صفحات الثقافة

عن كائناتٍ لا تحتمل خفّتها/ عبد اللطيف السعدون

 

 

“في كل مرة نحن نُخدع”

هذا هو بالضبط ما يحدث عندنا، حيث تبدو لنا الأشياء دائماً على نحو خاطئ، نحن الذين نبحث عن إجاباتٍ سهلةٍ ومفهومةٍ، لكن الوقائع اليومية تصفعنا، تعرض أمامنا أكاذيب ومنازعات، ومهاترات، في هواء فاسد، وملغم بالسوء.. نحن نقف وسط ميدان مكشوفٍ، لكنه محصّن بالدسيسة والنميمة، والشهادات المزوّرة، والرشوة، نقف بين الذين يملكون السلطة والمال والقرار، والذين يطمحون إلى الحصول على حصةٍ في الغنيمة، وليس ثمّة من يفكر بنا، نحن المغلوبين على أمرنا، المشرّدين داخل مدننا وقرانا، الباحثين عن لقمة خبزنا بشرفٍ وكرامة. ليس ثمّة من يلتفت إلينا في غير المواسم التي يريدون فيها القبض على أصواتنا في انتخاباتٍ أو استفتاءاتٍ، يرسمون نتائجها سلفاً لبرلماناتٍ يفترض أنها تمثلنا. وها هم يستعدون لدورة جديدة يسرقون فيها من أعمارنا، ومن تعبنا كي يعيشوا هم، ومن دون أن ينبري أحدٌ ليقول لهم: كفى، وقد حاولنا أن نقولها في تظاهراتٍ، وحشود جمعناها، وصرخنا فيها، لكن صراخنا في كل مرة كان يذهب سدى.

نحن لا نعرف أي الفرقاء الأقل ضرراً لنا. كلهم غاطسون في دروبٍ مظلمةٍ، لا تتيح لهم الرؤية، ولا تتيح لنا مراقبتهم، ومعرفة ما يضمرونه لنا. الحال الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية عندنا لا تسر أحداً، إنها تذكّرنا بما قرأناه عن حروبٍ وحصاراتٍ وكساد وفساد تبدو صورها أدنى بكثير مما نشاهده اليوم، وحتى الذين يطرحون اليوم أنفسهم مصلحين للحال، عارضين بضاعتهم علينا ببراءةٍ مفتعلة، وسوء نية مضمر، وكأنهم لم يشكلوا الطرف الآخر الذي ساند، إن لم يكن قد ساهم بخبثٍ وتصميم، في تردّي الحال والمآل معاً. حتى هؤلاء فقدنا الثقة بهم، بعدما حولوا مأساتنا إلى تجارة، وقبضوا الثمن، وبقينا وحدنا ننتظر التغيير الذي تصورنا أنه سيقدّم لنا على طبقٍ من ذهب. وبعضنا اتجه ببصره نحو الأميركيين يستجدي عطفهم في أن يقوموا بتغيير حكامنا نيابةً عنا، وكأنهم ليسوا هم الذين جيّشوا مرتزقة العالم ضدنا، والذين ابتكروا كذبة “أسلحة الدمار”، كي يحققوا هدفهم، وبعضنا يئس من الحال، بعدما لاحقه شبح القمع والموت والتغييب، وأدركته حالة انعدام اليقين، فحزم حقائبه، وهاجر مشرّداً في ديار الله، حاملاً معه تذكاراتٍ موجعة، خارطة البلاد، وعلمها الأول، وقبضةً من ترابها، كي يقيم من خلالها في كل عام مراسيم في البلد الغريب تذكّره بما كان!

وحدنا بقينا مقيمين على العهد، وإن أدركنا سوء الحال أكثر فأكثر، لا نفهم شيئاً مما يدور من حولنا، ولا نستطيع فكّ رموز هذه اللعبة الشريرة التي يلهو بها حكامنا، انتخابات وتيارات وتكتلات، وطوائف وأعراق وعشائر، ووجوه كالحة، عشنا معها أكثر من عقد، فلم تورثنا سوى الدمار والخراب واللعنة القاتلة.

ماذا علينا أن نفعل إذن؟

لنقل في النهاية إن حملاً قد سقط فوق أكتافنا، فلنتحمل هذا الحمل، نتحمله أو لا نتحمله، نتصارع معه فإما أن نخسر وإما أن نربح. .. تماماً مثل كائنٍ لا تحتمل خفته، هكذا أصبحنا كلنا “توماس” الذي روى حكايته ميلان كونديرا، وبتنا نقضي أيامنا في الوقوف عند نوافذ منازلنا، ننظر عبر الميدان نحو جدران المنازل المقابلة، ولا نعرف ما الذي علينا أن نفعله، سوى أن نسمع زعيق الذين يريدون أصواتنا، يريدون خداعنا، يوهموننا أنهم يعملون من أجلنا، كي يوفروا لنا في الدنيا الحياة الرغيدة، ويضمنوا لنا في الآخرة حسن المآب. وفي هذه المرة، كما في كل مرة، يغيرون أسماءهم، وينكرون هوياتهم، ويفتحون دكاكين جديدة، ويعقدون مؤتمراتٍ، ليجمعوا أناساً سليمي النية من حولهم، وليطرحوا أفكاراً مزوّقة ملمعة، وليوزعوا الحلوى والوعود والضحكات. إنهم يضحكون علينا، وكأننا كائناتٌ لا تحتمل خفتها، وحين ينقضي الموسم، وتنتهي أعراس الاستحواذ من جديد على السلطة، وعلى المال والقرار معاً، ينصرفون عنا، لا لشيء إلا لأننا لم نعد في نظرهم سوى كائناتٍ لا تحتمل خفتها. نعم، يا سيدي، لقد حولونا إلى كائناتٍ لا تحتمل خفتها.

كنت أنصت عبر الهاتف باهتمام لما كان يقوله، وهو من جانبه أراد أن يفرغ شحنات غضبه مرة واحدة، فلم يدع مجالاً لي كي أقول كلمتي. وعندما هممت أن أنطق بكلمةٍ، كان قد أطبق سماعة الهاتف وغاب.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى