صفحات العالم

عن شراكة الهمّ مع سوريا .. فهل نتشـارك في المسـرّة!؟

 


سليمان تقي الدين

النظر إلى سوريا من لبنان غيره من أي مكان آخر. شعر اللبنانيون بهزة عنيفة اختلط فيها الخوف والأمل. الخوف على لبنان وسوريا من احتمالات استفحال الأزمة وتعقيداتها، والأمل بأن يتعامل أهل الحكم بمسؤولية تاريخية عن الإرث الوطني وعن الدور الذي ما زالت سوريا تقوم به في مواجهة تحديات استعمارية جدية حاصرتها في السنوات الماضية من أبواب قريبة وخرجت سوريا منتصرة. وكنا نحن في لبنان نتكئ على سوريا وهي تدعم مواجهة وطنية قاسية خاضها معظم الشعب اللبناني حفظاً لهوية بلده أولاً وحجباً للاندفاعة السياسية والعسكرية الغربية التي استهدفت المنطقة كلها ثانياً.

ونحن هنا في هذا الممر الضيق على الشاطئ اللبناني الصغير كيفما تبدّلت أحوالنا نشعر أن خلفنا شعباً ودولة تحتضن وتتسع في بيوتها وشوارعها وأرضها لطموحنا الوطني حتى عندما تتمايز المواقف والاتجاهات والوسائل أو تختلف التجارب والممارسات. لم يكن يوماً عندنا وهم بأننا لا نسير معاً في المواجهات الكبرى، فتجاوزنا وتجاوز الإخوة في سوريا في محطات كثيرة إشكالية العلاقة بين حركة وطنية ديموقراطية مفعمة بإرث الحرية مع نظام يضيق ذرعاً في أحيان كثيرة باستقلالية قرار حليفه أو بارتفاع منسوب مطالبه وطموحاته. هذه التجربة المديدة قبل استقلال البلدين التوأمين وبعده جعلتنا غير قادرين على التفكير أصلاً بالانفصال الذي تحوّل إلى قاعدة في تعامل دول العرب، برغم تمسكنا بالاستقلال ببعده الإيجابي المنطلق من واقع الحياة وعجزنا المشترك عن بناء الوحدة.

هكذا عندما خرجت القوات السورية من لبنان قبل ست سنوات وقف الكثيرون من اللبنانيين في مواجهة عاصفة الانعزال الجديد الذي رأوا فيه عن حق تمهيداً لمتغيّر إقليمي كبير يمهّد للحلم الإمبراطوري الأميركي والغربي ويفسح الطريق للأهداف الصهيونية. هؤلاء اللبنانيون في غالبيتهم ما كانوا على علاقة طيبة مع الإدارة السورية في لبنان وربما عانوا منها وتنافروا معها في غير موقع وتبرّموا وتذمّروا من ممارسات سلطوية ساهمت في التركة السيئة التي وقع فيها لبنان بانحرافات نظامه وبعض القوى السياسية الوازنة والانقلاب الذي قام به هؤلاء على العلاقة الأخوية اللبنانية السورية وليس على طرف بعينه أو مسؤول بذاته أو ممارسة خاطئة بالتحديد.

خرجت سوريا من المواجهة أقوى ممّا كانت عليه وتحوّلت إلى قطب فاعل في المسألة الإقليمية وهي تدير سياسة الانفتاح والتعاون مع دول تجمعها مصلحة مشتركة لرفض مخطط «الشرق الأوسط الجديد» في مفهومه الأميركي وأركانه وفي أساسهم دول عربية قصمت ظهر العرب وغيّرت مواقع دورهم الفعلي ومصالحهم. لكن لبنان الذي خرج من محنة وطنية قاسية، من حرب سياسية داخلية، ومن حرب إسرائيلية غاشمة، لم يستعد عافيته ومناخه الوطني الوحدوي الذي كان يفترض أن يُشيعه الانتصار على المشروع الإسرائيلي الأميركي. ظل اللبنانيون يهجسون بأهمية العلاقة مع سوريا حتى أولئك الذين يكرهون موقف سوريا والحكم فيها ويريدونها نسخة عن أنظمة التبعية والخنوع في العالم العربي.

فجأة خيّم مطلب التغيير في محيطنا وبدأت تتهاوى الأنظمة التي كانت قيداً على الموقف الذي نواجه به تحديات الخارج. وكانت ثورات طالما حلمنا بها وبدأت تزيح الاستبداد الذي أخذ الشعوب بقرار إلى غير حاجاتها ومصالحها وتطلعاتها ومنع عنها الحرية والكرامة والتقدم.

هذه الثورات العربية صارت معلماً تاريخياً يطوي نصف قرن من الفشل والخيبات ومن وضع العرب خارج العصر. وكان بديهياً أن روح الشباب العربي ستجتاح كل البلدان، وأن مطلب الحرية والديموقراطية سيختبر كل الأنظمة، وأن عاصفة التغيير اختمرت في وجدان الشعوب حتى لو خالطتها أفكار من هنا أو هناك واخترقتها محرّضات وتفاعلات أتت أو يمكن أن تأتي من خارج السياق الوطني أو الديموقراطي. لقد كانت المجتمعات العربية كلها في أزمة، ولم يكن ذلك بعيداً عن معرفة القيادة السورية وإدراكها وعن تناولها العلني لكثير من المشكلات التي تتعلق بإدارة الدولة والمجتمع. إن مناخ الكبت السياسي والتضييق غير المحمول على حرية الرأي والتعبير والتجمع والمشاركة طاول مَن يفترض أنهم في موقع الدفاع عن سوريا وموقفها وعن تقدمها وقوتها ومناعتها. هذه العشوائية، وهذا الحذر غير المفهوم من كل مَن هو خارج النظام ومؤسساته السياسية والأمنية صار علامة سيئة في المسار العام، كما صار الفساد والمحسوبية وضيق فرص العمل والفقر والبطالة والامتيازات والحرمان وتقهقر مستوى الخدمات والضمانات «والانفتاح الاقتصادي» على قوانين السوق الجائرة ملامح لنظام يذهب في اتجاه مناقض للأفكار الوطنية والتقدمية التي طبعت رسالة الحزب الحاكم غير الحاكم فعلاً كحزب بل كمنظومة سياسية أمنية. وقد سمعنا أكثر بكثير من هذا التوصيف لفجوة عميقة بين الموقع السياسي الحالي لسوريا وهو موقع وطني وبين نظام يعمل في فراغ سياسي، لا نخاف على مؤسساته، بل نخاف على دوره وما يمكن له أن يساهم في هذه النهضة العربية فلا يتخلّف عنها فيقع في ما هو أدهى من التغيير أي الأزمات المتراكمة المركّبة المعقّدة النابعة من مكوّنات بنيوية واجتماعية لم ينجح العرب في كل مكان على حل مشكلاتها، بسبب هذا القصور الديموقراطي وإخفاق مشاريع التنمية القائمة على دور جهاز الدولة المتخلّف أو المحكوم بهيمنة فئات ليست قادرة على بناء مجتمع منفتح سليم حر تعددي تقدمي.

بدأت طلائع أزمة في سوريا لا يكفي معها بيان من هنا أو من هناك أو إجراء خجول ووعود بالإصلاح حتى لو كان ذلك بذاته خطوات إيجابية في الاتجاه الصحيح، ولو عاد الأمن ليستتب ويستقر و«الفتنة» إلى الانزواء. ما حصل هو جزء من مناخ عربي عام لا مناعة لأحد حياله، وجزء من تراكمات من عدم المعالجة، ومن غياب الدور القيادي الفعلي للدولة والمجتمع رغم كثرة الحديث عن هذا الدور. ثمة إدارة هرمة وحزب شاخ تكويناً وفكراً ولم يتجدّد من أجيال تحمل أفكاراً وطموحات وثقافات حداثوية وقيماً إنسانية عصرية ولها حاجات مختلفة عن أولئك الموظفين القدامى الذين ما عادوا يلفتون الجمهور إلى فكرة جديدة وإلى عمل جديد، وما عادوا يعرفون ما يدور في وجدان الشعب المحروم من كثير من الحاجات الإنسانية الأساسية ونوعية هذه الحاجات التي يعرضها الإعلام حتى آخر قرية نائية.

لسنا هنا لننصح أو لندلي بدلو لمجرد الحاجة إلى كلمة في ما صار متداولاً حتى على ألسنة الأفاعي الدولية التي تتربص بكل الشعوب العربية وتتباهى بفظاظة منافقة عن أسباب تدخلها في شؤون هذه أو تلك من الدول. نحن من لبنان شطرتنا أزمة سوريا بين الخوف والأمل ونود أن تذهب الإجراءات نحو الجذور لكي نشعر بالأمن والأمان هذه المرة على مجتمعات ينخرها سوس الطائفية والمذهبية ويحرّضها الطامع الخارجي لكي تصبح «شعوباً» مفككة تتناسل من شعوب جرى تقسيمها على كيانات ثم يُراد تحويلها إلى محميات لدول الغرب الأميركي والأوروبي ووكيله الإسرائيلي.

ما نحن فيه أزمة وجود تضعنا على مفترق بين الفوضى وبين مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل بروحهما الجامحة إلى مناخ الحرية وحقوق الإنسان وثقافة الحوار والمشاركة والجمهور الذي يصنع جمهوريات ولا يتحوّل إلى قبائل لممالك لا تقوى على حماية نفسها من بعضها الآخر.

إذا كان ما نقول هو في الصورة الحقيقية للمشهد السوري فلا بديل من شجاعة وجرأة وحكمة سبق لها أن تجلّت في معارك أخرى، أو هي بدأت تطل من وراء الإقرار بأن أصل الأزمة داخلي مهما تداخلت فيه عناصر الخارج والفتنة. فلا أقل إذاً من مواكبة التغيير في ما يطلبه التغيير من الانفتاح على مكوّنات المجتمع وإشراكها في إدارته بكل الوسائل والمؤسسات المعروفة رسمية وحزبية وإعلامية ومجاراة حاجات الناس إلى مبدأ التوزيع العادل للثروة وقيام المجتمع بوظائفه وليس تفويض أي نخبة مهما كانت طبيعتها في الحلول مكانه.

إن الهمّ السوري همّ لبناني أو هكذا كنا نقول معاً، لذلك نشترك الآن في الهمّ وعسانا نشترك في المسرّة.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى