صفحات الناس

عن سوريين مهددين بالانقراض/ نديم قطيش

 

في بيروت هامش للحياة. لحياة السوريين. بل هامش لحياة سوريا التي تغيب خلف دخان البراميل المتفجرة والغارات الجوية والقصف المدفعي في حلب وحمص وحماه واللاذقية ودير الزور والقلمون وكامل تضاريس خارطة الدم. هامش لحياة سوريا التي تغيب خلف التطرف والإرهاب والجريمة المنسوبة الى الله. بل سوريا التي تغيب عند التقاطع الموضوعي بين الارهاب والديكتاتورية بوصفهما وجهان لعملة التخلف الواحدة.

في بيروت حيث السوري اما لاجىء او مسلح او بعثي ثمة مساحة اخرى لسوريا اخرى.

مساحة للخميرة التي تصنع خبز الغد، ربما. او للفصائل المنقرضة من البشر، على الأرجح.

هاربون من الموت، بلوحاتهم الى لوحاتهم. وبمنحوتاتهم الى منحوتاتهم. هو فنهم، درعهم الاخير في مواجهة الموت وجلافة التاريخ. سوريون يملؤون بيروت وصالاتها ويستجلبون بعضهم بعضاً الى زوايا الامل فيها. الى الفن بكونه فعل حياة وفعل بقاء.

في الصالات التي تفتح ابوابها لهم، ينتحون ببعضهم بعضاً. يسأل كل منهم عن سوريا ما. في الوقت المستقطع بين موت وموت يحتفلون بالحياة ويدافعون عن سوريا التي يراد شطبها.

هنا في غاليري مارك هاشم على بعد أمتار قليلة من مكان جريمة اغتيال الحبيب محمد شطح معرض سعد يكن. الحلبي الذي أتقن التقاط أدق لحظات العزلة التي يعيشها الانسان السوري. عزلة لا تبددها زحمة الخطوط في لوحته. خطوط الوجوه والأيدي والأصابع والكراسي وخطوط الضوء المتسربة، من سماوات بعيدة. حوله سوريون كثر. يشبهون بيروت وتشبههم. ويشبهون سوريا التي لا اعرفها، فاتعرف عليها في غوايات مشتركة. تدور كؤوس النبيذ. تسألهم عن بيوت حلب القديمة وارث لؤي كيالي المعلق على جدرانها. يجيبونك عن بول غيراغوسيان. معنى آخر لوحدة المسار والمصير.

ثمة ترف كثير ان يكون الفن مادة للكتابة اليوم. ثمة موت كثير لنبتلعه وثمة بلاد بأكملها تتشظى. العصافير تموت في سوريا ببهاء اقل من لوحات يوسف عبدلكي. يتسرب دم كثير الى اعماله الاخيرة في غاليري نايلة كتانة. لا بأس. اللوحات تنزف ايضاً. والرسامون ينزفون.

يحمل احدهم الخبر صاعقاً. فلا تعرف ايهما اقرب الى الحقيقة. لوحة قلعة حلب المحاصرة بكفن كبير ام السيدة التي أجهشت في البكاء. مات نجل الفنان السوري عبدالله مراد. مات في معتقل اسدي. مات ككثيرين قبله. ككثيرين بعده. لكن الان هنا، هذه الفصيلة المنقرضة من السوريين تستشعر الفداحة اكثر. خسروا واحدا منهم للتو. باتوا اقل.

تتسع لهم بيروت، فيوسعون مطرح الفن فيها، يوسعون هامش الحياة. يبتكرون سورياهم في بيروت، وبكل الحب الممكن في هذا العالم، يواجهون الانقراض.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى