صفحات مميزةمنير الخطيب

عن سنّة سورية وشيعة العراق/ منير الخطيب *

يقول المفكر الفرنسي إدغار موران في كتابه «مقدمات للخروج من القرن العشرين»: «إن السجين الذي يخرج من السجن وهو لا يزال يفكر بوضع سجّانيه خلف القضبان، يكون لم يستفد من تجربته شيئاً». إن سلوك الأحزاب والقوى الشيعية العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين، دّل على أنهم لم يتعلموا شيئاً من تجربتهم المرّة مع الاستبداد، وعلى الأخص نهجهم في السلطة. ذلك أنهم سلكوا سلوكاً ثأرياً على أسس مذهبية. وعلى رغم أنهم الأكثرية في العراق، تصرفوا كأقلية طائفية مذعورة، مما سهل «اقتلاعهم» من التفكير بالمشروع الوطني العراقي واندراجهم كملاحق في مشروع التوسع الإيراني.

لقد أسـس صدام حـسـين سلطته المـطلقة على قواعد عدة، من أبـرزها: انتهاك «الدولة» والانحطاط فيها إلى درك التسـلط العائلي، وتـعمـيق ظـاهرة التخلع الاجتماعي وتوظيـفها بـما يخدم آليات السيطرة والنهب. بعد سقوطه وهيمنة القوى الشيعية على السلطة، أعادت إنتاج هاتين الظاهرتين بأشكال أكثر ابتذالاً. لا بل أزيد من ذلك: كيف يمكن قوى عانت من استبداد البعث العراقي شر معاناة أن تدعم فرعه السوري، الذي يتماثل معه، كل هذا الدعم في مواجهة شعبه؟ إننا نسمع كثيراً في الإعلام وعلى لسان مختلف «المحللين الاستراتيجيين» عن أميركا التي سلّمت العراق على طبق من ذهب لإيران، هذا الكلام لا يقول كل الحقيـقة. فلا أمـيركا ولا غير أميركا كان قادراً على تسليم العراق لإيران، لو أن شيعة العراق قرروا ألا يكونوا متماثلين في الهوية مع الاستبداد الصدّامي وذهبوا مذهباً مغايراً في اتجاه الدولة-الأمة، عند ذلك فقط، كانوا استفادوا كثيراً من تجربتهم مع الاستبداد.

يتطلب المشروع الوطني السوري، أولاً، أن يتصرف سنّة سورية في شكل مغاير للنهج الذي سلكته القوى والفعاليات الشيعية العراقية، وسلوك المغايرة هذا يتعارض، أساساً وفي المبدأ، مع الانبعاث الـوفير للتنظيمات والميليشيات والهيئات الإسلامية في المناطق التي انسحبت قوات النظام منها. هذه التنظيمات حاجة إيرانية وحاجة للنـظام وحـاجة لـ «حزب الله»، وهؤلاء عمدوا إلى تصنيع ودعـم جزء مهم من هذه الميليـشـيات التكفيرية لأن كلاً منها ضروري للآخر. فهذه تنظيمات وميليشيات من ماهية واحدة، على رغم افتراق شعاراتها وتناقضاتها الظاهرية. أجل إن «حزب الله» والميليـشيات الشـيعية العـراقية وداعـش وجـبهة النصرة والقـوى السلفية والهيئـات الشرعية من الماهية ذاتها، التي فقدت جذرها الإنسـانوي وأصبحت كائنات أيديولوجية متوحـشـة، كل منها لا ينمو إلا في مناخات الحروب والتطرف الديني، وكل منها معادٍ للعمران بالمعنى الخلدوني ومعادٍ للتقدم والحياة بالمعنى العصري. سأغامر بالقول إن مستقبل سورية ولبنان والعراق، على الأقل، متوقف على تبني السنّة في سورية الخيار المدني -الديموقراطي، لأن ذلك يعني انتصار منطق السياسة على منطق الحرب، وانتصار منطق الوحدة الوطنية على مناطق التفتيت والتقسيم، وانتصار خيار الدولة-الأمة على خيارات أمراء الطوائف، وهو الذي يفتح سيرورة في المشرق تضع البداية لنهاية الأصوليات السنّية والشيعية على حد سواء.

إن إصرار النظام ومن خلفه على الحسم العـسـكري، وتراكـب الوضـع الســوري مع تعـقيـدات الوضعــين الإقليمـي والدولي، وحـجـم الخراب الذي لـحق بالـنسـيج الاجـتمـاعي السـوري، وانفجـار قيـعان الأرياف بهذا الكم الكبـير من التنـظـيمات الإسلامية الـمـسلحة، وفـشل الجـيـش الحر في تشـكيل نواة مؤســسـة عسكـرية ذات طبيعة نظامية وقـادرة على فعل المركزة والتوحـيد، وعدم اكتراث العالم للمأساة السورية، وخروج جسم الثورة المدني–الديموقراطي من حيز التأثير… كل ذلك يدعو الى التشاؤم. لكن الواقع لا يُستنفد بما هو ظاهر فقط، الواقع احتمالي وإمكاني أيضاً. استناداً الى ممكنات هذا الواقع الاحتمالي يمكن القول بثقة غير دوغمائية: إن للخيار الوطني-الديموقراطي مرتكزات وازنة عند سنّة بلاد الشام أهمها: أولاً – النزوع الاندماجي الذي أفصحت عنه الأكثرية السنـّية في بدايـات الثـورة، في مقابل نزوع الانكفاء غير المبرر الذي عبرت عنه الأقليات.

ثانياً – إمكانية عودة الجسم المدني – الديموقراطي، الذي طرده العنف إلى الرصيف، بمجرد حصول توافق إقليمي-دولي على وقف الحرب. ثالثاً – نزوع الأكثرية في بلاد الشام الى عالم الاقتصاد والأعمال، وهذا يقتضي نفي الحرب وإقامة دولة القانون. رابعاً – الشعور الأمّوي [من أمّة] والإحساس بالمسؤولية القومية لدى «القوم الأكثري». خامساً – إذا أخذنا بمتوسط التقديرات لعدد المهجّرين السوريين في الداخل والخارج، وهو 7,5 مليون نسمة، فإن هؤلاء في أكثريتهم الساحقة من السنّة، والغالبية منهم على ما أظن مع خيار العودة والاستقرار ومع مشروع الدولة الوطنية.

لهذا نأمل أن توظف الأكثرية عذاباتها الأسطورية في بناء مستقبل المشرق.

 * كاتب سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى