرب السنة يشعرون أن هناك محورا جديدا يبدأ من إيران ماراً ببغداد وصولاً إلى النظام في سوريا، و«حزب الله» في لبنان لتهميش الحضور السني في المنطقة، وبالتالي يكرس الصراع في العراق بأبعاد طائفية- إقليمية، وليس فقط للغبن الذي يشعر به السنّة تجاه تمثيلهم السيئ في النظام السياسي العراقي.

وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من أبناء الطائفة السنية، لاسيما الذين عاشوا في ظل النظام البعثي العلماني لأكثر من خمسين سنة، لا يُرَّحِبُونَ بأسلمة المجتمع، وتطبيق الشريعة الإسلامية وحدودها كمنهاج للحكم، ولكن هؤلاء، ولأسباب مصلحية انتهازية ربما، أيَّدُوا «الدولة الإسلامية» ليس حبًّا فيها وإنما كُرْهاً بحكومة المالكي الطائفية.

لقد استفاق الشرق الأوسط من جديد بدوله الحديثة على ظاهرة «داعش» الموصوفة بـ«العصابات المسلحة» الإرهابية والتكفيرية، وهي تعلن قيام دولة الخلافة في المناطق التي تسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وهو ما يعني تدمير اتفاقيات سايكس بيكو لسنة 1916 التي قامت على أنقاضها الدول الحديثة التي استولدها الاستعمار الغربي. فاستفاقت إيران وتركيا، ومن بعدهما الإدارة الأمريكية والقيادة الروسية، على خطر جديد يهدد خريطة المنطقة بإعادة تقسيمها على أسس دينية ومذهبية وعرقية، بعد أن وصل انحدار ما كان يعرف في الأدب السياسي الحديث النظام الإقليمي العربي إلى مستوى الحضيض.

الخريطة الحالية للشرق الأوسط تتمزق، لأن الحدود التي تُحَدِّدُ أراضي كل من العراق، وسوريا، ولبنان، وتركيا، واليمن، قابلة للاختراق والتغيير من الآن فصاعداً، وهي لا تعكس أبداً الواقع القائم على الأرض. ففي ظل «دولة الخلافة الإسلامية»-«داعش» التي لا تعترف بالحدود بين الدول العربية الموروثة من التقسيم الاستعماري الفرنسي والبريطاني، رأينا كيف أن الدول الحديثة الشرق أوسطية، لاسيما في العراق، وسوريا، واليمن، تقوضت أسسها رأساً على عقب، وبنيتها غير التوافقية، تحت تأثير ظاهرة الحرب الإرهابية التي تخوضها الحركات الجهادية ضد النظم الحاكمة.

وهكذا، فإن الحدود العراقية – السورية لم تعد موجودة منذ سنة 2012 على الأقل، بعد أن أعلن التنظيم الجهادي «داعش» في نهاية يونية 2014 إقامة «الخلافة الإسلامية» على المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، والتي تشمل مناطق في شرق سوريا وشمالها، وغرب العراق وشماله. والأمر عينه ينطبق على الحدود السورية- اللبنانية، حيث كانت الحركات الجهادية تحظى بحرية الحركة، إضافة إلى تحول لبنان إلى قاعدة لوجيستية لمدّها بالأسلحة والرجال، حتى قيام الجيش السوري باستعادة جبال القلمون في شهر مايو 2014.

ومن جهة أخرى دخل حزب الله بقوة في الحرب الأهلية السورية إلى جانب الجيش السوري في مواجهة الحركات الجهادية منذ سنة 2013، وكانت أولى مشاركته في هذه الحرب هي معركة مدينة القصير في محافظة حمص، هنا أيضا نلمس بوضوح أن خرائط الحدود لا تعرقل تنقل المقاتلين. ولكن في الواقع، الحدود السورية – اللبنانية سقطت منذ تدخل قوات الردع العربية (وهي في غالبيتها المطلقة قوات من الجيش السوري) في لبنان سنة 1976، عقب التداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 13 أبريل 1975.

بصورة عامة، الحدود بين الدول الشرق أوسطية الموروثة من اتفاقيات سايكس بيكو أُزِيلَتْ الآن كنتيجة منطقية لتفكك دول المنطقة، ولظهور تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية متعلقة بأقليات مخصوصة. ومن الواضح أن عدداً من هذه الطوائف «الأمم» بالمعنى العثماني للعبارة، المتكّسية فيما مضى في الإمبراطوريات المسلمة، صارت غداة الحرب العالمية الكبرى الأولى، تتطلع إلى أن تصبح أمماً بالمعنى العربي للعبارة، مسلّماً بها بأن تتوكد كل منها في دولة تكون خاصة بها.

من هذا الواقع سوف تكون أول الاختيارات الإستراتيجية المتعلقة بالأقليات وأكثرها راديكالية، هي الانفصالية بمواجهة الدول المتعددة الطوائف (سوريا، العراق، لبنان، اليمن) المتشكلة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.. وقد تجسد هذا الاختيار الانفصالي وحقيقة نشاطه الأشدّ وضوحاً في الوقت الراهن، في شمال العراق، حيث إن حكومة كردستان العراق أصبحت تضخ النفط من دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد، منذ مايو 2014، خصوصاً بعد أن ضمت قوات البشمركة مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان .

وهكذا وجدت الدول العربية الشرق أوسطية نفسها ممزقة إذن من جديد منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أمام مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم الكيانات الطائفية الانفصالية، ومن جهة أخرى باسم مشروع «الدولة الإسلامية في العراق والشام » الذي لا يؤمن بالحدود، ولا بالدولة، وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان «الطابع الاصطناعي» واللاشرعية في الدولة العربية، يمزقانها بين خطر التجزئة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي -إثني، وخطر تحطيم الحدود التي رسمتها اتقاقيات سايكس بيكو، في ظل إعلان «داعش» إنشاء كيان أوسع، هو كيان «دولة الخلافة الإسلامية».

أسهمت العوامل التالية مجتمعة: الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي أسقط نظام صدام حسين، وحطّم أيضًا مؤسسات الدولة من جيش وأجهزة مخابرات، ناهيك عن سمعة الفشل التي تلتصق الآن بالسياسة الخارجية الأمريكية، متأثرة بالسقوط المدوّي للإستراتيجية الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان، ودخول النظام الإقليمي العربي بكل مكوّناته في طريق الأزمة المستحكمة ذات الاتجاه الواحد، في إعطاء دفعة قوية للحركات الجهادية التكفيرية،لاسيما «داعش» لكي تطرح مشروع تأسيس« دولة الخلافة الإسلامية» على أنقاض النظام الإقليمي العربي الذي انهارت مكوناته جميعها.

فالدول العربية التي تأسست على مشروعية التقسيم الاستعماري عبر اتفاقيات سايكس بيكو لسنة 1916، تواجه الآن خطر الحركات الجهادية التكفيرية، التي أعلنت ميلاد «دولة الخلافة الإسلامية» في صيف 2014، التي لا تعترف بالدولة القطرية ذات السيادة، وتقدم نفسها على أنها عابرة للحدود أو غير العابئة بالحدود، وتُجْهِرُ بأنها ضد الدولة في كل خياراتها وأشكالها، ومع الخلافة، أي ضد الأنساق الدولية والإقليمية المتعارف عليها، ومنها النظام الدولي والنظام الإقليمي العربي.

ومن المعروف أن تنظيم «داعش» الذي تعهد تنفيذ مشروع «دولة الخلافة الإسلامية»، تعرفه الشعوب العربية جيداً، التي باتت تعي منذ أن تحول ما يسمى بـ«ربيع الثورات العربية» إلى شتاء قاسٍ، أن المعارك الأهم التي تخوضها الجماعات الجهادية التكفيرية: «القاعدة»،«داعش»، «جبهة النصرة»، «أنصار الشريعة»،لا تتضمن معركة مع المشروع الأمريكي – الإسرائيلي في المنطقة، الذي يستهدف تفكيك الدول العربية، وتحويلها إلى دويلات طائفية وقبلية وإثنية. إذ عاد شبح التقسيم المخيّم على كل دول المنطقة، من خلال المحاولات المحمومة للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي لتقسيم كل دولة عربية إلى عدة دول وإلى عدة كيانات لتغيير خريطة الشرق الأوسط، وما قرار الكونجرس الأمريكي الأخير الهادف لتقسيم العراق سوى بداية لما تنتظره دول وشعوب المنطقة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى