صفحات الثقافة

عن “داعش” وتحطيم الآثار –مجموعة مقالات-

 

البياض النازف/ عباس بيضون

مشهد المسلحين وهم يدمرون التماثيل الأشورية أو القوالب التي صبت على غرارها فظيع، لكننا مع ذلك لا نستطيع ان نقارنه بمشهد المساجين في ثيابهم البرتقالية اللون الذي يغدو من الآن فصاعداً لون الموت وخلفهم وهم ركوع المقنع الواقف الحامل سكيناً ستنحر بعد هنيهة أعناقهم. لا نستطيع أن نقارنه بمشهد النار التي تسربت إلى قفص الطيار السجين الذي سرعان ما استحال كتلة من النار. لا تصح المقارنة فـ «الأصنام» المتهاوية إلى الأرض هي من جص وحجر وهي تهوي من طولها بضربة واحدة، وهي أيضاً لا تنزف دماً فثمة أبيض يتهدم أمام أعيننا، لكنه يبقى أبيض في أبيض ولا تخالطه حمرة قانية ـ مع ذلك فإن هذا البياض الناصع أشبه بالمحو، أشبه بالاستشباح والخفية بل ان في تحطيم الأبيض وعجنه ما يشبه أن يكون ذبحاً حقيقياً وما يصدر عنه أشبه بدم أبيض ينزف من دون أن يظهر، ثم أن الموت لا يتشخص في شيء بقدر ما يتشخص في هذا البياض الكامد المشيوح الذي يكاد، من دون مبالغة، يقارب الزوال.

أن نرى المسلحين ينهالون بالمطارق على الأنصاب والتماثيل من دون أن يصدر عنها صوت أو زفرة، يرينا كم أن القسوة الماضية الحادة باردة خرساء، وكم أن الموت هو أكثر في هذا التحطيم البارد منه في الوحشية التي تظهر في حز الرؤوس. لكن لنخرج من هذا الشطط، فتحطيم التماثيل البيضاء هو الصورة السلبية لجز الأعناق وتمزيق الأجساد والحز فيها. ليس ذبح الأسرى سوى المقابل الفعلي لتدمير التماثيل. وعلى كل حال فإن الدافع قد يكون هو ذاته. عبادة الموت وتقديس العنف وتقديم الأضاحي. ينهال المسلح بمطرقته على التمثال حتى يستقطر منه الدم وحين لا يرى دماً حقيقياً يتراءى له الدم أبيض ويتم تحطيم الجسد إلى الدرجة التي يكاد فيها الجص والحجر أن يتألما حقاً. إذ لا نهاية لما يمكن أن يفعله المرء بالحجر والجص. لا نهاية للتحطيم الذي يوقعه عليهما، ثمة هنا مدى للعب واسع وعريض، ولا شك أن في فصل من فصول اللعبة يتماهى الحجر والجسد. يتماهى البياض والغبار مع الدم. لا شك أن في لحظة ما الموت هو ما يحدث للتمثال والعذاب هو ما يحيق به.

لا يسعنا هنا أن نتكلم عن الفن والتاريخ والابتكار والجمال، هذه أمور لا تخطر للمسلح المدمّر. لا يخطر له بالطبع أن يزيل حقبة من التاريخ فالأرجح أن المسلح لا يعرف أن لهذه التماثيل تاريخاً وان لها زمناً خاصاً. ليس الزمن موجوداً بالنسبة للمسلح، انه هنا نصب أمر واحد: الموت وحده زمنه والموت وحده تاريخه. انه فقط خادم الموت وتابعه. ليس يهم البتة أن تحل الساعة فهي وحدها الزمن وهي وحدها النذير ولا يهم أن تعجل أو تتأخر، لا يهم ان تأتي خاطفة أو على مهل، فما يتولاه الإنسان وما يؤديه ليس سوى الساعة نفسها، الساعة التي لا تحتاج إلا إلى سكين ومطرقة. الساعة التي لها فنها وطقسها ولها بالطبع تقليدها الذي ينبغي ان لا نسهو عن شعرة منه، فهنا أنشودة الفناء وهنا اكتماله ومثاله. وهنا فقط يمكننا أن نعيِّد وأن نحتفل، هنا فقط يكون للحياة ثمن ويكون لها مقابل ويكون لها وزن. انها فقط هنا الأداء الكامل للموت، انها فقط هذا الاستدعاء المجلجل له. هذا الحضور المثالي والمتقن له، كل ما يعرفه هؤلاء المسلحون هو ذلك وحده، انهم فقط يميتون ويموتون ولا حاجة لأن يكون هناك شيء آخر، فهنا بالتأكيد فضله وهذا بالتأكيد زيادة وهذا بالتأكيد نافل. إذ لا تعني الحياة سوى تسكع لا جدوى منه. لا تعني سوى مذلة ومهانة واستصغار للنفس وجبن واستمراء، لا تعني سوى نكوص وتراجع والتفاف، الحياة كما يقول واحد نتركها لخدمنا يعيشون عنا. انها فقط للكلاب والخدم والمرتزقين. لا يعنيهم سوى ذلك الشبق للموت، سوى نشوة الموت وبرقه واشتعاله وذروته.

بالطبع سيقال أن ذلك من الدين وأن الدين ليس إلا جهاداً في جهاد، وأن على البشرية أن تعرف على أي أساس تموت وأن هذا كل ما يلزمها من الوجود، يقال أن عليها أن تعرف فقط على أي وجه تموت وعلى أي وضع تزفر الروح. يمكننا هنا أن نفكر بأفواج الانتحاريين لكن ما يفعله هؤلاء لا يزيد عن كونه تقليداً للحياة تاجه الموت والموت فحسب. يمكننا هكذا أن نفكر بشعب من الانتحاريين الذين يهدمون. يهدمون فحسب. أن نحرق مدناً وأن نعرض مئات وآلافاً للذبح. أن نفعل ذلك بغير اكتراث حديدي. أن نتمنى الموت لأنفسنا ولأعدائنا على السواء. هكذا نساويهم بأنفسنا ونلاقيهم في الميدان ملاقاة أشباح لأشباح. فالواضح أن لا شيء يمكنه أن يتأله وأن يُعبد سوى الموت. والواضح أن ما قبله وما بعده لا يهمان فالساعة هي هو والساعة وحدها التي تهم.

يمكننا أن نقول ذلك لجيوش الانتحاريين التي تغزو العالم، يمكننا أن نقوله لهؤلاء الذين سرعان ما يتولاهم حلم مشبوب، حلم هو اللاوجود عينه، هو الفراغ الكامل. هو الانقطاع عن كل شيء، هو توسل نيرفانا دموية نيرفانا من أحمر الدم وبياض الحجر. هكذا يغدو القتل مبدأ، قتل الناس والحيوانات والحجارة. وقبل ذلك كله قتل النفس.

السفير

 

 

عندنا… حيث يد الهدم أقوى/ حسن داوود

ما يقوم به عمرو العظم لحماية الكنوز الأثرية في سوريا، بمعاونة فريقه المتشكّل معظمه من طلابه، مماثل لما فعله موريس شهاب لحفظ الآثار اللبنانية. آنذاك، بعد أيام من انتهاء الحرب وافتتاح المتحف أبوابه بعد طول إقفال، ذهبنا لنتفرّج على تلك القطع الضخمة، ومنها ناووس أحيرام وفسيفساء الحكماء السبعة، التي كانت أخرجت لتوّها من قوالب الإسمنت التي تخبّئها. كان موريس شهاب قد قام بعمله ذاك بمساعدة عمال قليلين. القطع الأثرية الصغيرة حفظت هي أيضا في صناديق خشبية وجمعت في رفوف استحدثت في الطبقة السفلى من المتحف، ثم بني فوقها حائط من الباطون المسلّح، بحسب ما ذكرت يومذاك آن ماري عفيش مديرة المتحف عند إعادة افتتاحه.

ليس من طريقة أخرى لحفظ تلك الآثار. عمرو العظم “دفن” فسيفساء معرّة النعمان تحت طبقة من المواد الصلبة، منتظرا، هو الآخر، أن يحين وقت إعادتها إلى الضوء من جديد. التحقيق الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” أخيراً عن الخسارات التي يلحقها داعش بآثار سوريا والعراق يذكّر بما أجابت به المنقّبة هيلغا زيدن حين سألتُها لماذا أوقفتِ التنقيب هنا، في موقع باب ادريس، فيما يبدو أن المنطقة كلّها تقوم على لقى أثرية يصعب تقدير أهميتها، قالت زيدن: “أحيانا، وفي بعض الظروف، يكون من الأفضل أن تبقى اللقى تحت الأرض”.

كأنها كانت تقترح أن ننتظر الوقت المناسب لإخراج الكنوز من طبقات الأتربة والحجارة التي تراكمت فوقها. لكن متى سيأتي هذا الوقت المناسب، أو متى نصير قادرين على حماية ما تركه لنا سابقونا ممن عاشوا على هذه الأرض؟ ربما ستجيب زيدن، إن عدت وسألتها عن ذلك: الأفضل أن تبقى آثاركم حيث هي، إلى الأبد.

ذاك أنّ التماثيل التي شاهدنا عملية تحطيمها في الأيام الأخيرة كانت قد لقيت عناية وحراسة ظاهرة، سواء تعلّق الأمر بعرضها أو بالعناية بها. لكن لم يلبث أن حان وقت نزول الهراوات عليها. في شريط الفيديو الذي أرفقته الصحيفة مع التحقيق، بدت تلك الحملة أشبه بمجزرة حقيقية إذ كانت ضربة هراوة واحدة تحطمّ أثراً تاريخياً نادراً، وقد دُفعت تماثيل كثيرة باليدين لتسقط على الأرض محطّمة. أما الآثار الضخمة، تلك التي نحتت بأحجام مضاعفة فجرى التعامل معها بأدوات عديدة بينها المناشير الكهربائية التي تمهّد العمل للهراوات.

عمليات الإنقاذ تبدو قليلة الحيلة بالنظر إلى التفاوت بين ما يستطيع التحطيم إنجازه وبين ما تستطيع أن تحقّقه أمور مثل الترميم أو البحث عن قطه منهوبة. في أقل من ساعات قليلة سرقت محتويات متحف بغداد فيما إسترجاع ما سرق، أو بعضه، يحتاج إلى سنوات كثيرة. الفِرق التي تعمل على تصوير المواقع المهدمة، مثل بابل مثلا التي جرى تصويرها ديجيتاليا، ويمكن إعادة بنائها كما كانت، بحسب ما يقول واضع خطّة حماية الآثار العراقية، لكن لن يحدث ذلك قبل انقضاء عقود.

في أيام قليلة جرى تدمير نمرود وحترا. يوم الأحد، دمرت أجزاء من دور شيروكين وهو موقع أشوري يرجع إلى 2800 سنة. ما اعتاد خبراء الآثار عمله هو الحدّ مما قد يحدثه الطقس والعوامل الطبيعية من ضرر على الآثار، لكن هنا، في ما يتصل بالتحطيم البشري، المتعمّد والإنتقامي، لا شيء نفعله إلا التصوير وإعداد البيانات، يقول العظم. وفي التحقيق، الساعي إلى التفاؤل بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تبدو يد الهدم طاغية ولا مجال لوقف تقدّمها، لهذا يجري التحسّر على عدم تصوير نينوى مثلًا.

هذا ويعدّد التحقيق ما أصاب آثار سوريا والعراق من سرقة متحف بغداد إلى تحطيم الآثار التاريخية في حلب واستخدام حطامها سواتر لاحتماء المسلّحين، إضافة إلى ما سرق هنا وهناك، وصولا إلى ما تقوم به الدولة الإسلامية. “أرأيت، ألم يكن صحيحاً ما قلته عن بقاء الآثار في أماكنها.. تحت الأرض”، ستقول هيلغا زيدن لو عادت إلى بلادنا من جديد.

المدن

 

 

 

داعش كيان ذو طبيعة إعلامية/ فاطمة ياسين

لدى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” نظرة عدائية للحجارة، وخصوصاً الرخام والبازلت والجص. لذلك، أصدر فقهاؤه فتوى مبرمة لا تقبل جدلاً بتحطيمها، فهوت المطارق، بكل حيوية وبأس، على وجوه الملوك والآلهة التي تحولت في لحظات إلى ما يشبه شظايا الزجاج.

يستطيع الفقيه العتيد في إمبراطورية داعش أن يجد لهذا الفعل مسوغاً شرعياً في القرآن أو السنة النبوية الشريفة، مثلما وجد، قبل ذلك، مسوغات لفظائعه الأخرى. لكن، ما يثير الحيرة، حقاً، أن تجد لدى داعش الإلحاح الديني الذي يدفعه إلى عقد محكمة خاصة، وإصدار فتوى يحطم، إثرها، متحفاً متكاملاً، أو يقوم بإعدامات “فنية” متنوعة، مع أن لديه أولويات عسكرية ملحة؛ وهو يتلقى الهجوم الجوي المكثف من طائرات التحالف، ويدري بوجود تحفز بري من الجيوش المحلية في العراق وكردستان. ولم يعكس هذا السلوك “الشرعي” المتشدد مؤشراً عن مدى ورع هذا التنظيم. وعوضاً عن ذلك، ظهرت مقالات كثيرة تحلل القدرة الدرامية لدى مخرجي “الدولة” وقوة عدسات كاميراتهم.

يعلم فقهاء التنظيم أن للقطع الأثرية التي تبعثرت على الأرض قيمة مادية ومعنوية ورمزية كبيرة، ويدركون أن فقدانها، بهذه الصورة، سيخلف ألماً وحسرة لدى ناسٍ كثيرين، ولعل هذا السبب الحقيقي لإقدامهم على تحطيمها، فبالتأكيد، هم لا يحاولون إعادة سيرة إبراهيم الخليل الذي حطم الأصنام، ووضع المعول على كتف كبيرها، ولا يستعيدون الإرث الناتج عن فتح مكة، عندما حطم النبي مجمعَ الآلهة الحجري في باحة مجمع الكهنوت المكي. وإنما بدا القرار الشرعي، هنا، إعلامياً محضاً، وجرى تنفيذه بكيفية استعراضية، عندما تُرك المخربون يدمرون المكان بمعاولهم، وتُركت الكاميرا في وضعية بانورامية (فري بان) ترصد مشاهد تهاوي التماثيل، واحداً بعد الآخر، وكانت النتيجة إعلامية، أيضاً، شكلت صدى واسعاً في الفضائيات، وتأثيراً أوسع في الميديا الاجتماعية، بالإضافة إلى تداول صحافي غزير لمقاطع فيديو التكسير.

يكاد التنظيم، والحالةُ هذه، أن يحول نفسه إلى كيان إعلاني نشيط، يدأب على تقديم مادة صحافية وتلفزيونية محفزة للحوار، بل وللجدل. ونجح في ذلك إلى حد بعيد، مركزاً على “الإدهاش” وإثارة المشاهد التي توفرها المرونة العالية، والتي يسمح بها “الشرع”، عندما يقتصر القانون الداعشي على عقوبة واحدة، هي الإعدام. ولكن، تأتي الخصوبة، غالباً، في طريقة التنفيذ، فهنا تكون السيادة للكاميرا والصورة، وتغيب عن المشهد كليةً قصص التراث، عندما يحرص الشريط السينمائي على إحصاء أنفاس الضحية، وتسجيل كل لحظات معاناتها، كما في فيديو حرق الطيار معاذ الكساسبة. وعلى الرغم من أن الشرائط الإعلامية تطفح بالرسائل الصوتية المباشرة إلى الدول الكبرى والصغرى، فذلك كله يضيع وسط حشرجة الموت التي تنطلق من الضحية، وهو يلفظ النفس الأخير.

“وجد مخرجو داعش ساحة واسعة لاستعراض قدراتهم، مستغلين حقيقة أن الشرع لا حدود فيه أو أوامر أو نواهيَ تتعلق بتوجيه زوايا الكاميرات”

الخلافة، وصورة الحكم الديني الذي تدعيه “الدولة”، لا يبرران طريقة الصعق الإعلامي الذي تتبعه، وقد يبدو أن هذا التركيز الشديد على الصورة مطلوب لذاته عند التنظيم، وربما هو لا يمتلك غيره لتسويق نفسه، وقد وجد مخرجو داعش ساحة واسعة لاستعراض قدراتهم، مستغلين حقيقة أن الشرع لا حدود فيه أو أوامر أو نواهيَ تتعلق بتوجيه زوايا الكاميرات، ولا بضبط عددها، وقد حَدَّدَت أفلامُ التنظيم طريقة حياتها وإطارها الخارجي، من خلال وجودها في واقع حياة أهالي الموصل والرقة وغيرهما، لكن وجودها الفعلي سيكون أكبر على سيرفرات “يوتيوب” وفي ذواكر الكومبيوترات.

وفي كل الأحوال، لا يبدو هذا النوع من الإعلام منسقاً، ولا منظماً، فهو، وعلى الرغم من الحرفية الظاهرية للقائمين عليه، عشوائي، حيث إنه يصور المشهد وأذهان مخرجيه تفكر في الفيلم التالي، لتبقى الأعصاب مشدودة ومتوترة. وقد أثارت أفلام التنظيم نقاداً فوصفوها بأنها ذات تقنية درامية عالية، وهو تحليل خاطئ، فهذا الشريط يأخذ قيمة كبيرة لأن “الممثل” الرئيسي فيه يقوم بدور حقيقي! وهنا تكمن اللعبة الإعلامية التي تُكسب مخرجَ داعش مزيداً من النقاط.

 

ولأن المشاهد سرعان ما يمل، وأشرطة التنظيم ستتحول إلى مادة أرشيفية، ولأن التنظيم كيان يعتمد في قوته على الكاميرا، نصل إلى نتيجة أن تماسكه مزيف، وأنه كيان مؤقت معرض للتحلل، لكنه قد يتحول، حسب قوانين لافوازيه في تحول الكتلة إلى عناصر أخرى، ربما كانت أكثر خطورة من التنظيم بصيغته الحالية.

العربي الجديد

 

 

 

أطلس الوحشيات في العراق/ عمر الجفال *

ثمّة وحشيّات عدّة تناهبت العراق خلال العقود الماضية، منها محليّة وأخرى كولونياليّة، وقد تباينت في أشكالها وطرائقها، وبالرغم من تأثيرها على الإنسان العراقي بشكل مباشر، إلا أنها أثّرت أيضاً في تاريخه الممتد إلى عمق وجود الإنسان على الأرض وما تلاه. إنها الوحشيّة في التعامل مع الحضارات العراقيّة الغابرة، مع ما تبقّى من تماثيل الآلهة وكلماتهم وحياتهم وآثارهم.

وحشيّة البعث

كان صدّام حسين، القادم من الرّيف إلى فضاء المدينة أوَّل حاكم عراقي مهووس بصناعة تاريخ شخصي، فحاول استعارة بُطولات الأوّلين من سكّان العراق وراح يُشيِّد قصوراً بتصاميم غريبة وطراز معماري غارق في الرفاه. وهو أطلق شعار “من نبوخذ نصر إلى صدّام حسين.. بابل تنهض من جديد” على مهرجان بابل السنوي الذي يدعو إليه كل عام فنانين من مختلف دول العالم، و”أمر” حينها بأن يحفر اسمه على لبنات مدينة بابل الأثرية، ما حدا باليونسكو إلى شطبها من لائحة التراث الإنساني العالمي وتحويلها إلى مدينة “سياحية”. ولإفراطه في هذا الجنون، سرت شائعة بأنه استعار من المتحف الوطني طوق الملكة شبعاد ليلبسه لزوجته. وبغض النظر عن صحة الواقعة، وإن تكن الرواية من نسج خيال الناس، فهي معبرة بذاتها! وفي محاولة أخرى لإقحام اسمه على جدار أهم نُصُب بغداد، وهو نصب الحرية لجواد سليم، الذي شيد في زمن عبد الكريم قاسم أول رئيس للعهد الجمهوري، أقام صدام حسين نافورة ماء تتقدم النصب وكتب عليها “شُيد في زمن القائد صدام حسين”، ليوهم الأجيال القادمة أن النصب شيد في زمنه. إلا أن الاعتراضات الكثيرة على النافورة التي شوهت النصب من جانب، وهددت أسسه بالمياه من جانب آخر، اضطرته لرفعها.

وفي عام 1991، أثناء انتفاضة العراقيين على النظام الذي جرهم الى كارثة حرب “تحرير الكويت”، تحرّكت “جحافل لصوص الآثار” مستغلة الفوضى، لنهب 13 متحفاً في مدن الانتفاضة سارقة المقتنيات الموجودة ومدمرة المباني، الأمر الذي تسبّب بفقدان الكثير من الآثار البابلية والسومرية والأكاديّة.

بعد ذلك، شرعّ اهل النظام في حفر المواقع الأثرية من أجل استخراج اللقى وبيعها، وكانت أكثر الأعمال رواجاً لعدد من الفنانين والنحاتين هي تزوير الآثار من أجل بيعها في العاصمة الأردنيّة عمّان. وشاع أن المُشرف على عمليّة تهريب وبيع الآثار كان أرشد ياسين، المرافق الأقدم لصدام وزوج أخته غير الشقيقة.

وحشيّة البيت الأبيض

بعد احتلال القوّات الأميركية لبغداد، طلب بهنام أبو الصوف، مستشار المتحف الوطني آنذاك، من دبّابة أميركية أن تقف أمام بوابّة المتحف من أجل حمايته من السُراق الذين توزّعوا على الدوائر الرسميّة لنهبها. إلا أن طاقم الدباّبة رفض الطلب، لأن الأوامر لم تكن قد صدرت لحماية المتحف (لم تحمِ واشنطن إلا مقر وزارة النفط من العبث)، وبعد أن تمت سرقة آثار المتحف، دبّت الغيرة في القيادة الأميركية وهبّت دبابة في اليوم الثاني لـ “حماية المتحف”!.. وفي هذا الوقت، كانت دبابات أخرى تتحرّك على أضلاع مدينة بابل الأثريّة، وجنود المارينز يستريحون على ظهر أسد بابل، فيما جنود آخرون يعقدون اجتماعاً على مدرج المدينة الأثري، بينما إلى شمال العاصمة، كان جنود آخرون يتخفّفون من أحمالهم في مدينة سامراء بالقرب من الملوية الأثرية التي بنيت في العصر العباسي. وأدّى تواجد الجنود في هذه المدن الأثرية إلى إلحاق أضرار بالبوابات والأرضيات وببعض ما تبقّى من الآثار.

أحصت منظمة اليونسكو سرقة نحو 15 ألف قطعة أثريّة من المتحف الوطني في كرخ بغداد، قام بعض الجنود الأميركيون وموظفو الشركات المرافقة لهم بسرقة بعضها، ووجد الكثير منها في البازارات الأميركية المختصّة بالفنون، ولم يُعَدْ من كل تلك الآثار سوى 4 آلاف قطعة فيما بقي جزء كبير منها مجهول المصير.

وحشية المحاصصة

تتحدَّر أغلب الشخصيات التي تناوبت على حكم البلاد منذ عام 2003 وحتّى الآن من أحزاب إسلاميّة لا تختلف وجهة نظرها تجاه الآثار عن الإسلام الأصولي الذي يصنفّها كـ “أصنام”. ولذا، لَمْ تحظَ الآثار طوال العقد المنصرم بالاهتمام في إعادتها من الدول التي تَعرِضُ التراث العراقي في متاحفها، ولا البازارات التي تبيع القطع الآثرية علانية، ولا حتّى ترميم البيوتات والمتاحف وفقاً للمقاييس العالميّة (لا تزال مدينة بابل خارج قائمة التراث العالمي بسبب مخالفات صدام حسين والحكومات المحلية التي تلت)، بالإضافة إلى أن موسم الأمطار كل شتاء كان يشهد إغراق المزيد من المخطوطات والتماثيل في مخازن المتحف الوطني لوجود خلل في بنائه على أثر شبهة فساد في عقد ترميمه، والذي نبّهت اليونسكو إليه أكثر من مرّة دون أن تلقى استجابة من أحد.

وحتّى هذه اللحظة، لا تعلم الحكومة العراقيّة كيف وصلت مخطوطة توراة نادرة تخصّ العراق إلى إسرائيل في كانون الثاني / يناير(احتفل ليبرمان والحاخامات بوصولها)، ولم يجرِ التحقيق بكيفية تهريبها ومن المسؤول عن ذلك، إذ اكتفت وزارة السياحة بالتنديد، فيما أعلنت واشنطن عدم مسؤوليتها عن الموضوع، وهكذا تمّ نسيان الأمر بشكل عاجل.

وأثناء ذلك، فقدت بغداد نصف البيوت التراثيّة التي يعود تاريخ بنائها إلى القرنين الماضيين، وتم ترميم بعضها الآخر بطرق متخلّفة وسيئة مثيرة للسخريّة، فيما ظلّ المتحف الوطني كأحد أبرز عناوين التلكؤ إذ ظل العمل فيه مستمرا لعشرة أعوام، وبعد افتتاحه صار إحدى المحميات التي يمنع التصوير فيها، ولا يتمّ الترويج له كعلامة دالة على التاريخ العراقي، ولم تقم المدارس بأخذ الطّلاب في رحلات مدرسيّة إليه، كما كان معتاداً، لاطلاعهم على تاريخ بلادهم.

ويوجد اليوم في العراق نحو 12 ألف موقع أثري، إلا أن أغلبها يعاني من الإهمال، ولم تقم الحكومة سوى بتوظيف 4 آلاف حارس غير مدرّب على حراستها وكيفية التعامل معها.

ويمكن عدّ التعبير الأبرز لتعامل أحزاب الإسلام السياسيّ مع التراث في تعليق وزير السياحة السابق على صفحته في “فايسبوك” بعد استعادة إحدى القطع الآثرية، بالآية “اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى”.. تبرؤًا ربما من إثم الصنم المستعاد!

وحشية “داعش”

الآثار هي ثاني الموارد التي يعتمد عليها تنظيم “داعش” لتمويل عملياته وإدامة بقائه، بعد النفط. وكانت اليونسكو قد أقرّت ببيع التنظيم الإرهابي لآثار عراقيّة وسوريّة، مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار يمنع المتاجرة بإرث البلدين الحضاري. وإذا كان “داعش” يتعمّد إيجاد “تشريعات” من بطون كتب التراث للقيّام بعمليّات القتل الوحشيّة مثل الإعدامات الميدانية ذبحاً في مدن العراق، وعقوبات الجلد في الرقة، وحرق الكساسبة، وإعدام الأقباط، فإن الكثير من الفتاوى الإسلامية تتيح له هدم التماثيل وحرق الكتب. وجاء تدمير متحف نينوى، المُغلق منذ عام 2003، استمراراً لنهجه “المتوحّش”. ويبدو أن التنظيم المتطرّف كان يُحاول إيصال رسالة إلى مناصريه بأنّه لم يبع التماثيل لتمويل نفسه، وأنّه تنظيم قويّ ولا حاجة له بالمتاجرة بالمحرّمات.

أما ردود الفعل فكانت أسوأ، إذ لم تدن المرجعيّات الدينية في العراق فعلة “داعش”، وبدت وزارة السياحة مرتبكة لساعات طويلة، ولاذت بالصمت بدلاً من “الإدانة” وإحصاء ما تمّ تدميره.

أطلس الخراب

كان يُمكن ملاحظة الدموع المحبوسة في عيون العراقيين بعد نشر “داعش” للفيديو الذي يمتدّ لدقائق عدّة حيث يقوم عناصره بتحطيم الآثار العراقية التي تعود إلى آلاف من السنوات. كان يمكن قراءة العيون وهي تتحدّث عن ماضيها وحاضرها المسلوب، وكان يمكن أيضاً تلمّس أطلس الخراب الذي امتد على الخارطة العراقية.

في المحصّلة، فإن الفرق في مشاهد الدمار بين “داعش” والقوّات الأميركية في تدمير الآثار ونهبها، والحكومة العراقية وإهمالها وفسادها، هو طريقة الدعاية فحسب. فالتنظيم الإرهابي قادر على صناعة الصدمة لأنّه يحتاجها لإثبات قوّته ولاشاعة الرعب لدى الجميع، أما الحكومة العراقيّة فكان تعاملها مع الآثار الممعن في الإهمال لا يقلُّ بشاعة عن “داعش”. فالنتيجة واحدة: التبديد.

* كاتب صحافي من العراق

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى