صفحات مميزة

عن مؤتمر ” علاقة العرب والكرد” الذي أقيم مؤخرا

 

 

في لاأخلاقية هذه المظلومية الكردية/ عمر قدور

نشر نشطاء أكراد، موالون بغالبيتهم لحزب الاتحاد الديموقراطي PYD، وسماً “هاشتاغ” على وسائل التواصل الاجتماعي يدعو إلى فرض حظر جوي على مناطق سيطرة الحزب في سوريا. الوسم انتشر بكثافة خلال الأيام الأخيرة، وبعض من هؤلاء أرفقه للتوضيح بخريطة “روجافا”، التسمية التي كان أطلقها الحزب على الشمال السوري قبل تخليه عنها، والخريطة تتضمن الشمال السوري كله، بمناطق يقول الأكراد منذ عقود أنها ذات غالبية كردية، وأخرى تتم المطالبة بها الآن ضمن منطق الاستقواء بالنظام وحلفائه تارة، وبالدعم الأميركي تارة أخرى.

ليست المرة الأولى في الصراع السوري الحالي التي يعمد فيها نشطاء أكراد إلى مطابقة تطلعاتهم وأحلامهم مع ما تسيطر عليه الميليشيات الكردية، بل وصل الأمر ببعضهم إلى اختراع حيثيات تاريخية موغلة في القدم من نوع اعتبار الحثّيين أكراداً، وبناء على ذلك اعتبار كل الأراضي التي حكمتها المملكة الحثّية يوماً عائدة لأكراد اليوم. لكن إذا بقينا عند التطلع الموضوع قيد التنفيذ، وهو السيطرة على الشمال السوري كله، يمكن القول بأن الأمر يتعدى منطق القوة السائد اليوم إلى استغلال المظلومية الكردية إعلامياً للحصول على كيان كردي يعتدي على حقوق سوريين آخرين، ويكرس وضعاً مستداماً على حسابها.

كما هو معلوم يتواجد الأكراد في أربع دول، هي تركيا والعراق وسوريا وإيران، ولا يمكن الزعم بوجود قضية كردية واحدة، فقيادات إقليم كردستان العراق معنية بوضع الإقليم وأفق استقلاله النهائي، بينما يركز حزب العمال جهوده في محاربة الحكومة التركية. الحزب يصمت نهائياً عن القضية الكردية في إيران، وأغلب الظن أن هذا لصالح القضية الكردية في إيران، بينما لم يقصّر سابقاً في زج أكراد سوريا ضمن حربه التركية، ولم يقصر منذ بداية الثورة في زجهم في عداء مع العرب الثائرين على النظام، وفي خدمة المحور الإيراني في المنطقة، حيث يُعرف على نطاق واسع دور قيادات الحزب التركية في جبال قنديل في توجيه سياسة ومعركة الحزب السورية، مثلما تُعرف علاقاتها التقليدية بنظامي الملالي والأسد.

خارج أوساط الحزب نفسه، لا نفتقر إلى متذاكين “أكراداً أو غير أكراد” يقولون بأحقية استغلال الأكراد الصراع السوري الحالي لصالح قضيتهم، بصرف النظر عن الدخول في تحالفات قذرة. ولا نعدم بالطبع من يخلط “عن جهل أو تذاكٍ” بين المظلومية الكردية التي تتطلب حلاً عادلاً، لا حلاً يخلق مظلومية أخرى، وبين حزب يسيطر عسكرياً بحكم دعمه من النظام وصولاً إلى أمريكا، دون أدنى التفات إلى ما يقوم به من عمليات تعدٍّ على أبناء مناطق سيطرته، لم يسلم منها حتى أكراد يعارضون توجهاته. ثمة من يقول “من خارج الوسط الكردي أيضاً” بأن الحزب يحظى بتأييد غالبية الأكراد، وليس من حق أحد أن يفرض عليهم ما يريد. لكن هؤلاء أيضاً يبيحون لأنفسهم على سبيل المثال انتقاد زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن، ويرون في أي انتقاد سوري لحزب الاتحاد الديموقراطي نوعاً من العنصرية العروبية ضد الأكراد، دون أن يكلفوا خاطرهم عناء الاطلاع على دقائق الشأن الكردي في سوريا، أو الاطلاع على أيديولوجيا الحزب نفسه كما خطها أوجلان، والتي لا تزيد عن كونها خلطة بائسة من القومية الاشتراكية “النازية” والماركسية المشرقية “الستالينية”.

على الأرجح لا يريد أولئك الذين لا يفرقون بين المظلومية الكردية وحزب PYD “الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني” أن يروا التصفيات التي عمد إليها الحزب منذ بداياته في حق “رفاق” مخالفين في الرأي، ولا يريدون رؤية تصفيات عمد إليها في حق من قرروا مغادرة الحزب. لا يريد هؤلاء أيضاً رؤية عمليات الاغتيال، أو محاولات الاغتيال، التي عمد إليها PYD في سوريا بعد اعتماد الاسم الجديد عام 2003، بالطبع دون الاعتذار عن عمليات مشابهة سابقة تحت الاسم القديم، ولا رؤية قمع الحزب مظاهرات كردية مناوئة للنظام بالرصاص الحي، أو مظاهرات كردية مناوئة لنهجه أو لقيامه بحملات التجنيد الإجباري وتسببها في عمليات نزوح واسعة… إلى ما هنالك من نهج فاشي.

لقد رأينا، ونرى يومياً، ما تعنيه المظلومية الشيعية وهي تسترد “حقوقها التاريخية” بقتل السوريين، وينبغي أن يكون هذا حافزاً لاتخاذ موقف فكري أكثر حذراً من كافة ادعاءات المظلومية في المنطقة. فالعبرة ليست فقط في وقوع الظلم سابقاً، هي أيضاً في تصور المظلوم لحقوقه وكيفية استرجاعها على نحو عادل. من دون امتلاك هذا المستوى الفكري والأخلاقي يبقى التعاطف مع المظلوميات أسير عدالة سابقة مفتقدة، لا عدالة مطلوبة اليوم، وغالباً يقع في الفخ الثأري للمظلومية.

يحوز القول “بلا رحمة” أن القضية الكردية في سوريا أسيرة دجل كردي أولاً، بمعنى عدم وجود رغبة كردية في بنائها والنضال من أجلها. المظلومية الكردية العامة تضع القضية ضمن إطار إقليمي، ما يستتبع لحلها تغييرات واسعة ضمن الإقليم كله، وهذا ما يرهن الحل في سوريا بالحل في تركيا خاصة. مشكلة حزب العمال الكردستاني أنه فعلياً يخوض حرباً مترابطة بين سوريا وتركيا، وسبق للحزب أن ضحى بدماء آلاف من الشابات والشباب الكرد السوريين في معاركه جنوب شرق تركيا، في الوقت الذي كان يعلن فيه عدم وجود قضية كردية في سوريا، بل يعتبر نسبة كبيرة من أكراد سوريا نازحين من تركيا. وإذا أخذنا سلوك الحزب السابق، حيث تشير التقديرات إلى تطويع ما بين 10 آلاف و15 ألف كردي سوري بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي للقتال في تركيا، فهذا وحده يدلل على رؤية الحزب للقضية الكردية، وهو رقم لا يُقارن على سبيل المثال بمتحمسين سوريين أفراد تطوعوا للقتال مع منظمات فلسطينية، أو ذهبوا إلى العراق للقتال عام 2003، لا يُقارن بسبب ضخامة العدد في الحالة الكردية، ولأن هذا الرقم حصيلة جهد حزبي وأيديولوجي منظمين لا جراء حماس فردي. الآن، الحزب نفسه يخوض حرباً مع تركيا على الأراضي التركية والسورية وأحياناً ضمن إقليم كردستان العراق، ما يحتم على أكراد سوريا إما اعتبار حرب هذا الحزب حربهم القومية الشاملة، والقبول تالياً بالأمر الواقع الذي يتعين أحياناً بقصف تركي لمناطقهم في سوريا، أو القول بوجود قضية كردية متمايزة في سوريا، والدعوة إلى تحييدها عن تصفية حسابات نظيرتها في تركيا. وفي كل الأحوال يجدر الانتباه إلى أن باقي السوريين غير مسؤولين عن مجريات هذه الحرب، وليس أخلاقياً تحميلهم تداعياتها العسكرية والسياسية، أو تداعيات فشلها بالسيطرة على الشمال السوري كله لتأمين تواصل بين مناطق تواجد كردي في سوريا يُفترض أن يتم تواصلها أصلاً من خلال كردستان تركيا.

أما في حال الفصل بين القضيتين الكرديتين في تركيا وسوريا فمن المهم بناء القضية الكردية السورية على نحو واضح أيضاً. هنا تنبغي أن توضع على المحك كافة الادعاءات والادعاءات المقابلة حول الغلبة السكانية، منطق القوة أو الاستقواء لن يحلها، والحل الذي يجدر بالجميع اعتماده هو اللجوء إلى استفتاء أهالي المناطق المعنية، ولتكن المطالبة بتنظيمه تحت إشراف دولي توخياً للعدالة، طبعاً مع عدم الاعتراف بعمليات التغيير الديموغرافي المنهجية الحالية والسابقة. حتى إذا استقر الرأي على المطالبة بتعديل الحدود الإدارية المعمول بها سابقاً فليكن ذلك واضحاً، من أجل رسم حدود القضية الكردية، وعدم تركها مطاطة وفق الدجل الفكري السائد.

لكي تكون هناك قضية كردية، لا مظلومية بالمعنى السلبي الحالي، من المفيد وجود إطار جغرافي ومطالب واضحة يتعاطف الآخرون معها أو لا يفعلون. من أجل بناء هذه القضية يلزم التخلي عن التقية السياسية المرافقة للدجل ولرغبات الثأر اللامحدودة، إذ لا يعيب الأكراد على سبيل المثال المطالبة بالانفصال، ولا يعيبهم المطالبة بحكم ذاتي. ما يشكل وصمة لأية مظلومية هي ممارسةأسوأ ما في متخيَّلها عن ظالميها، هذا مع تناسينا مفارقة تحالف الميليشيات الكردية الحالي مع نظام ظلم الأكراد مدة عقود، وإشهارها العداء المطلق إزاء مظلوميه الآخرين من السوريين.

المدن

 

 

 

 

تحرير الرّقة والانقسام العربي الكردي/ عمار ديوب

لم يعد الانقسام بين الكرد والعرب يقتصر على النقاش حول الحق في المواطنة مع حقوق ثقافية، بل تعداها ليتناول قضية الفيدرالية، وفقاً للأصل القومي، وليس الجغرافي أو السكاني فحسب. تتعمق المشكلة، لأن من الأحزاب الكردية، وتحديدًا حزب الاتحاد الديمقراطي، أصبح مُسلحًا، ويَعرض نفسه ليكون تابعًا لمن يدعم تسليحه؛ وهذا ما يُفسر علاقاته القويّة مع الروس أو الأميركان، وكذلك مع النظام، حيث ما يزال للأخير تمثيلٌ سياسيٌّ وأمنيٌّ واقتصاديٌّ في المدن السوريّة التي يسيطر عليها هذا الحزب.

المشكلة الأخرى انعدام الثقة بين الأحزاب الكرديّة والعربيّة السوريّة، حيث تتوقف كل التنسيقات حينما يقول العرب بتأجيل النقاش حول الفيدرالية والوجود الكردي في الدستور، إلى حين الانتقال للمرحلة الانتقالية، وتنتقل سورية إلى وضعٍ طبيعيٍّ، ويكون للشعب فعلاً دورٌ في تقرير شكل نظامه المستقبلي، أي وفقاً للآليات الديمقراطية، بينما يصرُّ الكرد على ضماناتٍ مُسبقة، ويفترضون أن تتوثق ضمن القرارات الدولية؛ ويشكل رفض ذلك من المعارضة العربية سبباً للانسحاب من هيئات المعارضة، كما تمّ في الجولة الخامسة من جنيف.

الجديدُ أنّ الكرد أصبحوا يَظلمونَ العربَ، وإذا كان النظام سابقاً هو الظالم، فإنّ الظلمُ الحاليُّ يَنصبُ على المجتمع. وهنا مكمن الخطورة، أي التأسيس لعداواتٍ مفتوحة. نُشرتْ تقارير دوليّة عن تهجيرٍ لمواطنين عرب في محيط الحسكة، وفي مناطق أخرى، وعدا عن ممارساتٍ أقرب إلى العنصريّة، وكذلك شكل الوجود الكردي في مدينة منبج “غصةً” حقيقيّةً لكل الفصائل المحلية، والعرب عامة؛ فليس من مُبررٍ للوجود الكردي هناك، كما ليس من مبررٍ لوجودهم سلطة أحادية في بقية مدن الشمال. كرديًّا، الأمرُ مبرّرٌ بوصل ثلاث مناطق سورية، والادعاء بأنها تُمثل إقليم الشمال، وأنَّ أغلبيته أكراد، وتأسيس إقليم كردي ربما يفكر قادته بانفصال. وقد منع الأتراك ذلك، عبر جرابلس، والروس يبنون تموضعًا عسكريًّا في عفرين، ووجود الأميركان في منبج يضع حدوداً للأكراد، ولكنّه يُصعّد من الخلافات التركية والعربية، بالضد من الكرد، فقد كان المأمول إخلاء الكرد منبجَ، وليس تحويلها إلى مدينة تحت الحماية الأميركية، وإدارة الكرد لها.

لم تنطلِ على أحدٍ أكذوبة قوات سورية الديمقراطية، بضمها بضع فصائل عربيّة، وببعض

“كل منطقٍ سياسيٍّ ينطلق من تصوّرٍ لسورية خارج مفهوم المواطنة سيسقط بالضرورة”  شيوخ القبائل، ولا تنصيب هيثم مناع، ولاحقاً الشيخ رياض ضرار، في قيادتها. الحقيقة أن قادة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ليسوا سوريين في أغلبيتهم، ويعملون من أجل مشروعٍ خاص بهم، يتعارض ليس مع سكان الجزيرة، بل مع كل السوريين، وكذلك يعادون كُرداً آخرين؛ ينسج الأخيرون تحالفاً مع مسعود البرزاني وتركيا بالضد من هذا الحزب. ولا تعني معاداتهم تلك أن رؤيتهم السياسية للعلاقة بين العرب والكرد قائمةٌ على المواطنة، لا بل هي قائمةٌ على حقوقٍ سياسيّةٍ خاصة بالكرد، وتؤسس لحالة أقرب إلى الاستقلالية، وربما الانفصال لاحقاً. الحزب هذا توسّع على حساب فصائل الثورة السورية، وبحجة “داعش”، ويتعايش مع النظام في بقية المدن، ويندر أن خاض معركةً ضده. ولهذا لا تتقبله المعارضة في صفوفها.

في معركة الرقة، يقدّم حزب الاتحاد الديمقراطي، بزعامة صالح مسلّم، عناصره جنوداً للأميركان، ويريد، بسبب ذلك، ضم الرقة لإقليم شمال سورية المتوّهم. وفي حال حصوله على ذلك، وتشكيل مجلسٍ محلي تابع له، فإن ذلك يُسهِّلُ له تلك الخطوة. ربما يريد الأميركان توريط الكرد والعرب في حربٍ طاحنةٍ بينهما، وهذا ما تفعله قوات صالح مسلّم منذ 2011 والآن يُحمى أميركيّاً. وقبل ذلك، كان يعمل بالتنسيق مع النظام؛ وما زالت خطوطه مفتوحةً مع النظام وإيران وروسيا.

ربما لا يكون مسلّم محبوباً في سورية. لكن ما لا يجب نسيانه أنّه أثار انقساماً وأجّجه بشكلٍ مُستمرٍ بين العرب والكرد، فالعرب يرون، في كل معاركه والتحاقه بالأميركان، مشروع انقسامٍ لسورية، ولكن ذلك لا يُرفض كرديّاً كذلك وهنا المشكلة؛ فصحيح أنّه يَفرض رؤيته بالقوة على الكرد، وأن عشرات آلافٍ منهم تركوا شمال سورية، وهناك مقاطعة سياسية لسلطته، ولكن هناك صمتٌ كثير عما يفعله.

حجّة أن الجزيرة بأكثريتها كرديّة، أو أن العرب هم الأكثريّة فيها، تتطلب استقصاءات ميدانية، وهناك استقصاءات متعاكسة بالكامل، وتفيد بأن العرب أغلبية، أو الكرد أغلبية، لكنها ستظل

“ربما يريد الأميركان توريط الكرد والعرب في حربٍ طاحنةٍ بينهما” حجةً مرفوضة بالكامل، فشمال سورية يُعتبر بكل سكانه جزءاً من سورية، وإذا كان هناك من ضيمِ لحقَ بالكرد، فهناك أشكال أخرى من الظلم لحقت بالعرب كذلك. وفي السنوات الأخيرة، فإن مجال المظلومية أكثر مما يتخيله العقل؛ ألا يكفي عشرة ملايين سوريٍّ اقتلعوا من المدن والقرى المدمرة، وهجّروا إلى المنافي، عدا الشهداء والمعطوبين، وسوى ذلك كثير.

سقطت مظلوميّة الكرد التاريخية في سورية بالكامل؛ فهناك الآن مظلوميات عربيّة واسعة، وطبعاً هناك معاناة كرديّة، وبالتالي كل منطقٍ سياسيٍّ ينطلق من تصورٍ لسورية خارج مفهوم المواطنة سيسقط بالضرورة، وسيشكل عامل انقسامٍ وتأجيجٍ لحربٍ مستمرة في المستقبل. التبعية للأميركان وتدمير الأميركان المدن، كما يجري في ريف الرقة، ولاحقاً الرقة نفسها، وبقية القوى الاحتلالية في سورية، ومن النظام لن يصمتَ عنه السوريون، وهذا ما سيُرفض مستقبلاً بكل الطرق؛ الديمقراطية والعسكرية.

نهايةً، سورية إمّا أن تكون موحدة عبر لامركزية للحكم وهامش أكبر للمدن وللسكان المحليين فيها، وضد كل مشاريع سياسية أقرب إلى الانفصالية، كما مشروع صالح مسلم، وكذلك مشروع سورية المفيدة، أو ستعود النيران لتأكل من نجا خلال السنوات الست. العراق أمامنا، فهل نفتح أعيننا ونرى؟

العربي الجديد

 

 

 

استقلال كردستان مصلحة شرق أوسطية/ هوشنك أوسي

الممانعة العربيّة لقيام دولة كرديّة، سواء في العراق أو إيران أو تركيا، كانت وما زالت تعوّل على الممانعة التركيّة. ذلك أنه جرت العادة أن يُظهر أكثر العرب ديموقراطيّةً وليبراليةً واعتدالاً وانفتاحاً…، تململهم وامتعاضهم من الحديث عن حق الكرد كشعب في أن يكون لهم كيان مستقل. وفي حال ضاقت بهم الحجج والقرائن على «ممانعتهم» الخفيّة، تراهم يعلنون موافقتهم بل تأييدهم لقيام الدولة الكرديّة، مرفقين ذلك: بـ «ولكن، تركيا تمانع في قيام هكذا دولة، وليس نحن»، وتعليل ذلك بأن «تشكيل أي كيان كردي في العراق، سيؤدي إلى تهديد الأمن القومي في تركيا واستهداف استقرارها ووحدة أراضيها، ودفع أكرادها إلى الانفصال أيضاً». وعليه، تصبح تركيا المُلامة والمدانة على موقفها الرافض لقيام دولة كرديّة!

هذه الممانعة العربيّة، المعوّلة على الممانعة التركيّة، كانت وما زالت تتجاهل، أثناء طعنها في شرعيّة قيام دولة كرديّة، أن اللاشرعي في الأمر هو أن يبقى شعب يناهز تعداده الـ 40 مليون إنسان، طيلة هذه العقود، من دون دولة، في حين أن شعوباً، بل قبائل، أصغر كثيراً لديها دول معترف بها. وبالتالي، ثمّة وضع لا شرعي تمّت شرعنته طيلة قرن (1916-2017) حيث باتت أيّة محاولة في التكفير بأي شكل من أشكال التعديل والانصاف سلوكاً لا شرعيّاً، لأنه يمسّ بحدود هذه الكيانات الشرق أوسطيّة التي تأسست وتشكّلت في ظروف لا شرعيّة، ومن دون إرادة شعوب المنطقة.

ومع ذلك، فهذه الممانعة التركيّة، هي أيضاً، ثَبُتَ بطلانها، وسقطت روافعها بالتقادم، لأسباب كثيرة، يطول تعدادها، منها:

1 – منذ 1992 ومنطقة كردستان العراق تحظى بحماية دوليّة، وقد أعلنت الفيديرالية من جانب واحد. هذه الفيديرالية توثّقت في الدستور العراقي بعد سقوط نظام صدّام. وعليه، منذ 1992 ولغاية 2017، وإقليم كردستان العراق شبه مستقل، ودولة غير معلن عنها، ولم يتأثّر الأمن القومي لا في تركيا ولا في إيران بأي تهديد وجودي جراء ذلك! ولم يطالب لا أكراد تركيا ولا أكراد إيران بالانفصال. على العكس تماماً، فكرد تركيا، بقيادة حزب «العمال الكردستاني» صاروا يرفضون ويستهجنون ويهاجمون الدولة القوميّة.

2 – تركيا وإيران لديهما علاقات ديبلوماسية وقنصليات في إقليم كردستان العراق. وإذا أعلن الإقليم الاستقلال يوم غد، سيرتفع التمثيل الديبلوماسي لأنقرة وطهران في العاصمة هولير (أربيل) إلى مستوى سفارة. ذلك أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والإقليم الكردي وصل إلى ما يزيد على 12 بليون دولار، وهو يتجاوز حجم التبادل التجاري بين أنقرة وبغداد، بل يتجاوز حجم التبادل التجاري بين تركيا ودولة أخرى مستقلة كلبنان مثلاً. ولتركيا ما يزيد على 1300 شركة عاملة في كردستان، وما يزيد على 30 الف مواطن تركي يعملون في هذه الشركات وفي قطاعات اقتصادية وخدمية أخرى داخل كردستان. وعليه، فإقليم كردستان الفيديرالي، وضمن وضعيّته الحالية، كان نعمة على تركيا، وليس نقمة. وسيتضاعف حجم التبادل في حال أعلن الإقليم الاستقلال، فتصبح دولة كردستان شريكاً اقتصادياً استراتيجياً لتركيا في المنطقة.

دول الخليج أيضاً، وفي مقدّمها المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات، لم تعد تنظر إلى قيام دولة كردستان من تلك الزاوية القوميّة الضيّقة، المتأثّرة بالدعاية البعثيّة. بل صارت تنفتح أكثر على إقليم كردستان. وتحتل دولة الإمارات المرتبة الأولى بين الدول العربيّة التي لديها استثمارات في كردستان.

في هذا السياق، وعلى هذه الخطى، ثمة مؤشرات إلى أن مصر أيضاً باتت تتجه نحو القبول بقيام دولة كرديّة في منطقة الشرق الأوسط. وصارت القاهرة تحاول أن تجد لنفسها حضوراً في عاصمة الإقليم. وفي حال إعلان الإقليم دولة مستقلّة فلن تعارضها مصر. وعليه، إذا كانت تركيا ومنطقة الخليج ومصر تتقبّل فكرة قيام دولة كرديّة في المنطقة بوصفها صديقة للعرب والترك، وشريكة استراتيجيّة لدولهم وشعوبهم واقتصاداتهم، فماذا يبقى لدى الممانعين مما يعوّلون على رفضه لهذه الدولة، سوى إيران؟ وهذه الأخيرة أيضاً، ستتراجع، وتحاول كسب ودّ دولة كردستان، واستمالتها، في إطار المكاسرة والمضاربة على دول الخليج ومصر.

ولئن كان أنضج الظروف لقيام الدول أكثرها اكتظاظاً بالاضطراب والقلاقل، بدليل أن أغلب دول العالم ظهرت في هكذا ظروف، فإن قيام الدولة الكردية لا يعتمد فقط على تدهور ظروف الشرق الأوسط الملتهبة، كما يروّج البعض، بل ثمة تجربة كردية عمرها يمتد من 1992 ولغاية 2017، جرّب فيها الكرد السلطة وإدارتها، وتخلّت أحزابهم في كردستان العراق عن ذهنية حركات التحرر الوطني. كما أن 25 سنة من الحكم والإدارة الكرديّة كافية ومؤهّلة لإعلان الدولة، بل تتجاوز فترة خضوع سورية والعراق للانتدابين الفرنسي والبريطاني اللذين تركا لهذين البلدين مؤسسات وقوانين وأنظمة تأسست عليها سورية والعراق.

وتبقى ضرورة انعاش الديموقراطية والتنمية البشرية وتطوير الاقتصاد ومكافحة الفساد في رأس الأولويّات المحلّية والحيوية التي ينبغي ان تتصدّى لها الدولة الكردية القادمة قريباً. وعليه، فالاستفتاء على استقلال الإقليم الكردي، والتحوّل من الفيديراليّة إلى الدولة المستقلّة، المزمع في أيلول (سبتمبر) المقبل، ستكون نتائجه تحصيلا ًحاصلاً. وغالب الظنّ أن إعلان الاستقلال لن يكون في شكل اوتوماتيكي فور إعلان نتائج الاستفتاء. لكن ما هو مفروغ منه أنه يمكن اعتبار الفترة الفاصلة بين 1992 و2017 بمثابة التمرين على إدارة الدولة.

لقد انتهت مرحلة المزاح، وستبدأ مرحلة الجد وتحدّيات إعلان دولة كردستان وشكل إدارتها. ذلك أن مصالح دول المنطقة وشعوبها باتت متوافقة مع قيام هذه الدولة. وصار قيامها منفعة ومصلحة شرق أوسطيّة أكثر منه منفعة ومصلحة كرديّة وحقاً كردياً أصيلاً وشرعياً. أمّا حملات التهويل من قيام كردستان على انها «إسرائيل الثانية»، وكل هذا النحيب والعويل الاستباقي على الأمن القومي العربي ووحدة الأمة العربية… الخ، فحجج وخرافات بان بطلانها، وسقطت بالتقادم.

* كاتب كردي

الحياة

 

 

 

 

 

عرب وكرد: من أجل المستقبل/ علي العبدالله

نظّم «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» مشكوراً ندوة تحت عنوان: «العرب والكرد: المصالح والمخاوف والمشتركات»، دعا إليها عدداً من المفكرين والمثقفين العرب والكرد ناقشوا على مدى ثلاثة أيام العلاقات العربية الكردية ومواقف العرب من التطلعات القومية للكرد في سورية والعراق.

عانت الندوة من نقطة ضعف رئيسة، ترتبت على تحديد الموضوعات وعلى المواقف المسبقة التي حكمت معالجات المشاركين لموضاعاتهم، تمثلت في القفز على السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الكيانات السياسية القائمة والجغرافيا السياسية القلقة وغير القابلة للحياة وولدت الصراعات السياسية الراهنة.

لا يمكن بحث طبيعة العلاقات العربية الكردية والتوصل إلى حل منطقي للخلاف/الصراع من دون تحديد السياق الذي تشكلت فيه القضية الكردية وربط الحل المتصور بهذا السياق. وعليه لا بد من دراسة السياق والكشف عن الدور الذي لعبه في ولادة القضية الكردية وتأثيره على الخيارات المطروحة والفصل في منطقيتها وفرص نجاحها في حل الخلاف/الصراع.

يشير السياق التاريخي إلى ارتباط نشوء الكيانات السياسية الراهنة بانهيار الدولة العثمانية بعد هزيمتها مع دول المحور(ألمانيا واليابان) في الحرب العالمية الأولى، وبرسم حدود دول المنطقة من قبل الدول الغربية المنتصرة تلبية لمصالحها السياسية والاقتصادية القريبة والبعيدة. كما يستدعي البحث عن حل للخلاف/الصراع التعريج على طبيعة الدولة العثمانية كإمبراطورية أساسها ومحدد المواطنة فيها ديني (الإسلام)، وما فرزته من تنظيمات اجتماعية واقتصادية في ضوء سياسة الاسترضاء التي اتبعتها لشراء الولاءات عبر توزيع الأعطيات مكافأة على خدمات أو إغراء واستدراجا لادوار وخدمات، وما أنتجته من تقسيمات إدارية وإقطاعيات وخرائط سكانية متداخلة ومركبة ومتنوعة من جهة، وعلى القاعدة التي اعتمدتها الدول الغربية في صياغة الكيانات السياسية الجديدة: القومية، قاعدة مخالفة، يمكن القول مناقضة، لتاريخ الاجتماع الإسلامي، وما ترتب عليها: بعث هويات وطنية متمايزة، صحيحة أو مصطنعة، أسست لانقسامات عمودية ولتباينات مصلحية وأطلقت صراعات جديدة على خلفيات جديدة. وهذا، بالإضافة إلى القواعد السياسية للدولة الإمبراطورية: الحدود المفتوحة، حرية تنقل الأفراد والجماعات، تحريك الجيوش، والمجتمعات بالتالي، وفق احتياجات الدولة العسكرية والأمنية، ولّد تمازجاً عرقياً واثنياً وقومياً ومعادلات سياسية واجتماعية متشابكة ومتداخلة ومتعارضة إلى درجة التناقض، أطلقت صراعات وعقدت فرص حل الخلافات والمشكلات بين دول وشعوب المنطقة.

لقد أصبحت المنطقة أسيرة طرفي معادلة متناقضين: تكوين تاريخي سياسي اجتماعي موحد، إلى حد كبير، مبني على وحدة العقيدة، وواقع قومي متمايز جديد مفروض، غدت بها متعارضة المصالح متعددة الولاءات تعيش ازدواجية الحنين للماضي، لما ينطوي عليه من عزة وكرامة وفخر، والالتحاق بالواقع الجديد لاعتبارات عملية يفرضها الواقع الدولي ومســـتدعياته السياسية والأمنية والاقتصادية.

في هذا السياق ولدت القضية الكردية، ولدت من الإجحاف بحق الكرد، خرجوا من توزيع تركة الدولة المشتركة (الدولة الإسلامية) التي كانوا جزءا منها طوال قرون، 13 قرنا، صفر اليدين، من جهة، وتعرضهم لغبن وتمييز في الدول التي الحقوا بها، من جهة ثانية.

لم تتطرق أوراق الندوة للسياق التاريخي للاجتماع الإسلامي ومترتباته، ولا للكيانات السياسية (الدول) التي أنشأتها الدول الغربية المنتصرة وما انطوت عليه من تركيبة سكانية غير متجانسة وما ولدته من تباينات في المصالح والولاءات والصراعات. دخل معظم الأوراق موضوعه من لحظات تاريخية وسياسية انتقائية استنسابية تخدم توجهه الفكري وخياراته السياسية، ما جعل الاتفاق على فهم القضية والتوافق على مخرج إيجابي وناجح يحقق الاستقرار والأمن لشعوب المنطقة بعيد المنال. أصر العرب على التمسك بالكيانات القائمة وعلى تثبيت حدودها وجغرافيتها، على رغم أنهم في مجالات أخرى يهاجمونها باعتبارها دول سايكس – بيكو والسبب في تجزئة الأمة العربية ويدعون إلى تهديمها وإقامة دولة عربية واحدة، تنفيذاً لحق تقرير المصير الذي أعلنته عصبة الأمم وأكدت عليه الأمم المتحدة، حق يتمسكون به وينكرونه على الكرد، في ممارسة فجة لازدواجية المعايير. في حين وقف الكرد في جهة مقابلة ومناقضة يريدون استعادة حقهم من تركة الدولة المشتركة ويريدون المشاركة في نظام العصر بإقامة دولة خاصة على أسس قومية، وعلى المبدأ الدولي ذاته: حق تقرير المصير.

تقضي الجدية والمسؤولية اعتماد معايير واحدة عند التعاطي مع مسائل متماثلة، والعدالة والإنصاف، الإقرار بحق الكرد بكيان سياسي يلبي تطلعهم القومي، والمصلحة، التوصل معهم إلى تفاهم يأخذ بالاعتبار أسئلة الحاضر والمستقبل. وهذا يفرض الاتفاق على المنطلقات والمبادئ الحاكمة للمعالجة السياسية وأولها، في إطار القضية المطروحة، الاعتراف بوجود قضية كردية ضاغطة والانطلاق في حلها من الإقرار بحق تقرير المصير للكرد، باعتبارهم شعباً وأمة مميزة لها الحقوق التي للعرب ذاتها، والعمل على الاتفاق معهم على حل توافقي بالطرق السلمية لإخراج المنطقة من الصراعات المريرة التي عانت ويلاتها لعقود طويلة، حل يفتح الطريق أمام المنطقة نحو الازدهار عبر توفير الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة وتحقيق تطلعات شعوبها المادية والمعنوية.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

علاقات العرب والكرد بين مساحات التعبير وساحات التغيير/ سيف الدين عبد الفتاح

حاول مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن علاقة العرب والكرد، والذي اختتم في الأول من مايو/ أيار الجاري في الدوحة، تبيُّن المخاوف وتبصّر المشتركات. وقدّم المركز بدراسته هذه القضية، شديدة الحساسية، أي العلاقة بين العرب والأكراد، نموذجا غايةً في الأهمية في الاقتراب من مثل هذه القضايا ذات الحساسية العالية، والتي يقوم بعضهم، من فرط الحذر في إثارتها، بتجاهل تلك القضايا، وعدم الاقتراب منها تحت شعار “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”، ولكن الأمر في هذا الشأن على غير هذه القاعدة، ذلك أن من الفتنة الحقيقية أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ونتغافل عن قضايا كثيرة تعتمل في جغرافيا العرب، وكأن حياة العرب بلا أزمات أو إشكالات، إنما يشكل حالةً من وأد هذه الإشكالات، وهي حية من دون أي مسوغ، لمحاولة إحداث قدرٍ من التواطؤ بعدم الدخول إليها أو إثارتها.

كان ذلك ديدن المركز العربي حينما يعالج قضايا كبرى، لا تؤثر فقط على العلاقات العربية العربية، ولا العلاقات بين الدول، وإنما كذلك حينما يمتد الأمر إلى العلاقات بين المجتمعات والشعوب، بين التكوينات والتجمعات. ومن هنا، كان هذا الدور التنويري الذي يقوم به المركز في سياق الوعي بجملة القضايا التي لم تكن هناك سابقاً فرصة علمية أو بحثية أو أكاديمية، لتناولها من جوانبها كافة، بما يسمح من مساحاتٍ لا بأس بها للتعبير عن الرأي الأكاديمي، بل والرؤية السياسية، حتى لو تخالفت أو تناقضت، أو إخراج هذه الرؤى من صندوقها الأسود إلى حالةٍ من الشفافية والحوار البحثي، إنما يشكل، في حقيقة الأمر، أفضل طريقٍ للتعامل مع هذه القضايا في إطار إحداث وعي ممتد وعميق بالقدرة على إدارة حوارٍ حول معظم هذه الإشكالات، مهما كانت ملتهبة، ومهما اتسمت بالحساسية الشديدة أو المفرطة.

هكذا فعل المركز في موضوعاتٍ تتعلق بالعرب الشيعة، ومؤتمرات أخرى عن العلاقات مع

“ليست القضية، يا سادة، في العدد والتعداد، وإنما في التعدّدية، مهما كانت مساحاتها” إيران وتركيا، وقضايا في غاية الأهمية صار عنوانها “المكاشفة والمصارحة”، ذلك أن وضع أوراق هذه الإشكالات على مائدة البحث والحوار هو أفضل طريق للوعي بهذه الإشكالات وأحجامها وأوزان تأثيرها، وتوجهات تتحكم في مساراتها، أو أطروحات متنوعة إلى حد التناقض تتطلب تعاملا بحثيا ومنهاجيا ليخرج التعامل مع هذه الإشكالات والقضايا إلى مسالك البحث الممنهج، لا التمنيات العاطفية والانفعالية، أمور تتعلق بحال الانفعال أو الافتعال أو الإغفال التي تضر بهذه القضايا والبحث فيها، طبيعة القضايا والوقوف على مناطق فهمها والوعي بها، والقدرة على التعامل معها، ببحث دقيقٍ وربط عميق.

هذا هو الأمر الذي يتعلق بما شهدناه من مؤتمر العرب والكرد من اتجاهات متنوعة، وتضمنه أموراً من ناحية الذاكرة التاريخية، وكشفت النقاب عن إمكانات توظيفها في المعارك السياسية من خلال تصورات سلبية متبادلة. ومن غير الوقوف على الأسباب الحقيقية لتلك الإشكالية والمقاصد التي أثرت في صياغة هذه الرؤى المختلفة حول هذه القضايا المتنوعة.

وواقع الأمر أن التعامل مع هذه الظواهر والقضايا وهذه الإشكالات على حقيقتها إنما يشكل طاقةً إيجابيةً تفتح بالمراكمة في هذا الخيار والمسار، وتسمح بالكشف عن المقاصد التي يمكن الوقوف عليها في هذا المقام. ومن أهم الأمور التي كشف عنها هذا المؤتمر بيئة (وبنية) الاستبداد التي أصابت المجتمعات في مقتل، فأصابتها بالفرقة، واصطنعتها على أعينها بقصدٍ وتعمد، ذلك أن شعار المستبد هو “فرّق تسد”، وكان عنوان هذه الفرقة عملاً من المستبد، ليحاول أن يبقيها متشرذمةً، حتى يمكنه الإمساك بخيوطها.

وانتقلت من فعل للمستبد متعمدٍ إلى تراشقٍ للمجتمع معتمد، وبين تكويناته وتنوعاته الحقيقية. ولا يمكن كشف هذا الانتقال بخطاب سياسي، يقوم على إذكاء عمل الفرقة، وما يترتب عليه من اعتزال أو انفصال، المستبد وعناصر المكمل ومكوناته في فرقة. يكون المستبد فردا ما دام الناس أفراداً، إنها لعبته حينما ينقل صراع المجتمع معه إلى صراعٍ داخل المجتمع نفسه، فيجعل الشعب فرقا وشيعا، إنها صنعته، بل جعلها حرفته ومهنته، يقوم بها بتعمدٍ، حتى يستطيع مع التأليب أن يقتتل الجميع، وينجو هو بأمان سلطانه وطغيانه واستبداده وتأمين كرسيه وغشم سياساته، كان هذا الحدث الأول الذي ينقلنا إلى ساحات التغيير. فلو كان هناك إجماعٌ على مسؤولية المستبد على ما نحن فيه، لكان هناك اجتماع بين تكوينات المجتمع، لتفكيك متوالية الاستبداد، وكشف خدعه الكبرى وأساطيره التي يشيعها، كذلك فإنه، من جملة تلك الأمور، ما يتعلق باستخدام جهاز مفاهيمي، يوصلنا، في النهاية، إلى حالةٍ صراعيةٍ، تقوم على قاعدة أن بعض المجتمع يمزّق بعضه، من دون أي اعتبار للمعنى الذي يؤكّد على تماسك الجماعة الوطنية، وبدا أنه من أهم المفاهيم التي أثرت سلبيا في هذا المقام مفهوم الأقلية واستهلاكه على نحوٍ تحريضي واستبدادي، يستنفر وضع الأغلبية في أن ليس للأقليات من قيمةٍ يحرّض الأقلية مع طموحها أن تثبت حال قيامها، وبدأت تعبر عن طموحها بانفصالها.

بدت هذه الحالة الصراعية في أسوأ صورةٍ في مشهدٍ، يحاول أن ينقل فكرة الأقلية والأغلبية في

“الفتنة الحقيقية أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ونتغافل عن قضايا كثيرة تعتمل في جغرافيا العرب” السياسة إلى مجتمعاتٍ مزّقها كل ممزّق، ذلك أن شأن التسويات في السياسة على قاعدة الأغلبية والأقلية حال إجرائي، ينظم حال التصويت والتمثيل، أما الأغلبية والأقلية إذا ما اجتمع وهو استنفار غير مفهوم يعقد الصراع، فيشرعن معنى الاقتتال الأهلي، ويزكّي تلك المطالبات الانفصالية، فهل من الممكن لنا أن نمحص بعض جهازنا المفاهيمي في التعامل مع هذه القضايا ذات الحساسية، ولا نستخفّ باستخدام مصطلحات ومفاهيم تؤجّج الصراعات، وتخرج الاختلافات إلى حالٍ من النزاع والتنازعات.

وكذلك فإن تلك المعارك التي تدار من الناحية السياسية إنما تدار على العدد والأعداد، فيتحدّثون عن أعداد الأقليات التي تحاول الأغلبيات أن تهوّن من عددها، وتحاول الأقليات أن تعظم من تعدادها. والقضية، يا سادة، ليست في العدد والتعداد، وإنما في التعدّدية، مهما كانت مساحاتها، وإدارتها بما يمكن المجتمعات أن تشكل علاقات مدنية سوية، وتكوينات مجتمعية قوية، تستطيع أن توازن السلطة، وتشير إلى بناء علاقات سوية بين الدولة والمجتمع. وإدارة التعدّد والاختلاف والتنوع إنما تشكل قدرة حقيقية في احترام معاني المواطنة وحقوق الانسان، وبما يعبر عن مفهومٍ محدّد للسلطة، ومفهوم متعيّن للمواطنة، ومفهوم ممتد للإنسان، والحفاظ على حقوقه الأساسية والتأسيسية والمدنية والسياسية، هذا هو الشأن الذي يتعلق بساحات التغيير في هذا المقام، ويعبر عن طاقاتٍ حقيقية للمجتمعات، والتئام تماسكها.

ومن هنا، من الواجب، في موضوع الكرد والعرب، ومن خلال مساحات التغيير الواسع وحريته والتعبير الموضوعي العلمي البحثي وضرورته، أن نتحدّث عن سيناريوهات الانفصال وخطورتها، وعن قدرات بناء المجتمع في ظل سيناريو يتجنّب عمليات الانفصال، ويستطلع رأي أصحاب الشأن في ذلك الأمر، وهو ما يمكن أن يجنّبنا السيناريو الذي يتعلق بتمزيق أوصال دولة وفرقة مجتمع. كان هذا المؤتمر مختبرا حقيقيا، مارست فيه الجماعة البحثية والعلمية أفضل ساحاتٍ للتعبير بحرية، وأنتجت ممكناتٍ تتعلق بساحات التغيير التي يجب أن ننطلق إليها لصياغة مشروع حقيقي، يأمن فيه الجميع، ويؤمن حقوق كل جماعة في المجتمع، إنها إدارة التعدّد، لا إثارة قضية العدد والتعداد.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى