صفحات الناس

عن “عمران” صورة الطفل السوري المدمى التي هزت العالم –مقالات مختارة-

 

عن عمران وتلك الصور النظيفة/ بيسان الشيخ

تتراوح الخيارات المتاحة أمام السوريين بين مصير الطفل الحلبي عمران، الذي نجا بأعجوبة (حرفياً) من قصف النظام السوري وحليفه الروسي المركز على أحياء المدينة، والطفل الكردي إيلان الذي قضى على شاطئ تركي فيما عائلته تحاول الهرب من جحيم «داعش». ذلك الخيار الصعب لخصه رسم «كاريكاتور» انتشر فور شيوع صورة الطفل الواقع تحت هول الصدمة: البقاء يعني عمران، والرحيل يعني إيلان.

والحال ان صورة عمران فعلت بالأمس تماماً ما سبق لصورة إيلان ان فعلته قبل عام. استنفار على مواقع التواصل الاجتماعي، جلد للذات واعتذارات بالجملة عن الفشل في حماية الطفولة، عناوين رنانة في وسائل الإعلام المحلية والعالمية، تتمحور في غالبيتها حول الخزي والعار اللذين لطخا جبين الإنسانية، مذيعات نشرات اخبار يجهشن بالبكاء تأثراً، وصولاً الى محاولات «فنية» رديئة لمنح الألم جرعة اضافية.

ومرة أخرى، تثبت صورة ذلك الطفل المذهول في سيارة الإسعاف، اليقين الدامغ ان ما يترك أثراً في المتلقي الغربي، لم يتغير منذ خمس سنوات حتى اليوم، وأن انتظاراتنا نحن في المقابل لم تتغير أيضاً. فهو لا يزال يبحث عن صورة صادمة بنظافتها، ونحن لا زلنا نعول على لحظات عاطفية وإنسانية كهذه لنجذبه إلى طرفنا. أما صناعة القرار العسكري والسياسي ففي واد آخر تماماً.

وإلى ذلك فإن المتلقي الذي تحاول «سورية – الضحية» مخاطبته مراراً وتكراراً، وتتعالى عليه وتكابر حين يتجاهلها، ثم يغمرها الامتنان حين يبدي تعاطفاً، لا يريد ان يرى دماً وأشلاء وجثثاً خصوصاً أذا شوّهها التعذيب. ذلك الآخر يريد صورة نظيفة هادئة، لا عويل فيها ولا صخب. صورة يريحه عجزه حيالها، ويريحنا انه عاجز مثلنا وقادر على ذرف الدموع. طفل مستلق على شاطئ يبدو نائماً، وآخر خارج من تحت الأنقاض، خطفت الصدمة صوته.

ولكن من أين نأتي بتلك الصور لنبقي الآخر متورطاً بقضيتنا ومعنياً بها فيما عمران، كما إيلان من قبله، استثناء في المشهد السوري، لا قاعدة؟

فالقاعدة على ما بتنا نعلم هي كل ما لا يريد أحد ان يراه أو يقر به. القاعدة هي صور سيزار التي تسربت من مصانع التعذيب الممنهج وعرضت في مبنى الأمم المتحدة ولم تحرك ساكناً، وهي التقرير الأخير لـ «منظمة العفو الدولية» الذي وثق كيف يعمل نظام على نزع القيم البشرية عن اعضائه قبل أعدائه، وقبل ذلك شهادات وثقتها «هيومن رايتس ووتش» لأطفال عادوا الى ذويهم مقطعين او لم يعودوا أصلا… وهي الى ذلك اشلاء تناثرت فوق اسطح المنازل وفي الأزقة، وحالات مجاعة واختناق وغرق. تلك هي يوميات «سورية – الضحية» التي يطلب منها تقديم صورة تحدث أثراً من دون ان تقزز او ترعب المتلقي، فيما الواقع مغاير تماماً. الواقع يقول ان «سورية – الجلاد» تحظى بعفو دولي ودعم مؤسساتي يتيح لها ارتكاب كل ما سبق وأكثر والإفلات من العقاب تحت التهديد ببعبع «داعش».

والمعضلة في المقارنة بين صورتي عمران وإيلان، ليس انها تنكأ الجراح فحسب، وتعيد أي نقاش حول سورية الى خانة البداية، ومتلازمة «الخير والشر» المطلقين، بل في ان ذلك الخيار المستحيل هو مصير السوريين كلهم وليس الأطفال منهم فحسب. فمن يريد ان يرى في حالة عمران مجرد «انتهاك للطفولة» (وهي كذلك بلا شك)، فهو يختار ان يعمي عينيه عن واقع شعب كامل فرض عليه ان يختار بين الموت تحت حكم «البعث»/ «داعش»، او الموت متعلقاً بحلم.

تحويل صورة عمران وإيلان وغيرهما الى «حالات انسانية» محضة ينزع عن القضية السورية أحقيتها السياسية، ويحيلها الى مصاف الكوارث الطبيعية أو الأزمات الإغاثية التي تعفي المجتمع الدولي ومؤسساته من مسؤولياته حيالها، وتتيح له الاكتفاء بدور الإطفائي هنا، والمسعف هناك.

صحيح ان التدخل الخارجي كان مرفوضاً في مرحلة ما، وأن الولايات المتحدة اعتمدت سياسة النأي بالنفس عسكرياً في بلدان الشرق الأوسط في عهد الإدارة الحالية رداً على فشل تجربتي العراق وأفغانستان. لكن لا شك في ان هناك قنوات لممارسة الضغط السياسي على عرابي نظام الأسد، روسيا وإيران في ملف القرم وأوكرانيا كما في الملف النووي، لو ان بعض النيّات كانت موجودة. لا شك في أن هناك «فيتو» روسياً يمنع إحالة الأسد على محكمة دولية ويحميه من المحاسبة، يحظى بقبول دولي ولا يحكمه فقط إذعان الدول الأعضاء لقوانين عمل واحترامهم لها. أوراق كثيرة لم يتم استخدامها حماية لمنظومة أممية وحفظاً لماء وجهها ان لم تكن لحماية شعب كل ذنبه انه خرج يطلب حقه في الحرية والعيش الكريم.

بالأمس نجا عمران. لكننا لا نعرف ان كان سينجو غداً من جولة قصف مقبلة. فعدا إحراق المراكب التي قد تحمله الى شاطئ أمان ما، ليغدو مشكلة أوروبية لا شرق أوسطية، لا بوادر لقرارات سياسية تحميه داخل سورية من ان يتحول قريباً لصورة لا يرغب في مشاهدتها أحد.

الحياة

 

 

 

دماء عمران وقذائف بوتين/ الياس حرفوش

مرة جديدة، احتاج هذا العالم الغافي الضمير الى صورة طفل في الرابعة من عمره يمسح بيده البريئة وجهه الذي أنعمت عليه قذائف فلاديمير بوتين وبشار الأسد بالدم بدل الحليب ولقمة الغذاء.

احتاج العالم الى هذه الصورة ليتذكر أن هناك ضحايا يسقطون في هذه الحرب التي يشنها الأسد وشركاه على الشعب السوري. ومثل صورة الطفل إيلان، الذي رأى العالم جثته ممدّدة على أحد شواطئ تركيا، ها هي صورة عمران، الذي نجا من القذيفة التي أسقطتها «السوخوي» الروسية بدقة متناهية على منزل والديه، تهز ضمير العالم لبضع دقائق، قبل أن يتحول «الريموت كونترول» الى قناة أخرى ومشهد آخر، ليتابع أخبار المفاوضات التي تجري للوصول الى ما بات معروفاً بحل الأزمة السورية، هذا الحل الذي لا يتحقق إلا بالتعاون مع السفاحين الذين يرتكبون هذه المجازر، ثم يتحدثون عن «هدنة انسانية» لإدخال المساعدات.

لم يكن عمران في حاجة الى مساعدات قبل أن يأتي بوتين بقذائفه الى حلب لإنقاذ الأسد من الانهيار، بعد التقدم الأخير الذي أحرزته المعارضة. عندما ولد عمران كانت الحرب السورية في بداياتها، ومثلما كان بشار الأسد يجهّز سورية للموت والدمار، كان أهل عمران يجهّزون طفلهم لموعد مع الحياة، متناسين أنهم يعيشون في بلد محكوم بشعار «أحكمكم أو أقتلكم».

لم تكن قذائف بوتين التي كانت تنطلق من حميميم ومن القواعد الروسية، تحصد العدد المطلوب من الضحايا. لذلك استنجد الرئيس الروسي بأصدقائه الإيرانيين، الذين لا يتأخرون عن تلبية خدمات من هذا النوع، وطلب منهم استخدام قاعدة همدان، التي يمكن منها تحميل المقاتلات بكمية أكبر من القذائف، ما يوفر على الخزينة الروسية نفقات الرحلة الطويلة، ويقوم باللازم من حيث عدد الضحايا المطلوب القضاء عليهم.

المعنى الأهم لانطلاق المقاتلات الروسية من قاعدة همدان لقصف مواقع المعارضة في سورية، ليس فقط في مدى استعداد بوتين لإغراق جيشه في دم السوريين، بل هو يكمن فوق ذلك في مدى استعداد إيران للذهاب بعيداً في خياراتها الاستراتيجية من أجل الحفاظ على نظام بشار الأسد ومنعه من السقوط.

فإيران، ومعها كل الميليشيات التي استوردتها الى الأرض السورية لحماية الأسد، لم تعد قادرة بمفردها على القيام بهذه المهمة، وهو الأمر الذي استدعى التدخل الروسي في خريف العام الماضي، واستمر هذا التدخل على رغم إعلان بوتين في مطلع هذا العام أن مهمة قواته في سورية قد انتهت وصار ممكناً تخفيف التدخل هناك.

فللمرة الأولى منذ الثورة الإسلامية سنة 1979، تنطلق مقاتلات غير إيرانية من قاعدة عسكرية إيرانية. هذا أمر لم يحصل حتى في عز الحرب العراقية – الإيرانية التي وصل خلالها النظام في بعض مراحل تلك الحرب الى حافة السقوط، ما اضطر الخميني في آخر الأمر الى «شرب السم» لإنقاذ الثورة التي كان قد أطلقها قبل تسع سنوات.

حتى وكالة «فارس» التابعة لـ «الحرس الثوري»، اعترفت بأنها المرة الأولى التي تستقر فيها الطائرات الروسية في إيران «من أجل تنفيذ عملية عسكرية في بلد أجنبي». وسارعت القيادات الإيرانية الى تأكيد أن هذه العملية موقتة ولن تؤدي الى إقامة دائمة، ورد رئيس «مجلس الشورى» علي لاريجاني على انتقادات عدد من النواب لفتح القاعدة للروس بالقول أن إيران لا تنوي منحهم قاعدة عسكرية. غير أن تطورات الحدث السوري وعجز نظام بشار الأسد عن حماية نفسه بعد اليوم، سيجعلان الحاجة ضرورية الى إقامة روسية دائمة في قاعدة همدان، مثلما هي الحال في قاعدة حميميم في سورية.

على دول المنطقة أن تعد نفسها لصفحة جديدة من التعامل مع روسيا ورئيسها. موسكو تعتبر منطقة الشرق الأوسط ساحة أخرى لمواجهة المصالح الغربية، وللرد على العقوبات المفروضة عليها بعد ضمّها شبه جزيرة القرم. من هذا المنطلق، يجب النظر الى العلاقات الروسية المتطورة مع إيران. وفي ظل الانكفاء الأميركي الحالي، يصبح هذا التحالف بالغ الخطورة على أمن دول المنطقة ومصالحها، وليس ما يضمن أن يبقى محصوراً بسورية وبحماية بشار الأسد.

الحياة

 

 

 

عمران.. الواقع يتحدّى الخيال/ معن البياري

بقي المصري أكثم سيد تحت الرّكام، ثلاثة أيام، بعد الزلزال الذي ضرب القاهرة في 1992. وتحت الأنقاض، ماتت بالقرب منه ابنته وأمه وزوجته. ولمّا انتُشل حيّاً، قال طبيبٌ عالجه في المستشفى، إنه “مهدّدٌ بفقدان حاسّة الاندهاش”. … تُرى، أيّ الحواس لدى الطفل السوري، عمران، كنّا ننتظر أن يُبدي شيئاً منها، ونحن نحدّق فيه، منتَشلاً للتوّ من بين ركامٍ أحدثه قصفٌ في حلب؟ لم يبدِ استغراباً من أيّ شيء، أو أيّ استهجانٍ من الدم المغبرّ على وجهه وبدنه. لم يشعر بحاجةٍ إلى البكاء، لا شيءَ بدا له غير عادي، لا القذائفُ ولا الهولُ الذي كان فيه، ولا الموتُ الذي دنا منه، ولا كل الأزيز في مسامعه. عمره خمس سنوات، هي سنوات دويّ الصواريخ والبراميل المتفجرة، كما اختار نظام الأسد وحلفاؤه أن تكون، منذ قلْع أظافر أطفالٍ في درعا، كان بعضهم في عمر عمران الآن. ما الجديد، إذن، يستحقّ أن يُحسب جديداً، يأنس فيه عمران طارئاً غريباً صار حواليه، فيبكي بسببه؟ بكى فقط في المستشفى لمّا شاهد والديه، لم نظفر بصورةٍ لمشهده هذا. هل كان بكاءَ فرحته بهما؟ هل أصابه اندهاشٌ ما لمّا رآهما؟ لا نعرف، ولا ضرورةَ لأن نعرف. يرمينا عمران، أو صورته الشهيرة على الأصح، باستفهامٍ مستجدٍّ عن الخوف، ما هو بالضبط؟ لا ينفع البحث الكلاسيكي، هنا، في جلاء معناه، لأن عمران لم يُظهر خوفاً. اكتفى بتفرّجنا عليه، ثم استيقظت، في المستشفى، حاجتُه إلى الحنان، لمّا رأى والديه، وهو الذي ربما استشعر خوفاً من فقدانه، إذا ما قضيا، ربما.

كتبتُ في صحيفةٍ زميلةٍ، قبل نحو أربعة أعوام، إن المحنة السورية الماثلة تتحدّى مخيلات الأدباء وقرائحهم، إذا ما أرادوا التعبير عنها في رواياتٍ ومسرحياتٍ وقصص وقصائد. ذلك أن وقائع غير قليلة، في أتونها، فرديةً وجماعيةً، تكاد تنتسب إلى ما هو فوق واقعي، لو مرّت في خواطر أديبٍ قدير، وبادر إلى تمثّلها في نصّ إبداعي، ربما كنا لن نتسامح مع “شططه”، ومع اختلالٍ حادثٍ لديه في معرفة وظيفة الخيال، عندما ينشغل بالتعبير عن حوادث الواقع المعلومة وتفاصيلها. وهذا الطفل عمران يبدو قادماً من خيالات بورخيس، لا منتشلاً من بين أنقاض واحدةٍ من مآثر السوخوي في حارةٍ في حلب. ولكن، أنجز روائيون وشعراء ومسرحيون ومغنون ورسامون سوريون كثيرون أعمالاً إبداعية، بعضها له أهميته الخاصة، نوري الجراح وبشير البكر في الشعر، مها حسن وخالد خليفة وفواز حدّاد وعبدالله مكسور وسوسن جميل حسن ونبيل سليمان في الرواية، سميح شقير في الغناء، وهذه أسماءُ ترد هنا للتمثيل، فثمّة غيرُهم، أيضاً، تستحق أعمالهم انتباهاً واجباً.

يقول بشير البكر في “عودة البرابرة” (بيروت، 2014): حين استفاق السوريون/ ظنّوا أنهم ماتوا/ أكثر مما ينبغي/ وما عليهم/ غير أن يفتحوا النوافذ/ لكنهم لم يَحسبوا/ حساب كوابيس الدم/ وكم من مجزرةٍ في انتظارهم. ويقول في أخرى: لا حاجة لنا/ كي نحفر قبورنا/ طالما أن الحرب لم تنته./ بانتظار مزيدٍ من المجازر/ تحتّم علينا أن ندفن الخوفَ/ بوقار من يرقدون/ تحت الترابِ/ منذ زمن بعيد.

ويقول نوري الجراح في “يأس نوح” (بيروت، 2014): أيها الموتُ/ يا موت/ لا أنادي سواكَ/ لأنك أنت عدوّي الذي ما أحبّ سواي. ويقول في قصيدةٍ أخرى: العين الغريقةُ/ في صورةٍ/ اغرورقتْ بالدم/ خذ هذه الصورة من عيني، وخذ جرح العيْن.

تنشغل هذه المقاطع للشاعريْن بالموت والحطام السوريين، فيها ظلالٌ للطفل عمران، لصورته وجرح عينه، ولاستفاقته والخوف الذي غاب منه. فيها حضور للدم السوري الكثير الذي بلا حساب. وفي الوسع أن يُقال، هنا في مناسبة اندهاشة عمران الغائبة، إن امتحاناً ثقيلاً يعبُر إليه أهل الأدب والفن السوريون، عنوانُه هذا التحدّي الصعب الذي تختبرهم فيه نوازل الراهن السوري التي تتجاوز سقوف الخيال، وتحضر فيها كل ألوان الواقعية، السحرية والتقليدية والعبثية، متوازية مع كسرها كل عجائبية وخوارقية مرّت في ثقافاتٍ سالفة، وما صنعه الطفل عمران قدّامنا، لمّا بحلقنا فيه، مقطعٌ كاشف في هذا كله .. وغيره.

العربي الجديد

 

 

 

 

لأن الكاميرا كانت هناك/ د. حسن مدن

بدا العالم مبهوتاً أمام صورة الطفل عمران ذي السنوات الخمس الذي أخرج من تحت ركام مبنى دمرته القاذفات الحكومية في حلب، وقد علت وجهه المغطى بالغبار والدماء تعابير الصمت البليغ وهو جالس على مقعد في سيارة الإسعاف يتحسس جراحه.

ونُقل، فيما بعد، عن الممرضة التي عالجت الطفل أنه لم يبك أثناء تلقيه العلاج، ولم يقل أي كلمة ما عدا السؤال عن والديه اللذين تم إنقاذهما بعده، وبمجرد أن رآهما بدأ بالبكاء.

كم من عمران تحت الركام في حلب وفي المدن السورية الأخرى، وفي مدن وبلدات عربية أخرى منكوبة بالحروب؟ وكم من الأشلاء الممزقة التي أمكن انتشالها من تحت الأنقاض بعد أن فاضت أرواح أصحابها، فيما بقيت أشلاء أخرى ملتصقة بالحجر المدمر، ومطمورة تحت ركامه الذي لم يكن بوسع فرق الإنقاذ بلوغه؟

أسئلة موجعة يثيرها الفيديو الموجع للطفل عمران، الذي شاءت الأقدار أن تكون هناك كاميرا صورته وهو في تلك الحال من الصدمة المروعة، لكن الكاميرا لا تكون هناك دائماً، وكم من المآسي والفواجع اليومية التي لا نراها، لأن الكاميرا وأصحابها عاجزون، أو ممنوعون، من أن يصلوا إلى مكانها.

كم عدد الأطفال الفلسطينيين ممن هم في عمر محمد الدرة، الذي رأى العالم كله جريمة قتله في بث مباشر على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، يقتلون بذات البشاعة والفظاعة، لكن لا كاميرا هناك توثق قتلهم، وحين يأتي الخبر في نشرات الأخبار يبدو محايداً وبليداً عن قتل مدنيين، بينهم، أطفال، لكن العالم لن يعرف ولن يسمع بأسمائهم، ولن يكون بوسعه تخيل الطريقة البشعة لقتلهم، لأن هذا العالم ألِف أخبار القتل في البلدان المبتلاة بالاحتلال والبطش والطغيان.

يصعب عد القرى التي حرقها الجنود الأمريكان وعملاؤهم في فيتنام، وعد آلاف البشر الذين حرقتهم قنابل النابالم محرمة الاستخدام، ولكن صورة واحدة للطفلة الفيتنامية كيم فان التقطها المصور نيك أوت عام 1972 هزت العالم، حين أظهرتها وهي تجري عارية في اتجاه الكاميرا وهي تصرخ من آلام احتراق جسدها.

بعد عدة سنوات صرحت الفتاة بأنها كانت تصرخ باكية: «ساخن جداً.. ساخن جداً». في حينها شكك الرئيس الأمريكي نيكسون في صحة الصورة، تماماً كما يفعل القتلة في كل مكان حتى الساعة.

الطفلة لم تمت كما مات محمد الدرة، ظلت شاهدة على جريمة ضد شعب بكامله. والطفل عمران خرج حياً من تحت الركام، وسيأتي يوم يكبر فيه ويصبح رجلاً، ليدلي بشهادته عن مرحلة سوداء في تاريخ وطنه الذي تكالبت عليه غربان القتل والموت من كل فج عميق.

* د. حسن مدن كاتب من البحرين

المصدر | الخليج – الشارقة

 

 

 

صورة عمران/ حسام كنفاني

ست وثلاثون ثانية أعادت اختصار المأساة السورية وتقديمها للعالم من جديد. ثوانٍ جلس خلالها الطفل عمران في سيارة الإسعاف في حلب صامتاً، وقد غطّاه الدم والركام، بعد غارة من طيران النظام والروس على منزله في المدينة. لم يبك، لم يصرخ، ربما علم أن لا فائدة ترتجى من ذلك، قرّر الصمت والتفرّج علينا، نحن المتفرّجين المصدومين من هول المشهد. اكتفى بالنظر إلى الكاميرا المصوّبة باتجاهه، محاولاً تبيان ما حصل معه، وكيف وصل إلى المكان الذي هو فيه.

صدمة عمران حرّكت الإعلام العالمي، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالفيديوهات المنقولة عن كبرى وسائل الإعلام، وعن المذيعين الذين يبكون على حال الطفل الصامت. موجة من التفاعل لن تستمر أكثر من أيام، سيغيب بعدها مشهد الطفل عن التداول، تماماً كما نُسيت صور الكثير من الأطفال والبالغين الذين لفظوا أنفاسهم تحت الأنقاض أم بفعل الغارات الجوية أو التفجيرات الانتحارية. أيام أو أسابيع قد تمضي قبل أن يعود الإعلام ليتذكر المأساة السورية عبر صورة لطفل آخر، أو مشهد رعب آخر. هكذا كان الحال حين ظهرت صورة جثة الطفل إيلان على الشاطئ التركي، أو وجه تلك الطفلة الخارج من تحت الأنقاض في حلب، وأخيراً صدمة عمران.

سلسلة من الصور تختصر مخاطر الحياة لدى السوريين، بين البقاء في البلاد أو مغامرة الفرار عبر البحر. في الحالتين، المأساة واحدة. إيلان كان جزءاً من مشهد يعبر عن وضع الذين حاولوا النجاة بأنفسهم من الجحيم السوري. هو لا يشير فقط إلى أولئك الكثر الذين ابتلعتهم مياه البحر المتوسط، بل حتى الذين وصلوا إلى بر الأمان، ولم يجدوا هناك أماناً، فغرقوا في متاهة معاناة جديدة تأخذ شكلاً مختلفاً. إيلان الغريق الذي هزت صورته العالم، هو جزء صغير من مشهد أوسع لم تلتقطه عدسات الكاميرات، وبقي مخفياً خلف الكواليس. هناك سوء حظ رافق آلاف الغرقى الذين لم يتسنَّ لهم تسجيل موتهم عبر وسائل الإعلام، وبالتالي نيل التعاطف المؤقت من العالم. هم ماتوا ومروا في الإعلام كأرقام ليس أكثر. الأمر نفسه بالنسبة إلى مئات آلاف اللاجئين الذين لم يوثّق الإعلام نحيبهم وهم يحاولون تخطي الحدود باتجاه ما كانوا يظنونه برّ أمان. قليلون فقط كانوا محظوظين، وحظوا بقدر من التعاطف أيضاً.

إذا كان هذا حال من تمكنوا من الخروج، أو حاولوا ذلك، فإن وضع من هم في الداخل أسوأ كثيراً، ولا سيما أن الكاميرات الصحافية محدودة، وبالتالي فالتغطية قاصرة. صورة عمران قد تكون استثناء في مشهد متفجر من كل صوب. ربما يكون التركيز في المرحلة الأخيرة على حلب باعتبارها ساحة معركة الحسم، لكن الموت السوري لم يقف عن حدود الشهباء، فهو متنقل بين بلدة وأخرى، من إدلب إلى منبج، وغيرها كثر من المناطق. موت بأشكال متعددة، أيضاً لم يأخذ حصته من التفاعل العالمي.

عمران لا شك محظوظ، بالنظر إلى آلاف الأطفال السوريين الآخرين. هو أولاً تمكن من النجاة من الغارة الهمجية التي استهدفت منزله، وكانت له الصورة التي باتت من الأشهر في سورية. مثل هذا الأمر لم يتأمن للكثير من الأطفال الآخرين الذين أيضاً مروا في الإعلام كأرقام بدون الكثير من الدموع العربية والعالمية. الدموع اقتصرت على أحبائهم ومن يعرفهم.

هذا الحال سيستمر طالما بقيت المحرقة السورية قائمة. محرقة أصبحت شبه منسية من قبل العالم الذي استيقظ الآن مصدوماً على مشهد عمران، وكأنه لا يعلم بأن أطفالاً كثيرين آخرين يسقطون يومياً في سورية وغيرها. صدمة ستذوي مع الوقت، على عكس المأساة التي لا تتوقف عن التوسع.

العربي الجديد

 

 

 

 

سرّ قوة صورة الطفل عمران

اجتاحت صورة الطفل السوري عمران دقنيش مواقع التواصل الاجتماعي كما الإعلام. لقيت هذه الصورة تفاعلاً كبيراً رغم أن يوميات سورية لا تخلو من مشاهد قاسية. لذا حلل ثلاثة مصوري حرب مكامن القوة في صورة هزت العالم، حتى يتعرفوا على سرها.

وشارك في تحليل الصورة لصحيفة “ذي إندبندنت” كلاً من المصورة الأميركية نيكول تونغ التي كانت برفقة جيمس فولي، الصحافي الذي كان خطفه وأعدمه تنظيم “داعش”، ومدير التصوير في وكالة “فرانس برس” في تركيا، بولنت كيليك، والذي أشرف على خدمات تصوير في كل من أوكرانيا وسورية، ثم المصورة إما بيلز، وهي نصف بريطانية غطت بعدستها الأحداث في سورية منذ 2012.

وقالت تونغ إنها أمضت وقتاً في المستشفيات السورية وشاهدت حالات مشابهة لأطفال لا يبكون من هول الصدمة، فهم تعرضوا لصدمة كبرى، فقد تعرض آباؤهم للقتل، ووجدوا أنفسهم ضحية قنبلة.

وأشارت إلى أن صورة الطفل عمران كان لديها التأثير الأكبر على البالغين، وخصوصاً الآباء. إذ يضعون أطفالهم مكان عمران. طفل بريء كان من المفروض أن يلعب مع أصدقائه الآن بدل أن يكون ضحية حرب. وهو ضحية عنف بشري كبير، ما يجعل الأمر صادماً.

وأكدت المصورة أن الصورة ليست أسوأ ما شاهدت، إذ تصادفت مع أطفال برؤوس مقطوعة وأطراف مفقودة. لكن وسائل الإعلام تفرض رقابة على هذه الصور حتى لا يهرب منها الجمهور. ووصفت ذلك بالمحبط لأنه لا يسمح بإظهار الحقيقة كما هي. أما صورة الطفل عمران فلم تكن دموية بشكل مبالغ فيه، لذا استطاع الناس مشاهدتها وتأملها.

واتفق كيليك مع تونغ في كون قوة الصورة تكمن أساساً في أن البالغين يضعون أبناءهم مكان عمران. وأكد أن الصورة كانت قوية حتى عليه شخصياً.

وتابع كيليك أن الصورة تصبح هامة حين يتخيلون أن أبناءهم كانوا من الممكن أن يكونوا موتى على شاطئ أو جالسين في سيارة إسعاف كما شاهدوا أيلان وعمران في التلفزيون. وتابع مشيراً إلى لمس دقنيش لوجهه، وهو لا يعرف ما الذي جرى له. وقال إن الضوء والوجه والتماثل كانت كلها لمسة إلهية جاءت بالصدفة دفعة واحدة.

وتساءل كيليك عن التأثير الحقيقي لهذه الصورة، فالصور التي يتم أخذها يكون هدفها أساساً أن تكون قوية حتى تؤثر على قرارات المسؤولين. واستبعد أن توقف الصورة الحرب.

وضمت إيما بيلز صوتها إلى صوت زميليها المصورين، معتبرة أن أقوى ما في الصورة هو أن الآباء وضعوا أبناءهم مكان عمران.

ولم تخرج بيليز عن مكان القوة التي توصل إليها المصوران. فالتفاصيل الصغيرة كانت هي منبع القوة، من ارتباك الصغير عمران وصدمته الواضحة والطريقة التي مسح بها دمه عن رأسه، وعينه التي غطاها الدم ووجهه الذي غطاه الدم والغبار.

وأكدت بدورها أن الصورة، رغم قوتها، تظل بدون تأثير. فليس من المفروض مناقشة الصورة بطريقة عاطفية لوقت قصير ثم ينتهي الحديث، بل من المفروض أن يكون النقاش هو حول وضع حد للحرب.

(العربي الجديد)

 

 

 

لغة الممانعة.. قاتلة الأطفال/ وليد بركسية

لا تشكل تغريدات مراسل قناة “العالم” الإيرانية في سوريا، حسين مرتضى، عن صور الطفل عمران دقنيش التي شغلت الإعلام العالمي والمحلي منذ أمس، موقفاً شخصياً فقط، بل هي جزء من موقف عام شديد العنصرية، انتهجه إعلام الممانعة والمؤيدون للنظام السوري، إزاء القضية.

وكتب مرتضى في “تويتر”، مرات عديدة، متهماً المعارضة أولاً بتزوير وفبركة مشهد إنقاذ عمران من بين الأنقاض، معتبراً الفيديو سينمائياً بقوله: “طفل مصاب أخرج من تحت الركام كيف قعد ع الكرسي وكيف تركوه كيف مكسر جسمه ومجروح بس ما عم يبكي عجيب”، قبل أن يطلق مواقف تبرر عملية القتل بحق المدنيين حتى لو كانوا أطفالاً كعمران، ومن قبله إيلان الكردي الذي خصه بتغريدة، مستهجناً التعاطف العام مع الطفلين بوصفهما إرهابيين أو ولدَي إرهابيين في احسن تقدير!

غاب عن مرتضى تأثير الصدمة النفسية على طفل لا يتجاوز عمره الخمس سنوات. فهو بإيمانه بوجود حرب مقدسة في البلاد انطلاقاً من أفكار دينية، لا يبالي بالمأساة الإنسانية للحرب التي تفقد بشاعتها عنده، ويصبح كل شيء مباحاً من منطلق “الغاية تبرر الوسيلة”. وتصبح المقارنات والتلاعب بالكلمات مثل هوية القاتل والضحية، مجرد وسائل لغوية لتبرير العنف والجرائم ضد الإنسانية، التي يرتكبها النظام السوري وحلفاؤه في حلب، أو مناطق أخرى من البلاد طوال السنوات الماضية.

والحال أن هذا الموقف اللاإنساني تجاه الطفل عمران ليس جديداً. ففي كل مجزرة يرتكبها النظام السوري وحلفاؤه تخرج صور تبرز مستوى العنف وتأثيره على الأطفال والمدنيين في البلاد، لكن الممانعين وإعلامهم يميلون للإنكار والتكذيب وصولاً للشماتة والتشفي، ويعمدون فوراً إلى المقارنات.

إثر انتشار صورة عمران، التي هزت ضمير العالم، تفاعل هؤلاء في “تويتر” تحت هاشتاغ #جرائم_المعارضة_في_حلب، الذي تداوله موالون للنظام السوري بشكل واسع، في رد منهم على الصدمة التي أحدثتها صور عمران في الميديا العالمية، علماً أن إطلاقه يرجع لأفراد في الجيش السوري الإلكتروني، وهو جماعة القراصنة “هاكرز” التابعين للنظام السوري، والمولين مباشرة من رئاسة الجمهورية.

ويتجاوز الهاشتاغ البُعد العنصريّ بكل ما يحمله من شر، نحو الوحشية المطلقة ضمن “صراع الوجود”: إما نحن أو أنتم! تكرر التغريدات مرة بعد مرة، و”لا توقف عن قتل أطفال حلب قبل طرح هدنة في قريتي كفريا والفوعة”!، وكتب أحدهم من دون مواربة: “لستم اميركا ولسنا كالهنود الحمر فسوف تهلكون عن آخركم انه تصفية الحساب العتيق من ايام الرسول واﻷئمة ولن تفلتوا من العقاب”.

التحريض على العنف ولغة الكراهية هي الأدوات التي يقوم عليها خطاب النظام السوري في حربه على مدينة حلب، بالتوازي مع الحرب الفعلية على الأرض. لا وجود للف والدوران ولا لإنكار الجريمة، بل يصبح التباهي بها ضرورياً لكونه “يحقق هدفاً من أهداف الحرب على الإرهاب”. ولا يهم هنا أن تكون التبريرات مقنعة كما يبدو، بقدر ما هي محاولة خلق سياق ما لمعنى الحرب، يبرر كم الهمجية أمام جمهور الموالين ضمن سياق البروباغندا التقليدية.

في ضوء ذلك، يتجه الموالون للنظام من تكذيب الصورة كما هو المعتاد، نحو تبريرها. فالمعارضة برأيهم إرهابية بالمجمل وجرائمها تستوجب الرد “من قبل الأحذية العسكرية”، أما سقوط الأطفال مثل عمران فهو مجرد نتيجة جانبية “سايد إيفيكت” لا بد منها في الحروب، وإن كان ذلك مؤسفاً، كما يضيف القليل منهم على مضض، “إلا أنه ضروري”، مع التأكيد أن المجرم في هذه الحالة ليس طيران النظام وحلفاءه بل المعارضين الذين يستخدمون الأطفال كدروع بشرية، في أكثر خيالات الممانعة بعداً عن الواقع وإثارة للسخرية!

وهكذا، تنتشر صور لأطفال سوريين في مدينة حلب، مع إضافة شعارات تنظيم “داعش” إليها عبر “فوتوشوب”، إضافة لصور أخرى تظهر تجنيد الأطفال في حلب من قبل فصائل إسلامية (النصرة، المحيسني، ..)، وهي الحالات التي يستنكرها المعارضون بشكل دائم، والغرض منها هنا تبرير عنف النظام تجاه المدنيين بتصويرهم كمتطرفين حاملين للسلاح يستحقون الإبادة الشاملة عبر سياسة الأرض المحروقة!

في هذا السياق، ووسط كم التغريدات العنصرية المخيف، لا يشكل موقف مرتضى سوى تأكيد على الخطاب المقيت الذي تنتهجه أجهزة الإعلام الممانعة وجمهورها على حد سواء، والذي لا يمكن أن يتغير نحو مزيد من الإنسانية، مهما كان حجم الحدث، لأنه يفتقدها أصلاً.

المدن

 

 

 

لماذا حرّك عمران عواطف الأميركيين وإعلامهم؟/ حسين عبد الحسين

في خلال خمس سنوات، هي عمر الثورة السورية، خرج السوريون اشلاء او بعض اشلاء من تحت الركام. أطفال من دون رؤوس، أمهات تحجّرن وهن يعانقن أولادهن، مسنون يبكون وهُم يعاينون المنقذين الذين فتحوا كوة في الركام.. يد من هنا، رجل من هناك… رأس. لم تُثر أفظع أنواع الصور، حفيظة الأميركيين، الذين كانوا يطالعون صور المجازر في سوريا، فتتراءى لهم صور جنودهم العائدين من العراق في توابيت ملفوفة بالأعلام الأميركية، أو الجنود الذين كانوا أكثر حظاً فعادوا أحياء، لكن بعدما بترت أيديهم أو أرجلهم.

بين الحين والآخر، كان بعض صور الموت السوري يجد طريقه إلى الإعلام الأميركي، الذي قدمها بخجل. صورة الطفل عيلان الكردي، الذي لفظه البحر واستلقى ميتاً على شواطئ تركيا، حرّكت بعض الضمير الأميركي. لكن صورة عيلان كانت ملائكية. فابن السنوات الثلاث بدا نظيفاً لماعاً، وبدا نائماً بسلام وأمواج البحر تتلاطم خلفه. ثم إن المسؤول عن موت عيلان لم يكن واضحاً. صحيح ان عائلته فرّت من جحيم الحرب السورية، إلا أن موته كان نتيجة غير مباشرة للحرب. خلف موت عيلان الملائكي، مجموعة من العوامل، منها الحرب السورية، ومنها جشع تجار الموت من المهربين الذين يحملون اللاجئين السوريين في قوارب لا تتوافر فيها شروط السلامة. صحيح ان عائلة عيلان ركبت قوارب الموت السورية ليأسها، لكنها، بركوبها القارب، قررت المجازفة بأمنها وأمن عيلان، فجاءت النتيجة مفجعة.

ثم جاءت صورة عمران دقنيش، ابن السنوات الخمس الذي أخرجه المسعفون من بيته الذي تعرض للقصف الروسي في حي القاطرجي في حلب. في خلال أكثر من عقد منذ هجرتي إلى الولايات المتحدة، ومعاصرتي لأميركا والأميركيين في زمن سادته الحروب وتصدر صفحاته الموت، منذ هجمات 11 ايلول 2001، مروراً بحربي أفغانستان والعراق، فليبيا وسوريا واليمن.. لم يسبق أن هزّت صورة واحدة من كل هذه الحروب، الأميركيين، مثل صورة عمران، التي افردت لها “نيويورك تايمز”، اليوم الجمعة، أربعة أعمدة في أعلى صفحتها الأولى.

في شبكة “سي إن إن”، ومباشر على الهواء، بكت المذيعة كايت بلدوان، أثناء قراءتها للخبر وعرض الصورة، فتحوّل بكاء مذيعة على الهواء الى عنوان آخر تصدر صفحات الصحف الاميركية.

وفي وقت كتابة هذه السطور، كان الأميركيون ما زالوا يدققون في صورة عمران، يحاولون الفهم: كيف يمكن لصورة من هذا النوع أن تجتاح وجدانهم وتسيطر عليه، من دون أن تكون لديهم المقدرة على الإشاحة عنها أو تناسيها؟

أما المفارقة، فتكمن في أن عمران لم يمت، ولم يبكِ، ولم يصرخ. عمران ظلّ جالساً في الكرسي الذي أجلسه عليه المنقذ. عمران كان يحمل دمه على رأسه، ويحمل بيته الذي تحول غباراً على جسده الصغير. جلس صامتاً. حاول مسح الدم الذي على رأسه، بالغبار الذي تبقى من منزله على يديه. ثم نظر في الكاميرا محدقاً. نظرة عمران هذه، هي التي اخترقت الأميركيين في الصميم، وهي النظرة التي حملت شبكة “ان بي آر” شبه الرسمية على التعليق بالقول إن “العالم يحدق في عمران، وهو يحدق في العالم”.

“هل تهتمون لكلب أكثر من لاجئ؟”، كتب المعلق نيكولا كريستوف في “نيويورك تايمز”، قبل انتشار صورة عمران بساعات. وقال كريستوف في مقالته انه وعائلته تفجعوا على موت كلبة العائلة المسنة، والتي كانت تبلغ من العمر 12 عاماً، ليتذكر أن السوريين يعانون، فيما الأميركيون يهتمون لكلابهم أكثر من اهتمامهم لمعاناة السوريين. وتابع كريستوف ان حتى الكلاب تعرف أن “لكل حياة إنسانية قيمة”.

ربما لو كانت قاذفات فلاديمير بوتين الاستراتيجية، التي تقلع من قاعدة نوجا الايرانية وتقصف حلب في محاولة لتحويلها الى غروزني، وتسويتها بالأرض تماماً، لو كانت تؤدي الى قتل آلاف الكلاب والقطط، لربما أبدى الاميركيون والغربيون اهتماماً أكبر لوقف مجازر بوتين وبشار الأسد في حق السوريين.

لكن الرياح الأميركية بدأت تهب في اتجاه مختلف اليوم. صورة عمران أثبتت بدء تعاطف الأميركيين مع السوريين، وكذلك مقالة كريستوف، وهو من أقصى اليسار (مثل المرشح السابق للرئاسة السناتور بيرني ساندرز). كريستوف كان من معارضي حرب العراق، وهو من معارضي التدخل العسكري الأميركي في اي بقعة من العالم عموماً. فأن يكتب كريستوف إنه يخجل لحزنه على كلبته، فيما السوريون يموتون، يشي بأن المزاج في أميركا بدأ ينقلب، وأن الرئيس المقبل سيتعامل مع الحرب السورية أمام رأي عام تجاه سوريا، يختلف تماماً عن الذي تعامل معه أوباما على مدى السنوات الخمس الماضية.

المدن

 

 

 

 

أيقونة العنف الصامت/ نور أبو فرّاج

صورة جديدة، “تصدم العالم” و”تلهب” مواقع التواصل الاجتماعي،  بطلها عمران دكيش، الطفل السوري البالغ من العمر خمس سنوات، الجالس مدمىً في سيارة الإسعاف، بعد أن تم إنقاذه هو وعائلته من داخل مبناهم  المهدم جراء إحدى الغارات التي استهدفت حي القاطرجي شرق حلب، ليل الإربعاء. مصطلحات مكررة مثل “صدمة” و”غضب ملتهب” لا ترتقي إلى مقام المقدرة الاستثنائية للصورة في تحريك مشاعر من ظنّوا أنهم باتوا منيعين أمام مشاهد العنف.

ثمة في صورة عمران دكيش رمزية ما قادرة على اختراق جدران الخدر العاطفي الذي يحول دون تأثر الرأي العام بعد ما يزيد على خمس سنوات من الحرب. يبدأ المشهد بخروج أحد المنقذين من مبنى محطم وهو يحمل طفلاً صغيراً. يدخله إلى سيارة الإسعاف ويجلسه على كرسيٍ برتقالي اللون، قبل أن يتركه لوحده ويذهب مبتعداً، ربما لمحاولة إنقاذ المزيد من الضحايا. يرتدي الطفل قميصاً قطنياً وسروالاً قصيراً ملوثان بالرمال والدماء.

يجلس عمران مسنداً جسده بالكامل على الكرسي دائخاً من آثار الصدمة، فيما أقدامه لا تطال الأرض. يضع يديه في حجره كطفلٍ مؤدب لا يريد أن يثير الشغب كي لا تعاقبه الحرب أكثر. القوة البصرية للمشهد، تتمحور هذه المرة حول لغة جسد الصغير. هو يجلس ساكناً في سيارة الإسعاف كما لو أن كل ما يحصل حوله أسرع من قدرته على الاستيعاب.  ينظر باتجاه عدسات الكاميرات والمصورين المتجمهرين لإلتقاط صوره بعينٍ واحدة سليمة، فيما تبقى عينه الثانية نصف مغلقة جراء الإصابة.

يكاد لا يعلم أنه الآن محور الاهتمام، فقبل لحظات فقط كان مجرد صغيرٍ تطحنه الحرب تحت أنقاضها. يستوعب الطفل بأن المصورين يركزون أنظارهم عليه وحده، يضع يده على وجهه -حينما يشعر ربما بأن هناك ما يسيل على وجنتيه- ثم ينظر إلى راحة يده المصبوغة بالدماء.  بحركة بطيئة لا إرادية يمسح سطح اليد بقماش الكرسي الذي يجلس عليه.

ربما هي المرة الأولى، التي يشعر فيها بأن عيون الحرب تراه. ما يزيد من وقع المشهد، هدوء الحركات التي يقوم فيها الطفل، فهو، وبالرغم من علامات الهلع البادية على وجهه، لا يبكي ولا يفرط في الحركة. بل يكتفي بالجلوس على الكرسي، كأنه يقول للمصورين، والعالم: “إهدأوا  إنها مجرد دماء!”.

إلتقط مشهد إنقاذ عمران أحد مراسلي قناة “الجزيرة مباشر” محمود رسلان. في مشاهد لاحقة نرى سيارة الإسعاف وقد إمتلأت بطفلين آخرين، يمدد أحدهما على السرير قبل أن تغلق السيارة أبوابها وتتوجه بهم إلى المستشفى. خلال ساعات، تناقلت وسائل الإعلام صورًا جديدة سرّبها الأطباء المشرفين على علاج عمران، ويظهر فيها الصغير مخدراً بضمادة تلتف على وجهه وعينه.

لم تستطع مذيعة “سي أن أن”، كيت بولدون، مغالبة دموعها وهي تسرد قصة عمران وتفاصيل إنقاذه في نشرة الأخبار المسائية يوم الخميس، حيث علّقت مشيرة إلى صورته: “للمفارقة، نحن من نذرف الدموع، وأنا لا أرى دموعه هو، لم يبك مرةً واحدة، مصدومٌ بصورة كاملة”.

تعليقاً على المشهد المؤلم الجديد، تناقل نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي رسالة مفادها أن: “مصير الأطفال السوريين  واحد إن هربوا  أو بقوا”.  ففي غضون ساعات ظهرت أعمال غرافيك تذكر بالطفل إيلان  الكردي الذي قضى غرقاً ووجد جسده على الشطآن التركية، أثناء محاولة أسرته الهجرة إلى أوروبا عبر البحر، فقارن الكثيرون صورته بعمران المدمى المنتشل من بين الأنقاض.

هناك بالفعل ما هو مشترك بين إيلان وعمران، بالرغم من أن أحدهما توفي، والآخر ما زال لحسن الحظ على قيد الحياة. هي السكينة ربما، التي تلف صورة مأساة كل منهما، بعيداً عن الكلام والمهاترات والضجيج. هو الهدوء في توديع هذا العالم، أو إدانته بالنظرات الزائغة التي يسددها عمران لكاميرات المصورين، قبل أن يمسح دماءه بقماش الكرسي.

السفير

 

 

 

عمران.. طفل حلب الذي جعلناه مجرماً/ فرح شقير

راح يمسح الدم عن يديه وينظر إليهما متلفتاً يمية ويسرة. دم. يمسحه بالكرسي الذي، لحسن حظه، لحُسن حظنا، صودف أنه برتقالي اللون، ليخبئ احمرار الدم.

هذه المرّة لم يكن يرقد بسلام على شاطئ، بالقميص الأحمر. هذه المرة، أتاه الأحمر، إلى بيته في حلب، ليلبس الطفل عمران التهمة، وهو بعد في الخامسة من عمره. هذه المرّة تخطينا هذا الخط الذي نعتقد كل يوم أنه لا قعر تحته، لنفاجأ كل مرة بعجزنا لا بل بدناءتنا. هذه المرّة، لم نقتل عائلته فحسب، بلّ قرّرنا أن نلبسه التهمة. لطّخنا يديه الناعمتين بدم عائلته وجعلناه مجرماً.

أراد أن يمسح الغبار عن عينيه. لم يدمع. الأرجح أنه لم يدمع. أو هكذا ظهر لنا، نحن الذين نجلس بانتظار فاجعة جديدة نولول بعدها. لم يدمع ولم يبكِ. انزعج. كل ما في الأمر أنه انزعج وأراد أن يحكّ عينه اليسرى، فألبسناه التهمة. دمك، دم والدتك، دم والدك، دم أخوتك، لا فرق. المهم أنك أنت وحده الملطّخ بالأحمر، وأمام الملايين أو مئات الملايين من المشاهدين. أنت المذنب الوحيد، وقد حاولت أيضاً أن تمسح هذا الدم خوفاً من العقاب. هذه المادة اللزجة التي لم تعرف ماذا تفعل بها، رأيناك تمسحها بهلع. بهلع المجرم، وبهلع إرهابي الغد.

عدت ونظرت إلى الفيديو. مراراً ومراراً. لم يبكِ، لم يصرخ، لم يصدر أي صوت. جلس محدّقًا في مشهد المسعفين والناس يصرخون. بتلقائية، قام بتلك الحركة التي يقوم بها كل الأطفال عندما يمسحون عينهم بكفّهم. أحسّ بتلك المادة اللزجة فأصابه هلع المجرمين، وراح يمسح يديه بالكرسي البرتقالي من دون أن يبكي، من دون أن يصرخ. لم يصدر أي صوت بل راح يمسح يديه بصمت المجرمين.

لا يحتاج دونالد ترامب إلى هذا الفيديو. عرفك منذ لحظة ولادتك، وقال أمام العلن جملته الشهيرة: “سأنظر إلى الأطفال السوريين في عيونهم وأقول لهم إرحلوا إلى بيوتكم”. نعم بيوتهم دمرتها الطائرات ومن يقف خلفها، لكن هذا تفصيل. لكن يا ترامب عمران أصيب في عينه، وإن أردت أن تنظر إليه في العين، فلم يعد أمامك سوى عين واحدة، فانظر فيها جيداً وأخبره بأن يرحل إلى بيته المدمّر، وسيرحل. تأكّد أنه سيرحل. لن يبكي ولن يصرخ ولن يصدر أي صوت، سيرحل بصمت. أعلم أن أطفالكم يبكون، وأن أطفال غيركم يبكون، لكن أطفالنا لن يبكوا. سيقدّمون لكم ولنا مشهداً مسرحياً لا يضاهيه أحد. البارحة رقدوا بسلام على الشاطئ الذي قذف إليه بعيداً من بلدان لا ترحّب بهم، واليوم وبعين واحدة، سيرحلون عنكم بصمت.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى