صفحات الثقافةهيفاء بيطار

عن فرح يدهم السوريين.. بحزن/ هيفاء بيطار

 

لماذا المطلوب تدمير سوريا؟ ألم يكف هذا الحد من التدمير الوحشي للبشر والحجر؟ وإلى متى سيبقى السوريون سجناء المأساة؟ أين المجتمع الدولي والضمير العالمي؟ هذه التساؤلات هي القاسم المشترك بين جميع السوريين، مهما كانت طوائفهم وطريقة تفكيرهم. ألاحظ مدى الانهيار النفسي للمواطن السوري، هذا الانهيار الذي يتخذ أشكالاً عديدة. ويكفي أن أكتب مجرد ملاحظات عما اسمعه وأشهده في يوم واحد من الجحيم السوري، حتى ندرك إلى أية هاوية رهيبة من الهدر الوجودي والإحباط وصل إليها السوريون.

كيف سأصف هول الألم والقهر في صوت أم سورية تسألني كما لو أنها تسأل القدر: لماذا المطلوب تدمير سوريا؟ وما ذنب الشعب السوري؟ ثم تشكو لي همها بأن ابنها الذي كان متفوقاً في دراسته الجامعية، صار لا مبالياً ولا يطيق الدراسة، ولم يعد يتحدث معها باحترام كالسابق، بل يصرخ بوجهها بوقاحة كلما نبهته إلى انه يهمل دراسته: ولماذا عليّ ان أتخرج من الجامعة كي ألتحق بالجندية وأعود إليك بعد أسابيع جثة هامدة أو الشهيد البطل. كلامها يحرض ذاكرتي لاستعيد صوت أم سورية متألمة تقول لي: محظوظة من تستلم جثة إبنها وتدفنها، تصوري اعرف مئات الأمهات الثكالى لم يستلمن جثث أبنائهن، ولا نتفا منها. صار استلام جثة شاب سوري، قدرُه ان يزج في معارك لا يعرف ما دوره فيها، ولم يختر الاستشهاد ولا الموت، صار استلام جثته نوعاً من الترف والحظ. أن تبقى في سوريا محتفظاً بكيانك بمادة جسدك سواء كنت جثة مدفونة في قبر، أم مدفونة في الحياة تحت كفن من القهر والألم والهدر الوجودي، هو الامتياز الوحيد للعيش فيها.

منظر مئات الشبان والرجال يدخنون الأركيلة منذ ساعات الصباح الباكرة وتغص بهم مقاهي اللاذقية، التي كتبت بعضها بالخط العريض: أركيلة بخمسين ليرة سورية فقط (أي بأقل من نصف دولار) منظر مفزع كمنظر عشرات الأطفال السوريين الذين تتنافس الفضائيات في عرض صورهم، متلاصقين فوق سرير يختنقون من غازات سامة، اجتاحت رئاتهم، والأطراف المتصارعة تتبادل الاتهامات من استعمل الغاز السام. لأن هؤلاء خسروا كل ثقة بالحياة وبالإنسانية ولم يبق لهم سوى التنفيس عن ضيقهم بتدخين الأركيلة، أي ابتلاع المادة الوحيدة التي لم يرتفع سعرها في سوريا، وهي السُم.

لم أتوقع ان يكون للفرح، او كما يشبه الفرح، هذا الوقع الموجع المأساوي، الفرح السوري يوجع أكثر من الألم، كما لو ان الفرح والألم في سوريا وجهان لعملة واحدة، هو الإنسان المعذب المثقل بالمأساة، ويبدو ان الإنسان يتوق للفرح وللتفريج عن روحه المختنقة بوسائل عديدة. يبدو فعلاً أن الإنسان محكوم بالأمل. أن يتمكن مواطن سوري من الحصول على جواز سفر لهو انتصار وإنجاز عظيمان، يجعله وأسرته يضحكون، وإحساس بأن معجزة قد تحققت، وبأنهم محظوظون بالحصول على جواز سفر غالباً ما يتطلب الحصول عليه انتظار أشهر. أن يتمكن مواطن أو مواطنة سورية من ان تعبر الحدود من سوريا إلى لبنان هو انتصار عظيم أيضاً. ان تتجاوز حاجز الأمن العام السوري وفرائصك تتقصف رعباً من احتمال ان تعتقل لألف سبب وسبب او بدون سبب، لهو انتصار. لهو علامة طبية مؤكدة أن قلبك بحاله صحية ممتازة كونه تحمل كل هذا الكم الكثيف من الذعر، وان تجتاز الحاجز اللبناني ويسمح لك بدخول لبنان بعد انتظار طويل على الحدود لهو انتصار مدوٍّ أيضاً.

أما الفرح الأعظم فهو حين يتمكن السوري الذي أجبره عهر العالم ان يتسول «فيزا» إلى أية دولة أوروبية أو عربية. الحصول على «الفيزا»، سواء كانت لزيارة قصيرة أو اللجوء؛ أي حظ كبير للسوري الذي تستقبله دولة أوروبية، يكون كمن وجد طوق نجاة من وطن تحول إلى مسرح الجنون. من يبالي كيف يشعر السوري وهو يتفرج على مواكب الشهداء تعبر المدن، وعلى رحلات داخلية للطائرة بين دمشق وجبلة محملة بجثث شبان سوريين ماتوا بالبساطة التي تموت بها الفراشات المحترقة بالنور، او بالبساطة التي تموت بها الحشرات بعد ان ترش بالمبيد السام؟ من يبالي إن كان السوري يفقد صوابه وهو يشاهد كل يوم المذيعة مفرطة الأناقة تشرح له على خريطة المعارك الدائرة في سوريا، وتثقفه بأن تذكر له بالتفصيل أسماء وشعارات الجماعات المتقاتلة؟، ولا أنسى سؤال طفل سوري لم يكمل السابعة من عمره حين سألني: طيب لماذا «داعش» و«جبهة النصرة» يقتلون بعضهم؟ يا للثقافة العالية التي تنتظر أطفال سوريا!

لكن ثمة إصرارا على الفرح، منظر الأطفال يوم عيد الشعانين، متأنقين وحاملين شمعة مزينة بالزهور والورود، يتأبطون يد أهل يدارون عنهم أحزانهم، ويذهبون إلى الكنيسة، منظر هؤلاء الأطفال ـ وأحب أن اذكر بكل اعتزاز ان بعض هؤلاء الأطفال غير مسيحيين لكن أراد أهلهم ان يهدوهم شيئا من فرح فاشتروا لهم شمعة وزينوها بالورود ـ منظر هؤلاء الأطفال يدعو إلى الفرح، أو إلى شعور خجول بالفرح.

أي حديث موجع بين صديقتين تقفان عند واجهة أحد المحلات، ترغب إحداهن بشراء مزهرية جميلة لتضع فيها زهوراً، وصديقتها تذكرها بإمكان النزوح في أية لحظة، حين سيحين دور المدينة أو الشارع في معارك الوحشية والجنون. تذكرها بالليلة ـ اللي ما فيها ضوء ـ حين نزح كل أرمن كسب إلى اللاذقية. لم يعد الكثير من السوريين يشترون شيئاً، ليس بسبب الغلاء الفاحش للسلع، بل لقناعتهم ان تلك المشتريات ستكون عائقا وعبئا عليهم حين سيأتي دورهم في النزوح. ان تتشكل قناعة لدى السوريين المتبقين على قيد الحياة والذين لا يزالون يعيشون تحت سقف لم يقصف بعد، بأن يروضوا جهازهم العصبي ان النزوح هو الاحتمال الأكثر توقعاً لمستقبلهم.

الفرح في سوريا أصدق مرآة للمأساة والحزن فيها.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى