مراجعات كتب

عن ذاكرة الاعتقال السياسي وكتابة التاريخ الآني/ يحيى بن الوليد

 

 

حقّقت الكتابات السجنية تراكمًا ملحوظًا على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة بالمغرب، غير أن الملاحظ هو شبه غياب المؤرِّخ المغربي على مستوى التعاطي لهذا النوع من التاريخ القريب ممثّلا في عودة “حدث الاعتقال السياسي”. فالكتابات السجنية تفيد، بطرائقها المخصوصة، على مستوى الإسهام في كتابة التاريخ، حتى وإن كان مثل هذا الحكم يستلزم التحوّط والحذر بالنظر إلى التحفّظ الذي يبديه المؤرِّخ بخصوص الكتابة السجنية التي لا ترقى إلى المصادر والحوليات والمصنفات ذات الصلة الوطيدة بكتابة التاريخ من منظور المؤرِّخ.

ويلحّ المؤرّخ عبد الأحد السبتي، في كتابه “الذاكرة والتاريخ”، على تجنّب الخلط بين أنواع الاشتغال والخطاب. هناك فرق بين الشهادة والكتابة التاريخية. ولذلك، كما يواصل عبد الأحد السبتي، فإن مهمة المؤرِّخ أعقد ممّا يوحي به خطاب الصحافة أو الخطاب الذي تحمله مختلف تعبيرات الطلب الاجتماعي. فهناك بطبيعة الحال التحرّي الدقيق والموثق حول الحدث (ص216). “إنها الصحافة” كما قال المؤرِّخ الألمعي مارك بلوخ [وساخرًا] في كتابه “دفاعًا عن التاريخ أو مهنة المؤرِّخ” (ص112). لكن: إلى أي حدّ يمكن لمثل هذا الموقف أن يصمد في وقتنا الراهن؟

الظاهر أن الصلة بين الذاكرة والتاريخ، في حال الكتابات السجنية بصفة عامة، تفرض مقاربة مغايرة لتلك المقاربة التي لا تحيد عن تمجيد ثنائية الأدب والتاريخ التي عالجتها شعريات كثيرة بدءًا من الشعرية الأرسطية وبناء على مفهومي التحقيق والتخييل اللذين ستطوّرهما الشعريات المعاصرة. دون أن تفوتنا الإشارة إلى ريادة الرواية ضمن معادلة الأدب والتاريخ، خصوصا من ناحية قولة أندريه جيد: “التاريخ رواية واقع والرواية تاريخ متوقّع” التي كان قد أشاعها المؤرِّخ والروائي المغربي الألمعي عبد الله العروي بعد أن صدَّر بها عمله الروائي “الغربة واليتيم” (1980). وهي قولة جديرة بأن تنأى بنا عن تلك النظرة التراتبية التي بموجبها يعلو الأدب على التاريخ تجاه مواضيع تبدو أقرب إلى الكتابة التاريخية منها إلى الكتابة التخييلية. وذلك كأن نقول إن هذه الرواية أو تلك تسعف أكثر من هذا المصدر التاريخي أو ذاك على فهم هذا الحدث  التاريخي أو هذه المدينة الكولونيالية أو هذه الشخصية التاريخية… إلخ.

ويمكن وصل عمل الذاكرة بالتاريخ من ناحية “الشهادة” التي تبدو بمثابة سند يسند الكتابات السجنية، بل يبدو نمط الشهادة مهيمنا داخل هذه الأخيرة. فالكتابات تسعى إلى أن تكون شاهدًا على المرحلة، من دون إلغاء الأشكال الأخرى التي تفيد بدورها في تمثيل المرحلة نفسها. وقد كشفت هذه الكتابات عن جوانب عديدة من أرشيف المرحلة، بل وفّـرت فرصة لتدبّر دلالات المرحلة وبالتالي إصدار أحكام عليها. فالمدونات السجنية جديرة بالكشف عن جانب مهمّ من “عبء الذاكرة ومشقة الابتلاء بالتاريخ” بلغة نادر كاظم في كتابه “استعمالات الذاكرة” (ص39)، وجديرة بالكشف عن جانب من تعامل الدولة (المغربية) مع الملف إلى ذلك الحدّ الذي بلغ عنفا مقصودا ومستثمرا تجاوز الحدّ الأدنى من “الصواب السياسي” أو “الاستقامة السياسية” (Political Correctness) كما ينعتها الأنغلوساكسون. ومن ثمّ بدت الدولة فاقدة للبقية الباقية من القانون والأخلاق. بدت “لادولة” إذا جاز أن نوظف المفهوم الذي يوظفه عبد الله العروي في أكثر من موضع في كتابه “مفهوم الدولة”.

فالشهادة بدورها تنخرط ضمن “الأرشيف الكبير” للمرحلة أو بالأحرى تسهم في إنتاج هذا الأرشيف، وذلك كلّه يتوقف على طريقة التعامل معها. و”الناس يصنعون التاريخ لكنهم يجهلون أنهم يصنعونه” كما قال كارل ماركس. والشهادة تسهم في الإنتاج سالف الذكر جنبًا إلى جنبٍ مع الوثيقة والتاريخ الشفوي والخريطة والرسائل الرسمية، وإن كانت لا تسمح كثيرًا بأواليات المماثلة والمقايسة والمقارنة والتركيب، مقارنة مع الوثيقة أو الوثائق التي تشكّل مجالاً أثيرًا لتحرّك المؤرِّخ وتميّـز مؤرِّخًا عن آخر.

ولا يبدو غريبًا أن يبدي المؤرِّخ تحفّظه بخصوص هذه الكتابات رغم اعتراضه ــ الفكري ــ الصريح على ما كان قد تعرّض له معتقلون من تعذيب بسبب أفكارهم التي كان لا ينبغي أن تقابل بتلك الأحكام القاسية والمبالغ فيها في حق هؤلاء وممن كان أغلبهم في مقتبل العمر وفي فورة الحماسة أو اندفاعة الشباب الأولى. فهؤلاء لم يكونوا مجرمين أو منحرفين، هذا بالإضافة إلى أنه يمكن الاتفاق أو الاختلاف معهم. وأوّل حجج مؤرّخنا، على طريق التحفّظ سالف الذكر، أن الكتابات السجنية ترتبط بـ”تاريخ قريب”، ممّا لا يسمح بإصدار حكم عليها أو حتى تقييمها؛ بل إن إصدار حكم هو ما لا يمتّ بصلة إلى ما ينعت بـ”مهنة المؤرِّخ”. فالتاريخ، كما قال إبراهيم بوطالب في مداخلة في موضوع “الاعتقال السياسي بالمغرب” (في إطار هيئة الإنصاف والمصالحة)، ليس “محكمة” لإصدار الأحكام، إنما هو بناء […] واعتماد الحقائق فيه هو الأساس. هذا بالإضافة إلى ما يسجّله مؤرخِّنا على المدونّات السجنية من تركيز على الذاكرة التي تتذكّـر وتتألم وتتلذذ… وذلك كلّه في المدار الذي لا يفارق الجانب الوجداني الذي يتحفظ عليه المؤرِّخ؛ ممّا يجعل من الكتابة مجرد رد فعل قرين البوح الذي لا يفارق التسامي. وربّما توجّبت الإشارة إلى أن المشكل ليس في الذاكرة أو في إنتاج الذاكرة، إنما في الانتقال من الذاكرة إلى “المعرفة التحليلية” كما يشير إلى ذلك عبد الأحد السبتي في حوار معه معنون بـ”وظيفة المؤرِّخ ترسيم الوعي بالزمن”.

فالمؤرِّخ يشتغل على الأمد الطويل (Longe durée) بدلاً من الأمد القصير أو الإيقاع البطيء بدلاً من الإيقاع السريع كما يترجم ذلك آخرون. ثم إن المرحلة تقاس بفترة طويلة قد تستغرق قرونًا بأكملها، عكس الكتابات السجنية التي تتراوح ما بين عقد إلى ثلاثة عقود. وهذه المدّة، حتى إن كانت ضاغطة وكثيفة، فإنها لا ترقى إلى تحفيـز المؤرِّخ على تجريد أسلحته المفاهيمية. هذا بالإضافة إلى السند الفكري للمرحلة الذي لا يعدو أن يكون مجرد “نتف ماركسية” كما سجّـل العروي [ساخرًا] على المثقف في “العرب والفكر التاريخي” (ص46). فمع هؤلاء نجد أنفسنا بإزاء “لحظة” ما تزال قيد التبلوّر أو بإزاء نوع من “التاريخ المصغر” (Micro- histoire) الذي يفضي بنا إلى ما يعرف بـ”المؤرِّخ الآني” الذي يجهل نهاية الحدث كما تحدّث عن ذلك المؤرِّخ والصحافي جان لاكوتور (Jean Lacouture) في دراسته “التاريخ الآني” (“التاريخ الجديد”، ص380). غير أن عدم التمكّن من التنبؤ بالنهاية لا ينطوي أبدًا على ما يعفي المؤرِّخ الآني من التدّخل في الموضوع وبالتالي التعليق وإبداء الرأي. يشرح جان لاكوتور، في دراسته السابقة، الفكرة ذاتها قائلاً: “إن العجز عن التكهّـن أو استحالة التعرّف هو الجهل الذي يوجد فيه دائما المؤرِّخ “الآني” لمعرفة نهاية الفترة التي يدرسها، وذلك قد يكون نقطة قوته أو رمز فضيلته” (ص383). وألم يقل العروي، في حوار معه في مجلة “Zamane”، “التاريخ موجود لأن لا شيء متوقع”. إن هذا الإحساس بإضراب المؤرِّخ عن الكتابة في الموضوع هو الذي يحفّز أكثر الكاتب على التعاطي لدور المؤرِّخ ومن موقع المهمة وليس المهنة.

فـ”تخلّي المؤرِّخ عن وظيفته قد يؤدي إلى أسوأ توظيف إيديولوجي للتاريخ” كما قال جاك لوغوف في تقديم الطبعة الأولى لـ”التاريخ الجديد” (1978). وربما أمكننا موافقة صاحب دراسة “التاريخ الجديد والأمد الطويل” ميشيل فوفيل، المتضمّنة في الكتاب الأخير، على أن “التاريخ الحقيقي مثل الحياة الحقيقية يوجد بعيدا” (ص169). غير أن ذلك لا يحول دون مطالبة المؤرِّخ، من حين آخر، بهجرة “قلعة التاريخ العتيقة” نحو ميادين أخرى ضمنها موضوع الكتابات السجنية كما في الحال المغربية التي هي مرجع المقال، خصوصا من منظور ما يعرف بـ”التاريخ الجديد” في ابتعاده عن المناهج الكمية وفي انفتاحه على المنبوذين والمقصيّين والمهمشين… بالرغم من أن المدونات السجنية تسعى إلى الانخراط في التاريخ السردي الذي يعارض التاريخ الجديد الإغراق فيه. فنظرة المؤرِّخ، بخصوص موضوعنا، تفيد لا سيما إذا ما ذكّرنا بأن المؤرِّخ يسائل الماضي من خلال ما يطرحه عليه مجتمعه من تساؤلات كما يقول جان كلود شميت في دراسته “تاريخ المهمشين” (“التاريخ الجديد”، ص441). وبما في ذلك معالجة المواضيع الألغام، لكن “على نار هادئة وبما يكفي من البرود العاطفي” كما يقال؛ وذلك كلّه في المدار الذي لا يفارق معارك التاريخ التي ما تزال متواصلة كما يتصوّر جاك لوغوف، ممّا يجعل من التاريخ “تدخّلا” وليس مجرد “استعادة” لأحداث سابقة. الأمر، هنا، يفيد “لحظة الفكر” العامة التي يرتبط بها المؤرِّخون في كل حقبة” كما يقول مارك بلوخ في “دفاعا عن التاريخ أو مهنة المؤرِّخ”(ص63).

فالمدوّنات السجنية لا ينبغي تركها لما يعرف بـ”المتروك من المصادر”، ممّا يحرمها من فضيلة الدرس والتمحيص وبالتالي من التأثير المفترض ضمن معركة التاريخ. هذا بالرغم من أن موضوع الاعتقال السياسي يعيد إلى الأذهان مسألة “الحدث” المُؤطَّر ضمن التاريخ السياسي الذي يدعو البعض إلى مقاومته، وذلك كلّه في أفق الاهتمام بالبنيات بدلا من الاهتمام بالأحداث السطحية.

وعلى ذكر التغيّرات، الحاصلة في أنساق الفكر والتصوّر، من المفيد التنصيص على التحوّل الذي حصل في مفهوم التاريخ ذاته. وحصل ذلك من خلال تجاوز النظرة التنقيصية لما يصطلح عليه بـ”التاريخ الآني” الذي يتأطر في إطار منه “تاريخ الزمن الحاضر”. وهذا الأخير هو نمط من الكتابة التاريخية الذي بدأ يأخذ مشروعيته، بالتدريج، في فترة متأخرة وعلى وجه التحديد منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات وعلى نحو بموجبه تمّت إعادة النظر في مفهوم الحدث وعدم انتهائه وفي طبيعة المسافة التي يرسمها المؤرِّخ تجاهه جنبًا إلى جنبٍ مع التطلّع نحو الموضوعية في ظل انعدام المصادر الأرشيفية. إن التحدّي الذي فرض نفسه، هنا، يتمثل في عدم ترك المجال للصحافيين بمفردهم للانفراد بقراءة الحدث وتأويله. فحضور المؤرِّخ، من ناحية الحدث وما يستلزمه من عدّة معرفية في سياق الفكر القرائي، لازم وضروري. يقول عبد الأحد السبتي: “فالحدث لم يعد مجرد “خبر” ينتمي إلى الماضي، بل من الممكن أن يتعامل معه الباحث كعنصر يكشف عن البنيات”(ص216).

وفي الحق يجب التمييز بين الذاكرة التاريخية التي هي مجال تحرّك المؤرِّخين والعلماء والذاكرة الجماعية القائمة على الأساطير والانتقائية والبحث عن التوازن ورد الاعتبار للذوات… إلخ. ويشرح بول ريكور، في كتابة “الانتقاد والاعتقاد”، بأن “للذاكرة وظيفتين: فهي تضمن الاستمرارية الزمنية، بالسماح بالتنقـل عبر خط الزمن؛ وتتيح التعرّف على الذات والنطق بكلمتي “أنا” و”لي”. أما التاريخ فهو يحمل شيئا آخر غير الإحساس بالانتماء لنفس حقل الوعي الزمني، من خلال لجوئه إلى وثائق محفوظة في دعائم مادية؛ وهذا يسمح بالحكي بصورة مغايرة، والحكي من وجهة نظر الآخرين”(ص40).

غير أن ما سلف لا يعفي من الإبقاء على ما يميّز ما بين الذاكرة والتاريخ تبعا لجواب موريس هلبفكس (Maurice Halbwachs) في كتاب معنون بـ”الذاكرة الجماعية” يعود نشره إلى العام  1950. يوضّح فرانسوا دوس الفكرة قائلاً في حوار معه: “تقع الذاكرة، حسب هلبفكس، في كل ما هو متقلّب، ومتحرّك، ومتعدّد؛ فهي تقع في مجال المعيش (le vécu)، والحميمي (l’affectif)، والصورة والوجدان والسحري؛ بينما يقع التاريخ في حدود المفهوم (le concept)، والحس النقدي، والتوضيع العلماني (Objectivation laïcisante)، والعقلانية” (مجلة “يتفكّرون”، ع:4، ص64). ولقد صار بالإمكان الاطلاع على جوانب أساسية من هذا النقاش، العميق، في الكتاب الشيّق “البيوغرافيا والتاريخ” لصاحبه الباحث المغربي خالد طحطح (2015).

إجمالاً إن حضور المؤرِّخ مطلوب ولازم، لا لأن الشهادات هي المهيمنة بنسبة تزيد على 60% مقارنة مع أشكال التمثيل الأخرى التي تعنى بالاعتقال بالمغرب، ولا لأن الشهادات ــ التي هي عماد المدوّنات السجنية ــ “تبقى لها ميزات تؤثّث للأرشيف المكتوب” فقط كما قال إبراهيم بوطالب، إنما لأن “الشهادات (Témoignages) لا تصبح وثائق (Documents) إلا عبر الأهمية التي يعطيها المؤرِّخ لها، وإلا عبر العمل الذي يجريه عليها”، جنبًا إلى جنبٍ مع “الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر بين المعطيات وتفسير هذه المعطيات” كما يذكّـرنا وجيه كوثراني في مقاله “مهنة المؤرِّخ” (“كاتبات”، ع:3، ص178). ومن ثم منشأ الحضور في الحقل المتجدّد للتاريخ، وذلك كلّه في المدار الذي لا يفارق الإسهام في التمييز بين مستويات التغيّر والاستمرارية في أوراش الذاكرة. وكما يوصي إبراهيم بوطالب “المؤرِّخ ليس قاضيًا ولا محاميًا، وظيفة المؤرِّخ الأساسية هي التأسيس لذاكرة سليمة على أسس سليمة”. ثم إن ما يمكن أن ينتظره القارئ من عمل المؤرِّخ، تبعا لعبد الأحد السبتي، هو مجهود يتولّى مساعدة المجتمع على فهم ماضيه (ص212).

إجمالاً ليس ثمة “صوت صغير للتاريخ” مستقل عن المجال السياسي الأكبر كما يقول ديبيش شاكرابارتي في كتابه “مواطن الحداثة” (ص293). وحتى داخل أوروبا فالمعركة الجديدة لن يكون لها مكان إلّا في ساحة الذاكرة وضد الجحود وإرادة النسيان… كما يتحدّث عن ذلك الروائي التشيكي ميلان كونديرا في كتابه “لقاء”. ومهما كان من اختلاف على مستوى فهم سياسات الذاكرة ومسارات الاعتراف فإن “فكرة التاريخ” تظل مهمة ومتنازعا فيها في الوقت ذاته كما يقول ديبيش شاكرابارتي في كتابه السابق (ص25). وكما تعلّمنا العلوم الاجتماعية، بصفة عامة، فالمواضيع ليست معطاة دفعة واحدة… وإنما هي في حاجة إلى تبلور من خلال تجاور وتحاور هذه العلوم، حتى يتمّ “إعطاء ثقل متساو لكل عناصر الخطاب” بالتعبير الأدق لمارك بلوخ في كتابه “دفاعا عن التاريخ” (ص182)، وحتى يتم أيضا استكشاف هذه المواضيع واستشكالها في آن واحد.

وما استخلصناه من مارك بلوخ وجاك لوغوف وجان لوكوتور، من مفاهيم وأفكار وتصوّرات، وما استخلصناه من عبد الله العروي من أفكار ذات صلة بمفهوم التاريخ والدولة والحدث أو من أفكار وكتابات وحوارات عبد الأحد السبتي وإبراهيم بوطالب وخالد طحطح، ذات الصلة المباشرة بموضوع “الذاكرة والتاريخ” بشكل عام، ذلك كلّه لا يخلو من دلالات عميقة سواء من منظور البحث التاريخي أو من منظور الكتابة التاريخية. فتحليلات وكتابات وحوارات هؤلاء مفيدة في شقّها المنهاجي العام وفي مستنداتها الإبستيمولوجية المضمرة وفي شقّها الفكري أيضًا. وهي مفيدة لأيّ نوع من “الفكر القرائي” على نحو ما نسعى إلى الانتظام داخله في هذا المقال.

فمن الجلي أننا لا نرغب في “السطو على خلاصات المؤرِّخين” كما في التخوّف الذي أبداه خالد طحطح منذ السطر الأوّل من كتابه “الكتابة التاريخية” في أثناء تمهيده للحديث عن التحوّلات التي مسّت أنهاج الكتابة التاريخية وكذا البحث التاريخي واكتساح العلوم الاجتماعية. إن ما نرغب فيه، من خلال نوع من “التناص” مع أفكار باحثين ومؤرخين، لا يتعدّى نوعا من البحث في إثراء النقد الأدبي وفي تنويع أفق التحليل الثقافي بصفة خاصة. ولذلك لا يفيد ما سلف أي نوع من التقوقع في دائرة البحث التاريخي أو أي نوع من الالتفاف على المؤرِّخ بمفرده. ويؤكد على الفكرة ذاتها الباحث خالد طحطح في الكتاب نفسه عندما يقول: “وأمَّا اليوم فينظر إلى وظيفة المؤرِّخ على أنها معالجة لمواضيع هذا العصر بالذات، وهو ليس وحده في الساحة لرصد الماضي القريب، بل عليه العمل في عالم يوجد فيه الصحافي والشاهد والناجي والقاضي شركاء له في فك ألغاز هذا الماضي القريب”(ص173).

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى