صفحات مميزةعمر قدور

عن معوقات الحل السياسي في سوريا: عمر قدور

 

عمر قدور

كثرت أخيراً الأقاويل والتسريبات عن تسوية دولية تُعدّ للملف السوري، ولا يخفى أن الحديث عن الحل السياسي أتى إثر أشهر من الحصار الدولي الذي فُرض على توريد الأسلحة للجيش الحر، ما يرجح فرضية الضغوط الدولية من أجل تعزيز فرص الحل السياسي، بعد فرض استحالة حسمه عسكرياً. نظرياً، وهذا ما قد تراه جهات دولية فاعلة، من المتوقع أن طرفي الصراع قد أنهكا، وباتا أكثر جاهزية للحل السياسي بعد فشل محاولات الحسم العسكري من الطرفين. وهي ليست المرة الأولى التي تتلكأ فيها القوى الفاعلة حتى تُنهك فيها أطراف نزاع ما، لكنها أيضاً ليست المرة الأولى التي لم تنفع فيها هذه الوصفة، فصار النزاع غير قابل للتسوية. في كل الأحوال تنطلق هذه الفرضية من إنضاج الظروف المحيطة بالنزاع، وإنضاج أطرافه سياسياً، بغية تقديم تنازلات مؤلمة ما كانت ممكنة قبل استنزاف فرص الحسم العسكري. فهل الصراع في سوريا قابل فعلاً للمساومة؟ وهل النظام تحديداً قابل للإقرار بعدم قدرته على الحسم؟ ومن ثم التضحية بأمراء حربه لصالح الإبقاء على جزء منه؟ وقبل هذا وذاك: هل أصبحت الظروف الدولية والإقليمية مواتية للحل السياسي؟

في الواقع لا توجد مؤشرات حقيقية على أن تسوية ما قد حان قطافها، وهذا يتعلق أساساً بعدم قدرة الأطراف المنخرطة في الصراع على تقديم تنازلات كبرى، لأن أي تنازل يُنذر بالخسارة النهائية. منذ اندلاع الثورة السورية بدا أن تموضع القوى المحيطة بها غير قابل للإزاحة، فتحولت معركة الثورة إلى معركة وجود ليس للسوريين فحسب، وإنما أيضاً لبعض الفاعلين الأساسيين من حلفاء النظام. لقد نجح الأخير في توريط حلفائه، وتحديداً الروس، إلى حدّ بات فيه نفوذهم مهدداً بالزوال تماماً مع زواله، أما إيران فهي لا تخفي اصطفافها النهائي إلى جانب النظام، بل أشارت تقارير عديدة منذ بدء الثورة إلى مشاركتها وإشرافها المباشرين على جوانب مهمة من معركته. ما تقوله هذه الوقائع أن لا أمل لحليفي النظام الرئيسين إلا ببقائه كما هو، وبخلاف ذلك لا ضمانات لهما بالحفاظ على الحد الأدنى من النفوذ بعد تورطهما المباشر في دماء السوريين. إن أية تسوية ستتطلب من روسيا وإيران تغييراً جذرياً في رؤيتهما للواقع السوري، وبالتالي تضحيتهما بالجزء الأكبر من نفوذهما على أمل الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، وهي بلا شك مخاطرة كبيرة لعدم توفر إمكانية توفر ضمانات مستقبلية، بخاصة لإيران المهددة بالزوال التام لنفوذها الإقليمي ككل.

إن التركيز هنا على حلفاء النظام ينطلق من ارتباطهم العضوي والمباشر بالمعركة الدائرة على الأرض، بخلاف «أصدقاء الشعب السوري» الذين ليسوا مهددين بالخسارة، بل هم أقرب إلى اكتساب النفوذ المستقبلي كلما خسر أولئك أكثر. من هنا تُنذر التصريحات الأخيرة لمسؤولين إيرانيين، والتي تضع سوريا بمرتبة المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين، بحرب مديدة تقودها إيران بالأصالة بعد فشل وكيلها المحلي بالحسم العسكري، لا سيما أن هذه التصريحات تأتي مترافقة مع التهديد بزج ستين ألف مقاتل جديد متخصصين في قتال المدن.

من جهته، لا يبدو النظام نفسه قابلاً للعمل وفق ديناميكيات السياسة، وهو قد شهد حتى الآن تماسكاً كبيراً على الصعيد الأمني، أي أن نواته الأساسية ما تزال صلبة. وقد أظهرت الثورة هشاشة النظام على المستوى السياسي، وأيضاً هشاشته على مستوى مؤسسات الدولة المدنية، وفي الواقع تبين أن قوة النظام الوحيدة تكمن في آلة حربه على المجتمع. على ذلك، ليس بوسعنا الحديث عن مراكز قوى ضمن النظام، ولا عن طبقة سياسية تقوم بإقصاء الجانب الأمني والعسكري لصالح عملية سياسية حقيقية. إن المطلوب حقاً في أية تسوية أن يقوم المستوى الأمني بخطوة تاريخية يحل فيها نفسه ويتخلى طوعاً عن السلطة، وهذا يتطلب إحساساً حقيقياً بالمسؤولية الوطنية، وهو كما نعلم إحساس غائب عن العقيدة الأمنية للنظام. فأي حل سياسي لا يعيد هيكلة المستوى الأمني، ولا يعيد النظر في العقيدة الأمنية ككل، لن يضع البلاد على سكة التغيير، بل سيكون بمثابة تأبيد جديد للنظام لأن الثورة انطلقت أصلاً لإسقاط النظام الأمني برموزه وأركانه، وقد بينت الأحداث بشكل حاسم تماهي الحلقة السياسية للسلطة مع المستوى الأمني على نحو تام.

صلابة النظام تعني تحديداً عدم مرونته، وهكذا قد تكون صلابته مصدر ضعفه النهائي، فهي تفقده القدرة على المناورة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ضمن تسوية تاريخية، وتُنذر دائماً بانهياره الكلي حين يتعذر بقاؤه كما هو تماماً.

على الضفة الأخرى، تبدو المعارضة منقسمة، وغير جاهزة حتى للاتفاق على أهداف سياسية أساسية، كما لا يبدو حال الكتائب المقاتلة على الأرض أفضل حالاً لجهة توحدها وانسجامها. لقد كان انقسام المعارضة طوال السنتين الماضيتين مثار انتقادات في أوساط الثورة نفسها، ومن الجلي أن الكثيرين في الداخل والخارج قد سلّموا بعدم إمكانية توحدها. لكن انقسام المعارضة لم يكن دائماً مصدر ارتياح للنظام الأمني، على الرغم من محاولته استثمار ذلك سياسياً، لأن عدم انتظام الثوار في إطار واحد صعّب من مهمته في توجيه ضربة قاضية للثورة. واقع الحال أن لا جهة في المعارضة أو الثورة قادرة على تقديم تنازلات سياسية أساسية وفرضها على مجتمع الثورة؛ الأمر الذي بقدر ما يُضعف موقع المعارضة التفاوضي فإنه يرفع من سقف مطالبها وإلا باتت مهددة بفقدان شرعية تمثيلها!.

عموماً تستند التسويات المقترحة إلى الإقرار بشرعية تمثيل المعارضة في المقابل من شرعية تمثيل النظام لجزء من السوريين، إلا أن ما يخرق هذا التصور هو الجرائم التي ارتكبها النظام والتي لا يمكن نسبها إلى حرب أهلية يتكرر الحديث عنها بغية ترسيخ هذه الفرضية. فوجود مؤيدين للنظام لا يلغي وجوب محاكمته، بل يقتضي من مؤيديه التخلي عن رموزه الحالية والانخراط الجاد في تسوية ومصالحة تاريخية تحفظ حقوق الجميع. إن إقصاء الأيدي الملطخة بالدماء عن أية تسوية لا يُعد شرطاً بل هو حقن للدماء في المستقبل، إذ سبق للسوريين أن قبلوا بالتعايش مع النظام الذي أباد عشرات الآلاف قبل ثلاثة عقود في مدينة حماة، فلم يتورع عن تكرار مجازره الآن.

على هامش ما يُشاع عن حراك سياسي دولي، ربما هناك إيجابية وحيدة تُسجل لمبادرة رئيس الائتلاف الوطني السوري، والتي رفضها النظام فعلاً بإعلانه القبول بالحوار من دون شروط مسبقة، ولعل هذا يذكّرنا بالردود الإسرائيلية على دعوات الحوار التي تُوجه إليها، ويستدعي بلا شك جلسات الحوار المضنية والعقيمة التي خاضها الفلسطينيون. هكذا يقدّم النظام رؤيته للحل، فهو قبل بصفقة تبادل للمعتقلين السوريين بالأسرى الإيرانيين، ولم يقبل بإطلاق سراح معتقلين على سبيل إبداء حسن النية، أي أنه لن يقدّم طوعاً أي تنازل مهما قل شأنه كرمى للسوريين على نحو ما فعل لحماته الإيرانيين. ثمة مغزى أساسي هنا، فالنظام الذي يتعاطى مع مواطنيه كرهائن من أجل بقائه يصعب تصور وجود أفق سياسي له. إنه تعريفاً نظامٌ فيما دون السياسة، ألم يكن هذا ما استدعى الثورة عليه أصلاً؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى