صفحات مميزةعلي جازو

عن عبيد الثورات…/ علي جازو

 

ماذا يُنتظَر وماذا يمكن أن يلي عالماً موبوءاً، كعالمنا المعاصر، لو لم تنقطع عادة القتل، لا سيّما أن ليبيا (العظيمة) ومصر (العريقة) واليمن (السعيد) ولبنان الـ (قطعة سما) وعراق (الخير) وسورية (مهد الحضارات)، وغيرها حتى تخوم القرم المحتلة حديثاً، تقدّم كل يوم استثناءات تاريخية!

ماذا لو لم تندثر، إلى أبد الآبدين، عادة تقليد العبيد أسيادَهم، بحيث يأخذون يهتبلون الضعف والعنف في آن كي يرتقوا ويحلّوا محل خانقي أنفاسهم. ماذا لو لم تكن الصفحات المتحجرة، تحجّر المكبوت المتوتر والقاتل المنتحر، هذه المسطّرة بالذهب النفيس، شبيه تعفّن الواقع الجاري، سوى صفعاتٍ ملهمات، ثم ماذا لو أغلق هؤلاء العبيد المتأنقون أبواب الحرية تحت راية طلبها، موصدين الأبوابَ بمفاتيح صدئة وسكاكين تلمع خلف ابتسامات أنيابهم. ألن يكون ثمة من كلبٍ حارسٍ ها هنا؟ أوَلن تكون أجرة النقل معدناً أميناً لزوّار كلب الجحيم إلى كلاّبات المطهر النورانيّة! ألا تكون الحال إذاً شبيهة بحال تلك الأفعى الأسطورية التي تعضّ ذيلَها بفمها لتكمل نشرَ سمِّ الحياة (حياتها) من الألف إلى الياء؟

ليست الكلمات السابقة بموعظة في الأخلاق وقد غدت «علماً حزيناً»، غير أن الأخلاق تبقى محل اعتبارٍ يتخاطفه من يسكن مسكن الذيل الوضيع ومن يعلو علوّ الرأس العاضّة.

لا يبدو أن ثورات 2011 – 2014 قد أفلحت في بلوغ مرماها، فهي أقرب إلى استبداد وتمزق كليّين يتحكم بهما نزوع عسكريّ سبق أن غلّف الاستبداد بالوطنيّة. وإذ تقرأ بياناً، اعتصاماً، كاريكاتيراً، أو حملة دعم نفسيّ نموذجية ضد ما يجري هنا وهناك، تجد عوامل مؤسسة لعبودية جديدة مغرية؛ ذلك أن حدثاً يلغي آخر شبيهاً، وجريمة تمحو جريمة قد أفرغت أي تضامن ممكن من معناه. يظهر الأعداء متشابهين في مكان ضيق، حيث يسهل تبادل الأدوار، وإذ يصرخ أحدٌ في وجه آخر يبدو كمن يبصق في وجهه!

كذلك، ثمة وظائف جديدة خلقتها الثورات، والحالة السورية مثال غنيّ وشديد السخاء، غير أن غياب أسباب الوظائف الطارئة لم يلغِ من وظائف صارت بلا داعٍ. يشبه القاتلُ الضحية حينما تستعيد الأخيرة صورتها الوحيدة. فالحياة، إذ تتشوه في قلب كل واحد، تحولت إلى ركام يحجب ويزدري الكثير من حيوات ليست على صورة أسبابها المعلنة. يحتاج الصدق إلى قوة من نوع آخر، بعدما ذقنا مرارة فشل نشرنا الحقيقة التي كان يفترض بها أن تفضي إلى واقع يسندها.

لقد شكا غير قليل من السوريين عدم معرفة العالم بما يجري في سورية الأسد، وإذ سمح عالم الصورة بنقل الجرائم على نحو مباشر، فقدت الأخيرة من فرط وشناعة تكرارها عتبة الإيلام وغدت سجلّ محفوظات يغطيها غبار الأمم الصديقة! ذلك أن إتباع نقل المجزرة بدعاية شوكولا، وهذا مثال فريد ومتكرر، يقيد الإثنين في عالم صورة تتحرك على سوية إعلان وتأثير واحدة، وماذا إذا كانت حقاً آلام السوريين آلامهم وحدهم، ولا يعني ذلك شيئاً لمن اتخذ من إحصاء الجثث عملاً حيادياً و «نأياً بالنفس»!

يحتاج عبيد الثورات إلى ضحاياها كي يجدوا مكاناً لصرخاتهم التي لا تتجاوز غرف نومهم، وإذ تزول أسباب وجودهم المنحطّة على النحو المذكور يتمسكون حتى أسنانهم بجثث نسيت مع موتها وجهَ جلاّدها. يستحضر العبدُ الثوري، إذ ينسى ميتة القتيل أمام عينه، حاجة دائمة لكي يجد لوظيفته شأناً وحاجة، وإذ تتحول الحاجة إلى ميلٍ خاوٍ يتحول العمل وفقها إلى آلة، ولا يبقى من التوثيق والرصد والمتابعة سوى ما يخلفه الرقم من إحصاء؛ فالواجب الميت ها هنا يلائم ازدهار أخلاق ميتة.

ثمة عشرات الآلاف من السوريين بلا قبور الآن، وإذا لا تجد عنهم خبراً أو آلة تصنع الخبر يُقتلون مرتين. مرة إذا يفقدون حقهم في حياة عادية، ومرة حقهم في أن يغمرهم نبلُ النسيان وحفيف غفرانه البارد، فلا يسرق أكفانهم أحدٌ ويحولها إلى ستائر بيته الثوري.

يطرح سؤال الصحافة، عطفاً على أجوبة ثورية خامدة، سؤالاً عن قيمة العمل النقدي، وإذ تتكرر المعاتبات التي تملأ الخواء المدوّي بخواء ثرثار يتحول الأخير إلى واجبٍ عنينٍ، وحالُ من يودع آخر بزهرة تلطف العفونة، ولا تلغي أسبابها، ليس كمن لم يعد يرى أمام عينيه سوى جمجمة آلامه. يبدو الصمت أقل استدراراً للدموع، فالأخيرة لم تنقذ أحداً ولن تنقذ أحداً، ويكفيها ملحها القليل وعزلتها المستسلمة وصبرها الراضخ. الجميع يتعِبُ الجميع حتى يغدو بلوغ المسيرة نهايتها وجوداً نابحاً أمام جدار.

ليست الدعوة، إذ يبدو للوهلة الأولى أنْ تضمّنتْها الكلمات السالفة، دعوة إلى اليأس ولا تثبيطاً للهمم، ولا هي بالحس العدميّ المتلَف، ولا كانت قرينَ حجة كافية كي تبرر النسيان الذي هو عقابٌ آخر، غير أنّ آلافاً من حُفّاظ الكوارث حولوا الأخيرة إلى قبر للصور التي لم تعد بياناً للحقيقة – العبودية، بعدما غدت الأخيرة حثالة كلّ يوم وحشرة آهاته.

* كاتب وشاعر سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى