صفحات سوريةعمر قدور

عن مارين لوبن وتغطية العار/ عمر قدور

 

 

إذاً، طغت قصة عدم استقبال مفتي لبنان مارين لوبن بلا حجاب على النقاش الأصل حول استقبالها من رئيسي الجمهورية والحكومة اللبنانيين. النقاش لم يأخذ حيزاً واسعاً في الأساس، بخلاف حادثة دار الفتوى التي ضجت بها الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما برز ميل «علماني» لتحميل المفتي مسؤولية التغطية على النقاش المحدود، أو حتى مسؤولية إعطاء مبررات لأنصار لوبن كي يزدادوا تطرفاً، مع فهم محدود للحملة الانتخابية التي تخوضها، وإعلاء لا مبرر له من شأن آثار زيارتها لبنان.

ضمن الطبقة السياسية اللبنانية، وحده وليد جنبلاط كان على موعد مع الرئيس هولاند في الإليزيه، ليتمنى صراحة بعد اللقاء خياراً لرئاسة فرنسا أفضل من لوبن، وربما كانت علاقة جنبلاط التقليدية بالاشتراكية الدولية أحد أسباب صراحته وتقديره لما يعنيه انتخابها. لكن تغريد جنبلاط خارج السرب يؤكد القاعدة التي كان محبَّذاً أن يخرقها جعجع، برفض استقبال لوبن، وإن أسمعها بعضاً مما لا تود سماعه عن إرهاب الأسد.

الموضوع لا يتعلق بلبنان حصراً، على رغم ما يُحكى عن موقعه المتميز فرنسياً، إذ لو اختارت لوبن القيام بجولة عربية ولقاء مسؤولي الصف الأول في الدول المختارة فالمرجح ألا نجد مسؤولاً عربياً يعتذر عن لقائها بسبب ما هو معروف عن خطابها المحرّض على التطرف والكراهية. أهم من ذلك، تبدو سياسة الأبواب المفتوحة أمام الغربيين، والسخاء في عدم التمييز بينهم، راسخين في التفكير السياسي العربي، فضلاً عن الشعور بالدونية الذي يلجم مجرد التفكير في القدرة على المساهمة في السياسة الدولية.

بعض التمييز بين لوبن وترامب يفرض نفسه، لجهة البراغماتية السياسية فقط، فالأولى حتى الآن مرشحة رئاسية، أي لا وجه لاستقبالها رسمياً بصفتها ممثلة للناخبين الفرنسيين والدولة الفرنسية. التمييز الآخر أن فرنسا طرف يمكن الاشتباك معه سياسياً، بخلاف الولايات المتحدة التي اعتادت فرض إرادتها على غالبية دول المنطقة، مع أن العامل الأخير يستوجب النقاش أيضاً وينبغي عدم اعتباره قدراً لا مفر منه.

القول بأن الاحتفاء بلوبن وأمثالها يقدّم خدمة لـ «داعش» وأمثاله يتعدى العمومية في حالتنا، ففرنسا في طليعة مصدّري مقاتلي التنظيم في أوروبا، وفي طليعة المستهدفين منه أيضاً. لوبن واليمين المتطرف لا يريدان سوى رؤية الشطر الثاني من المعادلة، وفي طرفنا ثمة من لا يريدون التمعن في الشطر الأول وخصوصيته الفرنسية، بل يرتاح ذهنهم إلى الصورة النمطية التي تخدم اليمين المتطرف الغربي وتنص على أن الشرق هو منبع الإرهاب.

المسألة ليست في أن تقفل لوبن، إن تسلمت الرئاسة، الحدود أمام لاجئين جدد، أو أن تطرد مهاجرين لم يحصلوا على إقامات شرعية كما يحاول ترامب فعله. هي في نوعية التعامل مع أجيال من المهاجرين واللاجئين، لا تستطيع هي أو سواها طردهم. هذا التعامل العنصري، الموجود بنسبة ما خارج السياسة الرسمية، سيؤدي تفاقمه ومحاولة ترسيمه إلى مزيد من التطرف، بخاصة أنه موجّه أصلاً إلى أجيال ثانية أو ثالثة من اللاجئين أصبحوا فرنسيين في الواقع، ويملكون كفاءات مناسبة للمنافسة على الوظائف العليا، وهو ما تراه لوبن وجمهورها خطراً على الهوية الفرنسية. وهو أيضاً ما سيؤدي إلى خلق المزيد من المتطرفين والناقمين على بلدهم الذي لم يعرفوا غيره «فرنسا»، وسيجد بعضهم الملاذ في داعش وأشباهه، لتُعاد ثانية دورة الكراهية المعروفة.

هذا الخطر على الشرق والغرب معاً لا يُفكّر فيه لحساب تبسيط أمني، كالحرب الدولية على الإرهاب، أو لحساب تبسيط فكري يرتاح إلى الصور النمطية المتبادلة على الضفتين. فإذ يوضع الغرب في سلة واحدة لا نشهد استقبال اليمين المتطرف الغربي أو سواه من الطبقة السياسية على السوية نفسها فحسب، بل أيضاً لا نشهد احتجاجاً لائقاً باستقبال اليمين المتطرف من قبل من ينبغي أن يكونوا معنيين بالاحتجاج، حتى إذا اتسعت دائرة المستائين على قاعدة التأذي الانفعالي من تصريحات اليمين المتطرف، لا على قاعدة فهم الآثار المديدة المدمرة لخطابه.

يتضافر مع ما سبق فهمٌ يدعي التذاكي لجهة التركيز على السياسات الخارجية للأحزاب الغربية، والدعوة لاقتناصها حتى إذا كانت السياسات الداخلية لتلك الأحزاب أقل عدالة إزاء مواطنيها. والحق أن المنطقة لم تُسجل حتى الآن تلك الاستفادة المرجوة، ولم تكن علاقات سلطاتها مع السلطات المحافظة في الغرب ذات تأثير إيجابي مستدام على العلاقة بين الطرفين، بمقدار ما أدت إلى الأذى في العلاقة مع الأطراف الأكثر انفتاحاً في المجتمعات الغربية. الميزان الفعلي وراء هذه الفكرة كان دائماً تفضيل القوى الغربية التي تريد بقاء المنطقة دون تغيير جذري، حتى إذا انخرط بعضها في مشاريع تغيير بالعنف، تمليها مصالح ذاتية، لا تلحظ إطلاقاً متطلبات شعوب المنطقة.

وإذا كانت فرضية الاستلاب أمام الغرب تبرر شيئاً من هذا السلوك، فلا شك في أن القسم الأعظم منه مبني على التخوف من الوجه التحرري أو الديموقراطي للغرب، حيث تتقاسم السلطات وشرائح لا بأس بها من شعوب المنطقة الخوف ذاته. فرضية القوة الغربية، عسكرياً واقتصادياً، لا تكفي وحدها لتبرير الخوف، بخاصة لأن الفئات الأكثر شراسة في التعبير عن العداء للغرب هي تلك المعادية لقيم التحرر والديموقراطية. بل جزء من هذه الفئات يتلهف، إذا لزم الأمر، حتى إلى هزيمة عسكرية محدودة أمام الغرب ما دامت تسهم في استقرار الريبة والعداء بين الطرفين.

حتى يكتمل عار استقبال لوبن، كان بعض مقارها يتعرض للتدقيق على خلفية اتهامات فساد تتصل بعضويتها في البرلمان الأوروبي. المرشح اليميني فرنســوا فيون كان ألغى زيارات خارجية إثر فضيحته المشابهة «بينلوب غيت»، وإذا أضفنا ما يتسرب عن فضائح محتملة لترامب سنجد أنفسنا أمام ما يعنيه اليمين الشعبوي الغربي، وقد تكون مفهومة أكثر «جرأته» في الدعــس على منــظومة القيم الإنسانية المعاصرة. أن تمتدح لوبن وأمثالها بشار فهذا تفصيل صغير يتسق مع خطابها. العار في ألا نفكر في أبعاد ذلك كله، وأن يأتي تصرف مكتب المفتي ذريعة للتغطية عليه، إذ لا يغير من الأمر شيئاً لو قبلت لوبن بتغطية العار بقطعة قماش.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى