حمّود حمّودصفحات الرأي

عن «فيسبوك» و «تعميم الطائفة» في المشرق/ حمّود حمّود

 

 

تتضافر اليوم عولمة الاتصالات مع حركة فريدة من نوعها تاريخياً هي «عولمة الطوائف» وتعميمها ونقلها على نحو دراماتيكي من شرطها الطائفي، شرط الجغرافيا المخيالية، إلى شرط الجغرافيا الافتراضية الأشد عموميةً وعولمةً – لكنْ، وهنا الإشكال، من غير أنْ تستطيع هذه العمومية قتلَ أو حتى تجاوز لا حدود الطائفة ولا عصبيتها الطائفية. وطالما أنّ المشرق الطائفي يجسد، من بين مناطق العالم، بؤرة الطوائف والعصبيات الطائفية، فليس غريباً أن تتعولم طوائفه، بخاصة في ظل حروبه الأهلية المستدامة، وأنْ تقاس مصالح السياسات والدول بناء على بوصلة هذه العولمة الطائفية.

هذا ما سنتناوله في هذه العجالة، آخذين مثالاً على ذلك يتعلق بكيفية تحول فضاء موقع «فيسبوك» من مساحة تواصل اجتماعي إلى فضاء تواصل طائفي، بل تحوله إلى جغرافيا أخرى تتم فيها إعادة إنتاج الطوائف نفسها.

بدايةً، من المفترض أنّ ما يقدمه موقع مثل «فيسبوك» يتناقض جوهرياً مع الأطر الفكرية والثيولوجية التي تسبح بها الطائفة، أيّة طائفة. فغني عن القول إنّ هذه المواقع الاجتماعية قد صعدت في سياقات كان الجدل فيها ما زال قوياً عن أنها، من خلال عولمتها الشديدة، ستقتل الدول والجغرافيا، فضلاً عن بدهية تجاوز القوميات، وأنها بدل ذلك ستخلق نمطاً جديداً من الجغرافيا، «جغرافيا أخرى»، على رغم افتراضيتها، وبالتالي تخلق أجيالاً جديدة، أقل ما يقال فيهم إنهم «ما بعديون» في كل شيء (ما بعد الدولة، ما بعد الدين، القومية…)، يتجاوزون كل الحدود التراثية وتلك الثقافية والدينية الموروثة. لا شك في أنّ الطائفة، كجغرافيا مخيالية، ستذوي إذاً من خلال عملية موكلة بها العولمة: قتل جغرافيتها وحدودها.

لكنْ لنسارع إلى القول إنّ هذا كان مجرد «افتراض»، مجرد «حلم»، وهو حلم يتماشى مع ذاك الذي راود الكثيرين منذ أكثر من سبعين سنة، ومن ضمنهم «الأمميون»، من أنّ التكنولوجيا في طريقها لأن تضعف الأديان وعملها، إنْ لم تُلغِها. والحال أنّ كل ما نشهده اليوم، على الصعيد العالمي، أتى بنتائج على عكس ذلك النمط من الأحلام في ما يخص صعود كل أشكال الأفاعي: من صعود الهويات الطائفية إلى الأصوليات إلى القوميات…الخ (وحتى صعود حركات قومية داخل الاتحاد الأوروبي لها نَفَس يميني وتنادي بتفكيك الاتحاد على أسس قومية). ولا شك في أنّ المشرق العربي والإيراني ليس استثناء من ذلك، إنْ لم يكن هو بؤرة ذاك الصعود وبوصلته. حيث لم يفض دخول أيّة تقنية جديدة إلى إلغاء أي من حدود الانتماءات المشرقية القروسطية، كما لم يُدخلها في أي موجة من موجات الديموقراطية. وأكثر من ذلك، قويت الهويات واشتدت، وتحديداً الطائفية، في ظل هذه التقنيات، أكثر من أي وقت مضى.

لم يقتصر «فيسبوك» على تحوله حليفاً للحركات المناهضة للديكتاتورية فحسب، بل غدا حليفاً للطائفيين والأصوليين كذلك. لا بل إنّ هؤلاء الأخيرين نجحوا في سرقته وتحويله من فضاء «تواصل اجتماعي» إلى فضاء «تواصل بين أبناء الطائفة». فهو إذاً بمقدار ما يعولم، «يعمّم» الحدود. حيث في إمكان الطائفي المشرقي اليوم من خلال «فيسبوك» تعميم حدوده الطائفية وأنْ يقول كلمته علناً، بل هو يقوم كذلك بإنشاء صفحات من مهمتها توحيد «أبناء الطائفة»، صفحات لا تستقبل من المشتركين سوى الأبناء أو من يقارب الأبناء ويناصرهم في قضاياهم. وللمرة الأولى يقدم «فيسبوك» اليوم خدمة لأبناء الطائفة الواحدة، ممن لم يكونوا يعرفون بعضهم، لكي يتواصلوا.

هكذا، فالتواصل الذي نشـــهده في بيئة المشرق على مثل هذه الصفحات لم يفد في إخبار الناس فقط كم أنهم «متشابهون»، بل أيضاً كم أنهم «مختلفون». وهذا، بالفعل، متّن الحدود الطائفية القوية أصلاً وحولها (من خلال ما تتمتع به هذه المواقع من «لا حدودية») من حدود منحصرة بجغرافيا مخيالية إلى حدود طائفية عمومية أشد على بقع جغرافيا افتراضية. هذا شكل من أشكال «التعميم الطائفي» نشهده اليوم في ظل الأزمة السورية التي أصبح «فيسبوك» فيها بمثابة حواضن دافئة كبرى للعلاقات الطائفية الحميمة.

أكثر من ذلك، فبتحول «فيسبوك» اليوم إلى «ميدان صراع» افتراضي بين الطائفيين والطائفيين المضادين، فإنه يكمل كل أشكال الحروب الأهلية التي لا مجال لخوضها على الأرض، بخاصة أنّ له جاذبية في إخراج كل الأمراض الذاتية الدفينة وجعلها أمراضاً «عمومية». هكذا، لا غرابة في احتشاد جيوش من الصفحات الطائفية وجيوش من المخلوقات الطائفية لكي يقولوا ويعبّروا عن الضمير الجمعي، طائفتهم وهويتهم: نحن الطائفة! لكن كيف يحدث هذا على رغم أنف كل هذه العولمة، بل من داخلها؟

أيضاً من إحدى سمات التقنيات التكنولوجية الحديثة أنها قابلة للتطويع وإعادة الإنتاج بما يتناسب والثقافة التي تدخل بها هذه التقنيات: إعادة الإنتاج لا تعني إعادة التصنيع بحد ذاتها (فهذا مستبعد، بالطبع)، بل إعادة تبيئتها وتطويعها بما يتناسب والثقافة التي تستهلكها (لهذا، ليس غريباً إنتاج صفحات ومواقع «فيسبوك حلال»!). لذا من الطبيعي أنه حينما تدخل هذه التقنيات إلى أراضٍ متأزمة أنْ تحمل كذلك كل معالم التأزم، كما حدث بالضبط مع «فيسبوك» الذي صعد في المشرق وهو في حالة تأزم طائفية كبرى، لا ليعاد إنتاج «فيسبوك» فحسب، بل أيضاً لإعادة إنتاج الطائفة نفسها، وذلك بالضبط من خلال تعميم الطائفة والهوية. من هنا قدرة الطائفي المشرقي، في هذه الجغرافيا الجديدة، على شرعنة طائفته وفق أشكال من الشرعية تختلف جذرياً عما هو موروث من التأزم التراثي والجمعي. وبالفعل، نحن أمام شرط من تثبيت شرعيات وهمية وحدود مخيالية عبر آليات جديدة لا تؤمن بالحدود!

هكذا، لن نفاجأ إذا وجدنا التحزبات الطائفية المتأصلة يُعاد خلقها على هذه المواقع، ليزداد التحزب الطائفي على الأرض تحزباً أمتن على هذه البقع الجديدة، بحيث يغدو الحال وكأنه كلما زاد المشرق «فسبكةً» زاد «طائفية».

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى