صفحات الناسعبدالله أمين الحلاق

عن فيصل الحلاق الشهيد الذي قُتِل مرتين!

    عبدالله أمين الحلاق

في شتاء عام 1998 كان لقائي الأول به، يوم خروجه من سجون الأسد الأب، التي أمضى فيها 11 عاماً بتهمة الانتماء إلى تنظيم سري هو “حزب العمل الشيوعي في سوريا”. كانت الأخبار تأتينا أيام اعتقاله المديد على ذلك القدر الضئيل الذي يتعلق بمواعيد زيارة أهله له في سجن صيدنايا، وعندها فقط كنا نتذكر أن ثمة معتقلاً سياسياً في هذه العائلة. ذلك أن حال أبي مضر – فيصل الحلاق لم تكن شبيهةً بما كانت عليه أحوال معتقلين سياسيين في المدينة أو في سوريا، ممن كان يجري الحديث عنهم أثناء اعتقالهم وبعده بأسطرة بالغة، وبتمجيد يخالهم المرء بسببه كائنات أسطورية خرجت من أحافير السجن كما الملائكة من أبواب السماء.

كان هذا الشاب الخارج من سجون الأسد يعيش الغبن الأكبر بعد خروجه وهو يرى نفسه غريباً في وسط عائلي انتهازي يكيل التهكم والسخرية لمن ينتقد وليّ النعمة الأكبر في سوريا، راعي الفساد والسجون والملاهي الليلية والغانيات وبائعات الهوى التي أدمنها الصامتون من حول فيصل والأقربون الذين لم يكونوا من وجهة نظره يوماً “أولى بالمعروف”.

هو الوسط العائلي والطائفي المنحط، الذي ضرب أطناب ولائه للأسد الأب وللأسد الإبن صمتاً ولا مبالاة وانتهازيةً وخوفاً، وعمالةً تأتي أُكلها اليوم بعد عامين من عمر الثورة وأشهر من مقتل أبي مضر، وتحوز قابلية لا تضاهى للفتك الرمزي والمعنوي بكل معارض يغادر حظيرة هذه الطائفة وتلك العائلة المتمايلة طرباً على إيقاع الموت اليومي للسوريين على يد النظام.

11 عاماً في سجون الطاغية، و15 عاماً بعدها خارج السجن، مؤطِّراً نفسه بعدد من الأصدقاء الذين كانت حصته منهم قليلة بعدما هجره الاقربون وهجرهم هو، وثورة سورية أرادها ورفاقه في القرن الماضي شيوعيةً، لتندلع ثورة شعبية عارمة بلا حزب او إيديولوجيا لم يتأخر عن دعمها والعمل فيها بصمت وهدوء كشخصيته، وبمبدئية قاسية كطباعه أيضاً. ثورة تندلع في مواجهة طيف ووارث من عسَف به وبرفاقه لسنوات، من دون أن يستسلموا لنزعة الثأر والانتقام، بل كانت السياسة هي الحاضرة دوماً في أي أزمة قد تعصف باليوميات المتعبة لعملهم الثوري السري منذ عامين وأكثر.

¶¶¶

يعيد التاريخ نفسه مرتين لدى الحديث عن أبي مضر. مضر هو الاسم الذي سمّى به ابنه الوحيد، في استذكار مؤلم لرفيق دربه مضر الجندي الذي قضى تحت التعذيب على الكرسي الألماني عام 1987، على بعد أمتار من فيصل حيث كان يعذب هذا الأخير أيضاً.

المرة الأولى حين كان الاتحاد السوفياتي، تلك القوى العظمى، تغض النظر عن مجازر حافظ الأسد واعتقاله للقوى السياسية المعارضة بما فيها التيارات الشيوعية، “حزب العمل الشيوعي” و”الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، ويهيمن الصمت المريب على فصول السجون والتعذيب المريع الذي كان يتعرض له السجناء السياسيون في سوريا – وهو ما قدّمه الصديق ياسين الحاج صالح كتاباً خاصاً عن تجربته وتجربة المعتقلين السياسيين المأسوية في بلادنا- دلالة على غياب طموحات التغيير ونزعات الأنسنة التي طمحت لها الماركسية لصالح دعم من قبل ورثة ستالين والماضين على نهجه لأعتى الأنظمة وأكثرها دموية في هذا العالم، النظام السوري البائد. فيما نرى اليوم ذلك الصمت يعيد نفسه مرة أخرى في عواصم القرار ومدن التنوير والحداثة والديموقراطية التي صارت المأساة السورية وصمة عار في جبينها، وعلامة لن تمحوها التصريحات ولا المواقف ولا الابتسامات والتهديدات بنفاد الصبر وضرورة “أن يقوم الأسد بالإصلاحات بعدما كاد يفقد شرعيته”.

فكأنما سقوط المنظومة الشيوعية وانفضاض جلّ الشيوعيين عنها في القرن الماضي، سيكرر نفسه سقوطاً للثقة بالغرب الذي يعتبره مثقفون كثر نموذجاً وأقنوماً من أقانيم الحداثة والتنوير، تلك الحداثة الانتقائية التي مرّغ الشعب السوري أنفها بترابٍ جُبل من دماء السوريين وأجسادهم الواعدة بالربيع، والتي أضيفت إليها وردة ذبلت وماتت يوم 25 كانون الأول 2012 اسمها فيصل الحلاق.

المرة الثانية هي قبل أيام، حيث معارك “الجيش الحر” مع النظام في الجبهة الشرقية لمدينة سلَمية، ذلك أن قوات “الجيش الحر” كانت تتقدم في اتجاه المدينة عبر تحرير بعض مناطق ريفها الشرقي، وحط المقاتلون رحال إحدى معاركهم في قرية أم ميل، وقدموا تقريرهم المصوّر والمنشور على “يوتيوب” أمام بيت فيصل الحلاق في القرية، حيث ابتدأ أحد الملتحين وأصحاب العصبات السوداء تقييمه السياسي والميداني للقرية بأنها قرية “شبّيحة”. لا قيمة هنا لأي فرز في القرية أو في أي قرية أو مدينة أخرى بين شبّيح ومعارض وسجين سياسي يقفون على أطلال بيته في القرية وينبشون قبره من جديد باسم الثورة، والثورة من عصباتهم ولحاههم وشواربهم المحفوفة براء.

في انتظار أن يتقدم “الجيش الحر”- “كتيبة الفاروق الإسلامية”– “جبهة تحرير سوريا الإسلامية”، إلى المدينة التي خرجت قبل مدن كثيرة في الثورة، وتظاهرت، وأمدّت الثوار أينما كانوا بما يمكنها تقديمه لهم، وفي انتظار أن يقيموا محكمة تفتيش شبيهة بتلك التي أقاموها قرب منزل فيصل الحلاق في القرية، ويقسموا الناس فسطاطين تبعاً لتسميتهم الإسلامية التي لا يحضر فيها اسم سوريا إلاً ملحقاً بالجبهة الإسلامية تلك، سيبقى قبر فيصل الحلاق وملهم رستم وآخرين من شهداء المدينة المعارضين علامةً على مدينة كانت ولا تزال عصية على الأسد ولِحى معارضيه، وهي تقدم صورة عن ثورة ابتدأت وطنية وذهبت وطنيتها أدراج عنف النظام وما جرّه، ومكبوت تاريخي ديني انفجر في لحظة من ردّ الفعل.

من قال إن النظام السوري لم يقتل فيصل الحلاق؟ ومن قال إن عسكراً معارضاً ظلامياً يدّعي احتكار معرفة الحقيقة والصواب، لم يقتل أبا مضر وآخرين مثله مرةً ثانية؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى