صفحات مميزة

عن “دونالد ترامب” مقالات مختارة”

ليست أقلّ خطورة من الدولة العميقة: دولة ترامب الضحلة/ صبحي حديدي

«لقد قرر هذا الرئيس أنه إذا كان ضحلاً، وأنصاره ضِحال مثله، فإنه سيبذل ما في وسعه ليجعل مجتمعنا أكثر ضحالة. لعلّ هذا هو هدفه الأشدّ طموحاً، بالنظر إلى مستوى ما انحدرنا إليه». هكذا تكلم دافيد روثكوف، المدير التنفيذي والمحرر في مجموعة «فورين بوليسي»، في توصيف حال «الدولة الضحلة» كما يقودها، حالياً، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وهذه الدولة، على نقيض تلك «العميقة» بالطبع، تبغض «المعرفة، والعلائق، والرؤية، والاحتراف، والمهارات الخاصة، والإرث، والقيم المشتركة»، وتحتفي بالجهل، ولهذا فإنّ ترامب هو بطل هذه الدولة، وقد فاز بالسلطة لأنّ أنصاره «يتهددهم ما لا يفهمونه، وما لا يفهمونه هو كلّ شيء تقريباً»، يضيف روثكوف، في مقال نشره موقع «فورين بوليسي مؤخراً، تحت عنوان «الدولة الضحلة».

ليس هذا فقط، وأبعد من ترامب نفسه (إذْ يقرّ روثكوف أنّ رؤساء على شاكلة رونالد ريغان وجورج بوش الابن لم يكونوا أعلى مستوى، فكرياً، من الرئيس الحالي)، بل إنّ تسمية «أعداء الشعب» التي استخدمها ترامب لتوصيف الصحافة، إنما تنبثق من حقيقة أنّ الرئيس وأنصاره «في حالة حرب مع الحقيقة والمعرفة». وهذه الإدارة صعدت إلى السلطة لأنّ أمريكا «سمحت بانحدار الخطاب، ومستوى التعليم الذي يتلقاه أطفالنا، والمعايير التي اخترناها لأنفسنا»، ولهذا فإنّ ترامب «يسعى إلى مأسسة ذلك الانحدار. إنه في حالة حرب مع ذاك الذي جعل مجتمعنا عظيماً»! وعند الكثيرين من أنصار ترامب، «المعرفة ليست أداة مفيدة بل هي عائق خبيث خلقته النخبة لإبعاد السلطة عن المواطن العادي، رجلاً وامرأة»، والخلاصة ذاتها تنطبق، عندهم، على التجربة، والمهارات، والخبرة، وبالتالي، «الحقيقة صعبة، والضحالة سهلة»، يستخلص روثكوف.

والحال، بادئ ذي بدء، أنّ «أنصار ترامب» ليسوا زمرة أو عصبة أو جمهرة، بل هم 62,979,636 من الناخبين، نساء ورجالاً، أي 46,1 في المئة من مجموع الذين صوّتوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهم، كذلك، 304 (مقابل 228 للخاسرة هيلاري كلنتون) من مجموع الهيئة الانتخابية. هذا يعني أنهم دولة عميقة، بالمعنى الديمغرافي (والديمقراطي، أيضاً، حتى إذا كانت كلنتون قد تفوقت على ترامب في مستوى الاقتراع الشعبي العام)، ولا يغيّر من هذه الأرجحية أنهم، وفق منظورات روثكوف، أنصار دولة ضحلة. حري أن يدور السجال، في المقابل، حول ما إذا كانت الهوية الفعلية لأمريكا الراهنة هي ذلك المقدار من التكامل بين ما هو عميق وما هو ضحل، ما هو معرفيّ وما هو جهل، ما هو كلنتون وما هو ترامب…

وثانياً، وهو التفصيل الأهمّ ربما، هل نمت هذه «الدولة الضحلة» فجأة، من غامض علوم التاريخ الأمريكي؟ وهل استقرت، وباتت ثقافة وسلوكاً وإيديولوجية، في غفلة من أزمنة أمريكا؟ وأين كان روثكوف، نفسه، حين أخذت الضحالة تضرب بجذورها في نفوس 62 مليون امرأة ورجل من نساء أمريكا ورجالها، شيبها وشبابها؟ هذه أسئلة جديرة بإعادة النقاش إلى مفهوم «الإمبريالية الثقافية»، الذي تغنى به روثكوف نفسه قبل عقدين من الزمان، حين كان المدير الإداري لمؤسسة «كيسنجر وشركاه»، أشهر معاقل الاستشارات الكونية الجيو ـ سياسية، حيث عمل عشرات الخبراء، وكبار متقاعدي مناصب رفيعة في الإدارات الأمريكية، من مرتبة مستشار الأمن القومي إلى وزير الخارجية.

أبرز أفكار روثكوف، بصدد «الإمبريالية الثقافية»، سارت هكذا:

ـ تكنولوجيا المعلوماتية، وبالأحرى انفجار تكنولوجيا المعلومات، هو أبرز مظاهر العولمة الراهنة التي يشهدها العالم بأسره.

ـ الولايات المتحدة هي سيّدة هذه الثورة وصاحبة الباع الأطول في تطويرها وتصديرها. إنها تسيطر تماماً على «أوتوستراد المعلومات»، أكثر من أي بلد آخر على الإطلاق. العالم يصغي إلى الموسيقى الأمريكية، ويشاهد التلفزات الأمريكية، ويستخدم البرامج الكومبيوترية الأمريكية، ويأكل الأطعمة الأمريكية، ويلبس الثياب الأمريكية. الأمريكيون يتحكمون في سمع وبصر وذوق ومعدة وعقل العالم. العالم يتأمرك بقوة واضطراد.

ـ ثقافات العالم الأخرى لا تستطيع مقاومة هذا الغزو الأمريكي الشرعي، وحالها أشبه بحال الملك كانوت (أحد ملوك الفايكنغ في القرون الوسطى)، الذي نصب عرشه أمام البحر، وأمر الأمواج بالانحسار. مطلوب بالتالي أن تستغل مختلف إدارات البيت الأبيض هذا الوضع الاستثنائي، فتترجم شعار «الولايات المتحدة بلد لا غنى عنه»، إلى واقع فعلي يدشّن القرن الحالي، ويهيمن عليه.

ـ لا ديمقراطية، ولا أوهام ليبرالية أيضاً، حول ضرورة إفساح المجال أمام الثقافات الوطنية لكي تترعرع وتحتفظ بهوياتها الوطنية. ولا مجال أيضاً أمام فكرة «التعددية الثقافية»، الرومانتيكية في الجوهر، المنتمية إلى عصور القوميات، المعرقلة للمزيد من نشر وانتشار العولمة الشاملة.

ـ البديل الوحيد المتاح، بل المطلوب بإلحاح شديد، هو تعميم الثقافة الأمريكية، وحدها وحصراً. وكتب روثكوف حرفياً: «قد يجادل الكثير من المراقبين بأنه من غير المستحب انتهاز الفرص التي تخلقها الثورة المعلوماتية العالمية، من أجل فرض الثقافة الأمريكية على الآخرين. ولكنني أجادل بأن هذا النوع من النسبوية خطير بقدر ما هو خاطىء. ذلك لأن الثقافة الأمريكية مختلفة جوهرياً عن جميع الثقافات الأصيلة في العالم، وهي جماع متجانس من المؤثرات والمقاربات الكونية، وهي منصهرة في خلاصة خاصة تتيح تطوّر الحريات الفردية والثقافات الفردية على حدّ سواء».

ـ تأسيساً على هذه المحاجّة، تابع روثكوف: «ينبغي أن لا يعفّ الأمريكيون عن القيام بما هو في صلب مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي ليست في نهاية الأمر سوى مصالح العالم على اختلاف جغرافياته وثقافاته. وينبغي على الولايات المتحدة أن لا تتردد برهة واحدة في تعميم قيمها وأخلاقياتها. وينبغي على الأمريكيين أن لا ينسوا لحظة واحدة أن ثقافتهم، وحدها ودون ثقافات جميع الأمم على امتداد تاريخ العالم، هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر استعداداً لإعادة تقييم وإعادة تطوير عناصرها، والنموذج الأفضل من أجل مستقبل الإنسانية».

حسناً، أليست هذه الثقافة، الأمريكية والإمبريالية، التي اقترحها روثكوف على الإنسانية جمعاء، هي، ذاتها، التي أنتجت ترامب، وأنصاره، ودولتهم الضحلة التي تبغض المعرفة والحقيقة؟ أم أنّ هذه الثقافة تبدّلت وتحوّلت، أو حتى مُسخت، وجاز التخلي عنها أو نقدها على الأقلّ، وفي هذه الحالة، لماذا لا ينتهج روثكوف هذا الخيار، هذه الأيام تحديداً؟ وهل يصحّ، عقلياً ولكن تاريخياً أيضاً، فصل عوالم السياسة الداخلية الأمريكية، عن السياسات الخارجية، والتساؤل، بالتالي، عن أبعاد «الضحالة» في مواقف ترامب الأخيرة من حلّ الدولتين في فلسطين، مثلاً، أو مراجعة اتفاقيات المناخ، والتجارة الدولية، والنووي مع إيران، في أمثلة أخرى؟

المنطقي أنّ روثكوف غير غافل عن فلسفة الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ولسون (الذي يصعب اتهامه بصناعة دولة ضحلة!)، بصدد الدور الداعم الذي يتوجب أن يلعبه جهاز الدولة في أمريكا، بالنيابة عن الرأسمالية الكونية: «لأنّ التجارة تضرب صفحاً عن الحدود، والصناعيّ يلحّ على امتلاك العالم بأسره سوقاً له، فإنّ من الواجب على عَلَم بلاده أن يرفرف خلف ظهره. ويجب على جيش الأمة أن يقاتل لكي تنفتح الأبواب الموصدة أمام التجارة والصناعة. وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة. ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة، بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون».

أليس ترامب، في نهاية المطاف، رئيس دولة عظمى، ثانياً، لكنه، أوّلاً، وقبلئذ، رجل أعمال… رأسمالي؟

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

إيران في مرمى ترامب/ بكر صدقي

يكاد لا يمر يوم واحد لا تظهر فيه مؤشرات على أن إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب قد وضعت إيران على رأس لائحة استهدافاتها في منطقتنا، جنباً إلى جنب مع «دولة» أبي بكر البغدادي «الإسلامية» (داعش).

لا يقتصر الأمر على تصريحات أقطاب الإدارة الموجهة ضد النفوذ الإقليمي لإيران أو المتحدثة عن كون جمهورية الخامنئي «الإسلامية» هي أكبر راع للإرهاب في العالم! بل تجاوزتها إلى تحريك حاملة طائرات أمريكية إلى خليج عدن، في أعقاب استهداف سفينة سعودية من قبل مقاتلي الحوثي. وتتحدث تقارير صحافية عن سعي الإدارة الأمريكية لتشكيل تحالف عسكري عربي ـ إقليمي لمواجهة التهديدات الإيرانية، أطلق عليه «ناتو» عربي ـ إقليمي، من المفترض أن يضم مصر والسعودية والأردن ودولة الإمارات العربية وتركيا.

هذا مما يزيل استغراب شن حسن نصر الله ـ قائد الميليشيا الإيرانية في لبنان ـ هجوماً مفاجئاً على دولة الإمارات، إذا اعتبرنا هجومه على السعودية من مألوف خطاب الرجل.

الواقع إن إيران بدأت تتحرك على خطين متباعدين لاستيعاب الهجمة الترامبية: أولهما محاولة التقرب من دول الخليج، من خلال حديث وزير خارجيتها جواد ظريف عن «الانفتاح على الحوار» مع الجوار العربي الخليجي، كما من خلال زيارتي الرئيس حسن روحاني إلى كل من الكويت وسلطنة عمان. والثاني خط الابتزاز والتهديد من خلال حسن نصر الله الذي فتح النار، مجدداً، على دول الخليج، واستعاد تقليداً بات منسياً منذ سنوات في إطلاق التهديدات اللفظية ضد «عدوه» الإسرائيلي المزعوم.

على الضفة الأخرى، لا تفوت المراقب مؤشرات لافتة في الخطاب التركي ضد إيران، وظهور علامات على قرب نهاية شهر العسل القصير بين تركيا وروسيا في الموضوع السوري. فقد تلقف الأتراك فكرة المناطق الآمنة التي طرحها ترامب، وكلف فريقه بوضع تصور عملي للموضوع خلال فترة ثلاثة أشهر. أعلنت إيران صراحةً اعتراضها على هذا المشروع الذي يمنح الأمريكيين والأتراك منطقة نفوذ دائمة داخل ولايتها السورية (الخامسة والثلاثين، ودرة تاج توسعها الإقليمي)، فمن شأن تحقق ذلك أن يعرض مشروع إمبراطوريتها المفترضة للخطر، في حين سمحت لها السياسة الأمريكية السابقة في عهد باراك أوباما بأن تشط في أحلامها الإمبراطورية تلك. وجاء البيان الأمريكي بصدد مباحثات نائب الرئيس مايكل بنس ورئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم، التي تضمنت «اتفاق الجانبين على مواجهة النفوذ الإقليمي لإيران» لتُخرج إيران عن طورها تماماً، فيستدعى السفير التركي في طهران إلى وزارة الخارجية الإيرانية ويحمَّل رداً قاسياً على المواقف والتصريحات التركية الجديدة من إيران.

لم يمض على انتقال السلطة في واشنطن شهر واحد، وبتنا أمام هذا المشهد الخطير الذي يذكر بالحملات التمهيدية لشن الحروب. وفي الهدف اليوم دولة إيران. والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدو، في شعبويته وارتجاليته وجهله، أخطر حتى من سلفه الجمهوري جورج دبليو بوش الذي أمضى ولايتيه في خوض غمار الحروب المدمرة في منطقتنا. ترى هل ينوي ترامب استكمال حروب بوش بضرب إيران هذه المرة؟ أم أن البراغماتية الإيرانية ستتمكن من استيعاب العدوانية الأمريكية ضدها باختيار طريق الانحناء أمام العاصفة؟ وكم سيكلفها هذا الانحناء المفترض من جموحها السابق واستثماراتها في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين؟ أم أن الأقدار ستنقذها من خلال احتمال إطاحة فضيحة مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي مايكل فلين برئاسة ترامب؟ فهذا من السيناريوهات المطروحة حالياً في الرأي العام الأمريكي الذي لا يكن قسم كبير منه الود للرئيس الجديد. وحتى لو نجا ترامب من ارتدادات هذه الفضيحة، فسيكون مضطراً، فيما تبقى من ولايته، للامتثال لثوابت السياسات الأمريكية التقليدية، أو يطاح به عند أي زلة جديدة لا تستبعد شخصيته ارتكابها.

من المحتمل أن قادة النظام في طهران يأملون بتطور الأمور في هذا الاتجاه. لكن السياسة لا تبنى على آمال، بل على تدابير وأفعال. وهو ما تحاول إيران تلمس الخيارات المتاحة للقيام به، سواء من خلال السعي لاسترضاء الجوار الخليجي بمعسول الكلام، أو هز عصا حزب الله بمسمومه، أو تهديد الجارة التركية.

الواقع أن السياسة التوسعية الإيرانية في السنوات السابقة، ومسلكها التخريبي في الدول العربية، لم يتركا لطهران أحداً يتعاطف معها في محنتها الراهنة، باستثناء أدواتها من الميليشيات الطائفية بطبيعة الحال. أما المجتمعات الشيعية في الدول العربية التي ورطتها تلك الميليشيات المؤتمرة بأوامر ولي الفقيه في استقطابات مذهبية مدمرة ضد المكونات الأخرى الشريكة، فسوف تدفع ثمن قرارات لم يكن لها يد في اتخاذها.

إيران دولة جارة تنتمي إلى العالم الإسلامي. كان المأمول أن يحميها محيطها العربي والإسلامي في وجه التهديدات الأمريكية. من المؤسف أن مشاعر العداء لإيران هي الطاغية اليوم في الرأي العام العربي على الأقل، بما في ذلك قيادات الدول. وتتحمل إيران وحدها مسؤولية ذلك من خلال سياساتها التدخلية اللامسؤولة في شؤون دول الجوار. تدخل لا أفق إيجابيا له، ولا ينطوي على مشروع جذاب، بل يقتصر على التخريب وتعميم الصراع المذهبي السني ـ الشيعي العابر للدول. وفي المأساة السورية بالذات تدخلت إيران لمصلحة نظام يدمر بلده ويقتل شعبه طوال ست سنوات، مع مساهمة الميليشيات الإيرانية متعددة الجنسيات بصورة مباشرة في جرائم القتل والتنكيل والتهجير والتخريب.

لن يكسب أحد من شعوب المنطقة من حرب أمريكية جديدة هدفها إيران هذه المرة. ولكن على نفسها جنت براقش.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

ترامب تجسيد لمأزق أميركا/ علي العبدالله

كان لافتا ندرة التحليلات، على كثرة ما كتب حول الموضوع، التي تناولت الأسباب التي قادت الى فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب وتسلمه لمنصبه رئيسا للدولة العظمى الوحيدة في العالم كأن العالم رغب في دس رأسه في الرمال والتسليم بالوضع الجديد دون فهمه وتقويمه لوضع تصور منطقي وعملي للتعاطي معه.

جاء انتخاب دونالد ترامب للرئاسة ردا على سياسات ترتبت على هيمنة القيم الليبرالية، اجتماعيا واقتصاديا، ومفاعيلها المحلية والدولية وانعكاسها السلبي على مصالح فئات اجتماعية وقوى اقتصادية ومالية نافذة ما حفّز قطاعات من الرأي العام الأميركي، وخاصة ضمن الكتلة الناخبة، على التعبير عن سخطها وتبرمها مما آلت إليه أوضاعها، وأوضاع الولايات المتحدة، بالتصويت ضد توجهات النخبة الحاكمة بمؤسساتها ومراكز تفكيرها ودولتها العميقة. تصويت عقابي على أمل إعادة ضبط السياسات عبر بعث القيم التقليدية التي حكمت تأسيس الدولة كمدخل لاستعادة المواقع والأدوار والحقوق.

عكس التصويت لترامب “تمرّد” جمهور الواسب(الانكلوسكسون البيض البروتستانت) الذين يرون في أنفسهم مؤسسي الدولة وملاكها الأصليين، على النظامين السياسي والاجتماعي. كانت إشارات كثيرة على تململ هذا “الجمهور” قد برزت للعلن في العقود الأخيرة إن بتشكيل منظمات سرية يمينية تعتمد العنف وتمارسه للتعبير عن مواقفها من النظام القائم ومطالبتها بتغييره وفق تصوراتها(تفجير أوكلاهوما عام 1995 الذي نفذه تيموثي ماكفي من حركة ميليشيا وذهب ضحيته 168 قتيلا و 680 جريحا، وتفجير أتلانتا الذي استهدف دورة الألعاب الأولمبية عام  1996 والذي نفذه إيريك روبرت رودولف وذهب ضحيته قتيلة واحدة ونحو من مائة جريح)، أو عبر ممارسات فردية تعكس التوتر والاحتقان الاجتماعيين كما جسدتها عمليات القتل بدم بارد التي قام بها رجال شرطة بيض ضد مواطنين سود في السنوات الأخيرة. إشارات  نبهت وأنذرت بمفاعيل سياسية واجتماعية، لكن النخبة الحاكمة تجاهلتها فكان التصويت لترامب تعبيرا عن تبرم ونزق جماعي.

كما عبر (التصويت) عن انزعاج قطاعات اجتماعية واسعة من ذوي المال والأعمال والعاملين في عدد من الصناعات واستيائها من سياسات اقتصادية قادت الى إغلاق مصانع وانهيار صناعات نتيجة تصدير الوظائف الى الخارج عبر نقل صناعات أو أجزاء من صناعات الى دول أخرى ما تسبب بخسارتها لمواقعها في الدورة الاقتصادية ولرؤوس أموالها ولأعمالها والى ارتفاع نسبة البطالة والتضخم، ودفعها الى تغيير قناعاتها السياسية وولاءاتها الحزبية.

لقد أثارت البيروقراطية، بالمعنى السلبي للكلمة، والنمطية والجمود السياسي، الهواجس والمخاوف فأعادت بعث الانقسامات القومية والاثنية والعرقية ونشّطت النزعات العنصرية والفاشية المرتكزة الى ثقافة الهوية وتبعاتها السياسية(اعترف الرئيس الأميركي السابق بعدم تجاوز العنصرية رغم انتخابه كأسود لدورتين رئاسيتين). فالتدهور المريع الذي ترتب على السياسات البائسة التي أفرزتها النمطية، واهتزاز ثقة المواطنين بالنظام الديمقراطي(النظام السياسي الأفضل، أو الأقل سوءا، وفق تعبير ونستون تشرشل، لأنه يتيح فرصا للاختيار بين بدائل متعددة، ويضمن آليات لمراقبة السلطة المنتخبة، ومساءلتها، ومحاسبتها، ويوفر إمكانات لمراجعة سياساتها، ومعالجة أخطائها، وتصحيح الاختيارات، إذا لم تحسن الحكومة المنتخبة إدارة الشأن العام، مادامت هناك انتخابات تالية معلوم موعدها) بسبب الجمود الذي أصاب النخبة السياسية التقليدية وجعلها عاجزة عن استيعاب ما يدور حولها وبين جماهير وطنها من تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة وعميقة ما سمح لترامب باللعب على أوتار معاناة ضحايا هذه السياسات وجمود النظام الأميركي وتصلّب شرايينه، الذي عكسه “عجز الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية عن تجديد خطاباتها، التي انحسرت الفروق بينها فصارت متقاربة ورتيبة وخالية من الرؤى الملهمة التي تخلق حيوية في المجتمع، وعاجزة عن ضخ دماء جديدة، وتطوير آليات التجنيد، واختيار المستويات القيادية فيها، الأمر الذي أدى إلى إعادة تدوير نخب محدودة، لم يعد لديها ما تقدمه”، وفق رأي الدكتور وحيد عبدالمجيد في مقالته: “ترامبية” و”بوتينية” .. نزعات شعبوية تجتاح العالم وتهدّده،- موقع مجلة السياسة الدولية المصرية يوم 9/1/2017) والتداعيات السلبية للعولمة، التي هيمن المستفيدون منها على هذا النظام، فجذب(ترامب) بشعاراته المحافظة والمتشددة والعنصرية والوعد بتجديد “الحلم” الأميركي، حلم أطلقه الآباء المؤسسون وهم من الواسب، واسترجاع مكانة أميركا الدولية، الناقمين على قيم النظام السياسي والاجتماعي الليبرالي، وبشعاراته “أميركا أولا”، والحمائية وفرض الضرائب على الواردات وإعادة الصناعات الأميركية المهاجرة الى أرض الوطن، والناقمين على السياسة الاقتصادية المعولمة.

المشكلة أن التصويت الانتقامي لترامب لن يحل مأزق أميركا في ضوء عوامل الضعف التي نخرتها وخاصة التراجع الاقتصادي حيث لا تعاني من مديونية عالية (قرابة الـ 20 تريليون دولار) فقط بل ومن تراجع حصتها في إجمالي الناتج العام والتجارة الدوليين، ما يجعلها عاجزة عن استعادة مكانتها وفرض إرادتها على خصومها ومنافسيها بسبب تراجع قدرتها على تمويل قواتها المسلحة، أداتها في التدخل الخارجي وحماية مصالحها ومصالح حلفائها، وأداتها في التحكم بالتطورات الدولية والإقليمية. كان المؤرخ الأميركي بول كنيدي قد استنتج بعد دراسة معمقة لتجارب دول عظمى برزت على المسرح الدولي طوال خمسة قرون قانون قيام وسقوط القوى العظمى: “اقتصاد قوي قادر على تمويل قوة عسكرية منتشرة في الخارج”. وهذا، بالإضافة الى نزعة ترامب الشعبوية، يمكن أن يعمقا مأزق أميركا ويدفعاها الى مزيد من الانحدار على كل الأصعدة.

المدن

 

 

 

 

 

ترامب مخلّص الاتحاد الأوروبي؟/ إيفان كراستيف

يتعاظم القلق في أنحاء كثيرة من أوروبا من مد موجة شعبوية لا يرد. والقارة القديمة ممزقة على وقع انقسامات مريرة خلّفتها أزمتا اليورو والمهاجرين. والاتحاد الأوروبي واقع بين سندان روسيا، القوة المراجعة، ومطرقة «أميركا أولاً»، ومعنوياته متدنية إثر اختيار بريطانيا الانسحاب منه. والانتخابات المقبلة في فرنسا وألمانيا وتشيخيا وإيطاليا قادرة على دفن مشروع ما بعد الحرب الثانية الأوروبي. وفي وقت يتعافى الاقتصاد الأوروبي، يتفاقم الشعور بالافتقار إلى الأمن.

ولكن هل سينفرط عقد الاتحاد الأوروبي في 2017؟ الأرجح لا. ويبدو أن أميركا هي مخلصة أوروبا. وليست رغبة ترامب في بناء الجدران (وأوروبا سباقة في هذا المجال) ما يخيف الأوروبيين، ولا هم يخشون سياساته جراء تمسكهم بالعولمة (شطر كبير منهم يكره العولمة)، بل ما يخيفهم هو أنه رئيس الفوضى، وكأنه بطل من قصص الأطفال يعتلي حصاناً ويجول في الاتجاهات كلها.

وترامب هو مخلّص الاتحاد الأوروبي. ففوزه بالرئاسة الأميركية أخاف الطبقات الوسطى التي تكره المغامرة والمخاطرة، وساهم في زيادة تطرف الأحزاب الشعبوية. وقبل الانتخابات الأميركية، كانت الأحزاب الشعبوية تتمدد في أوروبا. وفي عدد من الدول الأوروبية أفلح شعبويون في استقطاب كثير من الناخبين.

ولكن منذ بلوغ ترامب البيت الأبيض، ابتعد نظراؤه الأوروبيون عن الاعتدال، ومالوا إلى المغالاة في التطرف والاحتذاء على خطابه في الحملة الانتخابية، أي إلى نبرة أكثر غضباً ورؤية إلى العالم تتوقع الأسوأ. وتحولت مارين لوبن بين ليلة وضحاها من متطرفة مرهفة إلى مقاتلة شرسة في حرب على «التوتاليتاريا» المزدوجة: الإسلاموية والعولمة. وهزيمة نوربرت هوفر، وهو كان مرشح أقصى اليمين، في الانتخابات الرئاسية في كانون الأول (ديسمبر) المنصرم، هي خير دليل على أثر ترامب في السياسة الأوروبية. ففوز ترامب بالرئاسة حمل اليمين المتطرف الأوروبي على التزام برامج أكثر عدائية، وساهم في تقويض رغبة الناخبين المترددين في الاقتراع لخيارات متطرفة وبديلة.

وخطاب ترامب المعادي للاتحاد الأوروبي لا يخدم مصلحة الشعبويين. فالنخب الأوروبية صارت تميل إلى رفع لواء استقلال أوروبا وإعلاء شأن مصالحها القومية. وترجح ثورة ترامب كفة مشاعر قومية مرحبة بالاتحاد الأوروبي.

وإلى وقت قريب، كان أقصى اليسار وأقصى اليمين يطعنان في اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة. أما اليوم فمؤيدو أوروبا يسعون إلى جيش أوروبي وسياسة خارجية أوروبية مستقلة.

ووصف، أخيراً، دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبي، «أميركا ترامب» بالخطر الوجودي على الاتحاد الأوروبي شأنها شأن روسيا، والصين والتطرف الإسلامي.

واليوم، لم يعد الأوروبيون يستبعدون ما هو غير متوقع (البريكزيت، وانتخاب ترامب)، وصاروا يتوقعون الأسوأ والمستبعد، على غرار فوز غيرت وايلدرز برئاسة الوزراء الهولندية، ومارين لوبن بالرئاسة الفرنسية، وخسارة المستشارة الألمانية أنغيلا مركل منصبها. وعلى أغلب الظن أن هذه الأمور لن تقع. ولكن تفادي الأسوأ قد يكون مصدر تحفيز سياسي للاتحاد الأوروبي. وقد تشد أواصر الأوروبيين غريزة البقاء في 2017، وتكتب له الحياة.

* مدير مركز «ليبرال استراتيجيز»، باحث، عن «نيويورك تايمز» الاميركية، 20/2/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

 

ترامب: ما عاد الأمر مزاحاً/ روجر أوين

خلال القسم الأكبر من الحملة الرئاسية الأخيرة، تمكّن مناهضو دونالد ترامب من التعاطي مع ترشّحه للرئاسة على أنّه ضرب من المزاح، وكانوا متأكدين تماماً من أن هيلاري كلينتون ستهزمه. لكن ما إن تمّ انتخابه، وإن بفارق صغير جدّاً من أصوات الناخبين، حتى وردت تقارير بأن أعداداً غير مألوفة من الناس بحثت عبر «غوغل» على لفظة surreal الإنكليزية، وترجمتها سوريالي، إذ بدت كالأكثر تناسباً لاختصار الشعور السائد بين الناس بأنّهم بعيدون كلّ البعد عن الواقع مع انطلاق عهد ترامب الجديد. فها إنّ شخصية تلفزيونية من أصحاب البلايين، ممّن لا يملكون أي خبرة في السياسة وأيّ احترام للحقيقة، تتحوّل إلى الرجل الأكثر نفوذاً على الأرض، فيمارس سلطة هائلة على حياة مئات الملايين من الناس، بما يشمل طبعاً أولئك اللاجئين الشرق أوسطيين اليائسين لبلوغ برّ الأمان في الولايات المتّحدة عينها.

فما الذي نعرفه فعلاً عن هذا الرجل، وعن شخصيته، وعن مستشاريه، كوسيلة للتوصّل إلى بعض الاستنتاجات، لنحاول أن نعرف ما هي القيود التي سيفرضها كزعيم، والسياسات التي من المرجّح أن يعتمدها؟

مع إلقاء نظرة أولى إلى ترامب، سنرى أنّنا أمام مستبدّ حقيقي، وقد تجلّى ذلك للمرة الأولى في مناظراته مع هيلاري كلينتون، حيث ظهر كرجل ضخم وطويل القامة، تكاد الابتسامة تغيب عن وجهه تماماً، ويتّسم بعينيه الصغيرتين الشرّيرتين، وبذقنه الناتئ الذي ينكمش ويتحرّك على ما يبدو وفق مزاجه.

أمّا العنصر الآخر الأكثر حركةً فيه، فذراعاه، اللتان تتنقّلان باستمرار من مكان إلى آخر لإثبات وجهة نظر محدّدة، فتراه يلوّح بهما في الهواء تارةً، ويلفّهما حول قلبه تارةً أخرى، إذ يطلب من جماهيره «تصديق» أي كلام يحاول أن يبيعهم إياه.

وفي شكل عام، يتّسم أسلوبه الكلامي بحد ذاته بكونه حافلاً بمزاعم كبيرة ومسرفة في الكثير من الأحيان – على غرار تأكيده أن «العالم يختبر حالة فوضى» أو أن هيلاري كلينتون حصلت على «ملايين» الأصوات غير المشروعة – ليعود ويضيف على مضض تعديلات إلى كلامه، فيدرج كلمات على غرار «ربما» و «على الأرجح»، مبرراً أقواله بأمر أكّده في سيرته الذاتيّة التي صاغها له كاتب ظل، وعنوانها «فن الصفقة»، وهو أنّ المغالاة.. وهي نوع بريء من المبالغة.. فعّالة جداً لترويج المرء عن نفسه. وقد نضيف إلى ما سبق عادةً أخرى من عوائد ترامب، وهي أنّه يسحب موقفه الأساسي ويعود إلى موقف أكثر منطقيّةً، في حال وجد نفسه في مواجهة وضع صعب. وكذلك، نرى بوضوح أنّ الرئيس وطاقم العاملين لديه مهووسون بالأعداد، على غرار أعداد الناس المتوافدين إلى تجمّعاته، في مواجهة أولئك الذين قدموا إلى تجمّعات منافسيه، بما يشمل، إن قمنا باستعادة الحوادث، باراك أوباما.

ولا بدّ أيضاً من الكلام عن الأهمية التي يعول عليها ترامب للولاء والثقة، وقد ظهر ذلك جلياًّ عندما وظّف أفراداً من أسرته ضمن فريق العاملين في البيت الأبيض، إلى جانب ولائه الشخصي إلى كلّ من ساعده على تحقيق انتصاره المفاجئ في الانتخابات، وقد باتوا اليوم مستعدّين لاختلاق الأكاذيب لمصلحته، ولوم جميع الآخرين، وبالأخص الصحافة، على أخطاء سيّدهم ومشاكله والصعوبات التي يواجهها، لتصبح مراقبتهم أثناء عملهم تجربة مثيرة للتوتّر، إذ يغفلون عن الرد على أسئلة الصحافيين، ويجدون أنفسهم مضطرّين للدفاع عن كلمات استعملها ترامب بلغة غير رئاسيّة، عندما تكلّم عن الجسم القضائي، وأظهر انعداماَ هائلاً في الكفاءة عندما أصدر أمراً تنفيذياً فاشلاً بمنع الهجرة من عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، مع غياب الوضوح شبه التام في تصرّفاته، بما يشمل عدم إصداره لأيّ توجيهات للمسؤولين في شأن كيفيّة تنفيذ الأوامر التي أصدرها.

وكأنّ هذا كلّه لا يكفي، يتّضح أكثر فأكثر أنّ الرئيس الجديد كسول فكرياً، وقراءته للتاريخ الأميركي سيئة جدّاً، ناهيك عن أنّه يجهل تفاصيله، ولا يعرف الكثير عن تفاصيل المسائل المتبقّية حول العالم. ولعلّ ذلك يلعب دوراً لمصلحته الشخصيّة أحياناً، متى تعلّق الأمر مثلاً بجهله للقوانين التي وجّهت معظم السلوك الرئاسي السابق، بالنسبة مثلاً إلى تضارب المصالح الذي جعله يتمسّك بعدد كبير من أصوله الشخصيّة، بدلاً من إيداعها بثقة عمياء كما فعل معظم الرؤساء الذين سبقوه. لكن في أحيان أخرى، تتحوّل قلّة معرفته بالأمور إلى مصدر إحراج ليس إلاّ، كما حصل مثلاً خلال زيارة رئيسة الوزراء البريطانيّة تريزا ماي إلى واشنطن مؤخراً ، حيث بدا أنّ معرفة ترامب مبهمة بونستن تشرشل، قائد البلاد العظيم في فترة الحرب، الذي يبرز تمثاله متجلياً في البيت الأبيض.

وبالتالي، لا عجب إن كان هذا العدد من الأميركيين، ومن الناس في أرجاء العالم كافةً، يشعرون حتّى الآن بالتوتر والحذر حيال هذا الرجل المتهوّر الذي يقود العالم الحر، ولا ينفك يروّج لنفسه، آخذين بالحسبان، على راحتهم، المفهوم التاريخي للضوابط والتوازنات التقليدية في بلاده، مع أنّه هو بنفسه غافل عنها أو محقّر لها في الكثير من الأحيان. ومع أنّ ترامب ظاهرياً غير مستعد لتغيير سلوكه، يبدو عدد من أعضاء مجلس وزرائه المحنّكين فاهمين لما هو ضروريّ لتلبية الوعود الانتخابية الأوسع نطاقاً على صعيد الوظائف، وسياسة الطاقة، واستبدال قانون الرعاية الصحية الميسّرة الذي وضعه أوباما، وإعادة صنع علاقة الولايات المتحدة مع المكسيك، جارتها الجنوبية.

ولا بد من الكلام أيضاً عن المنطق الصارم الذي يسود الجدول الزمني لانتخابات مجلس النواب، الجمهوري بغالبيّته، المزمع إجراؤها بعد أقلّ من سنتين، وهو ليس بالوقت الكافي لإقناع الناخبين بأن الرئيس يتّخذ خطوات فعليّة «لاستعادة عظمة الولايات المتّحدة»، لا سيما في مواجهة المعارضة الشعبية المتزايدة والمنظّمة أكثر فأكثر، وبالتحديد بين الشباب.

هذه هي الوقائع، وفق ما يقال، ولا بد من أن نتصرّف حيالها، وفق قدراتنا.

* أكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد

الحياة

 

 

إذا توصّل «ترامب» و«بوتين» إلى اتّفاق حول سوريا.. ماذا ستفعل إيران و«الأسد»؟

ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد

إنّ اللحظة الراهنة في سوريا هي لحظة دموية بجدارة، على الرغم من «وقف إطلاق النّار الناجح» الذي تحدّث عنه الروس. وفي الحقيقة، يوجد وقف إطلاق النار فقط في بيانات المسؤولين الروس ومبعوث الأمم المتّحدة «ستيفان دي مستورا». أمّا على الأرض، فهي حرب كالمعتاد. يوجد قتل في الغوطة والسويداء وإدلب والحسكة وحلب وحمص، وحتّى في دمشق.

لكنّ اللعبة الحقيقية الآن ليست على الأرض. وليست حتّى على طاولة المفاوضات في الأستانة أو جنيف. لقد انتقلت اللعبة إلى أروقة الاتّصال الداخلية بين الولايات المتّحدة وروسيا، واللذين يعملان في هذه اللحظة على خطّة مشتركة في سوريا. أمّا القتال والمفاوضات، فتحدث من قبل أطراف تركّز فقط على التأثير على المداولات بين روسيا والولايات المتّحدة.

أحيت القوّات الديمقراطية السورية سباقها على الرقّة، لقطع الطريق على تركيا بعد إعادة أنقرة لعلاقات العمل مع الولايات المتّحدة. ويقوم «الأسد» بتضييق الخناق على القوّات الموالية لروسيا عن طريق الميليشيات الموالية له لإرسال رسالة إلى موسكو أنّه لا يزال هناك. ويقوم بقصف مكثّف على مواقع المعارضة المسلّحة ليبعث برسالة إلى الجميع أنّه مستعد للتحدّي حتّى ضدّ وقف إطلاق النار الروسي. وكل هذه الرسائل مكتوبة فقط باللغة الشائعة في سوريا الآن.

وفي نهاية المطاف، تلخّص تلك الصورة الأزمة السورية في سؤالين جوهريين، فيما ترغب إدارة «ترامب» فعله في سوريا؟ وماذا ستفعل روسيا؟

ويتكوّن جدول أعمال الولايات المتّحدة في اللحظة الراهنة من ثلاث نقاط، تحرير الرقّة والقضاء على داعش، وإنهاء الحرب، وأخيرًا الحفاظ على وظائف الدولة في دمشق. ويبدو ذلك مطابقًا لما قال الروس أنّهم يرغبون به هناك. ومع ذلك، فإنّ الطرق إلى تحقيق هذه الرؤية المشتركة تختلف بشكلٍ ملحوظ. وعلاوة على ذلك، قد تعقّد أيّ خطوة من أحد الطرفين لتحقيق الأهداف من خطوات الآخر تجاه نفس الهدف المشترك.

نظريًا، يمكن للمخطّطين في الجانبين القول بإمكانية الوصول إلى خارطة طريق مشتركة. لكن واقعيًا، محاولة فعل ذلك تكشف مقدار صعوبة الوصول إلى اتّفاق. وإذا أضفنا التزامات كل طرف نحو حلفائه، تصبح الصورة أكثر تعقيدًا.

ولنأخذ المنطقة الآمنة التي اقترحتها الإدارة الأمريكية على سبيل المثال. يرى الروس فيها تحدّيًا لسيادة حكومة «بشّار الأسد». ويسأل الأتراك ماذا يجب أن نفعل إن حدث شيء أدّى إلى حكم ذاتي للأكراد على حدودنا. ويقول الإيرانيون «ليس مناسبًا لأنّ المنطقة الآمنة تعني تواجد قوّات أمريكية في مناطق يعتقدون أحقيّتهم في الوصول إليها». ويقول «الأسد» سأقبل بما ستقرّه روسيا وإيران بالطبع، ثم يحاول بعد ذلك تحسين حصّته على حساب كليهما. وتقول المعارضة حسنًا، لكن قولوا لنا ماذا سيكون مصير «الأسد» في النهاية.

إذا تمّ التوصّل إلى اتّفاقٍ شامل في سلوفينيا بين «ترامب» و«بوتين» في قمّتهما، سيشمل ذلك بطبيعة الحال خطّة عمل مشتركة حول سوريا. وستثير مثل هذه الخطّة بالتأكيد ردّ فعل من إيران. تريد روسيا أن تقول أنّ قوّاتها في سوريا ليست من أجل عيون «الأسد» أو إيران، لكن لمنع انهيار الدولة السورية. لكن قد تحدث الخلافات حين يحاول كلًا من الطرفين مراعاة حلفائه.

ثمّ يبرز عدم اليقين حول مستقبل سياسة «ترامب» تجاه روسيا. هل يمكنه دمج سوريا في تفاهم استراتيجي شامل مع «بوتين»؟ هل كلا القوّتان على استعداد للعمل معًا في الأزمة السورية وحدها إذا ما فشلا في التوصّل إلى تفاهم شامل؟

في حالة الوصول إلى «طريقة ما للعمل» في سوريا وحدها، سيتساءل بعض المحللين البارعين، هل يمكن لموسكو أن تسلّم طهران و«الأسد»؟ وإذا لم تكن مستعدّة لتسليمهما، فعلى أيّ شيءٍ تنبني خطّة العمل المشتركة بعد كل شيء؟ ستقابل مثل هذه الخطّة التحدّيات من الجانبين، وهكذا تتحوّل القضية إلى أروقة علاقات روسيا بحليفيها.

وفي حالة ربط سوريا بلعبة أكبر تشمل الشرق الأوسط ووسط آسيا وأوكرانيا وشرق أوروبا، فإنّ السؤال سيكون، إلى أيّ مدى يمكن لموسكو التفاهم مع حلفائها حول أهمية القيام بصفقة فردية مع واشنطن؟

من الواضح أنّ موسكو الآن تركّز على قتال القاعدة وتنظيم الدولة وتفكّر في أنّ الحرب السورية قد انتهت، استراتيجيًا، وأنّه قد حان الوقت ليشترك الجميع في القتال ضدّ المنظّمتين الإرهابيتين على قاعدة مشتركة. وهذا هو سبب استثمار موسكو لهذا القدر الكبير من الطاقة لاستمرار مؤتمر جنيف. فهو يعطي الكثير من المساحة للدبلوماسيين الروس للمناورة في إعداد قمّتهم مع فريق «ترامب».

لكنّ «الأسد» لا يرغب في الاعتراف أنّ تصوّر موسكو للصراع قد تحوّل بعد معركة حلب. ولا يزال يعيش في حلمه الكاذب باسترجاع «كل شبر». ويعرب الإيرانيون كذلك عن قلقهم إزاء التغيير في تصوّر موسكو للصراع.

ويعتقد الكثير من الملاحظين أنّ النتيجة النهائية ستكون إمّا تخلّي روسيا عن إيران و«الأسد» والذهاب إلى منطقة وسط، أو أنّ إيران و«الأسد» سيجدون طريقة لإقناع «بوتين» بالالتزام تجاه هدف «الأسد» لتحرير كل شبر من سوريا. ويعتمد ذلك على الاتّفاق الذي سيتمّ التوصّل إليه مع فريق «ترامب».

يجري «الأسد» وإيران محاولة يائسة لإيقاف هذه الخطة. وهذا هو السبب الذي جعل «الأسد» يفاجئ موسكو بتصعيد القتال في وادي بردى ودارا، على سبيل المثال، وكذلك محاولته الاشتباك مع قوّات درع الفرات المدعومة من تركيا فيما كانت تقاتل تنظيم الدولة في مدينة الباب. وكانت الرسالة من «الأسد» أنّه سيستغل هو وحلفاؤه الزخم في «تحرير كل شبر في سوريا من كل أنواع الجماعات المعارضة». ويرى «الأسد» الآن تردد روسيا كما كانت حين أجّلت معركة حلب بعد اجتماعها مع الإدارة السابقة. وعندما لم يحصل الروس على أي شيء من «جون كيري»، والذي لم يكن لديه ما يقدّمه بالمناسبة، استأنفوا هجماتهم على حلب حتّى حصلوا عليها.

وتفعل روسيا نفس الشيء الآن. فهي تطلب من «الأسد» وحزب الله وإيران الحفاظ على رباطة الجأش لحين تبيّن موسكو من الصفقة حول طبيعة المرحلة النهائية مع واشنطن. لكن إذا بلغت الصفقة نتيجةً إيجابية، هل سيستمرّون في الاستماع؟

وفي حين نميل للتصديق بأنّ هناك مجال بالفعل للروس لتشكيل الأحداث على الأرض في سوريا، فلا يعني هذا أنّها «ستخسر» علاقتها بإيران. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ أولئك الذين يعتقدون في إمكانية طلب اتّخاذ خطواتٍ ضدّ إيران من روسيا وأنّها ستوافق أو حتّى سترفض، يبدؤون من فرضيةٍ خاطئة.

والسبب في أنّ ضغط إدارة «ترامب» على إيران يضع طهران في موقفٍ تحتاج فيه إلى موسكو أكثر ممّا تحتاجها موسكو. وسيتسبّب ضغط «ترامب» في إضعاف النفوذ الإيراني على الروس، والذين بطبيعة الحال يحتاجون إلى الإيرانيين لأسبابهم الجيوستراتيجية الخاصة.

المصدر | ميدل إيست بريفينغ

 

 

 

صدام أم صفقة بين بوتين وترامب؟/ راغدة درغام

اصطدمت فورة الرهان الصاخب على صفقة حتمية بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، بالصحوة الى قواعد العلاقات الأميركية– الروسية وواقع المصالح الاستراتيجية التي تتعدى شخصية الرجل في مقعد الرئاسة. التشدد آتٍ إلى واشنطن وموسكو. وما قد يكون ترامب وبوتين راهنا عليه –كلٌّ لغاية في نفس يعقوب– أُعيد إلى خانة «الألف» ريثما يتم التحضير للخطة «باء»، وذلك في ضوء سلسلة أحداث وتطورات لم تكن في الحسبان، من بينها إقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين بسبب الاشتباه بعلاقات غير اعتيادية تربطه بروسيا، واستبداله بالجنرال المستقل ماكماستر الذي يتقن «اللا» إذا وجد ذلك في غير المصالح العليا للولايات المتحدة. إنما الأمر لم يتوقف عند تلك الإقالة، بل رافقها اندلاع الغضب بين أقطاب الحكم وفي صفوف الرأي العام نتيجة مجموعة أخبار وتحقيقات كشفت علاقات مشبوهة بين عدد من رجال دونالد ترامب وبين رجال فلاديمير بوتين زعمت أنها تدق في عصب صنع الصفقات على حساب المصالح العليا الأميركية. أوكرانيا احتلت موقع الصدارة في مزاعم الصفقات، كونها مفتاح رفع العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا منذ أن قبضت روسيا على القرم الذي لا تنوي التفريط به. إنما العنوان الأعمق في الحديث عن أوكرانيا والقرم والعقوبات هو مصير حلف شمال الأطلسي (ناتو) إذ إن موسكو تؤيدّ تقويض الاثنين معاً وتحجيمهما، لأنها تعتبر مصالحها مهددة بتلاحم حلف الناتو وقوته على حدودها. الأجواء متوترة بين روسيا ودول أوروبية كثيرة، بخاصة بعدما شعرت هذه الدول بالخوف نتيجة الأقوال الانتخابية لدونالد ترامب والأفعال الميدانية لفلاديمير بوتين ومؤشرات إلى إجراءات انقلابية في العلاقة الأميركية– الأوروبية عبر الأطلسي. ذلك الاندفاع الذي ساد مع انتخاب دونالد ترامب لدى الذين أعلنوا انتصار روسيا الاتحادية على الولايات المتحدة في لعبة الأمم.

الجميع اليوم في حال قلق وترقب وشكوك وتأهب للمفاجآت. الدول الآمنة تقفز بين الهرولة إلى الاحتضان والتراجع إلى الحسبان، ومن بينها الدول الخليجية العربية. الدول التي بنت سياساتها على التشكيك واللاثقة تجد نفسها متأرجحة على أوتار العلاقة الأميركية– الروسية تارة واثقة وتارة حذرة حتى من الحليف الروسي، وإيران المثال الأول. ثم هناك بقع النزاعات والنزيف والدموية التي تترقب كيف ستنسحب عليها العلاقات الأميركية– الروسية، وأي ثمن أو هدية آتية إليها نتيجة السياسات المستجدة لواشنطن وموسكو، تصعيدية كانت أو توافقية.

غموض العلاقة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين أطلق عنان التكهنات والافتراضات، وكذلك غموض عناصر الصفقة التي يرغب فيها الرجلان لصوغ أسس توافقية بين بلديهما. هناك في المعسكرين المواليين للرجلين من يتهم المؤسسة الأميركية التقليدية Establishment، لا سيما في الشقين الاستخباراتي والإعلامي، بأنها عازمة على نسف أسس التفاهم والتقارب بين الرجلين والبلدين وأن غاياتها تخريبية من أجل تأجيج الفجوة بين الشرق والغرب. ثم هناك من يرد بسرعة ويقول إن أسس الحكم الديموقراطي كما وصفه الدستور الأميركي هي المراقبة والمحاسبة Checks and balances ويزعم أن هناك رائحة ابتزاز آتية من الكرملين إلى البيت الأبيض نتيجة صفقات خفية ويطالب دونالد ترامب بالكشف عن جداول ضرائبه التي من شأنها أن تكشف ما إذا كان قد استلف مبالغ كبرى من مصادر روسية.

مثل هذه المقاربات في الأجواء الأميركية– الروسية يفيد بأن المواجهة سيدة الساحة، وبأن حديث العداء بين الشرق والغرب لم ولن ينتهي قريباً.

أثناء عهد الرئيس السابق باراك أوباما، كان هناك نوع من الانفصام بين المواجهة في مسألة أوكرانيا والشراكة في المسألة السورية – أقله في ولايته الثانية.

إن الذي مكّن روسيا من استعادة وزنها في الشرق الأوسط واستعادة ثقتها على الساحة الدولية هو باراك أوباما، فهو قرر القيادة من الخلف هنا، والنأي بالنفس هناك، وهو الذي سمح لروسيا بأن تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها «العجوز» غير القادرة على الحسم أو العزم. إنه الرئيس الأميركي الذي جلس على التجاوزات صامتاً، والذي أوفد وزير خارجيته جون كيري ليلعب الآلة الثانية في الأوركسترا التي قادها نظيره الروسي سيرغي لافروف.

لذلك، من المستهجن إلقاء اللوم على إدارة دونالد ترامب قبل أن تبدأ أعمالها ومن اللاعدل تحميل الرئيس الجديد كامل مسؤولية ما آلت إليه العلاقة الأميركية– الروسية، أو ما حصدته روسيا نتيجة قرارات أميركية. وللتأكيد، فإن روسيا ثارت على الولايات المتحدة والدول الأوروبية في حلف الناتو ليس بسبب سورية، وإنما بسبب استغلالها قرار مجلس الأمن في شأن ليبيا للتدخل العسكري بإهانة واضحة لموسكو عبر تغييبها وتحجيمها واعتبارها هامشية. هذا إلى جانب الاحتضان الأميركي– البريطاني لما سُمّي الربيع العربي فيما كان في الواقع دعماً لصعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في صفعة عنيفة لروسيا ومصالحها القومية نظراً إلى تطويقها بخمس جمهوريات إسلامية وإلى جانب مشكلتها الشيشانية.

كل هذا لا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فروسيا تمتلك اليوم أدوات التأثير في منطقة الشرق الأوسط أكثر من الولايات المتحدة – أقله موقتاً، وحتى إشعار آخر. باراك أوباما كان قرر التخلي عن العلاقات التقليدية التحالفية مع دول الخليج العربية، واختار إيران أولوية. دونالد ترامب قرر الانقلاب على أوباما في هذا الصدد كما يبدو راغباً في استعادة الوزن الأميركي في الشرق الأوسط.

روسيا واقعة بين الخيارين، فماذا في الأفق أمامها؟ أولاً، هناك العقبة الإيرانية. فإيران حليف ميداني واستراتيجي لروسيا في سورية، وهذا يعيق أي تفاهمات روسية– أميركية استراتيجية. في نهاية المطاف، على موسكو أن تقرر ما إذا كان خيارها هو الولايات المتحدة أو ايران. اليوم موسكو ليست مضطرة للاختيار بين الاثنين. إنما روسيا في حاجة إلى التفكير على المدى البعيد. فهي غير راغبة في البقاء في سورية، والخوض في احتمال التورط والانزلاق إلى مستنقع – لا سيما إذا توترت العلاقة مع الغرب. إيران تريد البقاء في سورية لأن هذا هو مشروعها منذ البداية، ولن تتخلى عنه. إذاً، على موسكو التفكير الجدي في ما ستفعل بعلاقتها مع إيران وهي تصوغ علاقتها مع الولايات المتحدة. عليها التفكير في الأمر من منطلق التحالفات الإقليمية. فالدول الخليجية راغبة في علاقات طبيعية وودية مع موسكو. أما إذا برزت صراعات المحاور، فواضح أين ستكون الدول الخليجية العربية.

في عهد أوباما، كانت إيران موضع تقارب أميركي– روسي– أوروبي عبر المفاوضات النووية والاتفاق النووي. اليوم، أوروبا منقسمة في شأن التدخلات الإيرانية في سورية والعراق واليمن ولبنان. جزء منها يندم على إعطاء إيران الضوء الأخضر للتدخلات الإقليمية ثمناً للاتفاق النووي. والجزء الآخر يتمسك بأولوية الاتفاق النووي مهما كان، وهو جاهز للاستمرار في غض النظر عن التجاوزات الإيرانية الإقليمية. إدارة دونالد ترامب تتوعد، لكنها لم تضع تفاصيل سياساتها نحو إيران بشقي الطموحات النووية والتجاوزات الإقليمية. روسيا تتمسك بتحالفها الاستراتيجي مع إيران، لكنها تدرك تضارب مصالحها القومية مع المشروع الإيراني.

إيران مرتاحة للانحسار في التقدم الموعود الذي قيل أنه آتٍ لينقل العلاقة الأميركية– الروسية إلى عتبة جديدة. فهي واعية إلى أن ذلك التقارب الاستراتيجي بين واشنطن وموسكو سيكون مكلفاً لها بصورة ما. لذلك، طهران تحتفي بالتوتر بين روسيا والغرب، وهي تحفر لنفسها مكانةً لا يُستغنى عنها لدى روسيا بما فيها في لعبة المحاور الروسية– الإيرانية والأميركية– الخليجية، حتى لو كان ذلك في غير المصلحة الروسية.

ماذا تريد روسيا، وماذا ستفعل موسكو إزاء التقلبات الأميركية؟ هوذا السؤال الأكبر، والأجوبة كثيرة. هناك من يؤكد أن الهدف الأول والأكبر والأهم لروسيا هو أن تتخبط الولايات المتحدة كيفما كان وعبر أيٍّ كان. فإذا كان دونالد ترامب هو وسيلة التخبط والتصدع والتفكك واضمحلال الجبروت الأميركي، فإنه أهم استثمار وأهم حليف للكرملين وللمصالح القومية الروسية كما يراها الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين اليوم.

هناك من يحتج على هذا الافتراض ويقول إن المصلحة القومية الروسية لا تتوقف عند رد الاعتبار واستعادة الهيبة وتلقين الغرب درس الإهانة، بل إن المصلحة تقتضي التفكير في كيفية الانتقال من المواجهة إلى الشراكة في العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا يقتضي أن تفهم روسيا أميركا بصورة مختلفة، تجددية وتطلعية، بدلاً من التعمق في العداء التقليدي. القائلون بهذا الرأي يدعون إلى نقلة نوعية إلى ما من شأنه أن يؤدي إلى تلك الصفقة الكبرى التي هي في المصلحة الروسية اقتصادياً وقيادياً واستراتيجياً.

مبكر جداً استنتاج أن العلاقة بين رئاسة دونالد ترامب ورئاسة فلاديمير بوتين ستسفر عن تصادم ليتم جرّهما إليه أو عن مفاجأة الصفقة الكبرى التي يرغب فيها الرجلان. ما نعرفه هو أن الأمر ليس بتلك السهولة. إذا كان في بال الرجلين اتخاذ القرار بمعزل عن المؤسسات، فإن بوتين قادر جداً، أما ترامب فمقيد جداً. وهذا هو الفارق بين الدولتين.

العالم يحلم بوفاق حكيم وعادل وتطلعي بين الولايات المتحدة وروسيا، بين روسيا والغرب، لعل العشب يرتاح قليلاً بدلاً من أن يموت دوماً على وطأة صراع الفيلة، ولعل النزيف في بؤر النزاع يتراجع.

المشهد اليوم لا يبشر بجديد في ذلك المشهد القديم. لكننا في بداية الطريق والمفاجآت آتية – جميلة كانت أو قبيحة. هذا زمن الترقب والمفاجأة والأعصاب المشدودة والاستفاقة إلى نبضات القلب. فعسى خيراً.

الحياة

 

 

 

حرب ترامب وإيران التي لن تقع/ حسان حيدر

توحي تهديدات الرئيس الأميركي وكبار مسؤولي إدارته لإيران، وردود طهران المتحدية، بأن البلدين يتجهان في شكل مؤكد إلى مواجهة قد تنفجر في أي لحظة. لكن الوقائع تفيد بأن دونالد ترامب وعلي خامنئي ليسا في وارد خوض حرب قد تكلفهما الكثير، وإنما يتفاوضان على رسم حدود للعلاقة بين دولتيهما، بعد تداخل نفوذهما في أكثر من «ساحة» مشتركة. فالأول لم يخرق في فرضه عقوبات إضافية إطار الاتفاق النووي المبرم، وهو الأهم بالنسبة إلى إيران، والثاني لم يتجاوز في رده الشعارات المعتادة المستخدمة طوال العقود الأربعة الماضية، والتي لم تحل من دون التوصل إلى تفاهم.

وكان ترامب توعّد خلال حملته الانتخابية بأنه «سيمزق الاتفاق النووي السيء مع إيران فور تسلمه» الرئاسة، لكنه تراجع عن تهديده وطمأن حلفاءه الأوروبيين إلى أنه سيحافظ على الاتفاق. ثم عاد ووجه «تنبيهاً» إلى طهران بسبب زعزعتها الاستقرار الإقليمي، لكنه لم يوضح حتى الآن كيفية مواجهتها وأين سيتم ذلك.

وبعد عملية الإنزال الأميركية الأخيرة الفاشلة في اليمن، سرت تكهنات بأن ترامب قد يختار هذا البلد ساحة للمواجهة الأولى مع إيران، على رغم محدودية الفعل الأميركي فيه وتركيزه على متطرفي «القاعدة». وفي حال صحّ التوقع، يكون الرئيس الأميركي يحاول بذلك استغلال فرصة قائمة، والاستفادة من قرار إقليمي سبق أي قرار دولي، بعدم ترك هذا البلد يقع في يد الإيرانيين، لما قد يشكله من اختراق للنواة الصلبة الحالية في مواجهة المشروع الإيراني.

والمقصود بالنواة الصلبة دول الخليج العربية، بما هي مركز ثقل ديني واقتصادي، بعدما انهار الجناحان الشرقي والغربي للعالم العربي، أو يكادان. ففي الشرق، ينوء العراق وسورية تحت وطأة الانقسام الطائفي والعرقي، والحرب المكلفة على داعش، فيما تقضم إيران تدريجاً من سيادتهما وتحكم قبضتها على قرارهما السياسي والعسكري. وفي الغرب، تتعثر مصر في عقبات السياسة والاقتصاد والأمن، فيما ليبيا ممزقة ومحتربة، وينشغل المغرب والجزائر بمشكلاتهما الداخلية الملحّة وخلافهما الصحراوي.

وفي ما يخص العراق، اضطر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أثناء زيارته بغداد قبل أيام، إلى نفي أي نية لبلاده في «مصادرة» النفط العراقي، في التفاف على تصريحات ترامب الذي قال إن على الولايات المتحدة الاستيلاء على نفط العراق، بل كان عليها أن تفعل ذلك في 2003 وإبقاء قواتها في بلاد الرافدين التي تجاهر إيران بضمها إلى «امبراطوريتها» بتسهيل من أميركا نفسها.

أما في سورية، فيدافع ترامب عن إمكان التعاون مع روسيا في محاربة «داعش» وفي إيجاد حل لأزمة النظام يبقي على الأسد. لكن الوضع على الأرض يشير إلى أن التعاون المزمع محكوم بإشراك إيران في أي ترتيبات أو تسويات، كونها تملك روابط وثيقة جداً بنظام دمشق وتنشر ميليشيات عدة صارت جزءاً أساسياً من آلة النظام العسكرية. ويصعب تصور كيف يمكن لواشنطن التوفيق بين كلامها عن الحد من النفوذ الإقليمي لإيران وبين إشراكها في الحل السوري، فضلاً عن تحقيق أهدافها في هذا البلد.

وبالتأكيد، فإن طهران التي تغلب البراغماتية الانتهازية على سلوكها رأت في تهديدات ترامب فرصة لإعادة تطهير سمعتها التي تلوثت بدماء السوريين، لذا سارعت إلى إعادة رفع شعارات العداء لأميركا، بعدما تخلت عنها في أواخر عهد أوباما، وباشر «حزب الله»، وكيلها في لبنان، الحديث عن احتمالات مواجهة جديدة مع إسرائيل، وهي «الفزاعة» الجاهزة دوما للتشكيك في أي دعوة للحد من تورطه المجرم في سورية واستفراده بلبنان.

ترامب وإيران يتقنان كلاهما لغة الصفقات والمقاولة والمواجهات عبر أطراف ثالثة، ولن يورط أي منهما نفسه في ما قد ينعكس سلباً على «منجزات» بذل جهوداً مضنية لتحقيقها، سواء الوصول إلى البيت الأبيض أو مد النفوذ إلى دول عربية، وما التصعيد الكلامي سوى واجهة للتنفيس والتفاوض لن تغير من حقيقته مناوشات هنا وهناك.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى