صفحات الثقافة

عن سعدي يوسف والربيع العربي: كلمة منه تصنع وطنا جميلا يليق بالكرام

 


فاروق يوسف

يلقي المرء خطوته فلا تقع. ‘لقد سرقوا الأرض يا أمي’ يقول الترجمان فيسأله الصيرفي: ‘وهل كانت الأرض موجودة؟’. هل كان من الممكن أن نكون نحن العراقيين أقل انحطاطا، اقل ذلا، أقل خيانة؟ إلا الخيانة، فهي كالكفر درجة واحدة.

كنا خونة وما من علامة تعجب. قبلها كان حليب الأمهات مختلفا. كان المنفى غير المنفى وأرقام بطاقات السفر سواها. في ذلك الوقت كان الله واحدا. كما فعل بيكون بفيلاسكز. أدخل بابا الفاتيكان في خزانة زجاجية وتركه هناك إلى الأبد. لو أننا وضعنا العراق في قنينة والقينا تلك القنينة في البحر لما كان ضياعنا مطلقا. على الأقل سيجلس أحفادنا على شاطىء في جزيرة ما في المحيط الهادىء فيما يدس الموج بعض المراثي بين أصابع أقدامهم. ‘دللول يا الولد يا بني دللول. عدوك’ وما من عدو. أنا العدو ومرآته ولغته ورئته وتسريحة شعره وقدماه وايضا خزانة أسراره. ”من لم يكن عدوا فليرفع يده’ قال المعلم وامتلأ المطعم برائحة الشواء. لحم واغنيات. بصل ودموع. تبسي باذنجان ومرينا بيكم حمد. بطاقات الحصة التموينية وعذاب القبر. النفط مقابل الغذاء وباجة الحاتي. من (في سبيل البعث) إلى (اجتثاث البعث)، سفاري وقباقيب ومحابس شذر ومولانا جاك الذيب وجيش شعبي وأدعية للزيارات وركضة طويريج ويمه نتلني الاوتي وحرامية تحت الدرج وكاولية في الحديقة الخلفية ولجنة اولمبية ومقابر جماعية وغبار نووي وقرى سرطانية وصبخة ويابسة بلا تمن وفلوجة ونجف وطليان في الناصرية. حتى الشعر وعبد الكريم قاسم وهمبرغر ابو يونان. حتى زهور حسين والرسم الحديث وجان دمو. حتى آل ازيرج والبزون والسواعد والبيضان. حتى النجف وكف العباس وبنت المعيدي ويوسف عمر. حتى الجبايش وكردمند والفلوجة والمقبرة الملكية. حتى قاسم ابو الكص وكصيت المودة وزنود الست وأحذية باتا وشبر وشبير. لم يسلم شيء من الزيف. اسألوا الحزبيين إن كانوا تحت المنجل والمطرقة او بين ثلاثة نجوم أو في ظل راية آل البيت عاثري الحظ: كم مرة كذبوا وكم مرة سيكذبون؟ صار الكذب صناعة عراقية بامتياز بسبب شعورنا المفاجىء بالعبقرية السياسية. إذا لم يكن الأمر كذلك، فما الذي صنعه العراقيون بأنفسهم لينتهوا هذه النهاية القاسية؟ كانت الخيانة مثل قط خفي يمشي بغنج بين الأقدام وفي الصدور وعلى مآقي العيون. كانت صورة الوغد ذي النظارة المرآتية مرسومة تحت كل قناع. علينا أن نصدق أن أحدا ما سرق الأرض من تحت أقدامنا. متخصصين في الهدم كنا وماهرين في الرياء. لا أحد أحسن من أحد. ينبغي أن نقع في الهاوية جميعا. كان هناك بازار. بدأ في لندن وانتهى في بغداد. وكان السماسرة قد استولوا على الخزانة. أما الشعب فقد صار رهينة. بعد ثماني سنوات عجاف اختفى من اختفى وهرب من هرب من غير أن تتغير اللغة. ما من أحد من مثقفي الاحتلال تساءل ولو بشفقة: ما العراق الآن؟ هل هو وطن أم مقبرة؟ هل هو حديقة أم مزبلة؟ أين ذهبت مياهه ومن دس السموم في هوائه ولمَ صار العراقي يقف بين خيارين: قاتلا أو قتيلا؟

‘العراق بلد جميل’ قالت شاعرة عراقية قادمة من نيوزلندا في لقاء معها بثته إحدى الفضائيات العراقية. من سوء الحظ أن أصبعي وقع على الزر الذي يشير إلى تلك المحطة لحظة ذلك السطر الملوث بالنفاق، بل بالعدوانية الصارخة. ‘عمت عينك’ بالعراقي سيقولها كل إنسان شريف، مهما بلغ شغفه بالحوزة وبالباميا وبدشداشة صبغ النيل. تنطوي تلك الجملة على قدر هائل من الكذب الرخيص. رأيت فيلما على اليوتوب تظهر فيه إحدى قطعات الجيش العراقي الجديد وهي تحتفل فتمنيت العمى على أن أشهد جيشا هو أقل انضباطا من فرقة رقص شعبي في حارة بغدادية. لقد سيطر عليّ شعور بالقرف تجاوزت من خلاله لعنة الاحتلال إلى لعنة الإنسانية كلها وهي تسمح لبعض من بينها بالانحدار إلى هذا المستوى المبتذل من الفقر الروحي والتنكر للكرامة الإنسانية. كل مليمتر من الوقائع التي شهدها العراق بعد احتلاله (لا يزال يشهدها حتى اليوم) يجعلني أقف إكبارا للموقف الصلب الذي اتخذه الشاعر الكبير سعدي يوسف في مواجهة الاحتلال، وكل ما نتج عن ذلك الاحتلال. كان الشاعر وفيا لعراقيته أكثر منا جميعا. حتى حين قرر علانية أن العراق لا يصلح أن يكون وطنا فقد كان مخلصا لإنسانيته، التي يجرحها أن تكون حظيرة المنطقة الخضراء بديلا عن العراق التاريخي. تخيلوا ما الذي كان يحدث لو أن رمزا عظيما مثل سعدي يوسف قد خذل فطرة المقاومة وانتحى جانبا؟ في الحقيقة فان سعدي في موقفه المقاوم لا يمثل نفسه، بل هو الجمع الذي لا يمكن إحصاؤه. هو بالنسبة للعراقيين لحظة كرامة كامنة. لم يخن الشاعر ثقة الناس به وبالشعر.

لهذا السبب، لا لسواه انصبت على الشاعر الكبير لعنات الوافدين بطمع وجشع وتمرين مسبق على الخيانة. بلغة زاهدة صار سعدي يقول وطنيته المشتبكة بشعور عميق بالمسؤولية الإنسانية. لا اطناب ولا مجاز ولا استعارة ولا تورية. سمى الأشياء بأسمائها ولم يخف. لا من أمريكا ولا من رفاقه الشيوعيين ولا من حفاة الأحزاب الدينية. كان الأمر يسيرا ولكن بالنسبة للنفوس العظيمة. على قدر أهل العزم. ولأن نفوس العبيد الصغيرة تضيق بحرية الكبار فقد صارت تتاجر بالضحايا بلغة ركيكة لا تخفي بعدها المترجم في هجائها لسعدي. ‘هناك قتلانا في الشوارع، في الأسواق، في المقاهي، في البيوت. في متضح الأمور ليس ثمة ما يواري أو يبرر اثم معاداة العراق ـ الوطن وإن أطبقت عليه كل جيوش العالم’ يقول شاعر عراقي في مقالة نشرتها ‘القدس العربي’ قبل أيام في معرض تنديده بمقالة الشاعر يوسف التي حملت عنوان (أي ربيع عربي هذا؟).

مَن قتل مَن؟ مَن يعادي مَن؟

اليوم صاروا يعترفون بان العراق هو بلد محتل وأن الحكومات التي ينصبها الاحتلال هي حكومات فاسدة. هذا خبر حلو. ولكنهم ما زالوا غير قادرين على الاعتراف بمن قتل العراقيين. ربما سعدي يوسف كان واحدا منهم. ذلك لان هذا الشاعر يعادي العراق حسب كاتب المقال. ولكن أي عراق؟ كان سعدي واضحا في عدائه لعراق الخونة. العراق المركب على أساس المحاصصة بين عملاء المحتل. عراق الثروات المنهوبة والتي يقدم جزء يسير منها إلى الشعب على هيئة رشى. العراق الواقع تحت الحماية الامريكية إلى أبد الدهر. العراق الذي هو تجسيد لأكثر الدول فشلا في العالم. يحدد الكاتب موقع الاثم الذي ارتكبه الشاعر يوسف في (خطابه المتعاطف مع تيارات القتل والجريمة في العراق التي لم نكد نتبين منها ‘مقاومة’ حقة). هذا كلام واضح يشكر عليه الكاتب. المقاومة هي فضيحة سعدي يوسف. تهمته. لقد قالها الكاتب بالفم الملآن: المقاومة. لنكن صريحين. عزيزنا لا يقصد قتل العراقيين من قبل القوات الامريكية ولا من قبل شركات المرتزقة ولا من قبل جيش المهدي ولا من قبل الحكومات العراقية العميلة المتتالية ولا من قبل التنظيمات الاصولية الملحقة بالجيش الأمريكي. المقاومة هي العقدة وهي الكلمة المحرمة.

بالنسبة لشاعر يكتب الشعر الحديث ويقيم في السويد، لا أظن أن كذبة من هذا النوع قد انطلت عليه حقا. فالعراقيون ما زالوا يُقتلون بمختلف الطرق. بالنسبة للغرب فقد صار قتل العراقيين، مثلما هو قتل الافغان، أمرا طبيعيا تمر به الأخبار بخفة، بل ان عراقيي الأمر الواقع بمختلف المسافات التي تفصلهم عن الاحتلال صاروا يستقبلون أخبار القتل وفي أذهانهم صورة جاهزة للقاتل: بعثي، تكفيري، من أزلام النظام السابق. بعدها يشعرون بالراحة. ما دام القتل يجري بعيدا عنهم فان العراق لا يزال ممكنا باعتباره غنيمة حرب، بئر نفط يدر أموالا. لا أمل في يقظة ضمير. بالنسبة لكثير من عراقيي الخارج (من المدافعين عن عراق صار افتراضيا) فان هناك منافع يمكن أن يحصلوا عليها جراء تواطئهم مع الوضع القائم: مناصب وهمية، رواتب تقاعدية من غير أن يكونوا قد عملوا يوما واحدا في حياتهم، أراضيَ يحصلون عليها مجانا ويتربحون منها، هبات مالية دورية ورضا المتدافعين في بغداد خدمة للمحتل. وهو رضا قد يمهد الطريق أمامهم للحصول على وظيفة ما في سفارات العراق التي قطعت علاقتها بالعمل الدبلوماسي لتتحول إلى مقرات للبيشمركة وحسينيات وتكيات.

وحيدا يقف سعدي يوسف. هكذا يظنون. وهم ليس إلا. فالشاعر ليس ذلك الشبح الناحل الذي يتنزه بين الحقول وعلى ضفاف البحيرات. قوته اللامرئية تستدعي في لحظة الهام مباركة شعوبا وأكوانا تفيض كرامة وحرية وخيالا. شعر سعدي يوسف وحده يكفي لكي يكون لنا أمل في انبعاث العراق الحقيقي.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى