صفحات الناس

عن منزل زين الذي «عُفش» في حلب… وعن مُعفِّشين آخرين/ حازم الامين

 

 

«التعفيش» عبارة انفرد بها السوريون لوصف ما أصاب منازلهم وأحياءهم ومؤسساتهم في أعقاب سقوطها بيد النظام وشبيحته، من نهبٍ منظمٍ تتعدى أهدافه السرقة المباشرة إلى هز وخلخلة علاقة المنهوبة منازلهم ومدنهم بالمكان الذي نشأوا فيه. إنه نوع من الاغتصاب الرمزي يُقدم عليه منتصرون أشرار ويهدف للإتيان على ما تبقى من علاقة بين المهزومين وبين مطارحهم. فالمكان المُغتصب لم يعد هو نفسه الذي غادروه لتوهم. المنازل لم تعد تلك التي راكموا فيها وقائع أيامهم وذكرياتهم. لقد حل فيها آخرون. أثاثات المنزل، وحولوا غرفة النوم إلى غرفة جلوس ربما. الأسِرّة جرى استبدالها، ذاك أن من «عفش» هو غير من احتل المنزل، فالفعلان غالباً ما يفصل بينهما وقت، وغالباً ما يتولى هذا الوقت قتل ما تبقى من أثر حياة أهل المنزل.

غالباً ما يشيح المُغتصبة منازلهم وجوههم عن منازلهم التي جرى تحويلها منازل لآخرين. هذا نوع من رد الفعل يشبه إلى حد ما فعلته المرأة البوسنية التي أنجبت طفلاً من مغتصبها، فقتلته.

«التعفيش» ليس سرقة موصوفة، على ما تقول التصنيفات القانونية. «التعفيش» لحظة هستيرية، يفقد فيها المُعفِش توازناً كان تأسس فيه جراء عيشه تحت سلطة تقهر ميله الأصلي إلى السرقة. الأخلاق أيضاً قد تكون وراء امتناعنا عن السرقة، لكن أخلاق الأفراد تتهاوى في لحظة الهستيريا الجماعية، ومشهد «التعفيش» الجماعي يُحِل في الأفراد غريزة الاستحواذ محل القيم التي تعيق السرقة. وبهذا المعنى فإن سارقاً صغيراً موجود في كل واحد منا، سارقاً ينتظر أن ينبعث في أقرب غزوة تُقدم عليها العشيرة النائمة في لاوعينا.

للسوريين سبق التسمية، أي «التعفيش»، ذاك أنهم يفوقون غيرهم من «المُعفَشين» في القدرة على اجتراح العبارة من جذرها. ففي لبنان عَفشنا وعُفشنا كثيراً، لكننا ضللنا سبيل العبارة. في العراق وخلال سقوط المدن في 2003 جرى التعفيش على نحو طوفاني، فنُهبت مدن بأكملها، وسمي الفعل «سلباً» لا تعفيشاً. الأرجح أن العبارة تُشتق من خبرات أصحابها. عفش السوريين شعيرة اجتماعية دافئة، والفعل استهدف في السوريين ذاك الدفء الذي راكمه عفش منازلهم. في العراق سمي الفعل سلباً وأضفيت عليه عبارات من نوع «تسليب» وهذا امتداد لطقس الغزوات العشائرية وما يرافقها من «تسليب مشروع» تتحول فيه المسروقات إلى مغانم. أما في لبنان فلم يلتفت السارقون إلى عبارة بعينها ولم تسعف مخيلة المسلوبين أصحابها بعبارة خاصة. صديقتي الحلبية زين أخبرتني أن بعض ما تبقى من أغراض منزل أهلها في حلب بعد تعفيشه وصلهم إلى إسطنبول. صور العائلة وأوراق ووثائق ثبوتية، أعطتها زوجة مُحتل المنزل، والأرجح أنه غير مُعفشه، للجيران الذين أرسلوه إلى أهلها في إسطنبول. ولطالما ألح علي مشهد منزل أهل زين، الذي لا أعرفه، ولطالما استدرجني وهمه إلى منازل حقيقية عُفشت أمام ناظري في حروبنا اللبنانية المتعاقبة، ولعل أشدها قسوة يوم أحرق الإسرائيليون منازل حارة عائلتنا في بلدتنا في جنوب لبنان. لم أعد أذكر ما إذا كان قد سبق الحرق تعفيش، ففي حينه كان للإسرائيليين شبيحتهم المحليون أيضاً. وأذكر أنني وبعد أن انسحب الإسرائيليون وصلت إلى منزل عمتي المحروق وظننت أنه لم يعد منزلها. وهي حين عادت إليه صار منزلاً آخر غير ذاك الذي هربت منه، فاستأنفت فيه عيشاً مختلفاً.

لكن المعَفَش غير محصن من أن يكون مُعفِشاً، فها أنا انتقل من لحظة وقوفي أمام منزل عمتي شاهداً على انتزاعه منها إلى كوني شاهداً على حملة تعفيش كنت فيها مقاتلاً إلى جانب المُعفِشين. إنها حرب شرق صيدا في جنوب لبنان حيث زحفت «الأحزاب التقدمية» إلى القرى المسيحية في شرق المدينة فانتزعتها من «القوات الانعزالية» ونهبت منازلها. في حينه تحولت شوارع مدينة صيدا إلى معرض هائل لفرش المنازل. كانت الأغراض ما زالت تحمل أثراً من أصحابها، وكان أطفال المدينة يعبثون بأغراض ولوازم مرمية على الطرق وفي الفسحات غير المبنية. وامتلأت المنازل بأغراض لا تشبهها، فصرت تجد بيانو في متجرٍ لبيع لوازم البناء، وأدوات صناعة النبيذ في منزل مقاتل إسلامي يجهل طبيعة الأغراض التي عفشها.

و «التعفيش» أيضاً ليس فعلاً انتقامياً، فاللحظة التي تتيحه يذوي خلالها الوجدان الانتقامي إلى غريزة جماعية غير عاقلة، لعل أكثر ما يعبر عنها إقدام آلاف من أهل مدينة كركوك العراقية على نهب معدات مصفاة النفط في المدينة في لحظة سقوطها بيد الأميركيين، وهي معدات لا تصلح للاقتناء الفردي ولا تؤدي غير وظيفتها في نقل النفط وتكريره. والسيدة التي كانت تحمل بيدها أسطوانة انتزعتها من المصفاة في حفلة «التعفيش» الكبرى تلك قالت يومذاك إن زوجها قد يحتاج هذه الأسطوانة ذات يوم. في ذلك الوقت كانت كركوك تُعفِش نفسها، وكان انهيار كبير قد أصابها جراء سقوط النظام. وفي ذلك الوقت أتيح لنا، نحن الصحافيين، أن نعاين ماذا يعني أن ينهار نظام وسلطة وأن يفقد أناس شعورهم بأن ثمة من يقف في وجه نزواتهم. ولعل ذروة المشهد كانت حين قُذف كرسي محافظ المدينة الحديث والجلديّ إلى وسط الشارع، فصادفته امرأة عابرة، وما كان منها إلا أن جلست عليه في وسط الطريق وصرخت «أنا المحافظ».

نعم، المدن يمكنها أن تُعفش نفسها في لحظة انهيارها، فصيدا اللبنانية عقب سقوطها بأيدي الإسرائيليين في 1982، خرج أهلها من الملاجئ بعد أيام حالكة الظلام ليجدوا مدينتهم مدمرة، فغُزي ما تبقى من متاجر الأحياء واستحضرت سلعها إلى الملاجئ. في حينه كنا عدنا، نحن المقاتلين الأطفال، إلى أحضان أمهاتنا في ملاجئهن الهزيلة، وخرجت فور سقوط المدينة مع والدي من الملجأ لنشهد على حفلة نهب أحد المتاجر قام بها سكان يحاولون استدراك جوعهم المحتمل بسلع لا تؤكل. تبادلنا، والدي وأنا، نظرات لم أفهمها آنذاك، وأفكر اليوم أنها كانت جس نبض متبادلاً عما إذا كنا نستطيع مقاومة الانخراط في هذه الهستيريا الجماعية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى