صفحات الرأي

عن عواقب التلهي بالتراث وأثمانها/ حسام عيتاني

 

 

منذ منتصف السبعينات، برزت مشاريع استنطاق التراث العربي – الاسلامي واستجوابه، مرة باسم المادية ونزعاتها ومرة باسم الأنسنة وساعة لاستنهاض العرب المعاصرين بالاستفادة من دروس التراث واستكشاف كنوزه الدفينة.

تركزت دراسة التراث على القرون الاربعة الاولى بعد الاسلام. أهملت مئات الاعوام اللاحقة مما يسمّى عهد الانحطاط (وهذا مفهوم يجب اعادة النظر فيه)، دراسة قطعت في احيان عن سياقاتها التاريخية والسياسية والاقتصادية، المادية بكلمة واحدة، أو بولغ في نسبتها الى «مادية» مصطنعة على الطريقة السوفياتية ألغت أثر الثقافة والدين والعوامل القبلية.

قُدِّم لنا أبطال ثقافيون كمخلصين من «الردة» الحاضرة كمسكويه وابن رشد بل الشافعي والشاطبي، ونُبشت صراعات عبثية حول «اشراقية» ابن سينا واخوان الصفاء وظلاميتهم مقابل تنويرية ابن خلدون، على سبيل المثال. جاء من يُحمّل الغزالي مسؤولية هزائم العرب المعاصرين واخفاقاتهم السياسية والتنموية، بحجة موقفه من الفلسفة وتقديمه للمدرسة الاشعرية. سُحب كل هؤلاء من العملية التاريخية التي اظهرتهم، والأدهى انهم منعوا من دخول العملية التاريخية التي اعقبتهم واستمرت بعد أفول الحضارة العربية الاسلامية، حتى ليقف القارئ حائراً أمام ماهية هذه الحضارة التي تبدأ بنص مقدس وتنتهي بنص يكاد يداني الاول قداسة، ونقصد القرآن ومؤلفات الامام الغزالي. وهي هي الحضارة التي تنهار باحتلال مغولي لبغداد ولا تُبعث الا باحتلال فرنسي لمصر.

المضحك – المبكي ان أكثر كتبة هذه المدرسة يصلون نسبهم الفكري بالمدارس المادية والماركسية، لكن أحداً منهم لم يسائل نفسه السؤال الاول الذي تطرحه هذه المدرسة عند تناولها تطور المجتمعات، أي السؤال عن تبدل اشكال الانتاج وانماطه خلال المراحل المختلفة للتاريخ العربي – الاسلامي، من دولة الغنيمة في مرحلة الفتوحات الى دولة الجباية، ومن الاعتماد على الاوليغارشية العسكرية في دولة الخلافة الى الصراع على الموارد في الدولة العباسية… وصولاً الى انتفاء الحاجة الى الوسائط التجارية التي كانت تؤمنها هذه المنطقة بعد اضمحلال طريق الحرير والاكتشافات البحرية الاوروبية، ما أعاد المنطقة الى حقيقتها كمنطقة قائمة على اقتصاد زراعي شبه بدائي، ما أتاح للعثمانيين السيطرة عليها لمئات الأعوام…

طغت نظرة الى تراث مقتطع ومجتزأ حتى أغرقت الجميع. ورفضنا قراءة ما كُتب في «عصر الانحطاط» لمؤرخين لا يقلون المعية عن الطبري والمسعودي وابن خلدون، مثل طغري بردى والمقريزي وسواهما ممن برزوا في المغرب وكانوا شهود عيان على سقوط المعاقل العربية – البربرية الاخيرة في الاندلس. ورفضنا الاعتراف بأن الحضارة الاسلامية استمرت حية خارج المنطقة العربية من خلال ما يسمّيه المؤرخون «امبراطوريات البارود» أي العثمانية والصفوية والمغولية – الهندية التي احتفظت بألقها وإشعاعها الحضاريين والسياسيين حتى أواخر القرن السابع عشر.

لم نستطع اقامة الروابط الضرورية بين الركود السياسي – الاجتماعي والركود الفكري الفلسفي، ومثل كل التلامذة الفاشلين في التاريخ، اعدنا الاول الى الثاني. المماليك ليسوا، في هذه النظرة نتيجة ازمة الدولة العربية التي لم تستطع تجديد نفسها عبر آليات القبيلة والولاء الأسري (عبر صلة الدم) بل هم نتيجة عدم التزام السلاطين إما بدعوات الاسلام الى حروب لا تنتهي وفتوحات لا تتوقف أو الى رفضهم الاستجابة الى تعاليم التنويريين القدماء ونموذجهم الاشهر المعتزلة…

لا فكرة هنا عن عمق الصراعات في اطراف الامبراطورية ولا تفسير لمعنى ثورات اليشمور في مصر – على سبيل المثال لا الحصر – التي اضطر المأمون شخصياً ان يحضر على رأس جيشه من بغداد للقضاء عليها وكانت عاملاً حاسماً في تأسيس الاستقلال المصري عن الخلافة العباسية… والشيء ذاته في فارس وفي المغرب وغيرهما.

والحال ان التلهي بالتراث الذي ساد بين اواسط السبعينات وبداية ثورات الربيع العربي يرجع الى اسباب موضوعية، منها اخفاق النقد الذي اعقب هزيمة 1967 في التحول الى وعي سياسي. صحيح أن هذا النقد خدم الموقف المعترض على الانظمة المهزومة لكنه لم يشكل رافعة لأي قوة سياسية عريضة التمثيل الاجتماعي.

الانشغال بالتراث، بهذا المعنى، هو اشارة الى انفصال الفكر العربي عن الواقع وعدم قدرته على قراءته ولا – خصوصاً – على تغييره. من هنا يأتي الاهتمام العربي المعاصر المبالغ فيه بشخصيات قديمة جرى عملياً هضمها وتمثيلها في الفلسفة والفكر الغربيين سواء عبر المدرسة السكولائية ونقاشات توما الاكويني لابن رشد وللاسلام عموماً أو عبر تجريدها من مكونها الاغريقي والنظر في ما حملته من جديد.

عندما بدأت الثورات العربية لم نجد معالجة فكرية ناضجة للمجتمعات العربية. كان ممنوعاً دراسة هذه المجتمعات (ربما باستثناء لبنان والمغرب ومصر بدرجة اقل). كانت المجتمعات كتلاً صماء مجهولة تتحرك من دون أي قدرة استشرافية – فكرية على توقع مآلاتها وخياراتها بأبعد مما تفعل الصحافة اليومية.

سؤال المصائر والنهايات طرح نفسه بإلحاح في بداية الثورات لكن الفراغ الكبير أتاح الهروب نحو تفسيرات الممانعة عن المؤامرة الكونية ودور الوهابية والتكفير والعدوان التركي. لقد اصطدمنا بفراغ مكتبتنا ولم تقدم كتابات حقبة تمتد من سبعينات القرن الماضي الى العقد الاول من القرن الحادي والعشرين وتتركز على التراث، أي مساعدة في فهم ما نشهده. عليه، وجدنا أنفسنا في درجة الصفر المعرفي، أو ما يدانيه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى