رستم محمودصفحات سورية

عن عدمية «الرفض المطلق» لطرح اللبواني/ رستم محمود

طرح المعارض السوري «المثير للجدل» الدكتور كمال اللبواني مقترحه السياسي، القاضي بإجراء مساومة سياسية بين «السوريين» وإسرائيل تقضي بأن تساهم إسرائيل في إجراءات عملية عسكرية وسياسية دولية، لإسقاط النظام السوري مقابل قبول السوريين بالتوقيع على معاهدة سلام معها، لا تغدو فيها مسألة استعادة هضبة الجولان للسيادة السورية ذات بعد جوهري الشأن. ومنطق اللبواني في ذلك يقول إنه يمكن التداول على مستقبل الجولان، مقابل مساهمة إسرائيل في الحفاظ على وحدة الدولة السورية كاملة ومستقبلها، عبر إسقاط النظام السوري.

الانتقادات التي تذهب إلى حد الرفض المطلق لهذا الطرح، تتوزع على ثلاثة حيزات متباينة، أيديولوجية (مفرغة) وسياسية (ميكانيكية) وبراغماتية (سطحية)، يجمع بينها خيط رفيع من العدمية:

أصحاب الانتقاد الأول، الأيديولوجي، رفضوا حتى مجرد نقاش طرح اللبواني، كونه يتنافى ويتناقض جوهرياً مع «مبدأ» و «قيم» الوطنية السورية التي لا يمكنها مدّ اليد لإسرائيل أياً كانت الأحوال. فوفقهم، الكيان العبري عدو في الجوهر، ومعه لا يمكن النقاش حول السيادة الوطنية السورية على أي قطعة من الأراضي السورية المحتلة، حيث مجرد النطق بغير ذلك تجاوز لعتبة هذه الوطنية السورية. الغريب أن هذه النزعة تجمع بين ذوي النزعة القومية العربية والإسلاموية في المعارضة السورية، مع طيف من المعارضين الشكلانيين للنظام السوري الذين يبحثون عن أي «مسمار حجا» ليبنوا عليه رفضهم الانضمام إلى المتن الأوسع والأكثر موضوعية من المعارضة.

مقابل الرفض المطلق هذا، لم ولن يُصدر هؤلاء أي طرح أو تصور عن مستقبل هذا «التشابك العقيم» السوري الإسرائيلي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وعن دوره في تمتين الاستبداد وابتلاع الدولة السورية، وإلغاء المجتمع والحياة العامة في سورية. لا يقولون شيئاً عن الاحتكار المفرط للنظام السوري لشكل من تنميط التعاطي مع «المسألة الإسرائيلية» وابتزازه بها، وعن مدى تشابه رفضهم المطلق هذا مع موقف النظام المانع أيَّ مدوالة وطنية عمومية في مسألة يجب أن تخص جميع المواطنين.

هل طرح اللبواني سطحي وفردي؟ ربما. لكن الرفض هذا يطاول جوهر نقاش المسألة كما يطاول حق السوريين المطلق في مناقشة جميع شؤون بلادهم، ولا يمكن أي طرف أن يحتكر أي شأن كاختصاص لذاته فحسب، على ما كان بالضبط يفعل النظام السوري لعقود.

قسم آخر من منتقدي طرح اللبواني، يرفضونه باعتباره يمنح النظام السوري مجالاً واسعاً للإيحاء بأن الثورة والثوار السوريين عبارة عن أدوات إسرائيلية، وأنه يستطيع بذلك أن يفصل قسماً من المجتمع السوري عن الثورة. وإلى الاستبطان العميق لعدم الثقة بالذات، فإن نقداً سياسياً كهذا يرسخ الأسطورة السلطوية في سورية، تلك المبنية على ادعاء النظام أن جوهر شرعيته قائم على «مقاومته» لإسرائيل. كما أن الحجة نفسها توحي بأن حيزاً واسعاً من المجتمع السوري غير واع ومتنبه إلى طبائع النظام وجوهرانيته، بعد كل ما صنعه من خراب وجرائم، وأن هذا المجتمع يمكن أن تنطلي عليه خطابات ووصاية ذاك النظام. إلا أن جوهر ما تنطق به مثل هذه التبريرات من رفض طرح اللبواني هو استمرار القبول بمستويين من التصارع مع إسرائيل: واحد رومانسي خطابي وطنوي فوقي، نبيعه لمجتمعاتنا «البربرية» و «الجاهلة» كي نكسبها، وآخر واقعي وعقلاني وموضوعي، يجب علينا كتمانها والاحتفاظ به، رهبةً ومسايرة.

جزء أخير، أكثر ادعاء للاتساق والعملانية و «العقلنة»، ذهب إلى رفض طرح اللبواني، كون مسألة التصارع مع «العدو» الإسرائيلي استراتيجية وتاريخية وهوياتية، لا يمكن المساومة عليها في حالة «استثنائية» و «عابرة» و «داخلية» كالتي تحصل في سورية اليوم. ومع إدانة جميع سياسات الكيان الإسرائيلي وممارساته بحق الدولة والمجتمع السوري، لا يمكن في أي شكل مقارنة ذلك بما يمارسه النظام السوري، وهذا بموجب معايير تعتبر الدماء والآلام الإنسانية واحدة، ووفق كل منطق يرى بذهن غير مؤدلج ما يمكن أن يتركه هذا الخراب العميق في المجتمع والمدن والأرياف السورية. ويبدو قياس ما هو استراتيجي على ما هو تكتيكي، هنا، بالغ الاستهتار بآلام الآخرين، طالما أن من يقيس يعتقد في خبيئة نفسه أن ثمة أوجاعاً تفوق ما يطاول السوريين راهناً، وطالما يعتقد أن الاعتبارات الأيديولوجية أهم وأرفع منزلة من آلام البشر، أبناء مجتمعاتهم.

يمكن قول الكثير عن طرح اللبواني، سياسياً وتنظيمياً ومنطقياً، ويمكن اعتباره ساذجاً وسطحياً وغير ذي معنى، وهو بأكثر من اتجاه يبرز ما يعيشه السوريون من سوء انتظام وارتجال، كما أنه يعبر عن مدى ما يشعر به السوريون من خذلان من كل قوى العالم. وباختصار، يمكن قبول طرح اللبواني كما يمكن رفضه سياسياً. لكن ثمة شكلاً من الرفض «الإطلاقي» يكشف بوضوح ذاك العمق الذي حفرته سنوات استبداد النظام وابتزازه، سياسياً وثقافياً.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى