صفحات الرأي

عن سوريا و إشكالية الولاء الديني و السياسي؟

 


حمزة رستناوي

ليس ثمّة فروقات جوهريّة بين البعد العقائدي و البعد السياسي للكينونة الاجتماعيّة, حيث أنّ كلاهما أشكال / طرائق تشكّل حركيّة احتوائيّة احتمالية نسبية ذات صلاحيّة .

إنّ الدولة المدنيّة الحديثة هي كيان سياسي , و ليست كيان ديني عقائدي, طبعاً من دون إغفال للعلاقة التفاعليّة الممكنة بين العقائدي و السياسي. و في مثالنا الراهن عن الدولة السورية , أعتقد أنّ الدولة السوريّة و مشروعيّة وجودها و المحافظة عليها مطلب يحظى بتوافق الغالبيّة الساحقة من السوريين, مع عدم إغفال الأبعاد الإقليمية و العربية و الإسلامية للدولة السوريّة , و لكن من دون التفريط بسوريا ككيان سياسي , لصالح تلك الأبعاد المقترنة بالرغبة و التوق , فالولايات المتّحدة العربية أو الولايات المتّحدة الإسلامية تبقى أحلاما جميلة و مفيدة , هي بالتأكيد أحلام مشروعة و لكنّها على المدى القريب و المتوسّط تبقى أحلاما من وجهة نظر الواقع السياسي. و تحتاج لتحقيقها مسبقا ً و بشكل ملزم انجاز الدولة الوطنيّة السورية : دولة مدنيّة ديمقراطيّة تقوم على أسس المواطنة و مرجعيّة حقوق الإنسان.

رغم أن الغالبيّة الساحقة من السوريين يؤيّدون مشروع الدولة السورية ككيان سياسي موحّد, إلا أن هذا يخضع لاختبار قاسي حالياً, فهذا الولاء للوطن السوري ليس من خصائصه الحتميّة أو القدريّة, فالدولة السورية ككيان سياسي مستقل لا يتجاوز عمره المائة سنة, و قد مر باختبار التجزئة إبان الاحتلال الفرنسي, حيث قسّمت سوريا إلى أربع دول بناء على أسس إقليمية و طائفيّة عدا الاسكندرون و دولة لبنان الكبير , و قد استمرت دولة جبل العلويين و دولة جبل الدروز مثلاً على قيد الحياة أكثر من خمسة عشر سنة 1920-1936,أما دولة حلب فقد استمرت لحوالي خمس سنوات “1920-1925 , و لكن إرادة الإرادة السياسيّة الوطنيّة للسوريين انتصرت في النهاية على الولاءات الفئوية, و تم انجاز الدولة السورية و تحقيق الاستقلال عام 1946.

متى تنتفي الرغبة و تقل الحماسة لمشروع الدولة الوطنيّة؟

باختصار و بعبارة واحدة: عندما يقترن هذا المشروع بالظلم ّو الممارسات التميزية و انتهاك آدميّة الإنسان و قيم المواطنة . و مما يزيد الطين بلّه في هذا المقام أن يتم تبرير القصور السابق الذكر و ازدواجية المعايير تحت مُسمّى: الوطنيّة.

في هذه الحالة سوف يقوم الرعايا بنزع القداسة عن الوطنيّة و مشروع الدولة – و هي قداسة ايجابيّة مطلوبة و مشروطة بصلاحيات سياسيّة و اقتصادية و نفسية و ثقافية – و تحويل القداسة إلى مُدنّس

إن هذا الشعور والسلوك السلبي تجاه الوطنيّة و مشروع الدولة , يتظاهر بسلوكيات متعدّدة منها على سبيل المثال لا الحصر: تخريب المرافق العامة فهي لم تعد مرافق خدمية لعامة رعايا الدولة بمقدار كونها رموزاً للظلم الاجتماعي و السياسي على الأقل على المستوى الرمزي و النفسي .

نحن أمام عملية تحويل استبدالي شرطي في لغة التحليل النفسي:

زيد يكره الظلم

الظلم يقترن تبريره بالوطن و الوطنيّة

زيد يكره الوطن و الوطنيّة.

هذه العملية القانونيّة تتم على المستوى النفسي بمستويات لا شعوريّة غالبا . و هي ليست خاصّة بالوطنيّة و الوطن. فمثلاً عندما يتم تبرير الظلم و ازدواجية المعايير بحجة الإسلام و الشريعة الإسلامية , فإنّ هذا سوف يحرّض “زيد من الناس” على تكوين مشاعر سلبية و عدائيّة تجاه الإسلام و الشريعة الإسلامية مثلا.

إنّ عمليّة التحويل الاستبدالي الشرطي سابقة الذكر إذا ترك لها العنان من دون تدخّل واعي و خلّاق ,سوف تتحوّل إلى فعل تدمير ذاتي للفرد و الجماعة.

من الضروري تمييز و فصل مشروع الدولة ككيان سياسي عن المشاريع ذات الصفة العقائديّة الدينيّة و التي تستهدف انجاز كيانات طائفيّة صافية , أو كيانات تحكمها شرعة الغلبة و الأغلبيّة.

هذا التمييز و الفصل بين السياسي و العقائدي ضروري جدا , و في حال إهماله سوف يهدّد بكوارث و نكبات تبدأ من الحروب الأهليّة و تقسيم المقسّم …و قد لا تنتهي بإعادة إنتاج الدولة الاستبدادية على أسس دينيّة و طائفيّة.. و في أحسن الأحوال – و هي ليست حسنة – حرب أهليّة باردة على غرار الديمقراطيات الزائفة في لبنان و العراق

في المثال السوري , و بناء على ما سبق طرحه , فإنّ أي مشروع أو خطاب سياسي لا ينأى بنفسه عن الجوهرانيّة العقائدية الدينية , هو مشروع قصور يهدّد بكارثة وطنية و سياسية و إنسانية سيدفع ثمنها السوريون من المتحمّسين له ربّما قبل غيرهم .

و هنا لا أميّز بين العقائدي و الديني و الطائفي فكلّها سواء و شركاء

فالعقائد اللا دينيّة تاريخيّا أسّست لديكتاتوريات عريقة.

و العقائد الدينيّة لا توجد على أرض الواقع إلا بشكل فئويات و طوائف.

ما هي التأثيرات السلبية لعدم الفصل بين السياسي و العقائدي في المثال السوري

و ما هي مخاطر الركون لخطاب يتناول الشأن السياسي من منظور عقائدي ديني؟!

*أوّلا: الانتقال بالأزمة السوريّة من أزمة سياسيّة قابلة للحل – و لو نظريا- إلى صراع عقائدي” سني-شيعي” غير قابل للحل ,صراع يعيد إنتاج نفسه, و بصيغة انتحار و تدمير للدولة و المجتمع, فهذا الصراع مستمر منذ ما يقارب 1400 عام و لن يحسم في المدى المتوسط و لا البعيد.

*ثانياً: هامش المناورة الضيّق للخطاب العقائدي مقارنة بالخطاب السياسي, فالخطاب العقائدي يعرض أساسا ليقينيات و مُسلّمات من وجهة نظر مواليها, ربّما عكس الخطاب السياسي الذي يتوسّل الممكن و المُتاح , و يمكن اختبار مردودة عبر تحقيق الاستقرار و التنمية للمجتمع و الكيان السياسي السوري.

*ثالثاً: الخطاب العقائدي يستند في مشروعيّته أساسا على رؤى و عقائد المؤمنين به, و هذا يستثني أوتوماتيكيا الآخر “الغير مؤمن” أو المؤمن بطريقة مختلفة..الخ.

و في المثال السوري لن يكون بمقدور خطاب سياسي ينطلق من مرجعيّة عقائدية أن يكون موضوع توافق السوريين, فهذا يؤسس و ينتج عنه أوتوماتيكيّا تناول للشأن السياسي السوري من منظور أكثريّة و أقلّية , و هذا يخلق حالة من عدم الاستقرار.

بينما شأن الخطاب السياسي تذويب و إعادة إنتاج و دمج البُنى المجتمعيّة خارج ثنائيّة الأقلية و الأكثريّة ذات المنظور العقائدي الستاتيكي.

رابعاً: إتاحة المجال للتدخلات السلبية في الشأن الداخلي السوري , و تحديدا الدول و القوى الإقليمية التي تتبنّى الايديلوجيات الجوهرانيّة السنّية و الشيعية.

و تالياً لهذا تدويل الشأن السوري بشكل سلبي, و خضوعه لتوازنات و مصالح القوى الكبرى و مصالح المشروع الصهيوني.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى