صفحات الناس

عن فيلم «مسكون» والوجود… وتوتر على وشك الانفجار/ سامر فرنجيّة

 

 

في معرض حديثهما مع المخرجة لواء اليازجي، يمزح زوجان عالقان في منطقة برزة المحاصرة، وهما شخصيتان في الشريط الوثائقي «مسكون» (٢٠١٤)، عن محاولتهما المتكررة للخروج من حيّهما المطوق. في إحدى المحاولات، أخذ الزوجان المحاصران معهما بضعاً من المأكولات المتبقية في المنزل، ومن بينها دجاجة. لكنهما اضطرا إلى العودة للمنزل المحاصر لشدة المعارك، ومعهما الدجاجة و «نازحون» آخرين كـ «نصف كيلو شرحات وكيلو رأس عصفور ولحمة مفرومة ولحمة ناعمة». جميعها نزحت ومن ثم عادت إلى الحصار.

قائمة الأشياء التي تنزح في الحقائب والصناديق والأكياس تلتقط أحد خطوط تساؤلات «مسكون»، وهو الترابط بين حركة نزوح الأجساد وثبات الأشياء وجمود الزمان. فمن خلال متابعة علاقة سوريين على وشك النزوح بأغراضهم ومنازلهم، التي هي أيضاً على وشك التحوّل إلى ماض أليم، يلتقط «مسكون» تقّلبات المشاعر والأحاسيس التي تواكب لحظة الحركة. فتبدو الأشياء الهامدة والثابتة مكثفة بحركة وتوتر على وشك الانفجار.

الحركة هي تماماً ما لا تحبه الأمم المتّحدة في عمليات النزوح. فانتقال السكان عبر الحدود يشكّل خطراً على طهارة الدول وأنظمتها الإدارية. هكذا تسارع المنظمات الدولية، عند كل موجة نزوح، إلى رفع شعارات «الحلول المستدامة» كالعودة وإعادة التوطين والاندماج، أي إلى ضبط الحركة ضمن حدود أية دولة. الحركة تضيّع المؤسسة الراعية للدول، ولكنّها تشكّل يوميات الملايين الذين طردوا من فردوس الدول وحدودها. والحركة هي منظور «مسكون» لعملية النزوح هذه. فالوثائقي لا ينطلق من بداية عملية النزوح ومآسيها ولا ينتهي بعملية وصول النازحين ومآسيهم الجديدة. إنه، كما تقول إحدى شخصياته، عن «نصف الساعة الأخيرة»، التي قد تدوم لأشهر، ولكنّها محكومة بكونها المرحلة الأخيرة.

يروي الوثائقي «نصف الساعة الأخيرة» لأفراد يتحضرون للحركة، يتدرّبون على خطواتها المتوقعة، ويتمرنون على مشاعرهم المقبلة. تصبح الأشياء مناسبات لتلك التمارين، فيتم توضيب وإعادة توضيب الحقائب، ومن ثم تنظيف وترتيب المنزل لرحلته الأخيرة، وبالتالي القيام بعملية جديدة لاختيار ما سيبقى في المنزل وما ستكتب له حياة جديدة. إنها لحظة يتدرّب فيها أفراد على الموت، ليتحوّل أي شيء، مهما كان بلا معنى إلى جردة حساب حياة أو جزء منها. بعد انتهاء «نصف الساعة الأخيرة»، يتحوّل النسيان إلى قرار عقوبة إعدام. ما ننساه يموت ويتحوّل إلى ركام تباع في أسواق النهب التي تخلف كل عملية نزوح.

لا رواية للهجرة أو النزوح يمكن لها أن تلتقط «نصف الساعة الأخيرة». فالرواية الوحيدة المتاحة للنزوح، هي الرواية الفلسطينية التي شكّلت النموذج الرومنسي عن اللجوء. تقوم هذه الرواية على العودة بوصفها نقطة نهايتها الوحيدة والصمود بوصفه شعورها الأصيل وفعل الكلمة بوصفه ملحمتها السياسية. إنّها رواية تناهض الحركة، لكون الحركة خطيئتها الأولية. لكن هذه الرواية لم تعد تفي بغرضها، كما يؤكد الشاب الفلسطيني الأصل في الوثائقي، والذي يحاول إقناع أهله بأن دوامة النزوح انتهت مع آخر انتقال من دمشق إلى بيروت. فالأسطورة باتت حاجزاً للخروج من دوامتها العدمية ومنبت هذا «الأمل اللعين الذي لم يسمح للأهل ببدء شيء جديد انتهى». فلن يعود أحد من نزوحه إلا الدجاجة، وهذا ما يدركه الجميع في نصف ساعتهم الأخيرة.

ومع سقوط الأسطورة، تبدأ الأسئلة عن هذا الزمان الذي ضاع منذ أول نزوح ورفض الصامدين البدء من جديد. فيمكن لـ «نصف الساعة الأخيرة» أن يمتد إلى نصف القرن الأخير.

الزمن الضائع يذكر بـ «الزمن المتبقي» للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، وهو إحدى المحاولات للخروج من النموذج السياسي والرومنسي للمنفى الذي يمثله مثقفون كجبرا إبراهيم جبرا ومحمود درويش وإدوارد سعيد. فسليمان، كما تكتب زينة الحلبي عن «سجل اختفاء» في كتابها «تقويض المثقف العربي: النبوة والمنفى والوطن»، يقضي على قدرة الكلام التي شكّلت أرضية المثقف المنفي، ليشكّك في الطابع الرومنسي لرواية العودة. من خلال الصمت، يزعزع المخرج أعمدة الفكر السياسي الفلسطيني والعربي، ليصبح «الصمود» و «العودة» و «الوطن» قيد المساءلة بعدما شكّلت المكّونات الأولية للخطاب. يأتي «مسكون» في أعقاب هذا التاريخ، وهو تاريخ يمتد من عملية تثوير النزوح مع صعود المقاومة الفلسطينية إلى تفكيكها بعد اتفاقيات أوسلو، أي محاولة العودة الأخيرة. ويدخل هذا التاريخ في مرحلة جديدة مع النزوح السوري، حيث لا عودة يمكن أن تقدّم خلاصاً لآلامه.

في غياب نقطة النهاية، لم يبق إلا الزمن المتبقي، زمن «النصف الساعة الأخيرة»، حيث لا خطاب يمكن أن يفككه، بل مجرد وجود بماديته القصوى. فينكب «مسكون» على هذه البقعة من الزمن، حيث يبطأ الوقت إلى حد الجمود والثبات، ليصبح الوقت المتبقي هو الوقت الضائع. ومع هذا التباطؤ، تسقط قوانين السببية وقدرة الخطاب وتماسك المشاعر، ليتكثف الوقت وحركته بالأشياء الثابتة. ففي «نصف الساعة الأخيرة»، الوقت المتبقي لا يقاس بالدقائق بل بالأكل المتبقي وعدد الحقائب التي ترتب. أما الأشياء، فتروح تُعرّف بالزمان الذي تحتوي عليه: هذا المنزل هو تلخيص لـ١٢عاماً، أما هذه الركوة فباتت موجودة منذ ٤٠ عاماً. هكذا يصبح للوقت ملمس، تنهار عليه الخطابات السهلة.

بهذا المعنى، «مسكون» ليس فقط عن النزوح ومآسيه، وليس عن «نصف الساعة الأخيرة»، بل هو عن الحاضر وشعوره الخاص بالوقت والزمن. هو تعبير عن «الطريق المسدود» الذي نجد أنفسنا عالقين بين حدوده. لا العودة إلى الوراء ممكنة، ولا المستقبل يقدّم إغراء للاتجاه نحوه. نحن في طريق مسدود، ليس هناك شيء أكيد فيه إلا أنه مسدود. على الأقل، ندرك هذا، وندرك أن الخطابات التي تحيط بنا ليست إلا أشباحاً تسكن الطرق المسدودة.

قد لا يكفي هذا الإدراك للخروج من المأزق، ولكنّه يمنع أسطرته ويفرض الانتباه إلى الأشياء التي تسكننا.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى