مراجعات كتب

عن قابيل طائفا في أرض خالقه/ حسن داوود

 

 

أكثر ما استوقف جوزيف ساراماغو من أسطورة الخلق، وكذلك من أساطير ما بعد الخلق، هو ذلك الفاصل (الخاص بآدم وحواء). كان العالم ما زال في أوّله، لا أرض تحيط بالمخلوقين الأوّلين، إلا تلك الرقعة الضيّقة التي تجري عليها حكايتهما القليلة التفاصيل، إذ تُختصر بالتجرؤ على أكل التفاحة؛ ولا آخرين من البشر يمكن لهم تعكير صفوهما وتشويش خيالهما، وليس هناك ماض سبقهما ولا حاضر ينتظرهما إلخ. إنها الصفحة الأولى في تاريخ الكون، لذلك يجد راويها نفسه إزاء الإبداع الأول، النقي، حيث عصيان كلمة الله، بعامل الفضول، كان أول عصيان يخرج من بشرين لم يسبق لهما أن كانا موجودين. ثم هي الشهوة الأولى بينهما، تلك التي أعقبت نظرة كل منهما لجسم الآخر، ثم عناقهما، ثم التصاقهما إلخ. في ما جرى من أحداث رواية ساراماغو اللاحقة عن أسطورة ما بعده الخلق، التي كان بطلها ابنهما قابيل، كل شيء صار قابلا للاختلاط والتشوش. صار البشر كثيرين في فصول الرواية التالية، والأرض واسعة وعديدة. وهناك آلهة وملوك وعمال منهكون، ما يجعل كل وصف خاليا من ذلك النقاء الشعري الأول، ذاك الذي عرفناه في الصفحات المخصّصة لآدم وحواء.

فقابيل الذي اتسعت الدنيا كثيرا في زمنه (على الرغم من أن هذا الزمن لم يبتعد كثيرا عما كان في أيام أبويه) فصار فيها شعوب وأقوام وممالك ونساء تمرّسن على الشهوة وشرائع تسعى إلى الفصل بين ما هو جائز وما لا يجوز، فصار ممكنا لقابيل هذا أن يجوب في الأرض. ليس لأن الله خلق أزواجا كثيرين مثل أبويه آدم وحواء، هنا وهناك، بل لأن قابيل أوتي القدرة على التجول بين الأزمنة. من ذلك مثلا أنه رأى النبي إبراهيم، في لقاء أول به، ذاهبا بابنه إسحق إلى التضحية به، ثم، في لقائه الثاني بإبراهيم، كان إسحق هذا لم يولد بعد، أي أن قابيل أوتي القدرة على أن يذرع الزمن طولا وعرضا، والقدرة كذلك على الرواح والغدو في أرض الله الواسعة، وإن على ظهر حمار يتميز بقدرات لا تفوق كثيرا ما لدى الحمار العادي، أي أن الأرض، في رواية ساراماغو، جمعت التاريخ الأسطوري للعالم القديم كله، فتعاصر الجميع، من إبراهيم إلى نوح إلى لوط إلى يشوع والعموريين، إضافة طبعا إلى إبليس والشيطان. كلهم أوجدتهم الرواية في حياة قابيل المتراوح عيشه بين أن يكون بين أفقر العاملين في صبّ الطين، وأن يكون عشيق ليليث زوجة نوح، مالكة البلاد (وإن لم تكن ملكة عليها).

ودائما هناك الرب الخالق الذي يظهر مرّات كثيرة لقابيل، حيث يجري بين الاثنين حوار لا يخلو من اتهام مستمر يكيله آدم لخالقه. أمور كثيرة جرت، أو أجراها الرب الخالق، لم تكن مدروسة بما يكفي، أو لم يأخذ أمره بحصولها أشياء كثيرة في الاعتبار. ومع انقضاء الزمن وتوالي الأحداث، التي ليس أعظمها إغراق البشر بمياه الطوفان عقابا لهم، كان قابيل يزداد احتجاجا على الطريقة التي تُدار بها شؤون الكون. من هذه مثلا حين أمر الله إبراهيم بذبح ابنه، وأيضا تدميره لبرج بابل تدميرا تاما لمجرد أن من بنوه أرادوا الارتفاع ما أمكنهم نحو السماء، وعن إفنائه لسادوم لأن رجالها آثروا عشق الرجال على عشق النساء، من دون أن يخطر بباله الأولاد الذين أُفنوا هم أيضا، وعمن أبيدوا لمجرد صنعهم العجل الذهبي وعبادتهم له، وعما جرى في مدينة أريحا التي دُمّرت بجميع من فيها، رجال ونساء، كبار السن وشبيبةً، «حتى الثيران، الخراف والحمير».

والإجابات التي كان يتلقاها قابيل من خالقه لم تكن مرضية كفاية، بل إنها بينت عدم اكتراث خالقه، أو بالأحرى تعجّله في اتخاذ قراراته التي هي على ذاك القدر من المصيرية. وهو، الخالق، ظل متسامحا مع قابيل، الذي هو نحن، والذي هو متنقل بين الأزمنة القديمة كلها ليرينا أنه، أننا، كنا هناك، وأن الاحتجاج ذاك كان يتعدانا إلى أن يبلغ صداه الملائكة أيضا. في نهاية الرواية لم يتلقّ قابيل القصاص على معاندته واحتجاجه. «الآن يمكنك أن تقتلني» قال في نهاية الجدال بينه وبين الخالق. «كلا، لا أستطيع، فكلمة الله لا يمكن التراجع عنها» قال له خالقه، ثم أضاف واعدا قابيل بأنه سيموت ميتة طبيعية. لكن، بحسب ما تنتهي الرواية، لم يكن ذلك اللقاء بينهما هو الأخير، إذ «ثمة شيء واحد نعلمه علم اليقين، ألا وهو أنهما استمرا في الجدال ولا يزالان يتجادلان»، وهي نهاية محبطة للرواية، حيث تبدي ساراماغو كما لو أنه مقرّ بأنه كتب الرواية هذه من دون أن يكون لديه قوله الخاص في ما يتعلقّ بالبشر وخالقهم. ربما كان عليه أن يتفادى العبور بذلك التاريخ الأسطوري كله، وأن يكتفي بإعادة رواية، أو أسطرة، آدم وحواء، فعندهما كانت الرواية ممتعة، بل ساحرة.

وعلى كل حال كان ساراماغو قد أقرّ بشيء من ذلك في الكلمات التي أنهى بها روايته. كتب: «القصة، مع ذلك، انتهت، وليس ثمة شيء آخر يمكن أن ترويه». ذلك، كما يمكن أن يكون، بكلمات أخرى: ليس لديّ شيء آخر أقوله… بل على الأصح، لم يكن لدي شيء كثير أصلا لأرويه.

رواية «قابيل» لجوزيه ساراماغو نقلها إلى العربية علي عبد الأمير صالح وصدرت في 160 صفحة عن «منشورات الجمل»، 2017.

٭ روائي لبناني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى