صفحات الثقافة

عن رحيل ميشال بوتور

ميشال بوتور: كاسر الحواجز

«كل كلمة نكتبها هي انتصار على الموت». العبارة التي رددها ميشال بوتور (1926 ــ 2016) دوماً في حواراته، كانت الخيط الذي نظم حياته حتى اللحظة الأخيرة.

بعدما أنجز أخيراً كتاباً عن فيكتور هوغو دشّن سلسلة «كتّاب حياتي» (دار بوشيه شاستيل)، انطفأ «الرحّالة» الفرنسي عن 89 عاماً في مستشفى «كونتامين سور ارف» في «هوت سافوا» (جنوب شرق فرنسا على الحدود السويسرية) بالقرب من بيته البعيد عن صخب المدينة. أحد أعمدة «تيار الرواية الجديدة» الذي سبق بقليل الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في الخمسينيات، لم يستكن إلى شكل، مأخوذاً على الدوام بهاجس التجريب والاختبار. الجمهور يعرفه كاتباً وروائياً وشاعراً أكثر منه أكاديمياً لفّ السند والهند، وعلّم الأدب في جامعات الولايات المتحدة واليابان وسويسرا وصولاً إلى مصر. روايته «التحوّل» (1957 ــ جائزة رونودو) جسّدت تيار الرواية الجديدة التي قلّلت من أهمية الحبكة، معتنية بالتفاصيل الصغيرة المحيطة بها. في القطار الذي يقلّ العاشق ليون دلمون من باريس إلى روما، سيدخل القراء في جلد العاشق الممزّق بين زوجته، وعشيقته التي أراد أن يفاجئها ويزفّ لها نيته ترك امرأته وأولاده ليبدآ حياةً جديدة معاً. سيدخل القراء إلى أفكاره، وذكرياته، وماضيه، وهلوساته ومشاريعه وأحلامه طوال هذه الرحلة التي تنتهي بتحوّل مفاجئ مختلف كلياً عما قد نتوقعه. بضمير المخاطبة الجمع الذي كتبت به الرواية كاملة، يجبر صاحب L›Emploi du temps (عام 1956 ــ جائزة «فينيون») القراء على التماهي مع ليون دلمون، مما يجعل قراءتها تجربةً «راسخة، تخلّ بالتوازن، لأنها تذكّر بأنّ لا شيء يقارع الهوية في زئبقيتها وعدم استقرارها» على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي رافايل ايثوفن. منذ بداياته، حاول بوتور في أعماله الأولى الافتراق عن القواعد الكلاسيكية للرواية، من أجل تقديم العالم المعاصر بشكل مختلف. في عام 1962، ظهرت Mobile التي شكّلت تحوّلاً في ممارسته، حيث اعتمد تقنية «الكولاج الأدبي» الذي اعتبره الأوفى في التعبير عن مشاهداته في أميركا. لعلّ اللقب الأكثر التصاقاً ببوتور الذي منحته «الأكاديمية الفرنسية» جائزتها عام 2013 عن مجمل اشتغالاته، سيبقى الكاتب الذي يهوى التجريب والتنويع في التقنيات والأساليب والأشكال السردية والجمالية، كما نرى أيضاً في «وصف سان ماركو» (1963). ربما هذا ما يفسّر تصريحه عام 2006 في مناسبة معرض خُصّص له في «مكتبة فرنسا الوطنية»: «أن تكتب، يعني أن تحطم الحواجز. نحن نعيش في مجتمع حيث الرواية لم تعد تلعب الدور الذي أدته في الماضي. هناك إصدارات روائية كثيرة، لكنني أشعر أنّ لا تحوّل جدياً في الرواية اليوم. لم تعد راهنة ولا تحمل أي نفس تجديدي».

 

رحيل الفرنسي ميشال بوتور: “كل كلمة هي انتصارٌ على الموت”/ اسكندر حبش

من الصعب اختصار الكاتب الفرنسي ميشال بوتور ـ الذي رحل صباح الأربعاء الماضي عن 89 عاماً ـ في نوع أدبي معين، إذ حاول جميع الأنواع الأدبية، وبرع فيها، ليحفر اسمه كواحد من كبار كتّاب هذا العصر. مسيرته الحياتية، بدورها، من الصعب اختصارها، فهو أيضاً واحد من كبار «الكتّاب – المسافرين» الذين جابوا الكثير من البلدان، وألّف العشرات من الكتب عن رحلاته، لكنه في كلّ مرة كان يعود «لينزوي» في قريته الصغيرة الوادعة في منطقة «الهوت ـ سافوا» (مع أنها في فرنسا فهي لا تبعد كثيراً عن جنيف السويسرية) مبتعداً عن الحياة الباريسية الصاخبة التي «طلّقها» وهو بعد في مقتبل شبابه.

قد تكون هناك «طلاقات» كثيرة، أبرمها بوتور طيلة مسيرته الأدبية الحافلة. فبعد أن بدأ روائياً لينشر «Passage de Milan» و«L’Emploi du temps» و«La Modification» (جميعها عن منشورات «مينوي»، وقد حازت هذه الأخيرة «جائزة رونودو» العام 1957)، وبعد أن لمع اسمه كواحد من أبرز ممثلي «تيّار الرواية الجديدة» في منتصف خمسينيات القرن الماضي، مؤسساً لما عُرف نقدياً باسم «مدرسة النظرة»، قرّر التخلي عن كتابة الرواية (مع العلم أنه كان من أبرز روائيي تلك الفترة)، ومغادرة هذه المجموعة، ليتّجه صوب النصوص المفتوحة التي قادته إلى كتابة الشعر، مثلما قادته إلى ترك دور النشر الكبيرة («مينوي»، «غاليمار»، وغيرهما) ليتجه أكثر إلى دور «صغيرة»، وكأن ذلك كان يتيح له حرية أكثر في التعبير، بمعنى الابتعاد عن المتطلبات «الاجتماعية» لهذه الدور الكبيرة، مفضلاً عدم إضاعة الوقت، في «ترهات» منصرفاً إلى الكتابة ولا شيء غير الكتابة.

يمكن القول، إن ميشال بوتور عاش فقط للكتابة.. غادر مهنة التدريس ليتفرّغ إلى ما يرغب فيه. كتبه تُعَدّ بالمئات. نصوصه التي رافقت «كاتالوغات» الفنانين والمصوّرين الفوتوغرافيين تُحصَى بالآلاف.. لم يترك نوعاً لم يجرّبه. لهذا تنبغي أيضاً الإشارة إلى دراساته وأبحاثه. صحيح أنه كتب عن معاصريه، إلا أنه غالباً ما كان يعود إلى الكتابة عن الكلاسيكيين، كان يقول إن عودته إلى الماضي بمثابة البحث عن أرض ثابتة تحت قدميه، ما أوقعه على خلاف مع باقي أفراد «الرواية الجديدة» ولا سيما ألان روب غرييه، وكلود سيمون، مع العلم أن هذين الأخيرين بالإضافة إلى ناتالي ساروت ورولان بارت لم يخفوا يوماً إعجابهم بهذا الطريق المتفرّد الذي اتخذه بوتور في الكتابة.

هذا التنوّع الكتابي، عند بوتور، مردّه إلى رغبته «في فهم العالم» الذي حوله. كان يخشى السقوط لا في التكرار فقط، بل في الوقوف عند حدود معينة في الكتابة، لهذا وجد في تنوّع الأنواع، تنوعاً حياتياً بالدرجة الأولى، فالكتابة عنده ـ أولاً وأخيراً ـ هي حياة بأسرها، والحياة كلها، ليست سوى عبارة عن كلمات منسوجة بحب وشغف إلى أقصى الدرجات.

أتاحت لي هذه الحياة، أن ألتقيه مرتين. الأولى كانت في مارسيليا العام 2001. كنت قرأت أعماله (المطلوبة منّا) على مقاعد الدراسة. لهذا كان يشكل جزءاً من هذه الأسطورة التي ننسجها عن الكتّاب. كان واحداً من أفراد تلك الكوكبة التي علّمتنا الكثير من دون أن نلتقيهم. أولى الدروس التي لا بدّ أن تتعلّمها منه، هذا التواضع الذي يُدهشك. ببساطة شديدة بدأ الحديث بيننا. لم أنس أبداً من هو. ولكنه، هو، تخلّى من زمن عمّا وصل إليه، أي لم تكن تلك «المكانة» تعني له شيئاً. تحدّثنا عن الأدب بالطبع، عن الفن وعن.. بيروت التي زارها في الماضي والتي لم يرغب في العودة إليها بعد الحرب كي لا ينكسر هذا الحلم الجميل الذي كوّنه عنها، من دون أن ينسى تعداد أصدقائه اللبنانيين.

المرة الثانية كانت العام 2006 في «لوسينج» قريته الهادئة. كان لا يزال هو نفسه. بل ربما زاد تواضعه. خلال أيام لم يتحدّث مرة عن نفسه. بل كان يسأل ويسأل ويترك الآخرين يتحدثون عمّا يريدون. كان يتحدّث عمّا قرأه من أعمال زملائه، مشيراً إلى «روعة هذا» و «أهمية ذاك». درس حقيقي في احترام الكتابة. ألم يقُل مرة: «كلّ كلمة كُتِبَت هي انتصارٌ على الموت». هل لهذا كتب كلّ ما كتبه؟ ربما. لكن المؤكد أنه كان واحداً من كبار كتّاب القرن العشرين..

 

ميشال بوتور: رحيل قبيل التسعين/ باريس – عبد الإله الصالحي

يُعد ميشال بوتور (1926 – 2016) من آخر وجوه تيار “الرواية الجديدة” في فرنسا وأكثرها غزارة وتنوّعاً وتفرّداً. أمس، رحل الروائي الفرنسي بينما كان يستعدّ للاحتفال بعيد ميلاده التسعين في 14 أيلول/ سبتمبر المقبل.

صاحب “التحوّل”، الذي تفوق مؤلّفاته مئتي عنوان بين الرواية والسرد والشعر والنقد، حياته للتجريب الجذري والسعي إلى تجديد الأشكال التعبيرية من أجل إغناء علاقة الكتابة بالعالم. ورغم أن اسمه ارتبط بتيار الرواية الجديدة منذ منتصف الخمسينيات، إلّا أنه كان يستخف بهذا التوصيف المدرسي الذي ظلّ يلاحقه خلال حياته الطويلة، هو الذي بدأ مشواره الأدبي بكتابة الرواية وأنهاه شاعراً بالأساس.

غير أن الإصرار الأكاديمي على تنميطه له ما يبرّره أيضاً؛ إذ أنه أحدث ضجّة كبرى في المشهد الروائي الفرنسي بسبب غرابة أسلوبه، وأثار بلبلة بين النقّاد والمتابعين عبر أربع روايات فقط. كانت أولاها “ممرّ ميلانو” (1954) ثم “جدول زمني” (1956) و”التحوّل” (1957) و”درجات” (1960)، وكلّها صادرة عن “دار مينوي” التي كانت حاضنة لكُتّاب الرواية الجديدة، وعلى رأسهم: بوتور وآلان روب غرييه وكلود سيمون.

غدت “التحوّل”، التي حازت “جائزة رونودو للرواية”، أيقونة روائية مؤسّسة لبنية سردية مغايرة، وما زالت تلهم الكثير من الكُتّاب الفرنسيين، حتى أن كاتباً فرنسياً آخر من كبار المجدّدين في الأدب، هو جورج بيريك صاحب الرواية البارزة “الحياة: طريقة الاستخدام”، أقرّ بتأثير هذه الرواية الحاسم عليه وعلى مجمل أعماله.

استعمل بوتور ضمير المخاطَب بصيغة المثنّى في هذه الرواية التي يواجه فيها السارد نفسه وأحلامه وخياناته على شكل مونولوغ محموم خلال رحلة قطار بين باريس وروما؛ حيث سيلتقي عشيقته.

وإذا كانت “التحوّل” فتحت باب التجديد على مستوى البنية والرؤية السردية فإن “ممرّ ميلانو” أسّست لخيار الوصف الدقيق والنظرة التشريحية للأشياء، بدل الحبكة وبناء الشخصيات؛ حيث تسرد الرواية حياة عمارة ابتداءاً من السادسة مساءً حتى الصباح.

أمّا “جدول زمني”، فأسّست هي الأخرى لخاصية أساسية لدى كُتّاب الرواية الجديدة، وهي كتابة الضجر؛ حيث يتمحور السرد حول حياة موظّف بنكي فرنسي في مدينة إنكليزية رتيبة وباردة. وتُعتبر الرواية توصيفاً فائق الدقّة للوجود المخترَق بعدوى الملل المُرعب.

بعد هذه الروايات، ومنذ عام 1962 سيذرع بوتور العالم متجوّلاً عبر مصر، التي درّس لبضع سنوات في إحدى منها؛ المنيا، وأيضاً نحو اليابان والهند واليونان والولايات المتّحدة.

سيعتزل الرواية مبكّراً ليهتم بالنقد التشكيلي والدراسات والشعر والمقالات التأمّلية، وكان يسخر في حواراته من “الرواية الجديدة” ويتذمّر من كون النقّاد يختزلون منجزه المتنوّع والغزير في سبع سنوات قضاها في كتابة رواياته الأربع ويتجاهلون الباقي.

في السنوات الأخيرة، أطلّ بوتور على قرّاءه عبر موقعه الشخصي على الإنترنت، وظلّ يكتب وينشر فيه قصيدة كل يوم فيما يشبه التحدّي، وفاءً لمقولته: “الكتابة هي فن تحطيم الحواجز”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى