سلامة كيلةصفحات سورية

عن فيدرالية “شعوب” سورية/ سلامة كيلة

 

 

يقترح الروس، منذ مدة، دستوراً لسورية فيدرالية، وقد جرى تقديم نص مكتوب في اللقاء الأول لاجتماعات أستانة. وكرّر أكثر من مسؤول روسي أن سورية ستكون فيدرالية. وصدح الرئيس فلاديمير بوتين، أخيرا، بتصورات أوسع، وهو يقترح عقد مؤتمر لـ “شعوب سورية”، ويؤكد ضرورة مشاركة كل المجموعات العرقية والدينية، والهدف تأسيس سورية الفيدرالية الديمقراطية، سورية اللامركزية الاتحادية. فقد دعا إلى مؤتمر “يضم ممثلين عن الحكومة وفصائل المعارضة، وكذلك جميع الطوائف العرقية والدينية”، يُعقد في سوتشي، وهو المؤتمر الذي يجب أن يقرّ مسودة الدستور التي صاغها الروس، والتي تنطلق من أن في سورية “شعوب”، وتتشكّل من “مجموعات عرقية ودينية”. وبالتالي، تحتاج إلى أن تكون دولة فيدرالية على هذا الأساس العرقي والديني، وليس انطلاقاً من سمة الفيدرالية، كونها تشكيلا إداريا لبنية الدولة. لتكون سورية “تجميع مكونات”، وليست دولة مواطنين متساوين، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الطائفة أو الجنس.

وهذا المنظور هو شبه ما ورد في الدستور العراقي الذي أشرف على كتابته الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمر، بعد الاحتلال، حيث انطلق من “المكونات” التي تعني المجموعات القومية والدينية، ويحق لكل منها تشكيل “إقليمه”. حيث خضع العراق لتقسيم ثلاثي: الشيعة في الشرق والجنوب، والسنة في الغرب، والأكراد في الشمال. وكان مطروحاً أن تتحوّل إلى دول وفق المنظور الأميركي. وبالتالي، لا تتعامل روسيا مع شعب سوري، بل مع شعوبٍ هي المجموعات العرقية والدينية. وهي تريد تجميع هذه المجموعات في دولةٍ، عبر اختيار كل مجموعة ممثليها. ويبدو أنها تعمل على تكريس مجالس محلية في المناطق “منخفضة التوتر”، لكي تمثّل مناطقها في المؤتمر. وبالتالي، إذا كان الاستعمار الفرنسي أراد تقسيم سورية إلى خمس دول، على أساس عرقي وطائفي، تسعى روسيا إلى تقسيمها إلى سبع أو ثماني أو تسع مناطق “مستقلة ذاتياً” في ظل دولة اتحادية.

“إذا كان الاستعمار الفرنسي أراد تقسيم سورية إلى خمس دول، على أساس عرقي وطائفي، فإن روسيا تسعى إلى تقسيمها إلى سبع أو ثماني أو تسع مناطق “مستقلة ذاتياً” في ظل دولة اتحادية”

ماذا يميز هذا المنظور عن الذي طرحته أميركا، وهي تتقدم لاحتلال العراق، والذي كرّسته واقعياً بتشكيل الأقاليم الثلاثة على أساس طائفي وعرقي؟ وهو المنظور الذي وُضع في حينه في سياق “الشرق الأوسط الموسّع” و”الفوضى الخلاقة”، حيث تعمل على تفكيك الوطن العربي، وتفتيته إلى دويلاتٍ قائمة على أساس ديني أو طائفي أو عرقي. وكانت تسعى إلى أن تغيّر الوضع السوري، من أجل إعادة تأسيس الدولة على أساس فيدرالي، ومن مجموعات عرقية ودينية وطائفية كذلك. ما هو وجه الاختلاف؟ ألا تقوم روسيا الآن في سورية بتكملة ما فشلت به أميركا أواسط العقد الأول من هذا القرن؟ ألا تؤسس دولةً “طبق الأصل” عن الدولة العراقية التي أقامها الاحتلال الأميركي، انطلاقاً من المنظور نفسه، وعلى الأسس ذاتها؟ ألا تُقلِّد أميركا، أو تسرق عنها، أو تتعلم على يديها؟

تبدو روسيا مقلّدا لسياسات أميركا، وقد ظهر ذلك في أكثر من مجال، من الخطاب “ضد الإرهاب” إلى “الدفاع عن الأراضي الروسية” في سورية، وغيرها. ويبدو أنها تقوم بالأمر نفسه الآن، بعد أن احتلت سورية. إنها لا تنظر إلى شعب، بل تنظر إلى مجموعات عرقية ودينية وطائفية، وتنطلق من أن تناحراً يحكم العلاقة بينها، ولهذا سيكون الحل الأفضل هو الدولة الفيدرالية، أي اللامركزية الاتحادية التي تعبّر فيها كل مجموعة عرقية أو دينية أو طائفية عن وجودها السياسي، وتتحصّل على استقلال معيَّن عن السلطة المركزية. والمشكلة أن روسيا تكرّر هذه الصيغة، والشكل العراقي يعاني من الفشل الذريع، وتميل حتى قوى طائفية إلى العودة إلى “الوطنية”، وينتفض الشعب ضد النظام، ويرفض طابعه الطائفي وفساده. لكن يبدو أنه ليس لدى روسيا الإمبريالية، ممثلةً بزعيمها بوتين، أي مخيال لاجتراح حلولٍ مختلفة. ولأنه بات يمارس السياسة الإمبريالية لم يجد سوى تقليد أميركا ذات الخبرة الواسعة في ممارسة الإمبريالية. ويمكن التوضيح أن هذا المنظور الذي يقوم على فهم الشعوب، باعتبارها مجموعات عرقية ودينية وطائفية، عنصر متأصّل في كل إمبريالية، حيث إنها لا تستطيع السيطرة إلا في مجتمع مفكّك، وهي بالأساس لا تنظر إلى الشعوب الأخرى، سوى أنها تعيش عصور التناحر العرقي والديني والقبلي والطائفي، أي أنها شعوب بربرية، لم تصل إلى العصر الحديث. وهو المنظور الذي يهوِّن عليها الجرائم التي تمارسها، والوحشية التي تلجأ إليها.

وروسيا إمبريالية جديدة، ليس أمامها سوى تقليد الإمبريالية الأقدم، حيث تعتقد أن تلك الإمبريالية نجحت نتيجة “حكمة” سياساتها. لكن الفارق كبير في الزمن وفي الممكنات. وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن سياسة الإمبريالية الأميركية ناجحة. ربما النجاح الوحيد، وهو مشترك بين الإمبرياليتين، هو التفوق في تدمير المدن والقرى، وقتل الشعب وتشريده. ربما كرّرت روسيا هذه السياسة، من دون أن تفهم مغزاها، لكنها أيضاً قلدت أميركا فيها.

الأخطر هنا أن المصير الذي ترتبه روسيا لسورية لا يختلف عن الذي حددته أميركا للعراق، فهي تريد بناء دولة مفكّكة، ضعيفة، ومستمرة الصراعات، لكنها منحكمة لسيطرتها. بالتالي، ها هي تقوم بعمل ما لم تستطعه أميركا، وهي تريد تعميم “الفوضى الخلاقة”. تكمل روسيا ما بدأته أميركا، بعد أن ضعُفَت وأخذت في التراجع. إنها تكمل “مخطط” الفوضى الخلاقة، بعد أن أهملته أميركا. لكن، هل يدقق داعمو روسيا والمدافعون عنها، والذين يجهدون في تلميع صورتها، هؤلاء الذين يدّعون أنهم يسار وشيوعيون، فيما تقوم به روسيا، وما تطرحه الآن خيارا لمصير سورية؟ هؤلاء الذين أتحفونا، في خطاباتٍ نارية، ضد “الشرق الأوسط الجديد” و”الفوضى الخلاقة”، هل يقوموا بمقارنة صغيرة بين ما رفضوه، حين طرحته أميركا، وما يطرحه الروس الآن؟

كانت سياسة اللعب بالطوائف والأعراق والأديان سياسة الاستعمار منذ بدأ، وظل سياسةً تتبعها الدول الإمبريالية، كما فعلت أميركا في العراق، وقبلها في لبنان، وفي مناطق عديدة. وبالتالي، سيكون حتمياً أن تمارسها روسيا، بعد أن باتت رأسمالية وإمبريالية، فهذه سياسة الرأسمالية.

.. روسيا إمبريالية وتمارس إمبرياليتها، هذا واضح في كل خطوة تخطوها، وفي كل سياسة تتبعها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى