صفحات الثقافة

عن مقتلة الكتاب وبيروت وعواصم أخرى/ رامي زيدان

 

 

على هامش معرض الكتاب العربي والدولي في بيروت، تطرح أسئلة في أكثر من اتجاه، وفيها أكثر من حيرة: عمّ نكتب في هذه المناسبة؟ هل نبقى غرقى في مستنقع الحنين؟ هل نتحدث عن عراقة المعرض الأقدم أم عن ترهله وعجزه وإفلاسه، مقارنةً بالمعارض الأخرى في عواصم بلدان الخليج؟ هل المشكلة في عجز رعاية المعرض أم في التردي الثقافي في لبنان؟ هل قضية المعارض مالية أم ثقافية؟ وهل الذين يشترون الكتب يقرأونها أم يزيّنون بها رفوف مكاتبهم أو مكتباتهم؟ وماذا عن الكتب كمصدر للجماعات القاتلة والفاشية والإرهابية والعنصرية؟ وماذا لو توقفت حفلات التواقيع وانتهت ثقافة المجاملات الاجتماعية؟ وهل ثمة جدوى من الانصياع لبروباغندا الجوائز الثقافية من أجل شراء رواية أو ديوان شعر؟ وهل تُجدي الكتابة التي تتحدث عن مقولة أن “القارئ الديناصور الأخير”، و”كتب الطبخ والأبراج الأكثر مبيعاً”، و”الشعب العربي لا يقرأ”؟ هل نكتب عن الكتب أم عن بيروت نفسها، أم عن موت طرابلس وبعلبك وصيدا ولبنان كله؟ وماذا عن العواصم والمدن العربية الأخرى في زمن “الدواعش” والإرهاب؟! وماذا يعني ازدياد الحديث عن “زمن الفن الجميل” وزمن شعر الرواد، ونشر صور بيروت ما قبل دبابات الحرب وما قبل جرافات وحوش الاعمار والاسمنت، والقاهرة ما قبل الحجاب، وبغداد ما قبل الطغيان والاحتلال؟ ومن المسؤول عن موت المدن؟

نعيّ الدور

أفضل لنا، من التعويل على أهمية معرض الكتاب والقراءة والناشرين والكتّاب أنفسهم ونعيّ القارئ اللبناني العربي، الغوص في دور بيروت (والمدن العربية الاخرى) وواقعها في الماضي والحاضر والمستقبل، وعن أمكنتها وحراكها الثقافي. فهذه المدينة الساحرة، الكثيرة التناقضات والوجوه والألوان، لا يتردد بعض المثقفين في إعلان موتها وانتفاء دورها تحت وطأة التحولات السياسية والايديولوجيات والمنافسات وهجرة ناسها وانزلاقها تحت الرايات الفاشية والطائفية والعنصرية التي تنتشر على ذرى الأعمدة وفي الساحات وفي صميم شارع الحمرا والأماكن العامة. كل شيء يوحي بسحر بيروت وانتفاء دورها الاقليمي والعربي. هناك الماضي الذي لا يمضي، وهناك الحاضر الموقوف تحت سنادين الميليشيات والعصبيات والتخلف والترييف، وهناك الثقافات الفردية وهي تقوم على نشاطات كثيرة، سواء الغاليريات أو الكباريهات (مترو المدينة نموذجا) وحتى الجمعيات المدنية والثقافية (أشكال ألوان) والاجتماعية، لكن أثر هذه الثقافات بات محدوداً، وناسه اشبه بـ”شيعة” أو ملة صغيرة يتابعون بعضهم ويقرأون بعضهم بعضاً، وليس لهم وقع أمام هدير العصبيات والطوئف و”الدواعش” وخطابات زعيم “حزب الله” حسن نصرالله المتلفزة.

لقد تبدلت أحوال المكان في بيروت. حتى الزمن لم يعد على حاله. تبدلت الثياب وأحوال الجماعات والنسيج الاجتماعي وتعابير الوجوه والألفة، وترهلت أطر الدولة لصالح الدويلات والعشائر والولايات والأحلام الكبيرة والهذيانية. حتى أطر المقاهي وحياة ناسها تبدلت. هرب الجيل من ثقافة الكتب والمقاهي والجريدة اليومية الى طوفان النارجلية واستراخاءتها، وربما الى طوفان الانترنت والـ”سوشيل ميديا” والحياة الفردية. الأنكى والأدهى، هرب الشباب والكثير من “المثقفين” نحو طوائفهم وميليشيات طوائفهم، مرةً باسم حقوق الجماعة والمظلومية، ومرةً باسم ميتافيزيقيا المقاومة وكراهية العدو. بعضهم أصبح منظّراً تلفزيونياً للسلاح والعنصريات والحروب العبثية، سواء في لبنان أو سوريا. ليس هذا التنظير نتاج “اقتناعات” بقدر ما هو نتاج الإغراءات المادية والارتزاق والهلع الطوائفي، مرةً باسم الخوف من الثقافة الوهابية، ومرةً أخرى باسم مواجهة التكفيريين و”الدواعش” ومحاربتهم. في الجوهر، هناك مجموعة من البارعين في التلفيق، يبيعون الفتن لإرضاء رغباتهم الخاصة.

أمام هول الصراع على الماضي بين مَن يُسمّى “أهل البيت” و”أهل السنّة”، والصراع على الولاءات الخارجية، والارتزاق والتنظير والتشبيح، هل يبقى لمعارض الكتب من معنى؟ وهل يبقى للقراءة من معنى؟ أليست الثقافة مجرد لقمة سائغة في فم الوحش، مجرد زهرة تحت أحذية الطواغيت؟ وأمام هول الربح السريع في العقارات اللبنانية، هل يبقى من مشهد ثقافي في بيروت؟ بات من السهل تأمل صور الكارت البوستال لهذه المدينة وساحة البرج وصخرة الروشة أو الأسواق القديمة، والشعور بأن هذه المدينة انقلب رأسها على عقب، وقد أصبح الماضي مادة ثرية لتأليف الكتب والروايات والنوستالجيا والصور على مواقع التواصل الاجتماعي. هل لأننا أصبحنا ربما نجهل معنى الماضي، باتت صوره تزدهر. أم ربما تزدهر صوره لأننا نشعر بموته؟ ربما كان كونديرا على حق، حين كتب في روايته “الجهل” أن الراوي وجد أن الكلمة الاسبانية الدالة على النوستالجيا مأخوذة من اللغة الكاتالانية وهي بدورها مشتقة من اللاتينية حيث تعني الكلمة “الجهل”، ما يعني، في ضوء هذه المقاربة لتوالد الكلمات أن النوستالجيا تبدو بمثابة معاناة ناجمة عن الجهل، جهل بصيرورة المهاجر، وجهل بما يحصل في البلد الأصلي. على أن موت الأشياء في حياة المدن يجعلنا نجهلها، وتتحول منبعاً لولادة الكلمات، ومن السهل تذكار دور بيروت ورموزها الثقافية في العقود الماضية، سواء “الندوة اللبنانية” التي شكلت منبراً فعلياً للتعددية الثقافية والسياسية في زمن كان للدولة دورها وحضورها بإدارة ميشال أسمر، أو مجلة “شعر” وأقطابها من لبنان وبلدان المشرق العربي، أو مجلة “الآداب” وروادها وتياراتها، أو دار “المكشوف” ومجلتها، أو عمر فاخوري وأبوابه المرصودة، أو الياس أبو شبكة وجنونه، أو عمر الزعني القائل بيروت “زهرة في غير أوانها”، أو ميشال شيحا الباحث عن شخصية لبنان ودوره. لم يعد مجدياً التغني بشاعرية لبنان حتى لو كان ميشال شيحا يقول: “لبنان معين لا ينضب. ومن خلاله يمكن أن نستشف العالم، مثلما أستشف البحر من وراء نافذتي على المطل. ونحن لفي مطرح من الأرض والزمان يتيح لنا، اذ نتكلم على ذاتنا، أن نتكلم على كل شيء. قليلة هي الأمم التي تتمتع بهذا الامتياز. فهو من نصيب بعض الشطآن المختارة والأماكن السنية والمشارف الخالدات”.

مقتلة المدن

بيروت القلقة والمتوترة والهاجسة والمحاصَرة بثقافة الطوائف وثقافة السلاح وأحزمة البؤس والفساد والتوحش العقاري والآتية على زمن الأبراج والحياة الصعبة، تعيش في أحسن حال من دمشق “العروبة” التي لم تنقذها آمال “الربيع العربي” من جحيم الاستبداد حتى الآن. إن كنز الثورة الموعود لم يكن أكثر من سراب، بل مستنقع من الدم. تعيش دمشق الآن بين سكّين “الدواعش” وجحيم النظام الأسدي وسجنه وشبّيحته، من دون أن ننسى الطيف الإيراني وثقافته المستجدة. اذ بات النظام البعثي “العلماني” يرعى الطقوس العاشورائية في الشوارع الدمشقية. وفي كل الأحوال، الحرب والتدخلات الخارجية و”الدواعش” البعثيون والإرهابيون، كانوا سبباً في مقتلة المدن السورية وتدمير نسيجها الديموغرافي والثقافي والحضاري، سواء من حمص إلى حلب وكوباني والرقة ودير الزور ودرعا ومعلولا. فأن تدمَّر الثقافة وغيرها في سوريا، فذلك ينعكس سلباً على مجمل ثقافة بيروت، وينتج منافي للسوريين. الهول السوري الآن هو تكرار للهول اللبناني خلال الحرب الأهلية، وبشكل أشد فداحة، وتكرار للهول العراقي سواء في نظامه البعثي او بعد سقوط صدام حسين. سقطت أدوار المدن العراقية وفقدت مبرر الحياة، وخصوصاً بغداد التي تحولت مدينة للخراب وللحواجز الخرسانية لأسباب أمنية، وبات شارع المتنبي يشهد دعوات لحرق كتب سعدي يوسف من شاعر مغمور. في المقابل ازدهرت مدينة مثل أربيل بحكم وجودها في منطقة كردستان، وراحت تبحث عن دورها الإقليمي، وعلى رغم كثرة المثقفين والشعراء والفنانين العراقيين المنفيين الذين تغنّوا بسقوط صدام، فإن المشهد ما بعد صدام لم يسعفهم في شيء، فمعظمهم فضّل البقاء في العواصم الأوروبية والأميركية وحتى الآسيوية على العودة إلى الديار المحفوفة بالأخطار والتفجيرات والاغتيالات والهمجيات. وأتت موجة “الدواعش” لتقضي على بعض المدن وخصوصاً الموصل المتعددة الطوائف، وسنجار الإيزيدية، وأظهرت الوقائع الميدانية والخطابية أن الكثير من الشعراء العراقيين من دعاة العلمانية، عادوا كما بعض زملائهم اللبنانيين، إلى أحضان طوائفهم باسم محاربة الإرهاب.

بيروت قلقة متوترة وساحرة، دفنت دورها في رعاية أبنائها ورعاية اعدائها وحسّادها، لكن أمورها تبقى أسهل من صنعاء اليمنية التي تئنّ تحت وطأة ثقافة السلاح والميليشيات والقبليات. كأن بعض فصول ما جرى في بيروت قبل سنوات، تستنسخ في اليمن. اللعبة ذاتها واللاعب نفسه والأدوات نفسها، والضحية بالطبع بيروت من قبل، والآن صنعاء.

بيروت قلقة مهجوسة في نظام معقد او بمتاهات كثيرة. القاهرة تتحسس شبح الترهل والخواء والرعب الإرهابي والفقر، وتعيش مرحلة مخاض ما بعد الثورة الزائلة. هي في مرحلة غير معروفة المعالم، تبحث عن سراب الكنز المفقود، مثلها مثل الكثير من عواصم العالم العربي من طرابلس الغرب الى دمشق وبغداد.

يا خليج!

ثمة أمر ينبغي البوح به. يوما ما غادر الباحث التونسي اليساري العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبعدما صدم أصدقاءه اليساريين بموقفه الرافض هذه الحرب، والرافض كل مبرّراتها “التقدمية”. فقد هاله أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه كان يساهم، من دون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي، “الغبي والمستبد”. مثقف آخر اسمه ياسين الحافظ قال في سيرته الذاتية إنه شعر خلال اشتعال الحرب في بيروت أن بيته يحترق. كان من القلائل الذين لم تخدعهم الشعارات الكبرى التي غلّفت نوى الحرب اللبنانية الطائفية، لذا كان يصفها على الدوام بأنها حرب طائفية قذرة. مبكراً استدرك الباحث التونسي والمفكر السوري قذارة الحرب، لكن المحنة أن بعض مَن دمّر بيروت لم يتدارك هذا الأمر حتى الآن. نقطة أخرى أن بعض اليساريين مارس نوعاً من استعلاء على ثقافة الخليج، والآن تحاول بعض العواصم العربية الخليجية، وخصوصاً دبي وأبو ظبي، ونسبياً الدوحة، أن تكون صاحبة دور جديد من خلال “برستيج” الثقافة والفنون، وإقامة مهرجانات سينمائية بعضها بلا رقابة، على عكس لبنان الذي يمنع بعض الافلام لأسباب واهية، وخصوصاً الأفلام الإيرانية. وهناك مهرجانات فنية وموسيقية وتراثية، وقرى ثقافية، فضلاً عن اقامة معارض كتب ضخمة، أصبحت “قبلة” الناشرين الباحثين عن مدخول للاستمرارية، وتستضيف كتّاباً عالميين مثل دان براون، وتسوّق للكتب بشكل لافت.

هناك مشاريع ترجمة ضخمة رفعت من أسعار المترجمين، أصدرت أمهات الكتب العالمية، وهناك استنساخ للمتاحف العالمية (اللوفر نموذجاً)، ويجسد المتحف رغبة أبوظبي في التحول إلى عاصمة ثقافية في الخليج، ويتجلى ذلك أيضا من خلال المهرجانات التي تستضيفها الامارة، والإنتاجات الأدبية والفكرية ودعم المشاريع الشابة المحلية والعربية في هذا الإطار. وهناك مجلات ثقافية تستكتب أبرز الكتاب والشعراء العرب وبعض الأجانب، من دون أن ننسى طوفان الفضائيات الخليجية، سواء المنوّعة التي تنتج الترفيه أو الإخبارية التي تحرّك الشارع السياسي العربي، والتي وضعت الإعلام اللبناني في جيبتها. وهناك مزادات اللوحات التشكيلية التي أيقظت العيون على لوحات كبار روّاد التشكيل في البلدان العربية، التي أخرجت اللوحات العريقة (من شفيق عبود الى فاتح المدرس) من دائرة الرتابة إلى مرحلة الخرافة المزادية، فبات لأسعار اللوحات وقعها على مسيرة التشكيل العربي، فأعادت على الأقل تسليط الضوء على أعمال الكبار ولم تهمل الجيل الجديد. وهناك هذيان الجوائز الثقافية، الأميرية والملكية، الروائية والشعرية، هذه الجوائز لها دورها الإيجابي لكنها في الواقع أصبحت أشبه بموجة، إذ أربكت نمط الكتابة الأدبية، وجعلت الكثير من “العباقرة” يكتبون من أجل الفوز بالجائزة، أو يكتبون وهم يفكرون في الجوائز، حتى أولئك الذين لا يتوقفون عن نقد ما يسمّى ثقافة البترودولار، أو أولئك الذين يتغنّون بـ”الممانعة”، فهم يهرولون بحثاً عن الجوائز الدسمة، ولهذا مبرره، وبين كل المشاريع في الثقافة الخليجية هناك عامل المال الطاغي على كل شيء. إنها فكرة البحث عن البرستيج الثقافي، في بلدان لا يبدو أنها معنية بإنتاج ثقافتها المحلية بقدر اهتمامها بتمويل مشاريع ثقافية تنتج حضور مدنها، وربما تنتج شخصيتها

لاحقاً.

لم يعد مجديا العيش على حنين بيروت وماضيها، وإن كان الماضي يؤسس للمستقبل. فهذه المدينة صاحبة الدور باتت كأنها تحاول تقليد المدن الخليجية، بعدما راحت بعض المدن الخليجية تحاول أن تقلد بيروت ثقافياً في أيام العز. وتحاول بيروت أن تقلد المدن الخليجية عمرانياً، وتكتب على جدرانها عبارات “حتى يشوفوا البحر، حجبوا عنا السماء”. هذه هي المعادلة الجديدة في المباني الحديثة. إذ لم تعد المباني الضخمة تترك متراً واحداً للفضاء العام، كأنها تضع أساساتها فوق الأرصفة وتستولي على البحر والسماء، وبذلك يصبح أي معلم من معالم ذاكرة المدينة مهمّشاً أو على طريق الازدراء والموت، في مدينة تتجه لأن تصبح مدينة عمودية.

في كتابها “بين الماضي والمستقبل”، تقول الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت إن عنصر تفسير الماضي ونقده، يرمي في الدرجة الأولى إلى اكتشاف المصادر الحقيقية للآراء التقليدية، بقصد تخليص روحها الحقيقية من جديد بعدما تبخرت، فاختفت الكلمات الاساسية في لغة السياسة، كالحرية والعدالة، والسلطة والمنطق، والمسؤولية والفضيلة، والقوة والمجد، ولم يبق منها سوى القشور الفارغة للتعبير عن كل شي تقريبا. أما الجيل الجديد فيهرب الى ثقافة أخرى. وفي هذا الاطار تبخرت روح بيروت القديمة وينبغي تخليصها من جديد. لا شيء اسمه الخلود في أدوار المدن.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى